إبطال نسبة الأناجيل والرسائل للحواريين
تعود أسفار العهد الجديد السبعة والعشرون إلى ثمانية مؤلفين تفاوتت مقادير كتاباتهم ، ففي حين لم تزد رسالة يهوذا عن صفحتين فإن لبولس ما يربو على المائة صفحة .
وأيضاً يتفاوت قرب هؤلاء من المسيح ، ففي حين أن يهوذا وبطرس ويوحنا من تلاميذه الاثنى عشر ، فإن لوقا ومرقس لم يلقيا المسيح ، فيما لم يتنصر بولس إلا بعد رفع المسيح .
والنصارى يعتبرون هؤلاء المؤلفين الثمانية بشراً ملهمين كتبوا ما أملاه عليهم روح القدس وفق أسلوبهم ، وقد ثبت لدينا عدم إلهامية كتبة العهد الجديد فيما سبق .
ولكن هل تصح نسبة الكتب إلى هؤلاء الثمانية؟ وبالذات إلى متى ويوحنا وبطرس الذين يفترض أنهم من أخص تلاميذ المسيح أم أن النسبة هي أيضاً محرفة ؟ وهل من الممكن أن يصدر هذا الكلام - الذي في العهد الجديد - من حواريي المسيح الذين رباهم طوال سني رسالته ، وذكرهم القرآن بالثناء الحسن ؟
إن هذا كله جعل المحققين من المسلمين يرون أن هذه الأسفار لا يمكن أن تصدر عن تلاميذ المسيح المؤمنين ، فاهتموا لذلك بدراسة وتوثيق نسبة هذه الأسفار إليهم .
ولسوف لن نتوقف طويلا مع توثيق نسبة بعض الأسفار ، لأن كتبتها ليسوا من تلاميذ المسيح، وعليه فلا يهمنا إن كان كاتب إنجيلي مرقس ولوقا هما مرقس ولوقا أو أياً من النصارى الذين عاشوا في نهاية القرن الأول، إذ أي من هؤلاء ليس بمعصوم ولا ملهم ولا يحمل ثناء واحداً من المسيح عليه السلام، ومثله نصنع في رسائل بولس عدو المسيح الذي ادعى الرسالة والعصمة، وهو لم يلق المسيح البتة.
أولاً : إنجيل متى
وهو أول إنجيل يطالعك وأنت تقرأ في الكتاب المقدس ، ويتكون هذا الإنجيل من ثمانية وعشرين إصحاحاً تحكي عن حياة المسيح ومواعظه من الميلاد وحتى الصعود إلى السماء .
وتنسبه الكنيسة للحواري متى أحد التلاميذ الإثنى عشر الذين اصطفاهم المسيح ، وتزعم أن هذا الكتاب قد ألهمه من الروح القدس . وترجح المصادر أن متى كتب إنجيليه لأهل فلسطين ، أي لليهود المتنصرين ، وتختلف المصادر اختلافاً كبيراً في تحديد تاريخ كتابته ، لكنها تكاد تجمع على أنه كتب بين 37 - 64 م .
وأما لغة كتابة هذا الإنجيل فيكاد يُجمع المحققون على أنها العبرانية ، ورأى بعضهم بأنها السريانية أو اليونانية .
ولعل أهم هذه الشهادات شهادة أسقف هرابوليس الأسقف بابياس 155م حين قال : " قد كتب متى الأقوال بالعبرانية ، ثم ترجمها كل واحد إلى اليونانية حسب استطاعته " كما يقول ايريناوس أسقف ليون 200م بأن متى وضع إنجيلاً للعبرانيين كتب بلغتهم .
ولما كانت جميع مخطوطات الإنجيل الموجودة يونانية فقد تساءل المحققون عن مترجم الأصل العبراني إلى اليونانية ، في ذلك أقوال كثيرة لا دليل عليها البتة ، فقيل بأن مترجمه متى نفسه ، وقيل: بل يوحنا الإنجيلي .
والصحيح ما قاله القديس جيروم ( 420م )" أن الذي ترجم متى من العبرانية إلى اليونانية غير معروف"، بل لعل مترجمه أكثر من واحد كما قال بابياس .
وقد قال نورتن الملقب " بحامي الإنجيل " عن عمل هذا المترجم المجهول : " إن مترجم متى كان حاطب ليل ، ما كان يميز بين الرطب واليابس . فما في المتن من الصحيح والغلط ترجمه".
1- التعريف بمتى :
فمن هو متى ؟ وما صلته بالإنجيل المنسوب إليه؟ وهل يحوي هذا الإنجيل كلمة الله ووحيه ؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة تناقل المحققون ماذكره علماء النصارى في ترجمة متى ، فهو أحد التلاميذ الاثنى عشر، وكان يعمل عشاراً في كفر ناحوم ، وقد تبع المسيح بعد ذلك .
وتذكر المصادر التاريخية أنه رحل إلى الحبشة ، وقتل فيها عام 70 م ، ولم يذكر في العهد الجديد سوى مرتين كلها في إنجيله ، أما المرة الأولى فعندما نادى عليه المسيح ، وهو في مكان عمله في الجباية ( انظر متى 10/3، ولوقا 6/15 ) والثانية في سياق تعداده لأسماء التلاميذ الاثني عشر (انظر متى 10/3)
وأما في بقية الأناجيل فقد ذكر مرقس أن العشار هو لاوي بن حلفي ( انظر مرقس 2/15 ، ولوقا 5/27 ) ولم يذكرا متى .
وتزعم الكنيسة أن متى العشار هو لاوي بن حلفي .
2- أدلة الكنيسة على صحة نسبة الإنجيل إلى متى :
وتؤكد الكنيسة بأن متى هو كاتب الإنجيل ، وتستند لأمور ذكرها محررو قاموس الكتاب المقدس ، أهمها : " الشواهد والبينات الواضحة من نهج الكتابة بأن المؤلف يهودي متنصر "
وأيضاً " لا يعقل أن إنجيلاً خطيراً كهذا - هو في مقدمة الأناجيل - ينسب إلى شخص مجهول، وبالأحرى أن ينسب إلى أحد تلاميذ المسيح ".
وأيضاً " يذكر بابياس " في القرن الثاني الميلادي أن متى قد جمع أقوال المسيح "
وأخيراً " من المسلم به أن الجابي عادة يحتفظ بالسجلات ، لأن هنا من أهم واجباته لتقديم الحسابات،وكذلك فإن هذا الإنجيلي قد احتفظ بأقوال المسيح بكل دقة ".
