كتابة القرآن الكريم
نحاول في هذه الدراسة استعراض مراحل تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته، بطبعه ونشره وترجمة معانيه، مستعيناً بما تيسر من مصادر، أو تقارير، ومحاولاً الالتزام بالدقة في عرض المعلومة، وتوثيقها من مصادرها.. وذلك من خلال الدروس التالية :تطـور الكتابة العربية .كتابـة القـرآن الكريم.نقط المصحف الشريف .تجويـد الخـط العربي.
ثم نتحدث عن الرسم العثماني: أُصوله وخصائصه، والحديث عن المصاحف القديمة وأهمية دراستها.ثم نختم بالحديث عن حكم إتباع رسم القرآن الكريم.
الدرس الأول
أولاً: تطور الكتابة العربية
عرفت العرب الكتابة في جاهليتها ، وعدَّتها شرطاً في كمال الرجل العربي مثل معرفة السباحة والرماية وركوب الخيل ، وتعود معرفتهم بالكتابة إلى اتصالهم بالأمم المتحضرة في بلاد اليمن وتخوم الشام ، فأنشئوا ممالكهم على أطراف تلك البلاد ، وكانت مملكة النَّبَط إحدى هذه الممالك التي قامت على أطراف بلاد الشام في الناحية الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية (169ق م - 106م) واتخذت البتراء (سلع) عاصمة لها ، وكانت لهم صِلات بالآراميين ؛ فتأثروا بهم وتحدَّثوا لغتهم ، واستنبطوا لأنفسهم خطاً خاصاً بهم عُرف بالخط النبطي ، اشتق منه عرب الشمال خطهم الأول ، فعرف الخط الأنباري ، والخط الحيري ، أو الخط المدوّر ، والخط المثلث ، وفي الحجاز ، حيث كان يحتكر أهل الذِّمة معرفة الكتابة عُرف خط التـئم ، أو الجَزْم ، وعندما ظهر الإسلام أصبحت الكتابة وسيلة هامة من وسائل نشر الدين ، وضرورة من ضرورات الحكم .
وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمة أمّيَة، لا تكاد تعرف القراءة والكتابة إلا نزراً يسيراً
قال تعالى في سورة الجمعة آية 2:
[ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ].
فشجع صلى الله عليه وسلم أصحابه على تعلِّم الكتابة ، وسلك في ذلك وسائل مختلفة ، حتى إنه اشترط لفكاك الأسير من قريش في بدر تعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة فراجت الكتابةُ في عصره صلى الله عليه وسلم ، حتى بلغ عدد كتّاب الوحي أكثر من أربعين كاتباً ومن هؤلاء :
عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، فإذا غابا كتب أُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يحضر أحدهما كتب غيرهما.
هذا عدا من كان يكتب بين يديه صلى الله عليه وسلم فيما يعرض له من أمور دينه وحوائجه ومن هؤلاء : خالد بن سعيد بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان .
أو يكتب للناس مدايناتهم وعقودهم ومعاملاتهم ، ومن هؤلاء : المغيرة ابن شعبة والحصين بن نُمير ، وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا .
أو يكتب أموال الصدقات ، وقبائل الناس ومياههم ، ومن هؤلاء : عبد الله ابن الأرقم بن عبد يغوث ، العلاء بن عقبة .
أو يكتب خَرْص ثمار الحجاز ، ومن هؤلاء: حذيفة بن اليمان ، أو مغانم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء : مُعَيْقيب بن أبي فاطمة ، حليف بني أسد.
أو يكتب إلى الملوك ويجيب عن رسائلهم ، ويترجم إلى الفارسية والرومية والقبطية والحبشية ومن هؤلاء : زيد بن ثابت .
وتعد الحجاز أول بلاد العرب معرفة للكتابة ، وكانت قريش في مكة وثقيف في الطائف أكثر القبائل شهرة بها ، ومن أبنائهما اختير كتاب صحف أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهيقول ، كما روى جابر بن سمرة: "لا يُمْلِيَن في مصاحفنا هذه إلا غلمان ثقيف" ، وعندما جمع عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه مصاحفه قال :
اجعلوا الـمُمْلِي من هذيل والكاتب من ثقيف .
