قدم العالم و تسلسل الحوادث بين شيخ الإسلام ابن تيمية والفلاسفة - كاملة الكواري

تقليص

عن الكاتب

تقليص

سيف الكلمة مسلم اكتشف المزيد حول سيف الكلمة
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    قدم العالم و تسلسل الحوادث بين شيخ الإسلام ابن تيمية والفلاسفة - كاملة الكواري

    قدم العالم و تسلسل الحوادث
    بين شيخ الإسلام ابن تيمية والفلاسفة
    مع بيان من أخطأ في المسألة من السابقين والمعاصرين

    راجعه و قدم لـه
    فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور : سفر الحوالي


    تأليف
    كاملة الكواري
    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:55 م.
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    #2
    تقديم فضيلة د. سفر الحوالى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، والصلاة والسلام على معلم البشرية كل خير وهدى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ……….وبعد :
    فإن الله تعالى برحمته التي وسعت كل شيء قد يسر القرآن للذكر ، وأغنى بالوحي عن وساوس القلوب وأوهام الفكر ، وجعل هذه الأمة أكمل الأمم عقولاً وأعمقها إيماناً ، فهم الآخرون زماناً السابقون فضلاً وإحساناً ، أمة أمية لم تكن تحسب ولا تكتب ولكنها أصح الأمم حساباً(1) وأحفظها كتاباً ، تنال المطالب العالية بالوسائل العادية بل تمشي رويداً وتجيء في الأول ، عجائزها في البادية تفقه من حقائق الوجود ما تقاصرت عنه أكابر العقول في الفلسفات كلها ، الآيات الجلية في متناول يديها بلا عناء والبراهين العقلية تجري على ألسنتها بلا كلفة ، منطقها في نفس لغتها ، وتفكيرها بنفس قلوبها ، فلا محادة بين القلب والفكر ولا مناكرة بين العقل والنقل .
    هذا ما وهبها الله واختصها به ، ولكن سبق القلم باقتفائها آثار من سبقها من الأمم فأبت طائفة منها إلا عبور المضايق الدقيقة وركوب اللجج العميقة بلا
    __________________________________________________
    (1) يعرف هذا من يقارن اضطراب الأمم النصرانية في أعيادها ومواسم عبادتها وثبات هذه الأمة وقل اختلافها ورجوعه غالباً إلى اختلاف المطالع وهذا ثابت حساً وشرعاً ، وبهذه المناسبة نقول ليت الساعين لإزالة اختلاف الأمة في هذه الفروع العملية القابلة للاختلاف يصرفونه إلى إزالة الاختلاف في العقيدة والولاء وإلى الدعوة إلى الاجتماع على تحكيم الكتاب والسنة .

    دليل معصوم ولا اهتداء بالنجوم، وإنما اعتمدوا فيما يزعمون على عقولهم المجردة، فتاهوا وضاعوا ولم يجدوا هناك إلا حطام من تاه قبلهم وضـاع مـن مغامري الأمم المحرومة من نور الوحي ، وخيرهم من عاد إلى الشاطىء كسير الفؤاد حسير النظر ورضي بالتسول مع العجائز المعدمات على أبواب أهل اليقين والثبات .
    إن هؤلاء – وبدون إتهام لمقاصدهم وتنقيص لعقولهم – لم يفقهوا أن النظر العقلي كالنظر البصري له حدوده التي لا يتجاوزها مهما تطورت وسائله واتسعت آفاقه .
    الا ترى أن أكبر مرصد فلكي في العالم ينقلب خاسئاً وهو حسير إذا تعمق في أبعاد الكون ، كما كان ينقلب طرف العربي قبل أربعة عشر قرناً حين يقلبه في السماء مجرداً من كل آلة .
    ألا ترى أن حقائق الرياضيات التي تقطع الأمل في اجتياز حدود العقل البشري لم تتغير في جوهرها منذ " أرخميدس " حتى الآن ، وإن تغيرت الوسائل وتطورت النظريات ، والفرق أن " أرخميدس " كان يعد الأشياء بعدد ذرات الرمل أما العلم الحديث فيقيسها بذرات الكون بل بمحتوى الذرة ، ويستخدم أرقاماً خيالية لا يمكن تسميتها ولا كتابتها فيقول مثلاً : إنك لو افترضت رقماً هو عبارة عن واحد وعلى يمينه من الأصفار ما لو جعلت الأرض ورقة واحدة لوصل خط الأصفار إلى نهايتها بل لو ضاعفت الورقة مليارات الأضعاف ثم قارنت هـذا الرقـم باللانهاية لكانت نسبتـه هـو والرقـم ( واحـد )

