الإلحادُ في العالمِ العربيِّ : دعاتُهُ وأسبابُهُ
بقلم الاخ فتى الادغال
تجتاحُ العالمَ العربيَّ منذ ُ بداياتِ هذا القرن ِ ، موجة ٌ من الإلحادِ والرّدةِ ، لم تعرفْ لها المنطقة ُ مثيلاً ، في الوقتِ الذي بدأتْ فيهِ هذه المذاهبُ بالانحسار ِ في العالم ِ الغربيِّ ، وأخذتِ الناسُ تناغمُ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وتُهادنُ بينهما ، بعدَ مرحلةِ قطيعةٍ كبرى بينهما ، نشأتْ في منتصفِ القرن ِ الثامن عشر الميلاديِّ ، وأدّتْ إلى اجتياح ِ الإلحادِ والكفر ِ ، في أوساطِ المفكّرينَ والفلاسفةِ ، واجتياح ِ النظام ِ العلمانيِّ للحياةِ العامّةِ في أوروبا ، بعدَ أن هيمنتْ عليها الكنيسة ُ قروناً طويلة ً من الزمان ِ .
الإلحادُ يحملُ أحدَ معنيين ِ :
أوّلهما : إنكارُ وجودِ الخالق ِ ، والقولُ بأزليّةِ المادّةِ ، وأنّها خالقة ٌ مخلوقة ٌ .
ثانيهما – وهو من إضافاتِ أفلاطونَ - : إثباتُ وجودِ خالق ٍ أو صانع ٍ ، ولكنّها لا تُعنى بشيءٍ من حياةِ الخلق ِ ، فهي موجدة ٌ للخلق ِ ، لكنّها تركتْ التصرّفَ في الكون ِ ، وتفرّغتْ في حياتها المثاليّةِ ، وقد كانَ يقولُ بهذا القول ِ من الفلاسفةِ : أبيقور .
لم تعرفِ الأرضُ انتشاراً للإلحادِ ، ونفوذاً قويّاً لهُ ، إلا في العصور ِ المتأخرةِ ، فقد كان يوجدُ منهم فئامٌ وأشتاتٌ ، ولكنّهم قلائلُ ، ولا يجمعهم مذهبٌ ، أو يُقيّدهم فكرٌ ، وإنّما بحسبِ ما يعنو للواحدِ منهم ويظهرُ ، وقد كانوا يسمّونَ قديماً بالدهريينَ ، وحكى الإمامُ الشهرستانيُّ في كتابهِ " الملل ِ والنِحَل ِ " أنّ الدهريينَ من كفّار ِ مكّة َ وغيرها ، كانوا أقلّ النّاس ِ ، وإنّما غلبَ على أهل ِ مكّة َ وجزيرةِ العربِ الشركُ ، وعبادة ُ غير ِ اللهِ معهُ ، مع إثباتِ أنّهُ الخالقُ وحدهُ ، خلافاً للمانويّةِ الذين يُبتونَ خالقين ِ أحدهما النورُ وهو خالقُ الخير ِ ، والآخرُ الظلامُ وهو خالقُ الشرِّ .
يذكرُ الدكتورُ جعفر شيخ إدريس أنّ أوّلَ كتابٍ مُصرّح ٍ بالإلحادِ ، وداع ٍ لهُ ، ظهرَ في أوروبا في سنةِ 1770 م ، وهذه الفترة ُ الحرجة ُ هي الفترة ُ التي بدأتْ فيها الشعوبُ الأوربيّة ُ تضجُّ من حكم ِ الكنيسةِ ، وتدعو للثورةِ عليهِ ، وقد تبنّى الفكرَ الإلحاديَّ في أوروبا كبارُ الفلاسفةِ والمؤرخينَ ، من أمثال ِ : نيتشة ، وفولتيير ، وكارل ماركس ، وإنجلز ، وراسل ، وكونت ، وغيرهم من كِبار ِ الفلاسفةِ وعلماءِ الاجتماع ِ والتأريخ ِ ، ممّا حدا النّاسَ إلى الوثوق ِ بهم ، والتحوّل ِ إلى آرائهم ، كردّةِ فعل ٍ للمواقفِ المُتسلّطةِ للكنيسةِ ، وكذلكَ ظهور ِ مجموعةِ من التناقضاتِ بينَ الدين ِ النصرانيِّ المُحرّفِ ، وبينَ بعض ِ المُخترعاتِ والمُكتشفاتِ العلميّةِ .
ومع ظهور ِ بوادر ِ الإلحادِ ، نشأتْ العديدُ من المدارس ِ والمذاهبِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ ، والتي تصُبُ في مصبِّ الإلحادِ ، وتستلهمُ منهُ مادّتها ، وترسّخُ مبادئهُ ، ومن أشهر ِ تلكَ المذاهبِ والمدارس ِ :
- العلمانيّة ُ : وهو مذهبٌ كفريٌّ ، نشأ في ظروفٍ عصيبةٍ في أوروبا ، خلالَ القرن ِ الثامن عشر ، وذلكَ بسببِ طغيان ِ الكنيسةِ ، وتبرّم ِ الناس ِ منها ومن نفوذِ رجالها ، ومُحاربةِ الكنيسةِ للعلوم ِ الطبيعيّةِ ، خاصّة َ بعدَ تطوّر ِ ونموِّ الحركاتِ العلميّةِ والبحوثِ ، وخلاصة ُ العلمانيّةِ أنّها حركة ٌ جديدة ٌ تهدفُ إلى إقصاءِ الدين ِ عن الحياةِ ، وبناءِ مؤسساتِ المجتمع ِ على أصول ٍ مادّيةٍ بحتةٍ ، لا دخلَ للدين ِ فيها من قريبٍ أو بعيدٍ .
