مكانة الزكاة في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فموضوع المحاضرة كما قال المقدم: (مكانة الزكاة في الإسلام)، كل مسلم له أدنى بصيرة يعلم أن الزكاة أمرها عظيم، وأنها من أركان الإسلام الخمسة، بل هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد جمع الله بينها وبين الصلاة في مواضع كثيرة من كتابه العظيم، وهكذا جمع بينهما الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قول الله جل وعلا: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقوله سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقوله : فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، وقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، في آيات أخرى.
ولقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، ورواه غيرهما أيضاً من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ أنه قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت[1].
وفي لفظ آخر: بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله وحده ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة...[2] الحديث،
وهذا يبين لنا عظم شأن الزكاة وأنها في كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام قرينة الصلاة، والصلاة لا يخفى عظم شأنها فهي عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، وقد قال الله فيها جل وعلا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين [البقرة:238] وقال فيها النبي ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقدد كفر[3].
وقال فيها النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[4] فالصلاة عمود الإسلام وأهم أركانه وأعظمها بعد الشهادتين، والزكاة أختها وقرينتها، فالصلاة حق لله تتعلق بالبدن فهي عبادة بدنية يقوم فيها العبد بين يدي ربه، يناجيه ويذكره ويدعوه ويقرأ كتابه سبحانه، فأمرها عظيم وتأثيرها في القلوب عظيم، وهي التي من أقامها وأدى حقها نهته عن الفحشاء والمنكر، وصارت سبب سعادته وسلامته ونجاته وصلاح قلبه وعمله، وهي التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكرها بين أصحابه في بعض أيامه قال فيها عليه الصلاة والسلام: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف[5] خرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن.
قال بعض أهل العلم في هذا الحديث: إنما يحشر مضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة الكبار الدعاة إلى النار، إنما يحشر معهم؛ لأنه شابههم في أعمالهم الخبيثة، فالذي ضيعها من أجل الرياسة والملك والسلطان قد شابه فرعون؛ فإنه شغله كبره وملكه وعلوه في الأرض حتى كذَّب موسى وطغى وبغي فأهلكه الله، فيحشر معه من شابهه يوم القيامة إلى النار، وإنما يحشر من ضيع الصلاة مع هامان وزير فرعون إذا شغله عنها الوظيفة أو الوزارة وأعمال الوزارة فإنه يحشر مع هامان وزير فرعون إلى النار؛ لكونه شابهه في اشتغاله بالوزارة وحق الرياسة على طاعة الله ورسوله، وإنما يحشر من ضيعها من أجل المال والشهوات مع قارون؛ لأنه شابهه في ذلك، فقارون شغل بالمال والشهوات وتكبر عن الحق وطغى وعصى نبي الله موسى فخسف الله به وبداره الأرض وصار إلى النار فمن شابهه باشتغاله بالشهوات والمآكل والمشارب والمراكب ونحو ذلك حشر معه إلى النار نعوذ بالله، ومن شغل عن الصلاة بالبيع والشراء والمعاملات والأخذ والعطاء والدفاتر وغير ذلك فقد شابه أبي بن خلف تاجر أهل مكة فيحشر معه إلى النار نعوذ بالله.
وإذا كانت الصلاة هذا شأنها وهذا عظمها وخطرها، فالزكاة أيضاً شأنها عظيم وهي أختها وقرينتها، فمن شغل عنها بالبخل وحب المال حشر مع أعداء الله الذين آثروا المال على طاعة الله ورسوله.
ومما جاء في ذلك عن النبي ﷺ أنه قال لما بعث معاذاً إلى اليمن: ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم[6] وهذا يدل على أنها فرضت للمواساة والإحسان، فهي حق مالي ينبغي للمؤمن أن يُعنى به ويحرص عليه حتى يؤديه إلى مستحقيه، ومن هذا حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله[7].
فدل هذا الحديث وما جاء في معناه على أن الذي يبخل بالزكاة ويمتنع منها ويقاتل دونها ولا يؤديها فإنه يباح قتاله، كما قاتل الصديق مانعيها؛ لأنه لا يكون معصوم الدم إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا لما امتنع بعض العرب بعد موت النبي ﷺ من الزكاة قاتلهم الصحابة حتى يؤدوها، فإن بعض العرب لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ارتدوا عن الإسلام وتنوعت ردتهم، فبعضهم قال: لو كان نبياً ما مات، وجهل أن الأنبياء ماتوا قبله عليه الصلاة والسلام. وبعضهم قال: هذه الزكاة لن نؤديها. وبعضهم ارتد بأنواع أخرى، فقام أبو بكر في الناس خطيباً رضي الله عنه وأرضاه، وحث الصحابة على قتالهم حتى يدخلوا في الإسلام كما خرجوا منه، فراوده عمر في ذلك وقال له: (كيف تقاتل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟) فقال أبو بكر: (إنا قد أمرنا أن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
قال الصديق : (أليست الزكاة من حق لا إله إلا الله، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً) وفي لفظ (عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها)، قال عمر: (فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)[8].
فأجمع الصحابة على هذا وقاتلوا المرتدين وجاهدوهم جهاداً عظيماً حتى أدخلوهم في الإسلام كما خرجوا منه، إلا من سبقت له الشقاوة فقتل على ردته نعوذ بالله من ذلك كمسيلمة الكذاب وجماعة معه، وجماعة من بني أسد، وجماعات غيرهم، استمروا في كفرهم فقاتلهم الصحابة حتى قتلوهم، وهدى الله من هدى منهم من بقاياهم.
فالحاصل والخلاصة أن الزكاة مكانتها عظيمة في الإسلام وأنها الركن الأعظم بعد الصلاة والشهادتين، وأن الواجب على المسلمين أداؤها إلى مستحقيها، وإذا طلبها ولي الأمر وجب أن تؤدى إليه، فإن لم يطلبها وزعها المؤمن بين الفقراء والمستحقين لها، والله بيَّن أهلها في قوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60] هؤلاء أهلها.