    سواء(1).
    ويقول هذا العلم : إن الكون نشأ عن الانفجار العظيم وظل يتمدد ولا يزال ، والسؤال : أين يتمدد بل أين وقع الانفجار ؟ إن العقل البشري لا يستطيع أن يتخيل الانفجار والتمدد إلا في مكان وزمان ، ولكن العلم يقول : إن هذا التخيل خطأ قطعاً ! فالزمان والمكان إنما وجدا داخل العالم لا قبله ولا خارجه ، وإذن فلا جواب على هذا السؤال أبداً ! .
    وهكذا فالزمان والمكان وكل ما تدركه حواسنا من الموجودات هي من النسبية بحيث لا يحق لنا ادعاء تصور كنه حقائقها فضلاً عن التحدث عنها وصدق الله تعالى :  وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً  وصدق جل شأنه حين قال :  ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم  وإذا ثبت هذا في المحسوسات فما بالك بما لا يدخل تحت الحواس ، بل لا يمكن أن يدخل تحت خيالنا المحدود ، فأي سخافة وحماقة ترتكبها أمة الوحي المعصوم حين ترجع في
    ________________________________________________
    (1) وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك مثلاً بأنه لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة في الخردل كله والزل لم ينته ولو قدر ذلك أضعافاً لا تنتهي . وهكذا يتضح أن استدلال المتكلمين ببرهان التطبيق فاسد فلا فرق بين عالم واحد أو حادث واحد وبين ألوف المليارات من العوالم أو الحوادث ما دام أحد طرفي السلسلة لا نهائياً . وإذا قصرت عقولنا عن تصور عدد ما من العوالم أو الحوادث مهما كبر فنحن عن تصور ما لا نهاية له أعجز وبالتالي يكون نفي وجود هذه العوالم غير المتناهية إنما هو هروب من الإقرار بعجز عقولنا والفرض الصحيح هو أن نقر بأن كلا طرفي السلسلة لا نهائي !!
    (2) انظر الكون ، ص19 تأليف كارل ساغان ، عالم المعرفة الكويت رقم 178. .