- الوجوديّة ُ : وهي مذهبٌ معاصرٌ ذو جذور ٍ قديمةٍ ، يقومُ على أساس ِ إبراز ِ قيمةِ الفردِ ، والتأكيدِ على حرّيتهِ ، وأنّهُ هو أساسُ كلِّ شيءٍ ومنطلقهُ ، وهي مذهبٌ إلحاديٌّ ، أسّسها قديماً كير كجرد ، وفي العصر ِ الحاضر ِ قامَ أبو الوجوديّةِ جان بول سارتر بإرساءِ دعائم ِ هذا المذهبِ ، وإقامةِ أصولهِ ، وبناهُ على الإلحادِ والكفر ِ بكلِّ المُثُل ِ والقيم ِ ، وأنّ للإنسان ِ أن يفعلَ ما شاءَ ، دونَ وازع ٍ أو رقيبٍ .
- الشيوعيّة ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ مُعاصرٌ ، أنشأهُ اليهوديُّ كارل ماركس ، يدعو إلى تعظيم ِ المادّةِ ، وأنّها أزليّة ٌ ، ويُفسّرُ كارل ماركس التاريخَ تفسيراً ماديّاً بحتاً ، ولهم شعاراتٌ عدّة ٌ من ضمنها : لا إلهَ والحياة ُ مادّة ٌ ، وقد انتشرتْ الشيوعيّة ُ بالقوّةِ والاستعبادِ ، واجتاحتْ بثوراتها أغلبَ أرجاءِ الأرض ِ ، حتى أذنَ اللهُ بسقوطها ، وبقاءِ بعض ِ فلولها مشتتة ً هنا وهناكَ .
- الوضعية ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ إلحاديٌّ ، يُنكرُ وجودَ أي معرفةٍ تتجاوزُ التجربة َ الحسّية َ ، أسّسهُ اوغست كونت ، ودعى حينَ تأسيسهِ إلى قيام ِ دين ٍ جديدٍ ، يقومُ على أساس ِ عبادةِ الإنسانيّةِ ، وإحلالها محلَّ الأديان ِ .
- الداروينيّة ُ : نسبة ً إلى شارلز داروين ، أقامَ مدرستهُ هذه على أساس ِ أنّ الأحياءَ جميعاً لم تُخلقْ كلُّ واحدةٍ منها خلقاً مُستقلاً ، بل كانَ لها أصلٌ واحدٌ وهو الخليّة ُ البسيطة ُ ، ثمّ أختْ تتطوّرُ وترتقي من طور ٍ إلى طور ٍ آخرَ ، حتى نشأتِ البشريّاتُ والإنسانُ ، وأنّ الطبيعة َ هي التي كانت تختارُ الأصلحَ للبقاءِ ، وذلكَ ما عبّرَ عنهُ بمصطلح ِ : الانتخابِ الطبيعيِّ ، أو بقاءِ الأصلح ِ ، ومدرسة ُ داروين تجمعُ في ثنياها كبارَ ملاحدةِ العالم ِ ، والذين يرونَ أنّ الإنسانَ لا خالقَ لهُ ، وأنّهُ وليدُ ملايين ِ السنواتِ من التطوّر ِ الطبيعي ، والنشوءِ والارتقاءِ بينَ الأنواع ِ المختلفةِ ، وبالرغم ِ من عدم ِ وجودِ أي دليل ٍ علميٍّ ، يُبتُ صحّة َ نظريّةِ داروين ، إلا أنّها اجتاحت العالمَ الغربيَّ اجتياح ٍ غريباً ، وأثرتْ فيهِ وفي ثقافتهِ ، حتى بدأتْ تنحسرُ في الآونةِ الأخيرةِ .
وهناكَ العديدُ من المدارس ِ غيرُ ما ذُكرَ ، وكذلكَ النظريّاتِ ، سواءً ما كانَ منها علميّاً بحتاً ، أو اجتماعيّاً ، أثّرتْ أو تأثرتْ بالإلحادِ ، وقامت بترسيخ ِ مفاهيمهِ ، ودعتْ إليهِ .
ومن المؤسفِ حقّاً ، أنّ الإلحادَ حينما صبغَ الحياة َ العامّة َ في أوروبا ، أصبحَ أمرُ التديّن ِ ، والتمسّكِ بدين ٍ ، أو الإيمان ِ بالخالق ِ ، شيئاً غريباً ! ، وظاهرة ً تدعو إلى العجّبِ ! ، بعد أن كانت هي السائدة ُ على نظام ِ الحياةِ ، ومؤسساتِ الحُكم ِ ، وإن كانَ ثمَّ شيءٌ يدعو إلى التعجّبِ والاستغرابِ ، فهو انتشارُ الإلحادِ في تلكَ الفترةِ ، وانحسارُ الإيمان ِ باللهِ ، وتعلّقُ الناس ِ بالمادّةِ والطبيعةِ ، ووصفهم للدين ِ بأنّهُ تخلّفٌ ورجعيّة ٌ .
هذا كانَ عرضاً موجزاً عن بداياتِ الإلحادِ في العالم ِ الغربيِّ ، فماذا عن العالم ِ العربيِّ والإسلاميِّ ! .
الكلامُ عن حركاتِ الإلحادِ المنظّمةِ في العالم ِ العربيِّ ، وكذلكَ المُجاهرة ُ بهِ ، وإعلانُهُ على الملأ ، نشأ بعدَ منتصفِ القرن ِ التاسعَ عشرَ ، حينما بدأ العالمُ الإسلاميُّ والعربيُّ ، يتّصلُ بالعالم ِ الغربيِّ ، عن طريق ِ إرسالياتِ الدراسةِ ، أو التدريبِ ، وتسبّبَ ذلكَ في رجوع ِ مجموعةٍ من الطلاّبِ متأثّرينَ بالفكر ِ الأوربيِّ الماديِّ ، والذي كانَ يقومُ على أساس ِ تعظيم ِ علوم ِ الطبيعةِ ، ورفع ِ شأن ِ العقل ِ ، وكذلكَ تنحية ُ الدين ِ والشرع ِ ، عن حكم ِ الحياةِ والناس ِ وإدارةِ شئونهم .