الفقراء والمساكين: هم الذين ليس عندهم مال يكفيهم؛ والفقير أشد حاجة، والمسكين أحسن حالاً منه، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، فإذا قيل: الفقراء دخل فيهم المساكين، وإذا قيل المساكين دخل فيهم الفقراء، وهم من لم يكن عندهم كفاية، يعني عندهم بعض الشيء ولكنه يسير لا يكفيهم ولا يقوم بحالهم فيعطون من الزكاة ما يكفيهم سنتهم، كل سنة يعطون ما يكفيهم ويكفي عوائلهم في حاجاتهم الضرورية سنة كاملة.
أما العاملون عليها: فهم العمال الذين يوكلهم ولي الأمر في جبايتها والسفر إلى البلدان والمياه التي عليها أهل الأموال حتى يجبوها منهم، فهم جباتها وحفاظها والقائمون عليها يعطون منها بقدر عملهم وتعبهم على ما يراه ولي الأمر.
والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يطاعون في العشائر، وهم السادات من الرؤساء والكبار، والذين يطاعون في عشائرهم بحيث إذا أسلموا أسلمت عشائرهم وتابعوهم، وإذا كفروا، كفروا معهم، وهم الكبار والرؤساء الذين يتألفون في الإسلام، ويعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، أو ليسلم نظيرهم، أو ليحموا جانب الإسلام من الأعداء، فيعطون من الزكاة ما يكون سبباً لقوة إيمانهم، أو لدفاعهم عن الإسلام، أو لإسلام من وراءهم وأشباه ذلك.
وفي الرقاب: هم الأرقاء الذي يعطون من المال ما يعتقون به رقابهم، وهم المكاتبون الذين يشترون أنفسهم من سادتهم بأموال منجمة مرتبة فيعطون من الزكاة ما يقضي به دينهم وتعتق به رقابهم، ويجوز على الصحيح أيضاً أن يشترى منها أرقاء فيعتقون، فيشتري صاحب الزكاة منها أرقاء فيعتقهم منها، فإن هذا داخل في الرقاب، ويدخل في ذلك على الصحيح أيضاً عتاق الأسرى، أسرى المسلمين بين الكفار، يدفع من الزكاة للكفار الفدية حتى يطلقوا المسلمين وحتى يفكوا أسرهم.
أما الغارمون: فهم أهل الدين الذين يستدينون الأموال في حاجاتهم المباحة، وحاجات عوائلهم أو لإصلاح ذات البين، يتحملون المال ليصلحوا بين الناس عند قيام الفتن والشرور والعداوات والشحناء، يقوم الإنسان ليصلح بين الناس ويتحمل أموالاً للإصلاح بينهم، فيعطى هذا المتحمل ولو كان غنياً يعطى ما تحمله من الزكاة؛ لأنه قد سعى في خير وقام في خير، كما يعطى المدين العاجز عن قضاء الدين في حاجات نفسه وحاجات عياله يعطى من الزكاة ما يُسَدُّ به الدين.
والسابع: في سبيل الله: هم أهل الجهاد، وهم المجاهدون الغزاة يعطون في غزوهم ما يقوم بحاجاتهم من السلاح والمركوب والنفقة إذا لم يحصل لهم هذا من بيت المال، يعطون من الزكاة ما يقيم حالهم ويعينهم على جهاد أعدائهم من الخيل والإبل وأنواع الآلات من ذلك والنفقة والسلاح حتى يجاهدوا أعداء الله.
والثامن ابن السبيل: وهم الذين ينتقلون من بلاد إلى بلاد فينقطعون في الطريق إما لذهاب نفقتهم في الطريق إذا طال السفر عليهم، أو لأن عدواً من قطاع الطريق أخذهم وأخذ أموالهم، أو لأسباب أخرى ذهبت نفقاتهم، فيعطون من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم في الطريق ليس عندهم ما يقوم بحالهم ولا يلزمهم الاقتراض، بل يجب أن يعطوا في الطريق ما يسد حاجاتهم إلى أن يصلوا بلادهم التي فيها أموالهم.
فالزكاة فيها خير عظيم ومصالح جمة للمسلمين في صرفها في هذه الجهات الثمان، فلها أثر عظيم في كفاية الناس وإعانتهم على ما أوجب الله عليهم، والتخفيف مما يثقل عليهم من الديون وغير ذلك مما يهمهم كعتق الرقاب، وتزويد المجاهدين بما يعينهم، ومساعدة أبناء السبيل إلى غير ذلك مما يدخل في الأصناف الثمانية، وهذا من لطف الله ومن عظيم إحسانه إلى عباده حيث جعلهم متعاونين غنيهم يساعد فقيرهم، فيتعاونون على البر والتقوى مما أعطاهم الله.
وفي إخراج الزكاة شكر لله على ما أحسن إليهم فهو سبحانه المحسن المتفضل، ومن شكره عليك أيها المسلم أن تؤدي الزكاة وأن تحمد الله الذي جعلك تعطي ولا تأخذ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: اليد العليا خير من اليد السفلى[9] واليد العليا هي المعطية وهي المنفقة، والسفلى هي الآخذة والسائلة، فاحمد الله الذي جعلك صاحب يد عليا تنفق وتحسن وتجود على عباد الله، ثم في الزكاة الطهرة لك والطهرة لمالك، والزكاة لك ولمالك كما قال الله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة:103] فهي خير لك في الدنيا والآخرة تطهر بها مالك وتحفظ بها مالك وتطهر بها أنت، كما قال الله سبحانه في الآية السابقة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا والمسكين الفقير إذا ساعدته وأعطيته مما أعطاك الله كان لك في ذلك خير عظيم وفضل كبير؛ لأنك أزلت شدته وفرجت كربته، وواسيته بمالك، فلها عنده منزلة عظيمة وربما دعا لك بدعوة يقبلها الله يكون فيها سعادتك ونجاتك في الدنيا والآخرة، وأنت تعطي من خير كثير لا يضرك، وهو ينتفع بذلك نفعاً عظيماً، وتفرج بها الكروب وتحسن بها إلى الأطفال وإلى الشيوخ الكبار وإلى العجائز وإلى المنقطعين فيحصل بك بهذا فضل عظيم واجر كبير، وقد توعد الله سبحانه من بخل بالزكاة ولم يؤدها، فقال : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وهذه عاقبة من بخل بالزكاة عاقبته النار يعذب بهذا المال الذي جمعه وبخل به وتعب عليه، يكون عذاباً عليه يوم القيامة، يعذب به يوم القيامة جزاءً وفاقاً؛ لما بخل به ولم يؤد حقه صار بلاءً عليه، وكل مال لا يؤدى حقه وما أوجب الله فيه هو كنز، والذي تؤدى زكاته ليس بكنز، قال النبي ﷺ: ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز[10] فالمال عندك ولو كان في الأرض السابعة إذا أديت حقوقه ليس بكنز عليك، ولا يضرك، والذي على وجه الأرض وبين يديك كنز، إذا لم تؤد حقه تعذب به يوم القيامة.
وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها –وفي لفظ: زكاتها– إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا بسط لها بقلع قرقر تطأه بخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت عليه أخراها عادت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب بقر أو غنم لا يؤدي زكاتها –وفي لفظ: حقها– إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر تمر عليه تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مرت عليه أخراها عادت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار[11].
وهذا وعيد عظيم يدل على عظم الخطر في البخل بالزكاة وعدم أدائها، وأن ماله يوم القيامة شر عليه وبلاء عليه سواء كان نقوداً أو حبوباً أو ثماراً أو إبلاً أو بقراً أو غنماً، كلها يعذب بها يوم القيامة، في الإبل والبقر والغنم بيَّن النبي كيف عذابه وفي الذهب والفضة كذلك، وما سواها يلحق بها، نسأل الله العافية والسلامة.
فعلينا أيها الإخوة وعلى جميع المسلمين التواصي بهذا الأمر العظيم، علينا أن نتواصى في حق الله وأن نجتهد في ذلك وأن نذكَّر بالله من غفل، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فأمر الزكاة واضح، وأمر الصلاة واضح، وأمر الصيام واضح، ولكن الإنسان قد يغفل ويرين على قلبه كثير من الذنوب وتثقل عليه الطاعات وتسهل عليه المعاصي مثل تزيين الشيطان ونواب الشيطان حتى يغفل عن الله والدار الآخرة، وحتى يثقل عليه أداء حق الله في المال وغير المال، وحتى تسهل عليه طاعة الشيطان والسير مع إخوان الشياطين سير الجهل والغفلة واستيلاء حب المال والشهوات على قلبه وقلة الجليس الصالح، وكثرة الجليس المنحرف.
فالواجب التذكير بالله، والله يقول: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات:55]، ويقول سبحانه: فذكر إنما أنت مذكر [الغاشية:21] فالمؤمن يذكِّر أخاه ولا يقول: أخي عنده علم يدري عن هذا، لا، إذا رأيت منه شيئاً من التفريط والتساهل أو ظهر لك شيء من الغفلة والإعراض فانصح أخاك وذكره بالله بالعبارات الحسنة والأسلوب القيم الذي يتضمن العطف عليه والخوف عليه والحرص على نجاته وسعادته، فأخوك من نصحك ونبهك، وليس أخوك من غفل عنك وأعرض عنك وجاملك، ولكن أخاك في الحقيقة هو الذي ينصحك والذي يعظك ويذكرك، يدعوك إلى الله، يبين لك طريق النجاة حتى تسلكه ويحذرك من طريق الهلاك ويبين لك سوء عاقبته حتى تجتنبه ولا تيأس ولا تقل هذا ما فيه خير ما ينفع فيه شيء، ولا تيأس فالله سبحانه يقول: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ [يوسف:87]، ويقول سبحانه: لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] فكم من مجرم، وكم من عاص مضى عليه سنون وهو في غفلته وفي سكرته وطاعة الشيطان ثم يوفق لمن يرشده وينبهه ويدعوه إلى الخير فينتبه ويدعو للذي نبهه، فيهديه الله ويرجع إلى الصواب ويتوب إلى الله مما سلف منه فيغفر الله له ويكفر سيئاته الماضية.
فلا تيأسوا! ولا تقنطوا أيها الإخوة!
الآن شخص من إخوانكم بعد صلاة المغرب تكلم في أذني وقال: إني جئت من مسجد النصيري مسجد التركي والأسواق ملأى ولم يصلوا، ويبكي ويقول: هذا أمر لا يصبر عليه، فالأمر يحتاج إلى تناصح وتعاون ولا يقال: الهيئة تكفي. الهيئات عليها واجب عظيم، وهي مسئولة عن تقصيرها ونسأل الله لها العون والتوفيق وصلاح النية والعمل، وولاة الأمور عليهم واجب عظيم وهم مسئولون أكثر، وعلى كل مسلم وعلى طالب العلم وعلى العلماء وعلى القضاة كل عليه نصيبه في إنكار المنكر والدعوة إلى الخير، ولو أن الناس تعاونوا وتكاتفوا وتواصوا بالحق لقلَّ الشر وكثر الخير، فالأسواق فيها من يضيع الصلاة ويجلس والناس يصلون، والصلاة تقام وهو حول المسجد جالس، فهذا ينبه ويذكر بالله ويتكلَّم عليه، كل واحد، ما هو بواحد فقط، كل واحد يمر عليه يستنكر هذا، ألا تتقي الله ألا تخاف الله، الناس يصلون وأنت جالس، حتى ولو كان مسافراً ليس له أن يجلس أمام الناس بل عليه أن يقوم ليصلي مع الناس ولو نافلة، لا يجلس أمام الناس ويتظاهر بعمل الكفار، فالنبي ﷺ مرَّ على رجل والصلاة تقام ولم يقم فقال: ألست برجل مسلم[12] وأمره أن يصلي مع الناس ولو كان قد صلى، وفي صلاة الفجر في منى في حجة الوداع قال له بعض الناس: يا رسول الله إن هناك رجلين ما صليا معنا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا. قال: لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام يصلي فصليا معه، فإنها لكما نافلة[13] فإذا أتى الرجل المسجد والناس لم يصلوا فالمشروع له ألا يجلس وراء الناس، بل يدخل معهم في الصلاة، إذا دخل من أولها كملها وإن فاته شيء منها قضى بعد ذلك وكانت له نافلة.