    هذه الحقائق إلى عقل طاليس وأرسطو وأفلاطون وغيرهم من خراصي الأزمان الغابرة ، في حين أن علماء الكون من سلالة هؤلاء وجنسهم لا يعتدون لهم
    برأي بل لا يذكرون آراءهم إلا على سبيل التمثيل للسذاجة العلمية والبدائية في التفكير ، ولا يخدعنك وصف كبار المتكلمين لهم بأنهم جهابذة الحكماء أو هرامسة الدهور ، فما أدخل الأمة في جحر الضب إلا هؤلاء وأشباههم
    وعليه فحين يدافع شيخ الإسلام عن الحق في قضية دقيقة المنزع بعيدة الغور وهي قضية دوام الحوادث أزلاً وأبداً ويُعمل عقله الجبار وقلمه السيال فيها حتى يستنزف المجلدات وحتى ليكاد الجاهل يحسبه يتكلم بما لا يفهم ويخوض في محيط لا يقتحم فإنما يدافع عن النقل الصحيح والعقل الصريح معاً ، وليس ترفاً من البحث كما قد يظن بعضهم ! ولا ولوعاً بالحشو كما افترى أعداه ! .
    إنه يدافع عن المعرفة البشرية عامة لكي تظل حرة من قيود التقليد وأسر الجمود – دون مبالاة بقول من يقول إنه وافق الفلاسفة الدهرية أو شذ عن إجماع متكلمي الأمة !! – لأنها متى تحررت كانت قادرة على فهم الوحي وإنزاله منزلته فإما أن تؤمن به وإما أن تقوم الحجة الرسالية عليها ، أما خلط حقائق الوحي بزبالات العقول الخراصة فإنه يزعزع إيمان المؤمنين ويكون فتنة للجاحدين وهذا – مع بالغ الأسى – ما فعله المتكلمون .
    لقد أشرقت شمس الإسلام على العالم وهو يتخبط في ركام هائل من مخلفات الأمم الغابرة ، ما بين أديان محرفة وفلسفات متناقضة وعبادات باطلة أهمها هنا الفلسفة اليونانية التي ورثت حثالة الفلسفات وأورثتها لمتفلسفي المسلمين ، واشتهر لها مذهبان أو مدرستان : -
    الأولى : الفلسفة التي تدعي أن وسيلة المعرفة الكشف والإيحـاء ، وتسمى
    الإشراقية ويسميها متفلسفة المسلمين المشرقية وشيخها " أفلاطون " .
    والأخرى : الفلسفة التي تدعي أن وسيلة المعرفة النظر والاستدلال وهؤلاء هم أصحاب المنطق وشيخهم " أرسطو " .
    وكلا النوعين ورث عن بقايا النبوات شيئاً من الحق كما ورث عن قدماء المشركين – لا سيما الصابئة – الشرك بالله تعالى وعبادة الكواكب والسحر وتقديس الأضرحة ، فلا يكاد يثبت لأي منهما في باب الإعتقاد والتأله ابتكار أو إبداع يهتدي به الضال أو يستيقن به الشاك ، وغاية ما أحدثوه في الشكل لا المضمون كما في علم المنطق .
    ومن أعظم القضايا التي خاض فيها هؤلاء بل كل الفلاسفة في قديم الدهر وحديثه قضيتان : -
    (1) حدوث العالم أو قدمه .
    (2) إثبات النبوة أو عدمه .
    وفي القضية الأولى : ذهبت المدرسة الأولى إلى أن العالم محدث بعد أن لم يكن وإن لم تفقه قضية الخلق كما تفقهها الأمم الكتابية . في حين ذهبت الأخرى إلى أن الأفلاك قديمة لا أول لها ، ونسجت عن نشأة الوجود خرافة لا نطيل بذكرها(1) ، وظهر هذا الاختلاف في أتباع كلا المدرستين من متفلسفة المسلمين
    _________________________________________________
    (1) وهي خرافة الجواهر العقلية المجردة أي العقول أو النفوس أو الأرواح الفلكية ، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد . وهذه الطاقة هي أعدى أعداء شيخ الإسلام وكتبه طافحة بالرد عليهم لكن لعدله وعلمه فصل القول فيهم وأقر ما أصابوا فيه لا سيما ما يتعلق بلزاماتهم للمتكلمين ومن هنا قال المفترون إن الشيخ يؤيدهم في هذه المسألة الخطرة ، وقام المدافعون بجهل فسلبوا الشيخ ما هو من أجل مناقبه ! .
    مثلما بين ابن رشد وابن سينا .
    وحينما يتصدى المشتغلون بالكلام المذموم لهؤلاء وأرادوا إثبات حدوث العالم لكن بغير طريق الوحي وعلى غير منهج القرآن دخلوا في المتاهات التي أشرنا إليها وخاضوا فيما لا طاقة للعقول بالاستقلال به ولا قبل لها بالوصول إلى غايته.
    فقد تعمق هؤلاء في الحديث عن أصل الموجودات – أو الحوادث كما سموها – وعلاقة ذلك بأولية الخالق تعالى وتفرده بالقدم ، وارتكبوا خطأ قاتلاً حين قرروا أن العقل يحكم باستحالة حوادث لا أول لنوعها – أي غير مسبوقة بالعدم المطلق – وظنوا أن الرسل جاءوا بإثبات ذات معطلة عن الخلق زماناً ثم خلقت ، وعليه فلا يصح عندهم وصف أفعال الله تعالى بأنها أزلية ! ! .
    والعجب أنهم يسلمون بدوان الحوادث – أو تسلسلها – في المستقبل لكن حصرت عقولهم عن تجويزه في الماضي توهماً منهم أن ذلك قول بقدم العالم وأصروا على هذا الأصل الفاسد الذي لا برهان عليه من عقل ولا نقل حتى أن منهم من شذ فالتزم القول بمنع ذلك في المستقبل أيضاً وقال بفناء الجنة والنار أو فناء حركاتهما !!.
    ووفق الله أهل السنة والجماعة فأثبتوا أن أفعاله تعالى أزلية أبدية وأن ذلك مقتضى اتصافه جل شأنه بصفات الكمال فكانوا بذلك أعمق الناس إيماناً وأسدهم عقولاً وافقوا الحق ووفقوا بين العقل والنقل دون إيغال ولا تكلف ولم يتخلوا عن بعض الحق من أجل إثبات بعضه الآخر . وحسبك بأمثال الإمام أحمد وابن المبارك والبخاري والدارمي علماً وفهماً .
    فهذا لب الصراع في القضية الأولى .
    وأما القضية الأخرى " إثبات النبوة " التي بها يفتح باب السمعيات كافة فتواطأ على إنكارها أو تأويلها الفلاسفة كلهم وتبعهم الباطنية وغلاة الصوفية وخيرهم طريقة من قال : ( إن الشريعة والفلسفة رصيفان والنبي والفيلسوف سيان ) ولا يهمنا هنا من الحديث عنها إلا بيان الرابط بينها وبين الأولى فإن المتكلمين لما أخطأوا في تقرير مسألة حدوث العالم وأصلوا ذلك الأصل الفاسد جاءوا إلى هذه القضية وصاغوا برهان إثباتها بما يرجع إلى الأولى التي ضلوا فيها وتقهقروا فكانت الكارثة مضاعفة .
    لقد صاغ هؤلاء القوم برهان إثبات النبوة وصدق الرسول الذي هو أصل الأصول في سلسلة من القضايا ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من العقل الصحيح برهان ، وهي : -
    ( أنه لا أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ، ولا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح – يعنون المرسل وهو الله تعالى – ولا يثبت أنه لا يفعل القبيح إلا إذا ثبت أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يكون مستغنياً إلا إذا كان غير جسم ، ولا يكون غير جسم إلا إذا ثبت إنه قديم ) (1).
    ومن الواضح أن هذه السلسة كلها تتساقط إذا نقضت قاعدتها أي آخر قضاياها ، فمن زعم أو ادعى أن المرسل غير قديم ، - أو أن العالم قديم – فقد أبطل تلك القضايا كلها ومنها إثبات النبوة ، وكذلك عندهم من زعم أنه جسم ! .
    ________________________________________
    (1) انظر درء تعارض العقل والنقل : 1/97،104،121، و9/133.
    وهكذا استمات هؤلاء واستبسلوا في إثبات أن الأجسام كلها حادثة ، وأن المحدث لها ليس جسماً ، وبالتالي لا يتصف بصفات الأجسام ، ومن هنا وقعوا في التعطيل واتبعوا فلاسفة اليونان في وصف الله تعالى بالتجريد والإطلاق دون صفة ثبوتية ، على تفاوت بينهم في ذلك لكن الأصل الذي اتفقوا عليه في حدوث العالم ومنع دوام الحوادث في الماضي ونفي حلول الحوادث بالله هو الذي دارت عليه مؤلفات القوم وعنه تشعبت أقوالهم .
    فقد ورثوا عن اليونان أن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة(2) [وهي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون] وهذه الأكوان هي في الحقيقة أعراض(2) .
    فمن هنا اعتمدت كل طائفة منهم طريقة في إثبات حدوث الأجسام : -
    1- فالمعتزلة اعتمدوا طريقة الحركة والسكون وتبعهم إمام الأشعرية المتأخرين الرازي .
    2- والأشعرية كالجويني والآمدي اعتمدوا طريقة الأعراض .
    3- والأشعري نفسه والكرامية اعتمدوا طريقة الاجتماع والافتراق(3).
    _______________________________________
    (1) والعرض يقابله الجوهر والجوهر يشمل الجسم وغيره ( انظر الاختلاف في مفهوم الجوهر في المعجم الفلسفي ، حسن حنفي ص85 )
    (2) وللجسم أعراض أخرى كاللون والطعم والرائحة ……والعلماء المعاصرون تاهوا في حقيقة الذرة كما تاه القدماء في حقيقة الجسم .
    (3) انظر درء تعارض العقل والنقل : 1/38، 2/191 وللمسألة صباغات أخرى وهي ( التركيب ، الأعراض ، الاختصاص ) انظر المصدر نفسه 7/141.