ثانياً: كتابة القرآن الكريم:
كان القرآن الكريم يتنـزَّل منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيحفظه ويبلغه للناس ، ويأمر بكتابته، فيقول : ضعوا هذه السورة بجانب تلك السورة وضعوا هذه الآية بإزاء تلك الآية فيُحفظ ما كُتب في منـزله صلى الله عليه وسلم ، بعد أن ينسخ منه كتّاب الوحي نسخاً لأنفسهم .
وكُتب القرآن الكريم في العسب واللخاف، والرّقاع، وقطع الأديم، وعظام الأكتاف والأضلاع، ومن الصحابة من اكتفى بسماعه مِنْ فيه صلى الله عليه وسلم فحفظه كله أو حفظ معظمه، أو بعضاً منه، ومنهم من كتب الآيات ، ومنهم من كتب السورة ومنهم من كتب السور ، ومنهم من كتبه كله ، فحُفظ القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم في الصدور وفي السطور، ومن أشهر كتَّاب الوحي في عهد النبوة : الخلفاء الراشدون ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وخالد بن الوليد ، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ، وقد شهد العرضة الأخيرة .
كُتب القرآن الكريم كاملاً في عهد النبوة إلا أنه لم يُجمع في مصحف واحد لأسباب منها : ما كان يترقبه صلى الله عليه وسلم من زيادة فيه، أو نسخ منه، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتنون بحفظه واستظهاره أكثر من عنايتهم بكتابته.
وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة وقعت معركة اليمامة المشهورة بين المرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب ، والمسلمين بقيادة خالد بن الوليد واستحرَّ القتل في المسلمين واستشهد منهم سبعون من القرَّاء ؛ فارتاع عمر بن الخطاب وخاف ذهاب القرآن بذهاب هؤلاء القرَّاء ، ففزع إلى أبي بكر الصديق ، وأشار عليه بجمع القرآن فخاف أبو بكر أن يضع نفسه في منـزلة من يزيد احتياطه على الدين على احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال متردداً حتى شرح الله صدره ، واطمأن إلى أن عمله مستمد من تشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن .
وكان زيد بن ثابت مداوماً على كتابة الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن ، وكان ذا عقل راجح وعدالة ورويَّة ، مشهوداً له بأنه أكثر الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن ، ووعاء لحروفه ، وأداء لقراءته ، وضبطاً لإعرابه ولغاته ؛ فوقع عليه الاختيار رغم وجود من هو أكبر منه سناً ، وأقدم إسلاماً ، وأكثر فضلاً .
يقول زيد : (فالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن) فشرح الله صدر زيد كما شرح صدر أبي بكر ، ورغم حفظه وإتقانه ، إلا أنه أخذ يتتبع القرآن ، ويجمعه من العسب واللخاف والرقاع وغيرها مما كان مكتوباً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صدور الرجال ، وكان لا يكتب شيئاً حتى يشهد شاهدان على كتابته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرتّـبه على حسب العرضة الأخيرة التي شهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلموبقيت هذه الصحف في رعاية أبي بكر ، ثم في رعاية عمر ، ثم عند أم المؤمنين حفصة حتى أُحرقت عندما كُتبت مصاحف عثمان .
اتسعت الفتوح، وانتشر الصحابة في الأمصار، وأصبح أهل كل مصر يقرؤون بقراءة الصحابي الذي نزل في مصرهم ؛ ففي الشام بقراءة أُبي بن كعب وفي الكوفة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وفي البصرة بقراءة أبي موسى الأشعري وكان مِن الصحابة الذين استقروا في البلاد المفتوحة مَن لم يشهد العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقف على ما نُسخ من أحرفٍ وقراءات في هذه العرضة ، بينما وقف صحابة آخرون على ذلك وكان كل صحابي يقرأ بما وقف عليه من القرآن ، فتلقى الناس عنهم ذلك ، فاختلفت قراءاتهم وخطَّأ بعضُهم بعضا.