ولما أخبر النبي ﷺ عن بعض الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، قال للسائل: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل معهم ولا تقل صليت فلا أصلي، بل صل معهم ولو أنك قد صليت فتكون لك نافلة[14]، فهؤلاء الذين يجلسون في الطرقات وقت الصلاة يجب أن ينكر عليهم ذلك، ولو قال أحدهم: إني صليت، فقل له: ولو كنت صليت لا تجلس والناس يصلون عند المسجد وحول المسجد، اختف عن الناس إذا كنت صليت وإلا صل مع الناس تكن لك نافلة ولا تجلس أمام الناس فتكون باباً للكسالى والمنحرفين وأصحاب التثاقل عن الصلاة بل سارع إلى الصلاة وصل مع إخوانك وتكون لك نافلة إذا كنت قد صليت، ولا تخرج من محل صلاتك حتى يصلي الناس.
وينبغي للناس أن تكون صلاتهم متقاربة من الأئمة وأهل المساجد حتى لا يحتج المتكاسل والمفرط بأنه صلى في كذا أو صلى في كذا، والمقصود أن الواجب هو التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والله أخبر سبحانه عن عباده الرابحين الناجين السعداء بأنهم يتواصون بالحق والصبر، فقال سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر [العصر:1-3].
فأخبر سبحانه أن هؤلاء هم الرابحون، وهم السعداء الذين اجتمعت فيهم الصفات الأربع: الإيمان الصادق بالله ورسوله، ثم العمل الصالح، يعني إيمان له ثمرة، إيمان أثمر وظهرت آثاره في أعمال الإنسان، فالإيمان بالقلب وحده ما يكفي فلابد من إيمان بالقلب مع إيمان بالجوارح، فيؤمن بقلبه ويعمل بجوارحه، فإذا آمن أن الصلاة حق فعليه أن يصلي، وإذا آمن أن الزكاة حق فعليه أن يزكي، وإذا آمن أن الصوم حق فعليه أن يصوم، وهكذا، العمل من الإيمان والقول من الإيمان، فالإيمان قول وعمل وعقيدة، والسعداء الرابحون هم الذين جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، هؤلاء هم الرابحون، وهم السعداء؛ لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيماناً صادقاً ووحدوا الله وصدَّقوا رسولهم محمداً عليه الصلاة والسلام، وصدَّقوا بأخبار الله ورسوله الثابتة، وأتبعوا هذا بالعمل فأدوا فرائض الله وتركوا محارم الله وكفوا عنها، ثم تواصوا بالحق مع إخوانهم، لم يكسلوا ولم يضعفوا، تواصوا بالحق وتعاونوا على البر والتقوى ودعوا إلى الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ثم مع ذلك صبروا؛ لأن هذه الأمور لن تحصل إلا بالصبر، من أراد هذه الأمور بدون صبر فقد طلب المحال، لابد من صبر ولابد من الاستعانة بالله في ذلك، تستعين بربك على هذه الأمور، وتشكره وتستعين به وتجتهد فيما أوجب الله عليك، وتنصح وتدعو على ذلك، عليك بالتعب، لاشك أن فيه تعب ومشقة، لكن طريق الجنة محفوف بالمكاره؛ لقول النبي ﷺ: حفَّت النار بالشهوات وحفَّت الجنة بالمكاره[15] فطريق الجنة فيه عقبات لابد من تجاوزها بالصبر، وأعظمها هوى نفسك وشيطانك، ودعاة السوء هم أعظم العقبات، شيطان مزين ونفس أمارة بالسوء وأعوان مفسدون وأصحاب مفسدون وأخدان ضالون، يضرونك ويضلونك، فلابد من صبر على مخالفتهم، ولابد من صبر على طاعة الرحمن وعلى عصيان الشيطان، ولابد من صبر في مخالفة الهوى، فالهوى يردي ويهوي بصاحبه إلى النار، فلا يتم لك أمر السعادة إلا بالله ثم بالحذر من الهوى والاستقامة على طريق الهدى والصبر على ذلك.
ومعلوم أن الواجب على كل إنسان أن يبادر بالصلوات الخمس في وقتها في الجماعة، ويحافظ عليها ويدع أشغاله وقت الصلاة، ويدع النوم وقت الصلاة وغير ذلك مما يصده عن الصلاة، ولاشك أن ذلك صعب على بعض النفوس، لكن الإنسان إذا روَّض نفسه وجاهدها صارت هذه الأعمال نعيماً يجده في قلبه، وصارت نفسه مطيَّةً له في هذا تطاوعه؛ لأنه روضها وجاهدها فتكون بعد ذلك مطية ذلولاً تساعده على طريق الخير؛ لأنه عودها الخير وروضها عليه، فإذا جاء وقت الصلاة نشط قلبك وارتحت لحضورها وبادرت بكل سرور وبكل راحة، وهكذا بقية العمال، وإذا تساهلت في ذلك وتهاونت بذلك وأطعت النفس الأمارة بالسوء في الجلوس على الملاهي، أو في التحدث مع الأصحاب، أو في النوم وقت صلاة الفجر أو وقت صلاة العصر إلى غير ذلك، لعب عليك الشيطان وتكاثف الحجاب عليك وعلى قلبك، واشتد الهوى وعظم وضعفت الرغبة فيما عند الله وصارت الصلاة ثقيلة وشديدة؛ لأن القلب قد وهن بطاعة الهوى والشيطان وما زيَّنه للعبد من التثاقل والتعلل بما يضر العبد من الرجاء وقوله: إن الله غفور رحيم، إن الله عفو كريم، يحتج به على باطله، وينسى قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر:49، 50] وينسى قوله تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3] هو غفور رحيم لمن تاب إليه وأناب، وهو عظيم العقاب شديد العذاب عظيم الانتقام لمن تهاون في حقه وتساهل.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، ووفقنا وإياكم لما يرضيه وهدانا صراطه المستقيم، وعلَّمنا ما ينفعنا وأعاننا على طاعة ربنا وعلى أداء حقه، وجعلنا جميعاً من المتعاونين على البر والتقوى، ومن المتواصين بالحق والصبر عليه إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[16].