    وبعد أن قررت كل طائفة حدوث الأجسام على طريقتها توصلوا إلى إثبات حدوث العالم وقدم الخالق بأساليب مختلفة : -
    إما بالقول بـ (أن ما لم يسبق المحدث محدّث فتكون الحوادث كلها لها أول لأن كلاً منها له أول وما ثبت لآحادها ثبت لمجموعها لأنها ليست سوى آحادها) (1) وهذا أصل نفيهم دوام الحوادث و التشبث بأن لها أولاً مع ما يستلزمه ذلك من لوازم باطلة أظهرها تعطيل الخالق عز وجل عن الفعل أزلاً بل وعن الكلام والإرادة وغيرها . وإما بالقول بـ ( أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ) فوجب عندهم تنزيه الله تعالى عن أن يقوم به ما جعلوه حوادث كالكلام والإرادة والغضب والرضا ، وجعلوا ذلك هو حقيقة الوحيد ، واتهموا من أثبت تلك الصفات إما بانه مشرك لأنه أثبت تعدد القدماء ، أو مجسم مشبه لأنه أثبت لله ما هو من خصائص المحدثات(2) .
    ولم توفق أية طائفة منهم إلى التفريق بين نوع الحوادث وآحادها وأن حكم المجموع قد يخالف حكم الواحد عقلاً وشرعاً وحساً ، وإلى فهم ان نفي اتصاف
    __________________________________________________ __
    (1) وهذا باطل لأن حكم المجموع يفارق حكم الآحاد في أمور كثيرة انظر التفصيل في درء التعارض 9/137 –158 ومع ذلك فإن المجموع شيء والنوع شيء آخر يقول شيخ الإسلام " الفرق معلوم بين قولنا جميع الحوادث لها أول بمعنى أن كل واحد منها له أول وبين قولنا عن جنس الحوادث لها أول بمعنى أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة ولا متسلسلة فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر وهي مع ذلك دائمة مستمرة " المصدر نفسه 9/143، ولما خفي هذا على الدكتور البوطي اتهمه وهاجمه بغير حق ، انظر ص164 من كتاب الباحثة .
    (2) انظر مناقشة هذه المسألة العظيمة في درء التعارض الجزء الثاني كله ففيه تفصيل القول فيها وعلاقتها بقضية دوام الحوادث .
    الرب بالأفعال الاختيارية هو تنقص لكماله شرعاً وعقلاً . بل التزمت كل طائفة لوازم باطلة كالقول بأنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار كما ذهبت المتفلسفة . أو القول بان الفعل هو عين المفعول وأن صفاته تعالى ومنها كلامه مخلوقات منفصلة عنه كما هو مذهب غلاة النفاة من الجهمية والمعتزلة ، أو أنها قديمة لازمة لذاته لا تجدد فيها ولا تعلق لها بإرادته ومشيئته كما هو مذهب الأشعرية ومن وافقهم .
    وهكذا نجد أن الطريق الذي بدأ من قضية واحدة وفرض خطأ وهو أن هذا العالم مسبوق بالعدم المطلق واستخدم ذاك البرهان المزعوم تشعب إلى متاهات لا قرار لها ، فأصبحت هذه القضية ملتقى جملة من الأصول العقدية الكبرى التي تضاربت فيها الآراء قديماً وحديثاً – وكل قضية منها آخذة بعنق أختها فالحديث عن واحدة منها مستلزم الحديث عن الأخريات – وهي : -
    (1) حدوث العالم وطريقة الاستدلال عليه وهل هو مخلوق بالإرادة والفعل الاختياري أم بطريقة الفيض والصدور واستلزام العلة للمعلول الخ .
    (2) الحوادث وهل لها أول او لا أول لها وعلاقة ذلك بما بعده وهو :
    (3) قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى .
    (4) إثبات النبوة والطريق الحق إلى ذلك .
    (5) مفهوم التوحيد أو التنزيه عند طوائف الأمة وغيرهم .

