السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تَأَمُّــــلَاتٌ فِي آيـَـــــــاتٍ
تَأَمُّــــلَاتٌ فِي آيـَـــــــاتٍ
هي عبادة عظيمة قد باتت شبه مهجورة فى هذا الزمان بكل أسف ..!
عبادة تدبر وتأمل آيات القرآن العظيم والوقوف عند كل كلمة من كلماته ، وإنى لأدعو نفسى والمسلمين إلى تدبر كتاب الله عز وجل ، وإلى الوقوف عند كل كلمة والتفكر فيما تنطوي عليه من معانٍ رائعة وفوائد بليغة وعِبَر كامنة ، فهو الكتاب الذى لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه . ولْيتدبرْ كلٌ منا على قدر علمه وفهمه ، لكن عيب علينا أن يكون بين أيدينا كتاب رب العالمين ثم تقتصر علاقتنا به على مجرد القراءة للانتهاء من الورد اليومى بسرعة ، فإن تدبر المسلم لآيات القرآن الكريم علامة من علامات المحبة ، ولِمَ لا ؟! فالموظف الذى يذهب لعمله وكل همه ميعاد الانصراف ، غير المحب لعمله المتقن له الذى ينفرط عِقد الوقت من بين يديه بينما يستغرق عمله كل تركيزه ويستحوذ على جميع عقله ، فلا يكاد يشعر قارئ القرآن الكريم بالوقت يمر وهو متفاعل مع آيات القرآن الكريم تأملًا وتدبراً .
وقارئ القرآن إما أن يكون همه آخر المصحف ، وإما أن ينشغل فكره بالآيات فيقف عند أول كل آية ويتساءل : "ما علاقة أول هذه الآية بآخر ما قبلها ؟" ، "ولماذا جاء هذا اللفظ بالذات فى هذا الموضع ؟" . ثم هو يتوقف عند الآيات المتشابهات وينظر إلى كل منها فى موضعها ثم يتفكر فى الاختلافات البسيطة بينها وملاءمة كل منها للموضع الذى وردت فيه دون غيره . ثم هو يتمعن في علاقة السورة بالسورة التى تليها والتى تسبقها، ويتفكر فى علاقة مواضيع السورة الواحدة ببعضها البعض، وغير ذلك من أوجه التدبر التي لا تنتهي.
وسأذكر لكم بعض الأمثلة :
1- فى قول الله تعالى فى سورة البقرة [وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] ، ثم فى آية سورة قريش [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] .
* فيتفكر المسلم هنا ويسأل : لماذا قدم الله الابتلاء بالخوف على الابتلاء بالجوع فى آية البقرة ، فى حين قدم الإنعام بالإطعام من الجوع على الإنعام بالتأمين من الخوف فى آية قريش ؟
2- قول الله تعالى فى سورة التوبة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]
* فيتفكر المسلم هنا ويسأل : ما علاقة هؤلاء الأحبار والرهبان بالذين يكنزون الذهب والفضة ، وما هو العامل المشترك بين فِعْلَيْهما ؟
3- فى سورة آل عمران وأثناء حديث الله تعالى عن غزوة أحد وما حصل فيها ، إذا بالله تعالى يوجه الأمر للمسلمين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] .
* فيتوقف المسلم هنا ويسأل : ما علاقة النهي عن أكل الربا بأحداث غزوة أحد وما حصل فيها ؟
4- فى سورة النور بعد أن يأمر الله تعالى النساء بإخفاء زينتهن إلا عن محارمهن [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ] ، فإذا به سبحانه وتعالى فى نهاية الآية يوجه خطابه للمؤمنين قائلاً [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] .
* فيسأل المسلم نفسه هنا : لِمَ وجه الله الأمر بالتوبة لجميع المؤمنين على الرغم من أن الآية أصلاً تتحدث عن النساء ؟ وما علاقة توبة المؤمنين بحجاب النساء وعفتهن ؟
5- فى قوله تعالى فى سورة البقرة [وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ، وفى سورة الحج [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] .