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فموضوع المحاضرة كما قال المقدم: (مكانة الزكاة في الإسلام)، كل مسلم له أدنى بصيرة يعلم أن الزكاة أمرها عظيم، وأنها من أركان الإسلام الخمسة، بل هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد جمع الله بينها وبين الصلاة في مواضع كثيرة من كتابه العظيم، وهكذا جمع بينهما الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قول الله جل وعلا: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقوله سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقوله : فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، وقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، في آيات أخرى.
ولقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، ورواه غيرهما أيضاً من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ أنه قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت[1].
وفي لفظ آخر: بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله وحده ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة...[2] الحديث،
وهذا يبين لنا عظم شأن الزكاة وأنها في كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام قرينة الصلاة، والصلاة لا يخفى عظم شأنها فهي عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، وقد قال الله فيها جل وعلا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين [البقرة:238] وقال فيها النبي ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقدد كفر[3].
وقال فيها النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[4] فالصلاة عمود الإسلام وأهم أركانه وأعظمها بعد الشهادتين، والزكاة أختها وقرينتها، فالصلاة حق لله تتعلق بالبدن فهي عبادة بدنية يقوم فيها العبد بين يدي ربه، يناجيه ويذكره ويدعوه ويقرأ كتابه سبحانه، فأمرها عظيم وتأثيرها في القلوب عظيم، وهي التي من أقامها وأدى حقها نهته عن الفحشاء والمنكر، وصارت سبب سعادته وسلامته ونجاته وصلاح قلبه وعمله، وهي التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكرها بين أصحابه في بعض أيامه قال فيها عليه الصلاة والسلام: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف[5] خرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن.
قال بعض أهل العلم في هذا الحديث: إنما يحشر مضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة الكبار الدعاة إلى النار، إنما يحشر معهم؛ لأنه شابههم في أعمالهم الخبيثة، فالذي ضيعها من أجل الرياسة والملك والسلطان قد شابه فرعون؛ فإنه شغله كبره وملكه وعلوه في الأرض حتى كذَّب موسى وطغى وبغي فأهلكه الله، فيحشر معه من شابهه يوم القيامة إلى النار، وإنما يحشر من ضيع الصلاة مع هامان وزير فرعون إذا شغله عنها الوظيفة أو الوزارة وأعمال الوزارة فإنه يحشر مع هامان وزير فرعون إلى النار؛ لكونه شابهه في اشتغاله بالوزارة وحق الرياسة على طاعة الله ورسوله، وإنما يحشر من ضيعها من أجل المال والشهوات مع قارون؛ لأنه شابهه في ذلك، فقارون شغل بالمال والشهوات وتكبر عن الحق وطغى وعصى نبي الله موسى فخسف الله به وبداره الأرض وصار إلى النار فمن شابهه باشتغاله بالشهوات والمآكل والمشارب والمراكب ونحو ذلك حشر معه إلى النار نعوذ بالله، ومن شغل عن الصلاة بالبيع والشراء والمعاملات والأخذ والعطاء والدفاتر وغير ذلك فقد شابه أبي بن خلف تاجر أهل مكة فيحشر معه إلى النار نعوذ بالله.
وإذا كانت الصلاة هذا شأنها وهذا عظمها وخطرها، فالزكاة أيضاً شأنها عظيم وهي أختها وقرينتها، فمن شغل عنها بالبخل وحب المال حشر مع أعداء الله الذين آثروا المال على طاعة الله ورسوله.
ومما جاء في ذلك عن النبي ﷺ أنه قال لما بعث معاذاً إلى اليمن: ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم[6] وهذا يدل على أنها فرضت للمواساة والإحسان، فهي حق مالي ينبغي للمؤمن أن يُعنى به ويحرص عليه حتى يؤديه إلى مستحقيه، ومن هذا حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله[7].
فدل هذا الحديث وما جاء في معناه على أن الذي يبخل بالزكاة ويمتنع منها ويقاتل دونها ولا يؤديها فإنه يباح قتاله، كما قاتل الصديق مانعيها؛ لأنه لا يكون معصوم الدم إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا لما امتنع بعض العرب بعد موت النبي ﷺ من الزكاة قاتلهم الصحابة حتى يؤدوها، فإن بعض العرب لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ارتدوا عن الإسلام وتنوعت ردتهم، فبعضهم قال: لو كان نبياً ما مات، وجهل أن الأنبياء ماتوا قبله عليه الصلاة والسلام. وبعضهم قال: هذه الزكاة لن نؤديها. وبعضهم ارتد بأنواع أخرى، فقام أبو بكر في الناس خطيباً رضي الله عنه وأرضاه، وحث الصحابة على قتالهم حتى يدخلوا في الإسلام كما خرجوا منه، فراوده عمر في ذلك وقال له: (كيف تقاتل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟) فقال أبو بكر: (إنا قد أمرنا أن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
قال الصديق : (أليست الزكاة من حق لا إله إلا الله، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً) وفي لفظ (عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها)، قال عمر: (فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)[8].
فأجمع الصحابة على هذا وقاتلوا المرتدين وجاهدوهم جهاداً عظيماً حتى أدخلوهم في الإسلام كما خرجوا منه، إلا من سبقت له الشقاوة فقتل على ردته نعوذ بالله من ذلك كمسيلمة الكذاب وجماعة معه، وجماعة من بني أسد، وجماعات غيرهم، استمروا في كفرهم فقاتلهم الصحابة حتى قتلوهم، وهدى الله من هدى منهم من بقاياهم.
فالحاصل والخلاصة أن الزكاة مكانتها عظيمة في الإسلام وأنها الركن الأعظم بعد الصلاة والشهادتين، وأن الواجب على المسلمين أداؤها إلى مستحقيها، وإذا طلبها ولي الأمر وجب أن تؤدى إليه، فإن لم يطلبها وزعها المؤمن بين الفقراء والمستحقين لها، والله بيَّن أهلها في قوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60] هؤلاء أهلها.