    فالموضوع إذن على جانب عظيم من الأهمية ولابد لمن أراد الانتصار للحق من أمور : -
    (1) أن يرفض تلك السلسلة العقلية المزعومة من أصلها برفض أن يكون
    إثبات النبوة متوقفاً على المعجزات كما فسروها(1) والتأسيس لذلك بأن المعرفة بالله بل وبصدق الرسول  لا تنحصر في النقل وحده بل يتضافر عليها العقل والنقل .
    (2) نقض المقدمات التي قررها المخالفون ونقد المصطلحات التي تركبت منها ( مثل الأزل ، الزمان ، الجسم ، الحادث ، الجوهر ، العرض ، التسلسل ، التغير ، الخ ) .
    (3) إثبات قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى نقلاً وعقلاً واتصافه جل شأنه بكل صفات الكمال المطلق .
    (4) بيان التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب .
    (5) إظهار الفرق بين إثبات قدم نوع الحوادث وإثبات قدم أعيانها وبيان أن قدم نوع الحوادث هو مقتضى إثبات الفعل والإرادة والكلام لله تعالى أزلاً بل هو مقتضى الحياة لأن كل حي فاعل بحسب ما يليق به من أنواع الفعل والله تعالى حي قيوم لا أول لذلك باتفاق المسلمين فلزم إثبات فعله أزلاً .
    وأهل السنة مجمعون على إثبات نوع كلامه أزلاً وإن كانت آحاد كلامه – مثل تكليمه لموسى عليه السلام – حادثة ولهذا سهل عليهم إثبات نوع الحوادث أزلاً لأن فعله تعالى يكون بكلامه إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فثبت له تعالى نوع الكلام ونوع الخلق أزلاً كما ثبت له الحياة أزلاً (2) ________________________________________
    (1) وتفصيله في " النبوات " لشيخ الإسلام ، وشرح الأصفهانية .
    (2) لكن ليس الأزل ظرفاً وجودياً معنياً بل هو أمر مطلق معناه الدوام في الماضي كما أن =
    فهو تعالى لم يزل ولا يزال يخلق شيئاً بعد شيء أو عالماً بعد عالم بلا أول لذلك في الماضي ولا آخر للمستقبل فإن عسر عليك فهم هذا فاعتبره بما لا يزال يخلق في الجنة من أنواع النعيم الذي لا ينتهي أبداً وما قدرته مستقبلاً قدره ماضياً جاعلاً ذلك في النوع لا في الأفراد واستعن على تصور المسألة ومحاجة المخالفين بهذا البراهين المسمدة من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله - : -
    1- أن الحادث المعين والحوادث المتناهية – ولو قدرت ألف ألف ألف حادث – سواء في الحكم بالنسبة إلى ما لا يتناهى(1) وهذا يذكرك بما سبق الحديث عنه في أول المقدمة .
    2- أن افتقار مجموع الحوادث إلى محدث هو مثل افتقار الواحد منها بل أعظم " فليس في تقدير حوادث لا تتناهى ما يوجب استغناءها عن القديم(2) ومن ثم فلا مشابهة بين القول بهذا وقول الفلاسفة الدهرية .
    3- أنه ما من زمن يفترضه العقل حداً لابتداء الخلق إلا أمكنه أن يتصور قبله زماناً ابتدأ فيه الخلق فيكون هذا الزمان الآخر أولاً له وما تصوره العقل في الثاني يصدق عليه ما صدق على الأول وهكذا إلى ما نهاية (3). _______________________________________________
    = الأبد الدوام في المستقبل ، والأزلي هو ما اول له ، أو الذي لم يزل كائناً والأبدي هو الذي لا يزال كائناً ، فإذا قيل إن صفاته تعالى وأفعاله أزلية فمعناه أنه لم يزل متصفاً ، وإذا قيل إنه تكلم في الأزل أو خلق في الأزل لم يكن معناه أنه تكلم أخلق في ظرف مخصوص بل معناه أنه لا أول له وليس مسبوقاً بالعدم .
    (1) النبوات : 60 .
    (2) المصدر السابق .
    (3) النبوات :132.