3- ملاحظات على إنجيل متى :
ومن خلال ما سبق رأى المحققون أن لا دليل عند النصارى على صحة نسبة الإنجيل لمتى ، بل إن الأدلة قامت بخلافه. إذ في الإنجيل أموراً كثيرة تدل على أن كاتبه ليس متى الحواري ، ومن هذه الأدلة :
- أن متى اعتمد في إنجيله على إنجيل مرقس ، فقد نقل من مرقس 600 فقرة من فقرات مرقس الستمائة والاثني عشر ، كما اعتمد على وثيقة أخرى تسمى M
يقول ج ب فيلبس في مقدمته لإنجيل متى : " إن القديس متى كان يقتبس من إنجيل القديس مرقس ، وكان ينقحه محاولاً الوصول إلى تصور أحسن وأفضل لله ".
ويضيف القس فهيم عزيز أن اعتماد متى على مرقس حقيقة معروفة لدى جميع الدارسين، فإذا كان متى هو كاتب الإنجيل فكيف ينقل عن مرقس الذي كان عمره عشر سنوات أيام دعوة المسيح ؟ كيف لأحد التلاميذ الإثني عشر أن ينقل عنه ؟
- ثم إن إنجيل متى قد ذكر متى العشار مرتين ، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أنه الكاتب ، فقد ذكره بين التلاميذ الإثنى عشر ، ولم يجعله أولاً ولا آخراً ، ثم لما تحدث عن اتباعه للمسيح قال: " وفيما يسوع مجتاز هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى فقال له : اتبعني فقام وتبعه" ( متى 9/9 ) .
فاستخدم أسلوب الغائب ، ولو كان هو الكاتب لقال : " قال لي " ، " تبعته " " رآني "، فدل ذلك على أنه ليس الكاتب ، وهنا يجدر التنبيه على أمر هام ، وهو أن مرقس ذكر القصة ذاتها، وسمى عامل الضرائب لاوي بن حلفي ( انظر مرقس 2/15 ) فهل لاوي بن حلفي هو نفسه متى؟ هل هذا هو الاسم التنصيري للاوي كما تزعم الكنيسة ؟
يقول جون فنتون مفسر متى وعميد كلية اللاهوت بلينشفيلد بأنه لا يوجد دليل على أن متى هو اسم التنصير للاوي ، ويرى أنه من المحتمل " أنه كانت هناك بعض الصلات بين متى التلميذ والكنيسة التي كتب من أجلها هذا الإنجيل، ولهذا فإن مؤلف هذا الإنجيل نسب عمله إلى مؤسس تلك الكنيسة أو معلمها الذي كان اسمه متى، ويحتمل أن المبشر كاتب الإنجيل قد اغتنم الفرصة التي أعطاه إياها مرقس عند الكلام على دعوة أحد التلاميذ ، فربطها بذلك التلميذ الخاص أحد الإثني عشر ( متى ) الذي وقره باعتباره رسول الكنيسة التي يتبعها " .
- ثم إن التمعن في الإنجيل يبين مدى الثقافة التوراتية الواسعة التي جعلت منه أكثر الإنجيليين اهتماماً بالنبوءات التوراتية عن المسيح ، وهذا لا يتصور أن يصدر من عامل ضرائب ، وهذا لن يكون من كتابة متى العشار . يقول أ. تريكو في شرحه للعهد الجديد (1960م ): إن الاعتقاد بأن متى هو عشار في كفر ناحوم ناداه عيسى ليتعلم منه ، لم يعد مقبولاً ، خلافاً لما يزعمه آباء الكنيسة.
4- منكرو نسبة الإنجيل إلى التلميذ متى :
وقد أنكر كثير من علماء المسيحية في القديم والحديث صحة نسبة الإنجيل لمتى يقول فاستس في القرن الرابع : " إن الإنجيل المنسوب إلى متى ليس من تصنيفه " ، وكذا يرى القديس وليمس . والأب ديدون في كتابه " حياة المسيح" .
ويقول ج ب فيلبس : " نسب التراث القديم هذه البشارة إلى الحواري متى ، ولكن معظم علماء اليوم يرفضون هذا الرأي " .
ويقول د برونر : " إن هذا الإنجيل كله كاذب " .
ويقول البرفسور هارنج : إن إنجيل متى ليس من تأليف متى الحواري ، بل هو لمؤلف مجهول أخفى شخصيته لغرض ما .
وجاء في مقدمة إنجيل متى للكاثوليك : " أما المؤلف ، فالإنجيل لا يذكر عنه شيئاً وتقاليد الكنيسة تنسبه إلى الرسول متى ، ولكن البحث في الإنجيل لا يثبت ذلك الرأي أو يبطله على وجه حاسم ".
ويقول القس فهيم عزيز عن كاتب متى المجهول: " لا نستطيع أن نعطيه اسماً ، وقد يكون متى الرسول ، وقد يكون غيره " .
ويقول المفسر لإنجيل متى جون فنتون في تفسيره عن كاتب متى : " إن ربط شخصيته كمؤلف بهذا التلميذ إنما هي بالتأكيد محض خيال " .
وقد طعنت في صحة نسبة الإنجيل لمتى فرق مسيحية قديمة ، فقد كانت الفرقة الأبيونية ترى البابين الأولين لإنجيل متى إلحاقيين ، ومثلها فرقة يوني تيرين ، ويرون أن البداية الحقيقية لهذا الإنجيل قوله : " في تلك الأيام جاء يوحنا المعمداني .... " ( متى 3/1 ) فتكون بداية الإنجيل قصة يوحنا المعمداني كما هو الحال في مرقس ويوحنا ، ويدل لذلك أيضاً أن قوله " في تلك الأيام " لا يمكن عوده على ما في الإصحاحين السابقين، إذ كان الحديث في آخر الإصحاح الثاني عن قتل هيرودس للأطفال بعد ولادة المسيح ، وهو زمن طفولة المسيح والمعمدان الذي يكبره بستة أشهر ، بينما الإصحاح الثالث يتحدث عن دعوة المعمداني - أي وهو شاب - ، وهذا يعني وجود سقط أو حذف قبل الإصحاح الثالث ، أو أنه البداية الحقيقية للإنجيل .