وفي فتح أذربيجان وأرمينية ، في السنة الخامسة والعشرين من الهجرة اجتمع أهلُ الشام والعراق ، فتذاكروا القرآن ، واختلفوا فيه ، حتى كادت الفتنة تقع بينهم فكان حذيفة بن اليمان مشاركاً في هذا الفتح ؛ فذعر ذعراً شديداً ، وركب إلى في المدينة ، ولم يدخل داره حتى أتى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما ، فقال له :
(يا أمير المؤمنين أدرك الناس قال : وما ذاك ؟! قال : غزوت مَرْج أرمينية ، فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام ، فيكفر بعضهم بعضاً).
وكان عثمان قد وقع له مثل ذلك ، حتى إنه خطب في الناس وقال لهم : أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون ، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافاً ، وأشد لحناً ، اجتمعوا يا أصحاب محمد ، واكتبوا للناس إماماً وكتب عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك فأرسلت بها .
يقول زيد بن ثابت: فأمرني عثمان بن عفان أن أكتب مصحفاً، وقال: إني مُدْخل معك رجلاً لبيباً فصيحاً، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ.
وفي رواية عن مصعب بن سعد فقال عثمان: من أكتب الناس ؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت قال: فأي الناس أعـرب ـ وفي رواية أفصح ـ؟ قالوا : سعيد بن العاص قال : فَلْيُمْلِ سعيد ، وليكتب زيد .
يقول زيد بن ثابت: فلما بلغنا: [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ].البقرة آية رقم 248.
قال زيد : فقلت (التابوة) ، وقال سعيد : (التابوت) ، فرفعناه إلى عثمان ، فكتب (التابوت) ؛ لأنها من لغة قريش التي نزل القرآن بلسانها .
فرغ زيد من كتابة المصحف، فعرضه عَرْضة فلم يجد فيه قوله تعالى في سورة الأحزاب آية رقم 23:
[مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا].
فلم يجدها عند المهاجرين ولم يجدها عند الأنصار فوجدها عند خزيمة بن ثابت ثم عرضه عرضة أخرى فلم يجد قوله تعالى في سورة التوبة آية رقم 128:
[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].
فاستعرض المهاجرين فلم يجدها عندهم ، واستعرض الأنصار فلم يجدها عندهم ، حتى وجدها مع رجل آخر يدعى خزيمة الأنصاري أيضاً ، فأثبتها ثم عرضه عرضة ثالثة فلم يجد فيه شيئا فعرض عثمان المصحف على صحف حفصة ، فلم يختلفا في شيء ، فقرّت نفسه رضي الله تعالى عنه .
وفي رواية لمحمد بن سيرين : أن عثمان جمع لكتابة المصحف اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، منهم زيد بن ثابت ، وفي روايات متفرقة منهم :
مالك بن أبي عامر (جدّ مالك بن أنس) وكثير بن أفلح ، وأبي بن كعب ، وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنهم.
يقول ابن حجر: (وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل للآفاق فأضافوا إلى زيد من ذُكر ، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء) .
اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي كتبها عثمان، فالمشهور أنها خمسة، وورد أنها أربعة، وورد أنها سبعة، بعث بها إلى مكة، والشام، واليمن والبحرين، والبصـرة والكوفـة، وأبقى واحداً بالمدينة سُمي (المصحف الإمام)،أمر عثمان بما سوى المصحف الذي كتبه والمصاحف التي استكتبها منه أن تحرق أو تخرق (أي تدفن) .
وهكذا كان الجمع الثاني للقرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، أشرف عليه بنفسه بمشاركة كبار الصحابة رضوان الله عليهم وموافقتهم وإجماعهم، فجمع بهذا العمل الجليل كلمة المسلمين، وحسم ما ظهر بينهم من خلاف.
تعليق