الفقراء والمساكين: هم الذين ليس عندهم مال يكفيهم؛ والفقير أشد حاجة، والمسكين أحسن حالاً منه، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، فإذا قيل: الفقراء دخل فيهم المساكين، وإذا قيل المساكين دخل فيهم الفقراء، وهم من لم يكن عندهم كفاية، يعني عندهم بعض الشيء ولكنه يسير لا يكفيهم ولا يقوم بحالهم فيعطون من الزكاة ما يكفيهم سنتهم، كل سنة يعطون ما يكفيهم ويكفي عوائلهم في حاجاتهم الضرورية سنة كاملة.
أما العاملون عليها: فهم العمال الذين يوكلهم ولي الأمر في جبايتها والسفر إلى البلدان والمياه التي عليها أهل الأموال حتى يجبوها منهم، فهم جباتها وحفاظها والقائمون عليها يعطون منها بقدر عملهم وتعبهم على ما يراه ولي الأمر.
والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يطاعون في العشائر، وهم السادات من الرؤساء والكبار، والذين يطاعون في عشائرهم بحيث إذا أسلموا أسلمت عشائرهم وتابعوهم، وإذا كفروا، كفروا معهم، وهم الكبار والرؤساء الذين يتألفون في الإسلام، ويعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، أو ليسلم نظيرهم، أو ليحموا جانب الإسلام من الأعداء، فيعطون من الزكاة ما يكون سبباً لقوة إيمانهم، أو لدفاعهم عن الإسلام، أو لإسلام من وراءهم وأشباه ذلك.
وفي الرقاب: هم الأرقاء الذي يعطون من المال ما يعتقون به رقابهم، وهم المكاتبون الذين يشترون أنفسهم من سادتهم بأموال منجمة مرتبة فيعطون من الزكاة ما يقضي به دينهم وتعتق به رقابهم، ويجوز على الصحيح أيضاً أن يشترى منها أرقاء فيعتقون، فيشتري صاحب الزكاة منها أرقاء فيعتقهم منها، فإن هذا داخل في الرقاب، ويدخل في ذلك على الصحيح أيضاً عتاق الأسرى، أسرى المسلمين بين الكفار، يدفع من الزكاة للكفار الفدية حتى يطلقوا المسلمين وحتى يفكوا أسرهم.
أما الغارمون: فهم أهل الدين الذين يستدينون الأموال في حاجاتهم المباحة، وحاجات عوائلهم أو لإصلاح ذات البين، يتحملون المال ليصلحوا بين الناس عند قيام الفتن والشرور والعداوات والشحناء، يقوم الإنسان ليصلح بين الناس ويتحمل أموالاً للإصلاح بينهم، فيعطى هذا المتحمل ولو كان غنياً يعطى ما تحمله من الزكاة؛ لأنه قد سعى في خير وقام في خير، كما يعطى المدين العاجز عن قضاء الدين في حاجات نفسه وحاجات عياله يعطى من الزكاة ما يُسَدُّ به الدين.
والسابع: في سبيل الله: هم أهل الجهاد، وهم المجاهدون الغزاة يعطون في غزوهم ما يقوم بحاجاتهم من السلاح والمركوب والنفقة إذا لم يحصل لهم هذا من بيت المال، يعطون من الزكاة ما يقيم حالهم ويعينهم على جهاد أعدائهم من الخيل والإبل وأنواع الآلات من ذلك والنفقة والسلاح حتى يجاهدوا أعداء الله.
والثامن ابن السبيل: وهم الذين ينتقلون من بلاد إلى بلاد فينقطعون في الطريق إما لذهاب نفقتهم في الطريق إذا طال السفر عليهم، أو لأن عدواً من قطاع الطريق أخذهم وأخذ أموالهم، أو لأسباب أخرى ذهبت نفقاتهم، فيعطون من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم في الطريق ليس عندهم ما يقوم بحالهم ولا يلزمهم الاقتراض، بل يجب أن يعطوا في الطريق ما يسد حاجاتهم إلى أن يصلوا بلادهم التي فيها أموالهم.
فالزكاة فيها خير عظيم ومصالح جمة للمسلمين في صرفها في هذه الجهات الثمان، فلها أثر عظيم في كفاية الناس وإعانتهم على ما أوجب الله عليهم، والتخفيف مما يثقل عليهم من الديون وغير ذلك مما يهمهم كعتق الرقاب، وتزويد المجاهدين بما يعينهم، ومساعدة أبناء السبيل إلى غير ذلك مما يدخل في الأصناف الثمانية، وهذا من لطف الله ومن عظيم إحسانه إلى عباده حيث جعلهم متعاونين غنيهم يساعد فقيرهم، فيتعاونون على البر والتقوى مما أعطاهم الله.
وفي إخراج الزكاة شكر لله على ما أحسن إليهم فهو سبحانه المحسن المتفضل، ومن شكره عليك أيها المسلم أن تؤدي الزكاة وأن تحمد الله الذي جعلك تعطي ولا تأخذ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: اليد العليا خير من اليد السفلى[9] واليد العليا هي المعطية وهي المنفقة، والسفلى هي الآخذة والسائلة، فاحمد الله الذي جعلك صاحب يد عليا تنفق وتحسن وتجود على عباد الله، ثم في الزكاة الطهرة لك والطهرة لمالك، والزكاة لك ولمالك كما قال الله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة:103] فهي خير لك في الدنيا والآخرة تطهر بها مالك وتحفظ بها مالك وتطهر بها أنت، كما قال الله سبحانه في الآية السابقة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا والمسكين الفقير إذا ساعدته وأعطيته مما أعطاك الله كان لك في ذلك خير عظيم وفضل كبير؛ لأنك أزلت شدته وفرجت كربته، وواسيته بمالك، فلها عنده منزلة عظيمة وربما دعا لك بدعوة يقبلها الله يكون فيها سعادتك ونجاتك في الدنيا والآخرة، وأنت تعطي من خير كثير لا يضرك، وهو ينتفع بذلك نفعاً عظيماً، وتفرج بها الكروب وتحسن بها إلى الأطفال وإلى الشيوخ الكبار وإلى العجائز وإلى المنقطعين فيحصل بك بهذا فضل عظيم واجر كبير، وقد توعد الله سبحانه من بخل بالزكاة ولم يؤدها، فقال : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وهذه عاقبة من بخل بالزكاة عاقبته النار يعذب بهذا المال الذي جمعه وبخل به وتعب عليه، يكون عذاباً عليه يوم القيامة، يعذب به يوم القيامة جزاءً وفاقاً؛ لما بخل به ولم يؤد حقه صار بلاءً عليه، وكل مال لا يؤدى حقه وما أوجب الله فيه هو كنز، والذي تؤدى زكاته ليس بكنز، قال النبي ﷺ: ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز[10] فالمال عندك ولو كان في الأرض السابعة إذا أديت حقوقه ليس بكنز عليك، ولا يضرك، والذي على وجه الأرض وبين يديك كنز، إذا لم تؤد حقه تعذب به يوم القيامة.
وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها –وفي لفظ: زكاتها– إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا بسط لها بقلع قرقر تطأه بخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت عليه أخراها عادت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب بقر أو غنم لا يؤدي زكاتها –وفي لفظ: حقها– إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر تمر عليه تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مرت عليه أخراها عادت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار[11].
وهذا وعيد عظيم يدل على عظم الخطر في البخل بالزكاة وعدم أدائها، وأن ماله يوم القيامة شر عليه وبلاء عليه سواء كان نقوداً أو حبوباً أو ثماراً أو إبلاً أو بقراً أو غنماً، كلها يعذب بها يوم القيامة، في الإبل والبقر والغنم بيَّن النبي كيف عذابه وفي الذهب والفضة كذلك، وما سواها يلحق بها، نسأل الله العافية والسلامة.
فعلينا أيها الإخوة وعلى جميع المسلمين التواصي بهذا الأمر العظيم، علينا أن نتواصى في حق الله وأن نجتهد في ذلك وأن نذكَّر بالله من غفل، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فأمر الزكاة واضح، وأمر الصلاة واضح، وأمر الصيام واضح، ولكن الإنسان قد يغفل ويرين على قلبه كثير من الذنوب وتثقل عليه الطاعات وتسهل عليه المعاصي مثل تزيين الشيطان ونواب الشيطان حتى يغفل عن الله والدار الآخرة، وحتى يثقل عليه أداء حق الله في المال وغير المال، وحتى تسهل عليه طاعة الشيطان والسير مع إخوان الشياطين سير الجهل والغفلة واستيلاء حب المال والشهوات على قلبه وقلة الجليس الصالح، وكثرة الجليس المنحرف.
فالواجب التذكير بالله، والله يقول: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات:55]، ويقول سبحانه: فذكر إنما أنت مذكر [الغاشية:21] فالمؤمن يذكِّر أخاه ولا يقول: أخي عنده علم يدري عن هذا، لا، إذا رأيت منه شيئاً من التفريط والتساهل أو ظهر لك شيء من الغفلة والإعراض فانصح أخاك وذكره بالله بالعبارات الحسنة والأسلوب القيم الذي يتضمن العطف عليه والخوف عليه والحرص على نجاته وسعادته، فأخوك من نصحك ونبهك، وليس أخوك من غفل عنك وأعرض عنك وجاملك، ولكن أخاك في الحقيقة هو الذي ينصحك والذي يعظك ويذكرك، يدعوك إلى الله، يبين لك طريق النجاة حتى تسلكه ويحذرك من طريق الهلاك ويبين لك سوء عاقبته حتى تجتنبه ولا تيأس ولا تقل هذا ما فيه خير ما ينفع فيه شيء، ولا تيأس فالله سبحانه يقول: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ [يوسف:87]، ويقول سبحانه: لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] فكم من مجرم، وكم من عاص مضى عليه سنون وهو في غفلته وفي سكرته وطاعة الشيطان ثم يوفق لمن يرشده وينبهه ويدعوه إلى الخير فينتبه ويدعو للذي نبهه، فيهديه الله ويرجع إلى الصواب ويتوب إلى الله مما سلف منه فيغفر الله له ويكفر سيئاته الماضية.
فلا تيأسوا! ولا تقنطوا أيها الإخوة!
الآن شخص من إخوانكم بعد صلاة المغرب تكلم في أذني وقال: إني جئت من مسجد النصيري مسجد التركي والأسواق ملأى ولم يصلوا، ويبكي ويقول: هذا أمر لا يصبر عليه، فالأمر يحتاج إلى تناصح وتعاون ولا يقال: الهيئة تكفي. الهيئات عليها واجب عظيم، وهي مسئولة عن تقصيرها ونسأل الله لها العون والتوفيق وصلاح النية والعمل، وولاة الأمور عليهم واجب عظيم وهم مسئولون أكثر، وعلى كل مسلم وعلى طالب العلم وعلى العلماء وعلى القضاة كل عليه نصيبه في إنكار المنكر والدعوة إلى الخير، ولو أن الناس تعاونوا وتكاتفوا وتواصوا بالحق لقلَّ الشر وكثر الخير، فالأسواق فيها من يضيع الصلاة ويجلس والناس يصلون، والصلاة تقام وهو حول المسجد جالس، فهذا ينبه ويذكر بالله ويتكلَّم عليه، كل واحد، ما هو بواحد فقط، كل واحد يمر عليه يستنكر هذا، ألا تتقي الله ألا تخاف الله، الناس يصلون وأنت جالس، حتى ولو كان مسافراً ليس له أن يجلس أمام الناس بل عليه أن يقوم ليصلي مع الناس ولو نافلة، لا يجلس أمام الناس ويتظاهر بعمل الكفار، فالنبي ﷺ مرَّ على رجل والصلاة تقام ولم يقم فقال: ألست برجل مسلم[12] وأمره أن يصلي مع الناس ولو كان قد صلى، وفي صلاة الفجر في منى في حجة الوداع قال له بعض الناس: يا رسول الله إن هناك رجلين ما صليا معنا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا. قال: لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام يصلي فصليا معه، فإنها لكما نافلة[13] فإذا أتى الرجل المسجد والناس لم يصلوا فالمشروع له ألا يجلس وراء الناس، بل يدخل معهم في الصلاة، إذا دخل من أولها كملها وإن فاته شيء منها قضى بعد ذلك وكانت له نافلة.