5- من الكاتب الحقيقي لإنجيل متى :
وإذا لم يكن متى هو كاتب الإنجيل المنسوب إليه ، فمن هو كاتب هذا الإنجيل ؟
في الإجابة عن السؤال نقول: نتائج الدراسات الغربية التي أكدت أن هذا الإنجيل قد كتبه غير متى التلميذ ، ونسبه إليه منذ القرن الثاني ، ولربما يكون هذا الكاتب تلميذاً في مدرسة متى .
ويحاول كولمان وشراح الترجمة المسكونية تحديد بعض الملامح لهذا الكاتب ، فالكاتب - كما يظهر في إنجيله - مسيحي يهودي يربط بين التوراة وحياة المسيح ، وهو كما يصفه كولمان : يقطع الحبال التي تربطه باليهودية مع حرصه على الاستمرار في خط العهد القديم ، فهو كاتب يهودي يحترم الناموس ، ويعتبر بذلك من البعيدين عن مدرسة بولس الذي لا يحترم الناموس ، بينما يقول هذا الكاتب " فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس ، هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات "( متى 5/19 ) .
ويرجح كولمان أيضاً أنه عاش في فلسطين ، ويرجح فنتون أنه " كتب في حوالي الفترة من 85 - 105م " (متى مات سنة70) ، وهو يقارب ما ذهب إليه البرفسور هارنج حين قال " إن انجيل متى ألف بين 80 - 100م " .
ولو تساءلنا أين الإنجيل الذي كتبه متى كما جاء في شهادة بابياس في القرن الثاني الميلادي ؟
وفي الإجابة عن السؤال نقول: فإن بابياس ذكر أن متى كتب وجمع أقوال المسيح ، وما نراه في الإنجيل اليوم هو قصة كاملة عن المسيح وليس جمعاً لأقواله ، كما أن عدم صحة نسبة هذا الإنجيل له لا تمنع من وجود إنجيل آخر قد كتبه ، ولعل من المهم أن نذكر بأن في الأناجيل التي رفضتها الكنيسة إنجيلاً يسمى إنجيل متى ، فلعل بابياس عناه بقوله .
وهكذا رأى المحققون أن ثمة أموراً تمنع القول بأن هذا الإنجيل هو كلمة الله ووحيه وهديه، فهو - وكما يقول الشيخ أبو زهرة - إنجيل " مجهول الكاتب ، ومختلف في تاريخ كتابته ، ولغة الكتابة ، ومكانها ، وتحديد من كتب له هذا الإنجيل ، ثم شخصية المترجم وحاله من صلاح أو غيره وعلم بالدين ، واللغتين التي ترجم عنها ، والتي ترجم إليها ، كل هذا يؤدي إلى فقد حلقات في البحث العلمي .
ثانياً : إنجيل مرقس
ثاني الأناجيل التي تطالعنا في العهد الجديد ، وينسب لمرقس . فمن هو مرقس ؟ وماذا عن كاتب هذا الإنجيل ؟ وهل تصح نسبته لمؤلفه ؟ يتكون إنجيل مرقس من ستة عشر إصحاحاً ، تحكي قصة المسيح من لدن تعميده على يد يوحنا المعمداني إلى قيامة المسيح بعد قتله على الصليب .
وهو أقصر الأناجيل - ويعتبره النقاد - كما يقول ولس - أصح إنجيل يتحدث عن حياة المسيح ، ويكاد يجمع النقاد على أنه أول الأناجيل تأليفاً ، وأن إنجيل متى قد نقل عنه . يقول العالم رويس الألماني : إنه كان الأصل الذي اقتبس منه إنجيلا متى ولوقا ، وهذا الإنجيل هو الوحيد بين الأناجيل المسمى بإنجيل المسيح ، إذ أول فقرة فيه " بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله " ( مرقس 1/1 ) .
وتزعم المصادر النصرانية أن مرقس كتب إنجيله في روما ، ولعله في الإسكندرية ، وأن كتابته تمت - على اختلاف في هذه المصادر - بين عام 39 - 75م ، وإن رجح أكثرها أن كتابته بين 44 - 75م معتمدين على شهادة المؤرخ ايرينايوس الذي قال : " إن مرقس كتب إنجيل بعد موت بطرس وبولس " . ويرى سبينوزا أن هذا الإنجيل كتب مرتين إحداهما قبل عام 180م والثانية بعده.
وأما لغة هذا الإنجيل ، فتكاد المصادر تتفق على أنها اليونانية ، وذكر بعضهم أنها الرومانية أو اللاتينية .
وأقدم ذكر لهذا الإنجيل ورد على لسان المؤرخ بابياس ( 140م ) حين قال : " إن مرقس ألف إنجيله من ذكريات نقلها إليه بطرس " .
1- من هو مرقس ؟
وتناقل المحققون ما رددته المصادر النصرانية في ترجمة مرقس ، والتي يجمعها ما جاء في قاموس الكتاب المقدس عنه ، فهو الملقب بمرقس ، واسمه يوحنا ، وقد رافق مرقس برنابا وبولس في رحلتهما ، ثم فارقهما ، ثم عاد لمرافقة بولس .
ويتفق المترجمون له على أنه كان مترجماً لبطرس الذي له علاقة بهذا الإنجيل .
ويذكر المؤرخ يوسيبوس أنه - أي مرقس - أول من نادى برسالة الإنجيل في الإسكندرية، وأنه قتل فيها .
قال بطرس قرماج في كتابه " مروج الأخبار في تراجم الأبرار " عن مرقس : "كان ينكر ألوهية المسيح " .
2- ملاحظات على إنجيل مرقس :
وقد توقف المحققون ملياً مع هذا الإنجيل وكاتبه ، وكانت لهم ملاحظات : -
أن مرقس ليس من تلاميذ المسيح ، بل هو من تلاميذ بولس وبطرس . يقول المفسر نينهام مفسر لوقا : " لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة ، وعلاقة خاصة بيسوع ، أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى " .
وثمة دليل قوي آخر هو شهادة المؤرخ بابياس ( 140م ) حين قال : " اعتاد الشيخ يوحنا أن يقول : إذ أصبح مرقس ترجماناً لبطرس دون بكل تدقيق كل ما تذكره ، ولم يكن مع هذا بنفس الترتيب المضبوط ما رواه من أقوال وأفعال يسوع المسيح ، وذلك لأنه لم يسمع من السيد المسيح فضلاً عن أنه لم يرافقه ، ولكن بالتبعية كما قلت ، التحق ببطرس الذي أخذ يصوغ تعاليم يسوع المسيح لتوائم حاجة المستعمين ، وليس بعمل رواية وثيقة الصلة بيسوع وعن يسوع لأحاديثه " .