في بدايةِ الأمر ِ لم يكن ثمَّ دعوة ٌ صريحة ٌ للإلحادِ أوالرّدةِ ، وإنّما كانتْ هناكَ دعواتٌ للتحرّر ِ ، أو التغريبِ ، أو فتح ِ المجال ِ أمامَ العقل ِ ، ومُحاكمةِ بعض ِ النصوص ِ الشرعيّةِ إلى العقل ِ أوالحسِّ والواقع ِ ، ومحاولةِ إنشاءِ خلافٍ وهميٍّ ، وصراع ٍ مُفتعل ٍ ، بينَ العقل ِ والشرع ِ .
ومع مرورِ الوقتِ ، وزيادةِ الاتصال ِ بالغربِ وتراثهِ ، وانتشار ِ موجةِ التغريبِ بينَ الناس ِ ، ظهرتْ بعضُ الدعواتِ الصريحةِ للإلحادِ وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم ِ الحريّةِ الفرديّةِ .
وحينما نشطَ اليهودُ في تركيا ، ودعوا إلى إقامةِ قوميّةٍ تركيّةٍ ، تحُلُّ محلَّ الرابطةِ الدينيّةِ ، ظهرتْ مظاهرُ عدّة ٌ في الواقع ِ ، تدعو إلى نبذِ الدين ِ ، وتظهرُ العداءَ لبعض ِ شعائرهِ ، ومع مرورِ الوقتِ ، تطوّرتْ هذه الحركة ُ ، حتى جاءَ مصطفى كمال أتاتورك ، وقامَ بإلغاءِ الخلافةِ ، وأنشأ الدولة َ التركيّة َ العلمانيّة َ ، وحاربَ جميعَ العلماءِ وسجنهم ، وراجَ على إثرَ ذلكَ الكفرُ والإلحادُ ، وظهرتْ عدّة ُ كتبٍ تدعو إلى الإلحادِ ، وتطعنُ في الأديان ِ ، ومنها كتابٌ بعنوان ِ " مصطفى كمال " ، لكاتبٍ اسمهُ قابيل آدم .
هذه الجرأة ُ في تركيا قابلها جرأة ٌ مماثلة ٌ ، في مصرَ ، سمّيتْ ظلماً وزوراً عصرَ النهضةِ الأدبيّةِ والفكريّةِ ، بينما هي في حقيقتها حركة ٌ تغريبيّة ٌ ، تهدفُ إلى إلحاق ِ مصرَ بالعالم ِ الغربيِّ ، والتخلّق ِ بأخلاقهِ ، واحتذائها في ذلكَ حذوَ تركيّا ، التي خلعتْ جلبابِ الحياءِ والدين ِ ، وصبغتْ حياتها بطابع ِ العلمانيّةِ والسفور ِ والتمرّدِ .
في تلكَ الحقبةِ في مصرَ ، ظهرَ العديدُ من المفكّرينَ والأدباءِ ، يدعونَ إلى التغريبِ والإلحادِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم التنوير ِ تارة ً ، وباسم النهضةِ الأدبيّةِ تارة ً أخرى ، ومرّة ً باسم الحرّياتِ الفكريّةِ ، وتلقّفتْ مصرُ – في تلكَ الفترةِ - دونَ تمييز ٍ ، جميعَ أمراض ِ المجتمع ِ الأوربيِّ ، وكذلكَ أخلاقهُ المنحلّة َ ، وأصبحتْ قطعة ً من أوروبا ، ومن فرنسا تحديداً ، وعاثَ في أرضها بعضُ المستشرقينَ فساداً وإفساداً ، ثمّ سلّموا دفّة َ الإفسادِ إلى بعض ِ المصريينَ ، ممن لم يتوانوا في نشر ِ الكفر ِ والإلحادِ ، وسعوا سعياً حثيثاً إلى إلغاءِ الفضيلةِ والأخلاق ِ الإسلاميّةِ ، وإحلال ِ النفعيّةِ والماديّةِ محلّها ، حتّى أصبحَ دُعاة ُ الإسلام ِ والمُحافظةِ غرباءَ على المُجتمع ِ دُخلاءَ عليهِ ، ويوصفونَ بالجمودِ والتخلّفِ والعداءِ للحضارةِ !! .
وبما أنّ مصرَ هي رئة ُ العالم ِ في ذلكَ الوقتِ ، فقد انتقلتْ حمّى الردةِ والإلحادِ ، إلى جميع ِ دول ِ الجوار ِ ، ابتداءً من الشام ِ ، ومروراً بالعراق ِ ، والخليج ِ بما فيها السعودية ُ ، وانتهاءً ببلادِ اليمن ِ .
وسأذكرُ الآنَ بعضَ أشهر ِ الملاحدةِ والمرتدينَ ، الذينَ نبذوا الدينَ جانباً ، واستبدلوا بهِ الإلحادَ أو اللادينيّة َ أو كفروا بكلِّ شرائع ِ الإسلام ِ ، من الذينَ كانوا في تلكَ الفترةِ ، أو بعضَ من يعيشُ في عصرنا الحاضر ِ ، والذين أعملوا معاولَ الهدم ِ والتخريبِ ، في الأخلاق ِ والدين ِ ، وأرادوا جعلَ المجتمعاتِ نماذجَ مكرّرة ً من الدول ِ الأوربيّةِ المُنحلةِ الفاسدةِ ، وحاولوا صُنعَ فجوةٍ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وأوهموا أنّ الدينَ يُعارضُ العلمَ والواقعَ ، ويقفُ دونَ الانطلاق ِ إلى آفاق ٍ جديدةٍ ، ويُحرّمُ الإبداعَ ، ويدعو إلى الكهنوتيّةِ والتقوقع ِ .
