ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
سليمان بن صالح الخراشي
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"(1) ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيـي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .
صيد الفوائد
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/39.htm
سليمان بن صالح الخراشي
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"(1) ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيـي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .
صيد الفوائد
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/39.htm