كما يقول مفسر مرقس دنيس نينهام قوله " من غير المؤكد صحة القول المأثور الذي يحدد مرقس كاتب الإنجيل بأنه يوحنا مرقس المذكور في ( أعمال الرسل 12/12 ، 25 ) ... أو أنه مرقس المذكور في رسالة بطرس الأولى ( 5/13 ) .. أو أنه مرقس المذكور في رسائل بولس ...
لقد كان من عادة الكنيسة الأولى أن تفترض جميع الأحداث التي ترتبط باسم فرد ورد ذكره في العهد الجديد ، إنما ترجع جميعها إلى شخص واحد له هذا الاسم ، ولكن عندما نتذكر أن اسم مرقس كان أكثر الأسماء اللاتينية شيوعاً في الإمبراطورية الرومانية ، فعندئذ نتحقق من مقدار الشك في تحديد الشخصية في هذه الحالة " .
وأهم مسألة شغلت الباحثين بخصوص هذا الإنجيل خاتمته ، فإن خاتمة هذا الإنجيل (16/9 - 20 ) غير موجودة في المخطوطات القديمة المهمة كمخطوطة الفاتيكان والمخطوطة السينائية .
ويقول وليم باركلي : إن النهاية المشهورة - علاوة على عدم وجودها في النسخ الأصلية القديمة - فإن أسلوبها اللغوي يختلف عن بقية الإنجيل ، وقد اعتبرتها النسخة القياسية المراجعة فقرات غير موثوق فيها ، ونقل رحمة الله الهندي أن القديس ( جيروم ) في القرن الخامس ذكر بأن الآباء الأوائل كانوا يشكون في هذه الخاتمة .
وعن الخاتمة الموجودة يقول الأب كسينجر " لابد أنه قد حدث حذف للآيات الأخيرة عند الاستقبال الرسمي ( النشر للعامة ) لكتاب مرقس في الجماعة التي ضمنته .
وبعد أن جرت بين الأيدي الكتابات المتشابهة لمتى ولوقا ويوحنا ، تم توليف خاتمة محترمة لمرقس بالعناصر من هنا ومن هناك لدى المبشرين الآخرين .. وذلك يسمح بتكوين فكرة عن الحرية التي كانوا يعالجون بها الأناجيل " ويعلق موريس بوكاي قائلاً " ياله من اعتراف صريح بوجود التغييرات التي قام بها البشر على النصوص المقدسة .
ثالثاً : إنجيل لوقا
هو ثالث الأناجيل وأطولها ، ويتكون من أربعة وعشرين إصحاحاً يتحدث الإصحاحان الأولان عن النبي يحيى وولادة المسيح ، ثم تكمل بقية الإصحاحات سيرة المسيح إلى القيامة بعد الصلب.
وأما كتابة هذا الإنجيل فتختلف المصادر في تحديد زمنها بين 53 - 80 م ، وقد اعتمد الكاتب في مصادره على مرقس ، فنقل عنه ثلاثمائة وخمسين من فقراته التي بلغت ستمائة وإحدى وستين فقرة ، كما نقل عن متى أو عن مصدر أخر مشترك بينه وبين متى .
1- من هو لوقا :
وتنسب الكنيسة هذا الإنجيل إلى القديس لوقا ، ولا تذكر المصادر النصرانية الكثير عن ترجمته ، لكنها تتفق على أنه لم يكن من تلاميذ المسيح كما يتضح من مقدمته إذ يقول : " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا ،كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة "( لوقا 1/1 ) .
وتتفق المصادر أيضاً في أنه لم يكن يهودياً ، وأنه رفيق بولس المذكور في كولوسي 4/14 وغيرها ، وأنه كتب إنجيله من أجل صديقه ثاوفيلس " أكتب على التوالي وإليك أيها العزيز ثاوفيلس ، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به " ( لوقا 1/3 - 4 ) .
وتختلف المصادر في تحديد شخصية ثاوفيلس ، فقال بعضهم : كان من كبار الموظفين الرومان , وقال آخرون : من اليونان , وقال آخرون : بل كان مصرياً من أهل الإسكندرية . وتكاد تتفق المصادر على لوقا أنه كتب له باليونانية، وأما لوقا ، فقيل بأنه كان رومانياً . وقيل إنطاكياً ، وقيل غير ذلك .
وعن مهنته ، قيل بأنه كان طبيباً ، وقيل: كان مصوراً، لكنه على أي حال مثقف وكاتب قصص ماهر .
2- ملاحظات على إنجيل لوقا :
ويلحظ المحققون على إنجيل لوقا ملاحظات ، أهمها :
1- أن مقدمته تتحدث عن رسالة طابعها شخصي ، وأنها تعتمد على اجتهاده لا على إلهام وحي ، وكان قد لاحظ ذلك أيضاً عدد من محققي النصرانية ، فقد أنكر إلهامية هذا الإنجيل عدد من النصارى منهم مستر كدل في كتابه " رسالة الإلهام " ومثله واتسن، ونسب هذا القول للقدماء من العلماء ، وقال القديس أغسطينوس : " إني لم أكن أؤمن بالإنجيل لو لم تسلمني إياه الكنيسة المقدسة".
2- شك كثير من الباحثين في الإصحاحين الأولين من هذا الإنجيل ، بل إن هذا الشك كما ذكر جيروم يمتد إلى الآباء الأوائل للكنيسة ، وكذلك فرقة مارسيوني فليس في نسختها هذين الإصحاحين .
ويؤكد المحققون بأن لوقا لم يكتب هذين الإصحاحين ، لأنه يقول في أعمال الرسل " الكلام الأول أنشأته ياثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع " ( أعمال 1/1 ) أي معجزاته بدليل تكملة النص " ما ابتدأ يسوع يعلم به إلى اليوم الذي ارتفع فيه " ( أعمال 1/2 ) والإصحاحان الأولان إنما يتكلمان عن ولادة المسيح ، لا عن أعماله . ونقل وارد كاثلك عن جيروم قوله : بأن بعض العلماء المتقدمين كانوا يشكون أيضاً في الباب الثاني والعشرين من هذا الإنجيل .