فمن أشهرهم :
- جميل صدقي بنُ محمدِ بن ِ فيضي الزهاوي ، شاعرٌ من شُعراءِ العراق ِ ، وُلدَ سنة َ 1279 هـ في بغدادَ ، وكانَ أبوهُ مُفتي بغدادَ في تلكَ الفترةِ ، وقد تنقّلَ كثيراً في المناصبِ والوظائفِ ، وهو أحدُ أعمدةِ التشكيكِ في شعرهِ وآراءهِ ، وقد كانَ ينحى منحى الفلاسفةِ ، ويُقرّرُ طريقة َ الفلاسفةِ في التعامل ِ مع الأديان ِ ، ومع الغيبياتِ ، حتّى سمّاهُ النّاسُ زنديقاً ! ، وقد كانَ من المفتونينَ بالعالم ِ الماديِّ ، وبالظواهر ِ الطبيعيّةِ ، مُعظّماً لها ، وصنّفَ في ذلكَ الكثيرَ من الرسائل ِ والكُتبِ .
- إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنُ إسماعيلَ ، والمعروفُ اختصاراً بإسماعيل أدهم ، أحدُ أبأس ِ الملاحدةِ ، وأشقاهم ، وأكثرهم مأساوية ً وشقاءً ، كانَ من دُعاةِ الشعوبيّةِ ، تنقّلَ في الدراسةِ بينَ مصرَ وتركيّا وروسيا ، وتخصّصَ في الرياضياتِ ، وحصلَ على شهادةِ الدكتوراةِ فيها ، وكتبَ وألّفَ العديدَ من الرسائل ِ ، وفي سيرتهِ أشياءُ كثيرة ٌ من نبوغهِ وتقدّمهِ ، منها أنّهُ كانَ يعرفُ العديدَ من اللغاتِ ، وكذلكَ حصلَ على العديدِ من الشهاداتِ العلميّةِ ، وبعدَ موتهِ حصلَ تشكيكٌ كثيرٌ في ذلكَ وتكذيبٌ لها ، وقد طعنَ فيهِ الناسُ في حياتهِ وبعدَ موتهِ ، وشكّكوا كذلكَ في رسائلهِ وبحوثهِ ، وهو أحدُ كُتّابِ مجلّةِ الرسالةِ والمقتطفِ المصريتين ِ ، وقد كانَ من دعاةِ الألحادِ ، يطعنُ في المسلّماتِ ، ويُشكّكُ في الكثير ِ من الأمور ِ ، وألّفَ رسالة ً أسماها " لماذا أنا مُلحدٌ " ! ، طُبعتْ في مصرَ بمطبعةِ التعاون ِ سنة َ 1937 م ، كان عزوبيّاً ، أصيبَ بالسلِّ ، وتعبَ من الحياةِ ، فآثرَ الموتَ منتحراً غرقاً في الاسكندريّةِ سنة َ 1940 م ، وعثرَ البوليسُ في جيبِ معطفهِ على رسالةٍ يذكرُ فيها أنّهُ ماتَ منتحراً ، كراهية ً في الحياةِ ، وطالبَ فيها كذلكَ بإحراق ِ جُثّتهِ ، وعدم ِ دفنها بمقابرِ المُسلمينَ ، وأن يُشرّحَ رأسهُ ! ، نعوذُ باللهِ من الخذلان ِ والهوان ِ ! .
- إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ ، كان أحدَ دعاةِ الداروينيّةِ في العصر ِ الحاضر ِ ، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ ، أنشأ مجلّةِ العصور ِ في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م ، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن ِ في الدين ِ ، ونشر ِ الشعوبيّةِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ و الإلحادِ ، كانَ معظّماً لليهودِ ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم ، وكانَ يُسمّي نفسهُ : صديقَ دارون ، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة ً من المؤلفاتِ ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح ِ ، جعلهُ منبراً لنشر ِ الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ ، ورجعَ عن الكثير ِ من آراءهِ ، وألّفَ كتاباً أسماهُ " الإسلامُ لا الشيوعيّة ُ " ، وقد كانتْ وفاتهُ سنة َ 1381 هـ بينما ميلادهُ سنّة َ 1308 هـ .
- أحمدُ لطفي بنُ السيّدِ أبي علي ، أحدُ دعاةِ التغريبِ الكبار ِ ، من المُعادينَ للعالم ِ الإسلاميِّ ، وأحدُ الذين يُحاربونَ الفُصحى ، ويُحاربونَ الرابطة َ الدينيّة َ ، ولهُ مواقفُ تدلُّ على كرههِ الشديدِ للتعاليم ِ الدينيّةِ ، وللتديّن ِ عموماً ، وهو من دعاةِ العلمانيّةِ البارزينَ ، وهو الذي قامَ بترجمةِ كتبِ أرسطو إلى اللغةِ العربيّةِ ، فاتحاً باباً جديداً للتغريبِ ، ولم يكن يقصدُ من ذلكَ نشرَ المعرفةِ والعلم ِ ، وإنّما أرادَ نشرَ الثقافةِ الغربيّةِ ، وأصولهم المعرفيّة َ ، حتى يبتعدَ المسلمونَ عن دينهم ، ويقتفونَ أثرَ الغربِ ، وكانتْ لهُ مواقفُ مخزية ٌ ، منها أنّهُ سافرَ إلى إسرائيلَ ، وألقى محاضرة ً في الجامعةِ العبريّةِ ، وكانَ أحدَ من استقبلَ الوفدَ اليهوديَّ بمصرَ ، وضيّفهم عندهُ ، ولهُ مواقفُ سافرة ٌ يدعو فيها إلى التعاون ِ مع البريطانيينَ إبّانَ احتلالهم لمصرَ ، ويبحثُ لهم عن المسوّغاتِ والمبرّرات ِ لسياستهم الاحتلاليّةِ ، ويسمّيهِ بعضهم أستاذَ الجيل ِ ، وتولّى آخر ِ عمرهِ رئاسة َ مجمع ِ اللغةِ العربيّةِ بالقاهرةِ وظلَّ رئيساً لها مدّة َ 18 عاماً ، وقد توفيَ سنة َ 1382 هـ بالقاهرةِ ، بينما كانَ مولدهُ سنة َ 1288 هـ .