    فالعقل البشري عاجز عن تصور اللانهاية لكنه يجب أن يتعامل معها باعتبارها حقيقة فلا يتكلف تصورها ولا يتعسف بنفيها .
    4- يمكن للعقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث كما يتصور أنه ما من حادث إلا وبعده حادث وما من عدد إلا وبعده عدد وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل منقضٍ فله آخر وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى(1).
    5- أن يقال لمن يقول إن الله تعالى خلق شيئاً هو أول مخلوقاته بإطلاق أيجوز أن يخلق الله قبله شيئاً أو يمتنع ؟ فإن قال يجوز فهذه هي المسألة فقد أجاز حوادث لا أول لها ، وإن قال لا يجوز فقد قال بغير علم وعطل الباري عن صفاته وسقط في هوة التجهم .
    فالمسألة مع كونها من محارات العقول سهلة على من وفقه الله لفهمها ، وفيها من إثبات عظمة الله تعالى وسعة ملكه وقدم سلطانه ما تعجز العقول عن إدراكه .
    والمقصود : أن هذه الأمور العظيمة والأصول الكبرى إنما جلاها وفصلها وتعمق في معقولها ومنقولها ونقد وقارن وفصل بين الطوائف المختلفة فيها في كلياتها وجزئياتها العالم الفرد والعلم الفذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –(2) الذي
    __________________________________________________ __________
    (1) درء تعارض العقل والنقل : 9/143.
    (2) ولا عجب إذن أن نجدها في معظم مؤلفاته ما بين تطول واسهاب كما في درء التعارض ومنهاج السنة وإشارات مجملة كما في التسعينية والنبوات ، وتوسط كما في فتاوى كثيرة أهمها شرح حديث عمران بن حصين . والمقصود أن قراء الشيخ قديماً وحديثاً =
    قيضه الله لهذه الأمة والناس في هذه الأصول ثلاث طرق : -
    الأولى : المتكلمون الذين سلموا ببعض أصول الفلسفة ، وأصلوا ذلك الأصل الأفسد في حدوث العالم ، وأهملوا ما جاء به الرسول  حتى أنهم في مؤلفاتهم عن الأقوال والفرق لا يكادون يذكرون ما جاء به الرسول  أصلاً .
    وعلى أيديهم حدثت الفتن الجسام كفتنة القول بخلق القرآن وفتنة القول بوجوب التأويل وغيرها .
    وبقيتهم في المتأخرين الكوثري (1) وتلامذته .
    والطائفة الثانية : الفلاسفة المثبتون لقدم العالم وعمدتهم هو نقض ما قرره أولئك إذ شغبوا على أهل الكلام قائلين : كيف تحول الأمر من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتي ؟ وكيف ترجح الفعل بلا مرجح ؟ وغير ذلك من اللوازم فليس لهم على الحقيقة حجة إلا فساد قول أولئك !! .
    والطائفة الثالثة : المنتسبون للسنة والحديث بلا خبرة في العقليات فكانوا فتنة للطائفتين السابقتين وغرضاً لسهام الفريقين ، ومن تفريطهم دخلتا وعلى __________________________________________________ ___________
    = وهم من الكثرة بما لا يخفى – يعلمون أن هذه المسألة من أعظم ما أفاض الشيخ في تقريره وتحريره تبعاً لأهميتها في كتب الكلام ، ولا يجازف بالكلام فيها إلا من لم يتصور أهميتها ولم يقرأ أو لم يفقه ما قاله الشيخ فيها .
    (1) الكوثري ضمن شتمائمه لشيخ الإسلام اعترف بأزمة المتكلمين في هذا فقال : " إن حلول الحوادث في ذات الله محال عند المتكلمين والفلاسفة في آن واحد بل بحلول الحوادث في العالم استدلوا على حدوث العالم فكيف يستجاز ذلك في مبدع العالم جل جلاله ص21 المقدمات الخمس والعشرون بتعليل الكوثري وهكذا أنطقه الله بما يشهد لصحة كلام شيخ الإسلام ولم يضر الشيخ ما أورد من تهم وشتائم .
    أكتافهم تسلقتا وهم الذين عبر عنهم شيخ الإسلام بقوله : " من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان …….."(1) وبقاياهم في زماننا على ثلاثة أصناف :-
    1- من أعرض عن هذه المسائل بالكلية – مع أنها لا تزال تقرر في كثير من معاهد العلم الشرعي في أنحاء المعمورة – وتعلل بالنهي عن الخوض في علم الكلام ، وهذا حق ولكن مسألة على هذا القدر من الأهمية
    بلوازمها واشتهار الكلام فيها لا ينبغي الجل بها ولا تجاهلها(2) وترك أهل البدع يثلمون عرض الشيخ ويفرون اديمه ويفتنون العامة بل طلبة العلم من أهل السنة .
    2- من تجرأ فخطأ شيخ الإسلام وصرح برفض قوله وجعله مخالفاً لما اتفق عليه العلماء(3).
    __________________________________________________ ___________
    (1) مجموع الفتاوى 4/145ويدخل في هؤلاء متكلمو الحنابلة وكثير من شراح كتب السنة قبل شيخ الإسلام وبعده ، انظر مجموع الفتاوى 12/33.
    (2) كثير من علماء أهل السنة وطلبة العلم من محبي شيخ الإسلام لا يكادون يتجاوزون كلامه في الفقه والتفسير والحديث إلى ما كتبه في الرد على الفلاسفة والمناطقة وأهل الكتاب والمتكلمين ، وإنما ظهر الاهتمام بهذه المخالفات منذ زمن قريب على يد طلاب الدراسات العليا بالجامعات .
    (3) انظر تعليق الشيخ الألباني – رحمه الله – في السلسة الصحيحة وقد أوردته الباحثة الفاضلة هنا ص167.
    وللشيخ رحمه الله تعليق آخر على متن العقيدة الطحاوية ص53 طبعة المكتب الإسلامي الثانية هذا نصه ( قلت ذكر الشارح هنا أن العلماء اختلفوا هل القلم أول المخلوقات ، أو العرش ؟ على قولين لا ثالث لهما وأنا وإن كان الراجح عندي الأول ، كما كنت =