وهكذا نرى للإنجيل أربعة من الكتاب تناوبوا في كتابة فقراته وإصحاحاته .
3- إن الغموض يلف شخصيته ، فهو غير معروف البلد ولا المهنة ولا الجهة التي كتب لها إنجيله تحديداً ، ولا تاريخ الكتابة و .... المعروف فقط أنه من تلاميذ بولس ، وأنه لم يلق المسيح ، فكيف يصح الاحتجاج بمن هذا حاله وجعل كلامه مقدساً ؟
رابعاً : إنجيل يوحنا
رابع الأناجيل إنجيل يوحنا ، وهو أكثر الأناجيل إثارة وأهمية إذ أن هذا الإنجيل كتب لإثبات لاهوت المسيح .
ويتكون هذا الإنجيل من واحد وعشرين إصحاحاً تتحدث عن المسيح بنمط مختلف عن الأناجيل الثلاثة ، ويرى المحققون أن كتابته جرت بين 68 - 98م وقيل بعد ذلك ، وتنسب الكنيسة هذا الإنجيل ليوحنا الصياد.
ولغة هذا الإنجيل - باتفاق - هي اليونانية ، واختلف في مكان كتابته ، والأغلب أنه في تركيا - وتحديداً في أفسس أو أنطاكيا - ، وقيل الإسكندرية .
1- من هو يوحنا الصياد :
يوحنا بن زبدى الصياد ، وهو صياد سمك جليلي تبع وأخوه يعقوب المسيح ، كما أن والدته سالومة كانت من القريبات إلى المسيح، ويرجح محررو القاموس بأنها أخت مريم والدة المسيح، وقد عاش حتى أواخر القرن الميلادي الأول ، وقال ايرنيموس بأنه عاش إلى سنة 98م ، وتذكر الكنيسة أنه كتب إنجيله في أفسس قبيل وفاته.
2- أدلة النصارى على نسبة الإنجيل إلى يوحنا :
وتستدل الكنيسة لتصحيح نسبة هذا الإنجيل بأدلة ذكرها محررو قاموس الكتاب المقدس وهي : -
(1) كان كاتب الإنجيل يهودياً فلسطينياً ، ويظهر هذا من معرفته الدقيقة التفصيلية لجغرافية فلسطين ، والأماكن المتعددة في أورشليم وتاريخ وعادات اليهود …ويظهر من الأسلوب اليوناني للإنجيل بعض التأثيرات السامية .
(2) كان الكاتب واحداً من تلاميذ المسيح ، ويظهر هذا من استخدامه المتكلم الجمع .. وفي ذكر كثير من التفاصيل الخاصة بعمل المسيح ومشاعر تلاميذه ... ويتضح من ( يوحنا 21/24 ) أن كاتب هذا الإنجيل كان واحداً من تلاميذ المسيح .
(3) كان كاتب الإنجيل هو التلميذ الذي كان المسيح يحبه .. وكان هذا التلميذ هو يوحنا نفسه " .
ويتحدث مؤلف الإنجيل عن سبب تأليفه له فيقول " أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون - إذا آمنتم - حياة باسمه " ( يوحنا 20/31 ) ".
ويوضح محررو قاموس الكتاب المقدس فيقولون : " كان الداعي الآخر إلى كتابة الإنجيل الرابع تثبيت الكنيسة الأولى في الإيمان بحقيقة لاهوت المسيح وناسوته ، ودحض البدع المضلة التي كان فسادها آنذاك قد تسرب إلى الكنيسة ، كبدع الدوكينيين والغنوصيين والكيرنثيين والأبيونيين ... ولهذا كانت غايته إثبات لاهوت المسيح " .
وقد لقي هذا الإنجيل معارضة شديدة للإقرار بقانونيته ، فاندفع د. بوست في قاموس الكتاب المقدس يدافع عنه ويقول : " وقد أنكر بعض الكفار قانونية هذا الإنجيل لكراهتهم تعليمه الروحي ، ولا سيما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح ، غير أن الشهادة بصحته كافية .
فإن بطرس يشير إلى آية منه ( بطرس (2) 1/14 ، يوحنا 21/18 ) وأغناطيوس وبوليكرس يقتطفان من روحه وفحواه ، وكذلك الرسالة إلى ديوكينتس وباسيلوس وجوستينوس الشهيد وتايناس ، وهذه الشواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثاني .
وبناءً على هذه الشهادات ، وعلى نفس كتابه الذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنا نحكم بأنه من قلمه ، وإلا فكاتبه من المكر والغش على جانب عظيم، وهذا الأمر يعسر تصديقه، لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحياً".
3- إنكار صحة نسبة الإنجيل إلى يوحنا :
وتوجهت جهود المحققين لدراسة نسبة الإنجيل ليوحنا ، ومعرفة الكاتب الحقيقي له , فقد أنكر المحققون نسبة الإنجيل ليوحنا الحواري ، واستندوا في ذلك إلى أمور منها :
1- أن ثمة إنكار قديماً لصحة نسبته ليوحنا ، وقد جاء هذا الإنكار على لسان عدد من الفرق النصرانية القديمة ، منها فرقة ألوجين في القرن الثاني ، ويقول صاحب كتاب ( رب المجد ) : " وجد منكرو لاهوت المسيح أن بشارة يوحنا هي عقبة كؤود ، وحجر عثرة في سبيلهم ، ففي الأجيال الأولى رفض الهراطقة يوحنا ".
وتقول دائرة المعارف البريطانية: " هناك شهادة إيجابية في حق أولئك الذين ينتقدون إنجيل يوحنا ، وهي أنه كانت هناك في آسيا الصغرى طائفة من المسيحيين ترفض الاعتراف بكونه تأليف يوحنا ، وذلك في نحو 165م ، وكانت تعزوه إلى سرنتهن (الملحد) ولا شك أن عزوها هذا كان خاطئاً .
لكن السؤال عن هذه الطبقة المسيحية البالغة في كثرة عددها إلى أن رآه سانت اييفانيوس جديرة بالحديث الطويل عنها في ( 374 - 377م ) " أسماها القس " ألوغي " ( أي معارضة الإنجيل ذي الكلمة ) .