يتبع
بقلم الاخ فتى الادغال
تجتاحُ العالمَ العربيَّ منذ ُ بداياتِ هذا القرن ِ ، موجة ٌ من الإلحادِ والرّدةِ ، لم تعرفْ لها المنطقة ُ مثيلاً ، في الوقتِ الذي بدأتْ فيهِ هذه المذاهبُ بالانحسار ِ في العالم ِ الغربيِّ ، وأخذتِ الناسُ تناغمُ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وتُهادنُ بينهما ، بعدَ مرحلةِ قطيعةٍ كبرى بينهما ، نشأتْ في منتصفِ القرن ِ الثامن عشر الميلاديِّ ، وأدّتْ إلى اجتياح ِ الإلحادِ والكفر ِ ، في أوساطِ المفكّرينَ والفلاسفةِ ، واجتياح ِ النظام ِ العلمانيِّ للحياةِ العامّةِ في أوروبا ، بعدَ أن هيمنتْ عليها الكنيسة ُ قروناً طويلة ً من الزمان ِ .
الإلحادُ يحملُ أحدَ معنيين ِ :
أوّلهما : إنكارُ وجودِ الخالق ِ ، والقولُ بأزليّةِ المادّةِ ، وأنّها خالقة ٌ مخلوقة ٌ .
ثانيهما – وهو من إضافاتِ أفلاطونَ - : إثباتُ وجودِ خالق ٍ أو صانع ٍ ، ولكنّها لا تُعنى بشيءٍ من حياةِ الخلق ِ ، فهي موجدة ٌ للخلق ِ ، لكنّها تركتْ التصرّفَ في الكون ِ ، وتفرّغتْ في حياتها المثاليّةِ ، وقد كانَ يقولُ بهذا القول ِ من الفلاسفةِ : أبيقور .
لم تعرفِ الأرضُ انتشاراً للإلحادِ ، ونفوذاً قويّاً لهُ ، إلا في العصور ِ المتأخرةِ ، فقد كان يوجدُ منهم فئامٌ وأشتاتٌ ، ولكنّهم قلائلُ ، ولا يجمعهم مذهبٌ ، أو يُقيّدهم فكرٌ ، وإنّما بحسبِ ما يعنو للواحدِ منهم ويظهرُ ، وقد كانوا يسمّونَ قديماً بالدهريينَ ، وحكى الإمامُ الشهرستانيُّ في كتابهِ " الملل ِ والنِحَل ِ " أنّ الدهريينَ من كفّار ِ مكّة َ وغيرها ، كانوا أقلّ النّاس ِ ، وإنّما غلبَ على أهل ِ مكّة َ وجزيرةِ العربِ الشركُ ، وعبادة ُ غير ِ اللهِ معهُ ، مع إثباتِ أنّهُ الخالقُ وحدهُ ، خلافاً للمانويّةِ الذين يُبتونَ خالقين ِ أحدهما النورُ وهو خالقُ الخير ِ ، والآخرُ الظلامُ وهو خالقُ الشرِّ .
يذكرُ الدكتورُ جعفر شيخ إدريس أنّ أوّلَ كتابٍ مُصرّح ٍ بالإلحادِ ، وداع ٍ لهُ ، ظهرَ في أوروبا في سنةِ 1770 م ، وهذه الفترة ُ الحرجة ُ هي الفترة ُ التي بدأتْ فيها الشعوبُ الأوربيّة ُ تضجُّ من حكم ِ الكنيسةِ ، وتدعو للثورةِ عليهِ ، وقد تبنّى الفكرَ الإلحاديَّ في أوروبا كبارُ الفلاسفةِ والمؤرخينَ ، من أمثال ِ : نيتشة ، وفولتيير ، وكارل ماركس ، وإنجلز ، وراسل ، وكونت ، وغيرهم من كِبار ِ الفلاسفةِ وعلماءِ الاجتماع ِ والتأريخ ِ ، ممّا حدا النّاسَ إلى الوثوق ِ بهم ، والتحوّل ِ إلى آرائهم ، كردّةِ فعل ٍ للمواقفِ المُتسلّطةِ للكنيسةِ ، وكذلكَ ظهور ِ مجموعةِ من التناقضاتِ بينَ الدين ِ النصرانيِّ المُحرّفِ ، وبينَ بعض ِ المُخترعاتِ والمُكتشفاتِ العلميّةِ .
ومع ظهور ِ بوادر ِ الإلحادِ ، نشأتْ العديدُ من المدارس ِ والمذاهبِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ ، والتي تصُبُ في مصبِّ الإلحادِ ، وتستلهمُ منهُ مادّتها ، وترسّخُ مبادئهُ ، ومن أشهر ِ تلكَ المذاهبِ والمدارس ِ :
- العلمانيّة ُ : وهو مذهبٌ كفريٌّ ، نشأ في ظروفٍ عصيبةٍ في أوروبا ، خلالَ القرن ِ الثامن عشر ، وذلكَ بسببِ طغيان ِ الكنيسةِ ، وتبرّم ِ الناس ِ منها ومن نفوذِ رجالها ، ومُحاربةِ الكنيسةِ للعلوم ِ الطبيعيّةِ ، خاصّة َ بعدَ تطوّر ِ ونموِّ الحركاتِ العلميّةِ والبحوثِ ، وخلاصة ُ العلمانيّةِ أنّها حركة ٌ جديدة ٌ تهدفُ إلى إقصاءِ الدين ِ عن الحياةِ ، وبناءِ مؤسساتِ المجتمع ِ على أصول ٍ مادّيةٍ بحتةٍ ، لا دخلَ للدين ِ فيها من قريبٍ أو بعيدٍ .