ولما أخبر النبي ﷺ عن بعض الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، قال للسائل: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل معهم ولا تقل صليت فلا أصلي، بل صل معهم ولو أنك قد صليت فتكون لك نافلة[14]، فهؤلاء الذين يجلسون في الطرقات وقت الصلاة يجب أن ينكر عليهم ذلك، ولو قال أحدهم: إني صليت، فقل له: ولو كنت صليت لا تجلس والناس يصلون عند المسجد وحول المسجد، اختف عن الناس إذا كنت صليت وإلا صل مع الناس تكن لك نافلة ولا تجلس أمام الناس فتكون باباً للكسالى والمنحرفين وأصحاب التثاقل عن الصلاة بل سارع إلى الصلاة وصل مع إخوانك وتكون لك نافلة إذا كنت قد صليت، ولا تخرج من محل صلاتك حتى يصلي الناس.
وينبغي للناس أن تكون صلاتهم متقاربة من الأئمة وأهل المساجد حتى لا يحتج المتكاسل والمفرط بأنه صلى في كذا أو صلى في كذا، والمقصود أن الواجب هو التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والله أخبر سبحانه عن عباده الرابحين الناجين السعداء بأنهم يتواصون بالحق والصبر، فقال سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر [العصر:1-3].
فأخبر سبحانه أن هؤلاء هم الرابحون، وهم السعداء الذين اجتمعت فيهم الصفات الأربع: الإيمان الصادق بالله ورسوله، ثم العمل الصالح، يعني إيمان له ثمرة، إيمان أثمر وظهرت آثاره في أعمال الإنسان، فالإيمان بالقلب وحده ما يكفي فلابد من إيمان بالقلب مع إيمان بالجوارح، فيؤمن بقلبه ويعمل بجوارحه، فإذا آمن أن الصلاة حق فعليه أن يصلي، وإذا آمن أن الزكاة حق فعليه أن يزكي، وإذا آمن أن الصوم حق فعليه أن يصوم، وهكذا، العمل من الإيمان والقول من الإيمان، فالإيمان قول وعمل وعقيدة، والسعداء الرابحون هم الذين جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، هؤلاء هم الرابحون، وهم السعداء؛ لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيماناً صادقاً ووحدوا الله وصدَّقوا رسولهم محمداً عليه الصلاة والسلام، وصدَّقوا بأخبار الله ورسوله الثابتة، وأتبعوا هذا بالعمل فأدوا فرائض الله وتركوا محارم الله وكفوا عنها، ثم تواصوا بالحق مع إخوانهم، لم يكسلوا ولم يضعفوا، تواصوا بالحق وتعاونوا على البر والتقوى ودعوا إلى الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ثم مع ذلك صبروا؛ لأن هذه الأمور لن تحصل إلا بالصبر، من أراد هذه الأمور بدون صبر فقد طلب المحال، لابد من صبر ولابد من الاستعانة بالله في ذلك، تستعين بربك على هذه الأمور، وتشكره وتستعين به وتجتهد فيما أوجب الله عليك، وتنصح وتدعو على ذلك، عليك بالتعب، لاشك أن فيه تعب ومشقة، لكن طريق الجنة محفوف بالمكاره؛ لقول النبي ﷺ: حفَّت النار بالشهوات وحفَّت الجنة بالمكاره[15] فطريق الجنة فيه عقبات لابد من تجاوزها بالصبر، وأعظمها هوى نفسك وشيطانك، ودعاة السوء هم أعظم العقبات، شيطان مزين ونفس أمارة بالسوء وأعوان مفسدون وأصحاب مفسدون وأخدان ضالون، يضرونك ويضلونك، فلابد من صبر على مخالفتهم، ولابد من صبر على طاعة الرحمن وعلى عصيان الشيطان، ولابد من صبر في مخالفة الهوى، فالهوى يردي ويهوي بصاحبه إلى النار، فلا يتم لك أمر السعادة إلا بالله ثم بالحذر من الهوى والاستقامة على طريق الهدى والصبر على ذلك.
ومعلوم أن الواجب على كل إنسان أن يبادر بالصلوات الخمس في وقتها في الجماعة، ويحافظ عليها ويدع أشغاله وقت الصلاة، ويدع النوم وقت الصلاة وغير ذلك مما يصده عن الصلاة، ولاشك أن ذلك صعب على بعض النفوس، لكن الإنسان إذا روَّض نفسه وجاهدها صارت هذه الأعمال نعيماً يجده في قلبه، وصارت نفسه مطيَّةً له في هذا تطاوعه؛ لأنه روضها وجاهدها فتكون بعد ذلك مطية ذلولاً تساعده على طريق الخير؛ لأنه عودها الخير وروضها عليه، فإذا جاء وقت الصلاة نشط قلبك وارتحت لحضورها وبادرت بكل سرور وبكل راحة، وهكذا بقية العمال، وإذا تساهلت في ذلك وتهاونت بذلك وأطعت النفس الأمارة بالسوء في الجلوس على الملاهي، أو في التحدث مع الأصحاب، أو في النوم وقت صلاة الفجر أو وقت صلاة العصر إلى غير ذلك، لعب عليك الشيطان وتكاثف الحجاب عليك وعلى قلبك، واشتد الهوى وعظم وضعفت الرغبة فيما عند الله وصارت الصلاة ثقيلة وشديدة؛ لأن القلب قد وهن بطاعة الهوى والشيطان وما زيَّنه للعبد من التثاقل والتعلل بما يضر العبد من الرجاء وقوله: إن الله غفور رحيم، إن الله عفو كريم، يحتج به على باطله، وينسى قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر:49، 50] وينسى قوله تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3] هو غفور رحيم لمن تاب إليه وأناب، وهو عظيم العقاب شديد العذاب عظيم الانتقام لمن تهاون في حقه وتساهل.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، ووفقنا وإياكم لما يرضيه وهدانا صراطه المستقيم، وعلَّمنا ما ينفعنا وأعاننا على طاعة ربنا وعلى أداء حقه، وجعلنا جميعاً من المتعاونين على البر والتقوى، ومن المتواصين بالحق والصبر عليه إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[16].