لئن كانت أصلية إنجيل يوحنا فوق كل شبهة ، فهل كانت مثل هذه الطبقة لتتخذ نحوه أمثال هذه النظريات في مثل هذا العصر ، ومثل هذا البلد ؟ لا وكلا ".
ومما يؤكد خطأ نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا أن جاستن مارتر في منتصف القرن الثاني تحدث عن يوحنا، ولم يذكر أن له إنجيلاً ، واقتبس فيلمو - 165م - من إنجيل يوحنا ، ولم ينسبه إليه .
وقد أُنكر نسبة الإنجيل أمام أرينيوس تلميذ بوليكارب الذي كان تلميذاً ليوحنا ، فلم ينكر أرينيوس على المنكرين ، ويبعد كل البعد أن يكون قد سمع من بوليكارب بوجود إنجيل ليوحنا ، ثم لا يدافع عنه .
وقد استمر إنكار المحققين نسبة هذا الإنجيل عصوراً متلاحقة ، فجاءت الشهادات تلو الشهادات تنكر نسبته ليوحنا . منها ما جاء في دائرة المعارف الفرنسية : " ينسب ليوحنا هذا الإنجيل وثلاثة أسفار أخرى من العهد الجديد ، ولكن البحوث الحديثة في مسائل الأديان لا تسلم بصحة هذه النسبة .
ويقول القس الهندي بركة الله : " الحق أن العلماء باتوا لا يعترفون دونما بحث وتمحيص بالنظرية القائلة بأن مؤلف الإنجيل الرابع كان القديس يوحنا بن زبدى الرسول ، ونرى النقاد بصورة عامة على خلاف هذه النظرية " .
وعند تفحص الإنجيل أيضاً تجد ما يمتنع معه نسبته الإنجيل للحواري يوحنا ، فالإنجيل يظهر بأسلوب غنوصي يتحدث عن نظرية الفيض المعروفة عند فيلون الإسكندراني ، ولا يمكن لصائد السمك يوحنا أن يكتبه خاصة أن يوحنا عامي كما وصفه سفر أعمال الرسل " فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا ، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا " ( أعمال 4/13 ) .
وتقول دائرة المعارف البريطانية : " أما إنجيل يوحنا ، فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور ، أراد صاحبه مضادة حواريين لبعضهما ، وهما القديسان متى ويوحنا .... وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ، وليربطوا ولو بأوهى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي ألّف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليلي ، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى ، لخبطهم على غير هدى ".
وأما ما جاء في خاتمة الإنجيل مما استدل به القائلون بأن يوحنا هو كاتب الإنجيل وهو قوله " هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا ، وكتب هذا ، ونعلم أن شهادته حق " ( يوحنا 21 / 24 ) فهذه الفقرة كما يقول المحققون دليل على عدم صحة نسبة الإنجيل ليوحنا ، إذ هي تتحدث عن يوحنا بصيغة الغائب .
ويرى ويست أن هذه الفقرة كانت في الحاشية ، وأضيفت فيما بعد للمتن ، وربما تكون من كلمات شيوخ أفسس . ويؤيده بشب غور بدليل عدم وجودها في المخطوطة السينائية .
ويرى العلامة برنت هلمين استرتير في كتابه " الأناجيل الأربعة " أن الزيادات في متن يوحنا وآخره كان الغرض منها " حث الناس على الاعتراف في شأن المؤلف بتلك النظرية التي كان ينكرها بعض الناس في ذلك العصر" .
ثم إن بعض المؤرخين ومنهم تشارلز الفريد ، وروبرت إيزلز وغيرهما قالوا بأن يوحنا مات مشنوقاً سنة 44م على يد غريباس الأول ، وعليه فليس هو مؤلف هذا الإنجيل، إذ أن هذا الإنجيل قد كتب في نهاية القرن الأول أو أوائل الثاني .
4- من كتب إنجيل يوحنا ؟
وإذا لم يكن يوحنا هو كاتب الإنجيل ، فمن هو الكاتب الحقيقي ؟
يجيب القس فهيم عزيز : " هذا السؤال صعب ، والجواب عنه يتطلب دراسة واسعة غالباً ما تنتهي بالعبارة : لا يعلم إلا الله وحده من الذي كتب هذا الإنجيل " .
وحاول البعض الإجابة عن السؤال من خلال تحديد صفات كاتب الإنجيل دون ذكر اسم معين، يقول جرانت: " كان نصرانياً ، وبجانب ذلك كان هيلينياً ، ومن المحتمل أن لا يكون يهودياً ، ولكنه شرقي أو إغريقي ، ونلمس هذا من عدم وجود دموع في عينيه علامة على الحزن عندما كتب عن هدم مدينة لليهود " .
وجاء في مدخل الإنجيل أن بعض النقاد " يترك اسم المؤلف ، ويصفونه بأنه مسيحي كتب باليونانية في أواخر القرن الأول في كنائس آسيا " .
وقال مفسر إنجيل يوحنا جون مارش : " ومن المحتمل أنه خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن الأول الميلادي قام شخص يدعى يوحنا ، من الممكن أن يكون يوحنا مرقس خلافاً لما هو شائع من أنه يوحنا بن زبدى .. وقد تجمعت لديه معلومات وفيرة عن يسوع ، ومن المحتمل أنه كان على دراية بواحد أو أكثر من الأناجيل المتشابهة ، فقام حينئذ بتسجيل جديد لقصة يسوع ".
وقال المحقق رطشنبدر : " إن هذا الإنجيل كله ، وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه ، بل صنفها أحد في ابتداء القرن الثاني ، ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس " .
ويوافقه استادلن ويرى أن الكاتب " طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية ".
وقال الخوري في " تحفة الجيل " بأن كاتب الإنجيل هو تلميذ يوحنا المسمى بروكلوس.
وقال بعض المحققين ومنهم جامس ماك كينون ، واستيريتر في كتابه " الأناجيل الأربعة " بأن يوحنا المقصود هو تلميذ آخر من تلاميذ المسيح وهو ( يوحنا الأرشد ) ، وأن أرينوس الذي نسب إنجيل يوحنا لابن زبدى قد اختلط عليه أمر التلميذين .
وذكر جورج إيلتون في كتابه " شهادة إنجيل يوحنا " أن كاتب هذا الإنجيل أحد ثلاثة : تلميذ ليوحنا الرسول أو يوحنا الشيخ ( وليس الرسول ) أو معلم كبير في أفسس مجهول الهوية .