- الوجوديّة ُ : وهي مذهبٌ معاصرٌ ذو جذور ٍ قديمةٍ ، يقومُ على أساس ِ إبراز ِ قيمةِ الفردِ ، والتأكيدِ على حرّيتهِ ، وأنّهُ هو أساسُ كلِّ شيءٍ ومنطلقهُ ، وهي مذهبٌ إلحاديٌّ ، أسّسها قديماً كير كجرد ، وفي العصر ِ الحاضر ِ قامَ أبو الوجوديّةِ جان بول سارتر بإرساءِ دعائم ِ هذا المذهبِ ، وإقامةِ أصولهِ ، وبناهُ على الإلحادِ والكفر ِ بكلِّ المُثُل ِ والقيم ِ ، وأنّ للإنسان ِ أن يفعلَ ما شاءَ ، دونَ وازع ٍ أو رقيبٍ .
- الشيوعيّة ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ مُعاصرٌ ، أنشأهُ اليهوديُّ كارل ماركس ، يدعو إلى تعظيم ِ المادّةِ ، وأنّها أزليّة ٌ ، ويُفسّرُ كارل ماركس التاريخَ تفسيراً ماديّاً بحتاً ، ولهم شعاراتٌ عدّة ٌ من ضمنها : لا إلهَ والحياة ُ مادّة ٌ ، وقد انتشرتْ الشيوعيّة ُ بالقوّةِ والاستعبادِ ، واجتاحتْ بثوراتها أغلبَ أرجاءِ الأرض ِ ، حتى أذنَ اللهُ بسقوطها ، وبقاءِ بعض ِ فلولها مشتتة ً هنا وهناكَ .
- الوضعية ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ إلحاديٌّ ، يُنكرُ وجودَ أي معرفةٍ تتجاوزُ التجربة َ الحسّية َ ، أسّسهُ اوغست كونت ، ودعى حينَ تأسيسهِ إلى قيام ِ دين ٍ جديدٍ ، يقومُ على أساس ِ عبادةِ الإنسانيّةِ ، وإحلالها محلَّ الأديان ِ .
- الداروينيّة ُ : نسبة ً إلى شارلز داروين ، أقامَ مدرستهُ هذه على أساس ِ أنّ الأحياءَ جميعاً لم تُخلقْ كلُّ واحدةٍ منها خلقاً مُستقلاً ، بل كانَ لها أصلٌ واحدٌ وهو الخليّة ُ البسيطة ُ ، ثمّ أختْ تتطوّرُ وترتقي من طور ٍ إلى طور ٍ آخرَ ، حتى نشأتِ البشريّاتُ والإنسانُ ، وأنّ الطبيعة َ هي التي كانت تختارُ الأصلحَ للبقاءِ ، وذلكَ ما عبّرَ عنهُ بمصطلح ِ : الانتخابِ الطبيعيِّ ، أو بقاءِ الأصلح ِ ، ومدرسة ُ داروين تجمعُ في ثنياها كبارَ ملاحدةِ العالم ِ ، والذين يرونَ أنّ الإنسانَ لا خالقَ لهُ ، وأنّهُ وليدُ ملايين ِ السنواتِ من التطوّر ِ الطبيعي ، والنشوءِ والارتقاءِ بينَ الأنواع ِ المختلفةِ ، وبالرغم ِ من عدم ِ وجودِ أي دليل ٍ علميٍّ ، يُبتُ صحّة َ نظريّةِ داروين ، إلا أنّها اجتاحت العالمَ الغربيَّ اجتياح ٍ غريباً ، وأثرتْ فيهِ وفي ثقافتهِ ، حتى بدأتْ تنحسرُ في الآونةِ الأخيرةِ .
وهناكَ العديدُ من المدارس ِ غيرُ ما ذُكرَ ، وكذلكَ النظريّاتِ ، سواءً ما كانَ منها علميّاً بحتاً ، أو اجتماعيّاً ، أثّرتْ أو تأثرتْ بالإلحادِ ، وقامت بترسيخ ِ مفاهيمهِ ، ودعتْ إليهِ .
ومن المؤسفِ حقّاً ، أنّ الإلحادَ حينما صبغَ الحياة َ العامّة َ في أوروبا ، أصبحَ أمرُ التديّن ِ ، والتمسّكِ بدين ٍ ، أو الإيمان ِ بالخالق ِ ، شيئاً غريباً ! ، وظاهرة ً تدعو إلى العجّبِ ! ، بعد أن كانت هي السائدة ُ على نظام ِ الحياةِ ، ومؤسساتِ الحُكم ِ ، وإن كانَ ثمَّ شيءٌ يدعو إلى التعجّبِ والاستغرابِ ، فهو انتشارُ الإلحادِ في تلكَ الفترةِ ، وانحسارُ الإيمان ِ باللهِ ، وتعلّقُ الناس ِ بالمادّةِ والطبيعةِ ، ووصفهم للدين ِ بأنّهُ تخلّفٌ ورجعيّة ٌ .
هذا كانَ عرضاً موجزاً عن بداياتِ الإلحادِ في العالم ِ الغربيِّ ، فماذا عن العالم ِ العربيِّ والإسلاميِّ ! .
الكلامُ عن حركاتِ الإلحادِ المنظّمةِ في العالم ِ العربيِّ ، وكذلكَ المُجاهرة ُ بهِ ، وإعلانُهُ على الملأ ، نشأ بعدَ منتصفِ القرن ِ التاسعَ عشرَ ، حينما بدأ العالمُ الإسلاميُّ والعربيُّ ، يتّصلُ بالعالم ِ الغربيِّ ، عن طريق ِ إرسالياتِ الدراسةِ ، أو التدريبِ ، وتسبّبَ ذلكَ في رجوع ِ مجموعةٍ من الطلاّبِ متأثّرينَ بالفكر ِ الأوربيِّ الماديِّ ، والذي كانَ يقومُ على أساس ِ تعظيم ِ علوم ِ الطبيعةِ ، ورفع ِ شأن ِ العقل ِ ، وكذلكَ تنحية ُ الدين ِ والشرع ِ ، عن حكم ِ الحياةِ والناس ِ وإدارةِ شئونهم .