* فيتدبر المسلم الذى يعلم أن كل كلمة فى القرآن تؤدى وظيفة فى موضعها لا يؤديها غيرها ثم يسأل : لماذا فى الآية الأولى كلمة "العاكفين" بينما فى الثانية "القائمين" ، لماذا أتت كل منهما فى موضعها بالذات دون العكس على الرغم من تشابه الآيتين ؟
وغير هذا الكثير والكثير والكثير من التأملات في الآيات التي سنتكلم عنها في المشاركات التالية إن شاء الله تعالى ، فالقرآن بحر من الجمال والإبداع والتوافق والتواؤم والإعجاز لا نهاية له ..
وسبحان الله العظيم ! عندما يفتح الله على عبده بمعنىً ما فى آية من آياته ، يمتلئ قلب العبد فرحاً وسروراً بربه وقرآنه . وبتدبر آيات الله يتعمق يقين المسلم فى كتابه واستحالة كونه من عند بشر ، ويتعجب المسلم كيف تتكامل آيات القرآن الكريم وتصدق بعضها بعضاً بصورة غاية فى الدقة والروعة والإتقان والكمال الذى لا يكون إلا من لدن خالق هذا الكون العظيم ، فيتيقن المؤمن بصدق القرآن الكريم ، وأنه ما كان لبشر أن يأتي بآية من مثله ، ويزيد يقينه كلما زاد تدبره .
لذا أدعو إخوتى الكرام ألا يُفوِّتوا عليهم هذه النعمة العظيمة والمُتعة الجسيمة ، وأن يكون بجانب كل واحد فيهم - ساعة قراءة القرآن الكريم - ورقة صغيرة وقلم بحيث يدوِّن فيها كل ما يطرأ على باله من معانٍ متعلقة ببعض الآيات التى يمر بها أثناء قراءته ، بذكر رقم الآية وبجانبها بعض كلمات من المعنى الذى فتح الله به عليه ، ثم بعد ذلك يدونها شرحاً وتفصيلاً فى كشكول خاص بتدبر القرآن .
مع التأكيد على أن الإقدام على تدبر الآيات لا يكون إلا بعد معرفة تفسيرها من التفاسير المعتمدة والموثوقة لدى أهل السنة والجماعة ، والتفسير ليس من مهمات عوام المسلمين ، وإنما قد قام على التفسير علماء كبراء عظماء وتناقلوه عبر الأجيال بداية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصحابة فالتابعين فمن بعدهم ومن بعدهم حتى وصل إلينا صافيًا رائقاً ، ولا يحق لأي عامي أن يتجرأ على القول في القرآن برأيه ، فالقرآن لا يقول في تفسيره إلا أهل العلم الذين ملكوا أدوات العلم المؤهلة لهم للإقدام على هذا الأمر الجلل العظيم ، وقد قال الصديق أبو بكر - وهو مَن هو - : "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم" .
وإن كان لا يتصدى للحديث عن أي علم كالكيمياء والفيزياء والطب إلا أهله وعلماؤه وأربابه ، فالوحي الإلهي من باب أوْلى صيانة له عن العبث والتلاعب وأن يكون مادة للأهواء والآراء التي تصيب وتخطئ ، وكم ضل أقوام لسوء تفسيرهم القرآن وقد تجرأوا عليهم بغير أهلية ولا مقومات ، وقد أمرنا سبحانه وتعالى بسؤال أهل الذكر [فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون] ، لذا من الضروري بل من الواجب على المسلم أن يأتي تدبره بعد اطلاعه على التفسير حتى يكون تدبره في إطار التفسير الصحيح فلا يخرج عنه ويحيد إلى معان خاطئة ومفاهيم مبتدعة وأحكام باطلة بعيدة عن مراد الله ورسوله من الآيات الكريمات والعياذ بالله .
وفي هذا الموضوع سأقوم إن شاء الله تعالى بمشاركتكم إخوتي بعضًا من المعاني التي تواردت على ذهني أثناء قراءتي لآيات القرآن العظيم سواءًا ما تطرقتُ لذكره من أمثلة - أعلاه - أو غيرها من آيات الله البينات ، وسيكون ذلك على مشاركات متتابعة بإذن الله .. فتابعوا ..
يُتبَع إن شاء الله ..
تعليق