لكن ذلك لم يفت في عضد إيلتون الذي ما زال يعتبر إنجيل يوحنا مقدساً ، لأنه " مهما كانت النظريات حول كاتب هذا الإنجيل، فإن ما يتضح لنا جلياً بأن كاتبه كان لديه فكرة الرسول ، فإذا كتبه أحد تلاميذه فإنه بلا مراء كان مشبعاً بروحه .. ".
كما ذهب بعض المحققين إلى وجود أكثر من كاتب للإنجيل ، منهم كولمان حين قال : " إن كل شيء يدفع إلى الاعتقاد بأن النص المنشور حالياً ينتمي إلى أكثر من مؤلف واحد ، فيحتمل أن الإنجيل بشكله الذي نملكه اليوم قد نشر بواسطة تلاميذ المؤلف ، وأنهم قد أضافوا إليه "، ومثله يقول المدخل لإنجيل يوحنا .
ومن هذا كله ثبت أن إنجيل يوحنا لم يكتبه يوحنا الحواري ، ولا يعرف كاتبه الحقيقي ، ولا يصح بحال أن ننسب العصمة والقداسة لكاتب مجهول لا نعرف من يكون .
وعند غض الطرف عن مجهولية الكاتب واستحالة القول بعصمته عندئذ ، فإن ثمة مشكلات تثار في وجه هذا الإنجيل نبه المحققون إليها منها : اختلاف هذا الإنجيل عن باقي الأناجيل الثلاثة رغم أن موضوع الأناجيل الأربعة هو تاريخ المسيح .
إذ تتشابه قصة المسيح في الأناجيل الثلاثة ، بينما يظهر الإنجيل الرابع غريباً بينها ، فمثلاً : هو الإنجيل الوحيد الذي تظهر فيه نصوص تأليه المسيح ، بل هو أنشىء لإثبات ذلك كما يقول المفسر يوسف الخوري: " إن يوحنا صنف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة كنائس آسيا وغيرها ، والسبب : أنه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح " .
ولما لم يكن في الأناجيل الثلاثة ما يدفع أقوال هذه الطوائف ، أنشأ يوحنا إنجيله ، وهذا المعنى يؤكده جرجس زوين، فيقول عن أساقفة آسيا أنهم اجتمعوا " والتمسوا منه أن يكتب عن المسيح ، وينادي بإنجيل مما لم يكتبه الإنجيليون الآخرون " .
ويقول الأب روغيه في كتابه المدخل إلى الإنجيل :" إنه عالم آخر ، فهو يختلف عن بقية الأناجيل في اختيار الموضوعات والخطب والأسلوب والجغرافيا والتاريخ ، بل والرؤيا اللاهوتية " .
وهذه المغايرة أوصلته إلى تقديم صورة للمسيح مغايرة تماماً عما في الأناجيل الثلاثة والتي يسميها البعض : " المتشابهة " أو " الإزائية " ، لذا تقول دائرة المعارف الأمريكية: " من الصعب الجمع بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة ، بمعنى أن لو قدرنا أنها صحيحة لتحتم أن يكون هذا الإنجيل كاذباً " .
يقول السير آرثر فندلاي في كتابه " الكون المنشور " معبرا عن هذا الاختلاف : " إن إنجيل يوحنا ليس له قيمة تستحق الذكر في سرد الحوادث الأكيدة ، ويظهر أن محتوياته لعب فيها خيال الكاتب دوراً بعيداً ".
ومن المشكلات التي تواجه هذا الإنجيل أيضاً أن أيدي المحرفين نالت هذا الإنجيل ، فأضافت فيه رواية المرأة الزانية ( انظر يوحنا 8/1 - 11 ) والتي يقول عنها مدخل هذا الإنجيل: " هناك إجماع على أنها من مرجع مجهول في زمن لاحق". وقد حذفت هذه القصة من النسخة القياسية المراجعة ( (R. S. V) لاعتبارها عبارة دخيلة على الإنجيل .
خامساً : رسائل العهد الجديد
يلحق بالأناجيل الأربعة عدد من الرسائل وهي : ( سفر أعمال الرسل - رسائل بولس الأربع عشر - رسالة يعقوب - رسالتا بطرس - رسائل يوحنا الثلاث - رسالة يهوذا - رؤيا يوحنا اللاهوتي) .
1- أعمال الرسل :
ويتكون هذا السفر من ثمان وعشرين إصحاحاً تتحدث عن الأعمال التي قام بها الحواريون والرسل الذي نزل عليهم روح القدس يوم الخمسين ( 2/1 - 4 ) ، من دعوة ومعجزات ، كما يتحدث عن شاول ودعوته ورحلاته وقصة تنصره وبعض معجزاته .
وينسب هذا السفر إلى لوقا مؤلف الإنجيل الثالث حيث جاء في افتتاحيته : " الكلام الأول أنشأته ياثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله .... " ( أعمال 1/1 ) .
ولكن يبطله تناقض إنجيل لوقا مع سفر الأعمال في مسألة الصعود إلى السماء إذ يفهم من إنجيل لوقا أن صعود المسيح للسماء كان في يوم القيامة ( لوقا 24/13 - 51 ) وفي أعمال الرسل يتحدث عن ظهور المسيح بعد القيامة " أربعين يوماً " ( أعمال 1/3 ) وهذا الاختلاف يكذب الرأي القائل بأن كاتب الإنجيل والسفر واحد .
2- رسائل بولس :
وتنسب هذه الرسائل إلى القديس بولس ، وتمتلئ بعبارات تدل على أنه كاتبها .وهذه الرسائل أربع عشرة رسالة.
وتصطبغ الرسائل أيضاً بالصبغة الشخصية لبولس ، فهي ليست لاهوتية الطابع ، بل رسائل شخصية لها ديباجة وخاتمة ...
وليس ثمة إجماع على صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس ، بل إن بعض المحققين يميل إلى أن أربع رسائل منسوبة إليه كتبت بيد بعض تلاميذه بعد وفاته بعشرين سنة كما ذكرت دائرة المعارف البريطانية.
ويشكك أرجن في شرحه لإنجيل يوحنا بجميع رسائل بولس المرسلة إلى الكنائس فيقول : " إن بولس ما كتب شيئاً إلى جميع الكنائس ، والذي كتبه هو سطران أو أربعة سطور ".