في بدايةِ الأمر ِ لم يكن ثمَّ دعوة ٌ صريحة ٌ للإلحادِ أوالرّدةِ ، وإنّما كانتْ هناكَ دعواتٌ للتحرّر ِ ، أو التغريبِ ، أو فتح ِ المجال ِ أمامَ العقل ِ ، ومُحاكمةِ بعض ِ النصوص ِ الشرعيّةِ إلى العقل ِ أوالحسِّ والواقع ِ ، ومحاولةِ إنشاءِ خلافٍ وهميٍّ ، وصراع ٍ مُفتعل ٍ ، بينَ العقل ِ والشرع ِ .
ومع مرورِ الوقتِ ، وزيادةِ الاتصال ِ بالغربِ وتراثهِ ، وانتشار ِ موجةِ التغريبِ بينَ الناس ِ ، ظهرتْ بعضُ الدعواتِ الصريحةِ للإلحادِ وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم ِ الحريّةِ الفرديّةِ .
وحينما نشطَ اليهودُ في تركيا ، ودعوا إلى إقامةِ قوميّةٍ تركيّةٍ ، تحُلُّ محلَّ الرابطةِ الدينيّةِ ، ظهرتْ مظاهرُ عدّة ٌ في الواقع ِ ، تدعو إلى نبذِ الدين ِ ، وتظهرُ العداءَ لبعض ِ شعائرهِ ، ومع مرورِ الوقتِ ، تطوّرتْ هذه الحركة ُ ، حتى جاءَ مصطفى كمال أتاتورك ، وقامَ بإلغاءِ الخلافةِ ، وأنشأ الدولة َ التركيّة َ العلمانيّة َ ، وحاربَ جميعَ العلماءِ وسجنهم ، وراجَ على إثرَ ذلكَ الكفرُ والإلحادُ ، وظهرتْ عدّة ُ كتبٍ تدعو إلى الإلحادِ ، وتطعنُ في الأديان ِ ، ومنها كتابٌ بعنوان ِ " مصطفى كمال " ، لكاتبٍ اسمهُ قابيل آدم .
هذه الجرأة ُ في تركيا قابلها جرأة ٌ مماثلة ٌ ، في مصرَ ، سمّيتْ ظلماً وزوراً عصرَ النهضةِ الأدبيّةِ والفكريّةِ ، بينما هي في حقيقتها حركة ٌ تغريبيّة ٌ ، تهدفُ إلى إلحاق ِ مصرَ بالعالم ِ الغربيِّ ، والتخلّق ِ بأخلاقهِ ، واحتذائها في ذلكَ حذوَ تركيّا ، التي خلعتْ جلبابِ الحياءِ والدين ِ ، وصبغتْ حياتها بطابع ِ العلمانيّةِ والسفور ِ والتمرّدِ .
في تلكَ الحقبةِ في مصرَ ، ظهرَ العديدُ من المفكّرينَ والأدباءِ ، يدعونَ إلى التغريبِ والإلحادِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم التنوير ِ تارة ً ، وباسم النهضةِ الأدبيّةِ تارة ً أخرى ، ومرّة ً باسم الحرّياتِ الفكريّةِ ، وتلقّفتْ مصرُ – في تلكَ الفترةِ - دونَ تمييز ٍ ، جميعَ أمراض ِ المجتمع ِ الأوربيِّ ، وكذلكَ أخلاقهُ المنحلّة َ ، وأصبحتْ قطعة ً من أوروبا ، ومن فرنسا تحديداً ، وعاثَ في أرضها بعضُ المستشرقينَ فساداً وإفساداً ، ثمّ سلّموا دفّة َ الإفسادِ إلى بعض ِ المصريينَ ، ممن لم يتوانوا في نشر ِ الكفر ِ والإلحادِ ، وسعوا سعياً حثيثاً إلى إلغاءِ الفضيلةِ والأخلاق ِ الإسلاميّةِ ، وإحلال ِ النفعيّةِ والماديّةِ محلّها ، حتّى أصبحَ دُعاة ُ الإسلام ِ والمُحافظةِ غرباءَ على المُجتمع ِ دُخلاءَ عليهِ ، ويوصفونَ بالجمودِ والتخلّفِ والعداءِ للحضارةِ !! .
وبما أنّ مصرَ هي رئة ُ العالم ِ في ذلكَ الوقتِ ، فقد انتقلتْ حمّى الردةِ والإلحادِ ، إلى جميع ِ دول ِ الجوار ِ ، ابتداءً من الشام ِ ، ومروراً بالعراق ِ ، والخليج ِ بما فيها السعودية ُ ، وانتهاءً ببلادِ اليمن ِ .
وسأذكرُ الآنَ بعضَ أشهر ِ الملاحدةِ والمرتدينَ ، الذينَ نبذوا الدينَ جانباً ، واستبدلوا بهِ الإلحادَ أو اللادينيّة َ أو كفروا بكلِّ شرائع ِ الإسلام ِ ، من الذينَ كانوا في تلكَ الفترةِ ، أو بعضَ من يعيشُ في عصرنا الحاضر ِ ، والذين أعملوا معاولَ الهدم ِ والتخريبِ ، في الأخلاق ِ والدين ِ ، وأرادوا جعلَ المجتمعاتِ نماذجَ مكرّرة ً من الدول ِ الأوربيّةِ المُنحلةِ الفاسدةِ ، وحاولوا صُنعَ فجوةٍ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وأوهموا أنّ الدينَ يُعارضُ العلمَ والواقعَ ، ويقفُ دونَ الانطلاق ِ إلى آفاق ٍ جديدةٍ ، ويُحرّمُ الإبداعَ ، ويدعو إلى الكهنوتيّةِ والتقوقع ِ .