    3- من ادعى أن هذا ليس هذا مذهب شيخ الإسلام وجعل ذلك تبرئة لساحته ودفاعاً عنه فكابر عقول قراء الشيخ كلهم ولزمه تخطئة من خالف الشيخ ومن وافقه سواء ، فابن القيم مثلاً مخطىء حين وافق الشيخ على ما ليس مذهبه والألباني مثلاً مخطىء حين خالف الشيخ فيما ليس مذهبه .
    __________________________________________________ __________
    = صرحت به في تعليقي عليه ……..فإني أقول الآن : سواء كان الراجح هذا أم ذاك ، فالاختلاف المذكور يدل بمفهومه على أن العلماء اتفقوا على أن هناك أول مخلوق ، والقائلون بحوادث لا أول لها ، مخالفون لهذا الاتفاق ، لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق ، وهكذا إلى ما لا أول له ، كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه ، فإن قالوا : العرش أول مخلوق ، كما هو ظاهر كلام الشارح ،نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها وإن لم يقولوا بذلك خالفوا الاتفاق ! فتأمل هذا فإنه مهم والله الموفق ) اهـ .
    وبالرجوع إلى أصل كلام الشارح نجد : -
    1- إنه قال ( على قولين ذكرهما الحافظ أبوالعلاء ……..) فحمله " لا ثالث لهما " من كلام الشيخ ناصر .
    2- أنه لم يقل إن العرش أول مخلوق بل قال ( أصحهما أن العرش قبل القلم ) .
    3- أن هذا الكلام إنما هو في الفقرة الخاصة بالإيمان باللوح والقلم أما في الفقرة التي تعرض فيها الشارح للموضوع نفسه أي هل للحوادث أول فكلامه صريح في التقييد بهذا العالم المشهود لا جنس المخلوقات وذلك في جمل كثيرة منها : -
    أ‌- قوله ( واختلفوا في أول هذا العالم ما هو )
    ب‌- قوله عن حديث كتابة المقادير ( فأخبر  أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السموات بخمسين الف سنة ) .
    ج - قوله عن حديث عمران بن حصين ( وقد أجابهم النبي  عن بدء هذا العالم المشهود لا عن جنس المخلوقات " .