أما الرسالة إلى العبرانيين خصوصاً فكان النزاع حولها أشد ، فحين تنسبها الكنيسة الشرقية إلى بولس فإن لوثر يقول بأنها من وضع أبلوس ، بينما يقول تارتوليان المؤرخ في القرن الميلادي الثاني : " إنها من وضع برنابا " ويقول راجوس ( من علماء البروتستانت ) : " إن فريقاً من علماء البروتستانت يعتقدون كذب الرسالة العبرانية ..." .
3- الرسائل الكاثوليكية ورؤيا يوحنا اللاهوتي :
وهذه الرسائل سبع رسائل ثلاث منها ليوحنا، وثنتان لبطرس، وواحدة لكل من يهوذا ويعقوب ثم رؤيا يوحنا اللاهوتي.
وعرف المحققون بأصحاب هذه الرسائل وهم من التلاميذ الإثنى عشر.
فبطرس هو صياد سمك في كفر ناحوم ، ويعرف بسمعان ، ويرجح محررو قاموس الكتاب المقدس أنه كان من تلاميذ يوحنا المعمدان قبل أن يصحب المسيح ، ويتقدم على سائر تلاميذه ، وقد دعا في أنطاكية وغيرها ، ثم قتل في روما في منتصف القرن الميلادي الأول.
ويذكر بطرس قرماج في " مروج الأخبار " أن بطرس ومرقس ينكران ألوهية المسيح .
وأما يعقوب فهو ابن زبدى الصياد - أخو يوحنا الإنجيلي - من المقربين للمسيح ، وقد تولى رئاسة مجمع أورشليم سنة 34م ، وقد كانت وفاته قتلاً على يد أغريباس الأول عام 44م على الأرجح ، وقال آخرون : قتله اليهود حين طرحوه من جناح الهيكل ورموه بالحجارة سنة 62م .
وأما يهوذا فلا تقدم المصادر عنه تعريفاً سوى أن تذكر أنه اختلف فيه هل هو يهوذا أخو يعقوب الصغير أي انه ابن زبدى ، أم أنه الحواري الذي يدعى لباوس الملقب تداوس ؟ .
وهذه الرسائل تعليمية في محتوياتها ، شخصية في طريقة تدبيجها ، تحوي في مقدمتها اسم مؤلفها غالباً .
ورغم ذلك فإن نسبة هذه الرسائل كانت محل جدل طويل في قرون النصرانية الأولى ، وينطبق على أكثرها ما ذكرناه في رسالة بولس إلى العبرانيين ، حيث تأخر الاعتراف إلى أواسط القرن الرابع الميلادي برسالة بطرس الثانية ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة ورسالتي يعقوب ويهوذا ، ورؤيا يوحنا اللاهوتي الذي كان موضع جدل كبير قبل إقراره، إذ يحوي هذا السفر رؤيا منامية غريبة هدفها تقرير ألوهية المسيح ، وإثبات سلطانه في السماء ، وخضوع الملائكة له ، إضافة إلى بعض التنبؤات المستقبلية التي صيغت بشكل رمزي وغامض .
ويسيء النص بل ويلحد، وهو يصف الله أنه على شكل خروف رآه يوحنا جالساً على عرشه، فيقول: "من أجل ذلك هم أمام عرش الله، ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحل فوقهم. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحرّ، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم..." (الرؤيا 7/15-18).
ويمضي النص فيتحدث عن حرب التنين وملائكته مع الخروف الجالس على العرش وملائكته، ويتنبئ بهزيمة التنين " هؤلاء سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم، لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون" (الرؤيا 17/14).
وهذه الرؤيا رآها يوحنا في منامه وهي مسطرة في سبعة وعشرين صفحة !! ومثل هذا يستغرب في المنامات ولا يعهد.
وقد شكك آباء الكنيسة الأوائل كثيراً في هذا السفر , يقول ( كيس برسبتر الروم ) 212م : " إن سفر المشاهدات ( الرؤيا ) من تصنيف سرنتهن الملحد " ، ومثله قاله ديونسيش من القدماء .
ويقول المدخل لهذا السفر قوله " لا يأتينا سفر يوحنا بشيء من الإيضاح عن كاتبه لقد أطلق على نفسه اسم يوحنا ، ولقب نبي ، ولم يذكر قط أنه أحد الإثنى عشر . هناك تقليد كنسي وهو أن كاتب الرؤيا هو الرسول يوحنا .. بيد أنه ليس في التقليد القديم إجماع على ذلك ، وقد بقي المصدر الرسولي لسفر الرؤيا عرضة للشك ، وآراء المفسرين في عصرنا متشعبة ، ففيهم من يؤكد أن الاختلاف في الإنشاء والبيئة والتفكير اللاهوتي تجعل نسبة الرؤيا والإنجيل الرابع إلى كاتب واحد أمراً عسيراً .
يخالفهم آخرون يرون أن الرؤيا والإنجيل يرتبطان بتعليم الرسول على يد كتبة ينتمون إلى بيئات أفسس" .
ومما نقله المحققون في تكذيب نسبة الرسائل الكاثوليكية أو بعضها على الأقل تكذيب هورن لها ، واحتج بعدم وجودها في الترجمة السريانية.
ونقل راجوس تكذيب علماء البروتستانت صحة نسبتها للحواريين ، ويقول جيمس ميك : إن الدلائل تثبت أن كاتب هذه الرسالة (رسالة يعقوب) ليس يعقوب .
وقال المؤرخ يوسي بيس في تاريخه " ظُن أن هذه الرسالة جعلية ، لكن كثيراً من القدماء ذكروها ، وكذا ظُن في حق رسالة يهوذا، لكنها تستعمل في كثير من الكنائس".
وعن رسالة يهوذا يقول المحقق كروتيس في كتابه " تاريخ البيبل " : " هذه الرسالة رسالة يهوذا الأسقف الذي كان خامس عشر من أساقفة أورشليم في عهد سلطنة أيد دين " ، فجعل هذا المحقق رسالة يهوذا من عمل أسقف عاش في القرن الثاني الميلادي .
كما لا تسلم الكنيسة السريانية حتى الآن بصحة الرسالة الثانية لبطرس ، والثانية والثالثة ليوحنا ، ويقول اسكالجر : من كتب الرسالة الثانية لبطرس فقد ضيع وقته .