فمن أشهرهم :
- جميل صدقي بنُ محمدِ بن ِ فيضي الزهاوي ، شاعرٌ من شُعراءِ العراق ِ ، وُلدَ سنة َ 1279 هـ في بغدادَ ، وكانَ أبوهُ مُفتي بغدادَ في تلكَ الفترةِ ، وقد تنقّلَ كثيراً في المناصبِ والوظائفِ ، وهو أحدُ أعمدةِ التشكيكِ في شعرهِ وآراءهِ ، وقد كانَ ينحى منحى الفلاسفةِ ، ويُقرّرُ طريقة َ الفلاسفةِ في التعامل ِ مع الأديان ِ ، ومع الغيبياتِ ، حتّى سمّاهُ النّاسُ زنديقاً ! ، وقد كانَ من المفتونينَ بالعالم ِ الماديِّ ، وبالظواهر ِ الطبيعيّةِ ، مُعظّماً لها ، وصنّفَ في ذلكَ الكثيرَ من الرسائل ِ والكُتبِ .
- إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنُ إسماعيلَ ، والمعروفُ اختصاراً بإسماعيل أدهم ، أحدُ أبأس ِ الملاحدةِ ، وأشقاهم ، وأكثرهم مأساوية ً وشقاءً ، كانَ من دُعاةِ الشعوبيّةِ ، تنقّلَ في الدراسةِ بينَ مصرَ وتركيّا وروسيا ، وتخصّصَ في الرياضياتِ ، وحصلَ على شهادةِ الدكتوراةِ فيها ، وكتبَ وألّفَ العديدَ من الرسائل ِ ، وفي سيرتهِ أشياءُ كثيرة ٌ من نبوغهِ وتقدّمهِ ، منها أنّهُ كانَ يعرفُ العديدَ من اللغاتِ ، وكذلكَ حصلَ على العديدِ من الشهاداتِ العلميّةِ ، وبعدَ موتهِ حصلَ تشكيكٌ كثيرٌ في ذلكَ وتكذيبٌ لها ، وقد طعنَ فيهِ الناسُ في حياتهِ وبعدَ موتهِ ، وشكّكوا كذلكَ في رسائلهِ وبحوثهِ ، وهو أحدُ كُتّابِ مجلّةِ الرسالةِ والمقتطفِ المصريتين ِ ، وقد كانَ من دعاةِ الألحادِ ، يطعنُ في المسلّماتِ ، ويُشكّكُ في الكثير ِ من الأمور ِ ، وألّفَ رسالة ً أسماها " لماذا أنا مُلحدٌ " ! ، طُبعتْ في مصرَ بمطبعةِ التعاون ِ سنة َ 1937 م ، كان عزوبيّاً ، أصيبَ بالسلِّ ، وتعبَ من الحياةِ ، فآثرَ الموتَ منتحراً غرقاً في الاسكندريّةِ سنة َ 1940 م ، وعثرَ البوليسُ في جيبِ معطفهِ على رسالةٍ يذكرُ فيها أنّهُ ماتَ منتحراً ، كراهية ً في الحياةِ ، وطالبَ فيها كذلكَ بإحراق ِ جُثّتهِ ، وعدم ِ دفنها بمقابرِ المُسلمينَ ، وأن يُشرّحَ رأسهُ ! ، نعوذُ باللهِ من الخذلان ِ والهوان ِ ! .
- إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ ، كان أحدَ دعاةِ الداروينيّةِ في العصر ِ الحاضر ِ ، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ ، أنشأ مجلّةِ العصور ِ في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م ، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن ِ في الدين ِ ، ونشر ِ الشعوبيّةِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ و الإلحادِ ، كانَ معظّماً لليهودِ ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم ، وكانَ يُسمّي نفسهُ : صديقَ دارون ، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة ً من المؤلفاتِ ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح ِ ، جعلهُ منبراً لنشر ِ الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ ، ورجعَ عن الكثير ِ من آراءهِ ، وألّفَ كتاباً أسماهُ " الإسلامُ لا الشيوعيّة ُ " ، وقد كانتْ وفاتهُ سنة َ 1381 هـ بينما ميلادهُ سنّة َ 1308 هـ .
- أحمدُ لطفي بنُ السيّدِ أبي علي ، أحدُ دعاةِ التغريبِ الكبار ِ ، من المُعادينَ للعالم ِ الإسلاميِّ ، وأحدُ الذين يُحاربونَ الفُصحى ، ويُحاربونَ الرابطة َ الدينيّة َ ، ولهُ مواقفُ تدلُّ على كرههِ الشديدِ للتعاليم ِ الدينيّةِ ، وللتديّن ِ عموماً ، وهو من دعاةِ العلمانيّةِ البارزينَ ، وهو الذي قامَ بترجمةِ كتبِ أرسطو إلى اللغةِ العربيّةِ ، فاتحاً باباً جديداً للتغريبِ ، ولم يكن يقصدُ من ذلكَ نشرَ المعرفةِ والعلم ِ ، وإنّما أرادَ نشرَ الثقافةِ الغربيّةِ ، وأصولهم المعرفيّة َ ، حتى يبتعدَ المسلمونَ عن دينهم ، ويقتفونَ أثرَ الغربِ ، وكانتْ لهُ مواقفُ مخزية ٌ ، منها أنّهُ سافرَ إلى إسرائيلَ ، وألقى محاضرة ً في الجامعةِ العبريّةِ ، وكانَ أحدَ من استقبلَ الوفدَ اليهوديَّ بمصرَ ، وضيّفهم عندهُ ، ولهُ مواقفُ سافرة ٌ يدعو فيها إلى التعاون ِ مع البريطانيينَ إبّانَ احتلالهم لمصرَ ، ويبحثُ لهم عن المسوّغاتِ والمبرّرات ِ لسياستهم الاحتلاليّةِ ، ويسمّيهِ بعضهم أستاذَ الجيل ِ ، وتولّى آخر ِ عمرهِ رئاسة َ مجمع ِ اللغةِ العربيّةِ بالقاهرةِ وظلَّ رئيساً لها مدّة َ 18 عاماً ، وقد توفيَ سنة َ 1382 هـ بالقاهرةِ ، بينما كانَ مولدهُ سنة َ 1288 هـ .
يتبع
تعليق