    وصدق من قال عدو عاقل خير من صديق جاهل(1).
    _________________________________________________
    = وأوضح من هذا كله وأهم أن الشارح إنما نقل كلامه عن شيخ الإسلام من منهاج السنة 1/360-362 والشيخ أجل من أن يتناقض بل صرح بأن المراد هو هذا العالم لا جنس الخلق .
    وإنما أوردنا هذا لأن شبهة أهل البدع في تكفير شيخ الإسلام أو تضليله هي دعوى مخالفة الإجماع وربما اعتضدوا بكلام الشيخ الألباني – رحمه الله – كما فعل السقاف .
    ويبدو لي ان الشيخ الألباني لم يقرأ كلام شيخ الإسلام فهو يحيل عموماً إلى كتبه عموماً وأجزم أنه لو قرأه مع ما أوتي من التجرد ودقة الفهم لأقره وأيده لا سيما شرحه حديث عمران بن حصين . وعلى أي حال فالشيخ الألباني نقل ص41 من الكتاب نفسه قول الشارح ( ………أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء …….وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً وهذا المأثور عن أئمة السنة والحديث ) وقد أقر الشيخ هذا القول وهو حق وهذا بعينه قول شيخ الإسلام عن صفة الخلق فنوع المخلوقات قديم قدم نوع الكلام وإن لم يكن شي من المخلوقات المعينة قديماً ومخلوقاته هي أثر كلماته قال تعالى :  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  وقال  ألا له الخلق والأمر  فمن سلم بمذهب أهل السنة في الكلام فليسلم بكلامهم في الخلق كما ذكره شيخ الإسلام مؤيداً كلامه باقوال أئمة السنة فيه كالإمام أحمد والبخاري وابن المبارك والدارمي ومن قبلهم من الصحابة والتابعين .
    ومما يجلي ذلك ان شيخ الإسلام قد نص على أن أشباه النوع بالعين وقع لكثير من الناس في الخلق كما وقع في الكلام انظر ( مجموع الفتاوى 12/184-191و154-157 وكذلك منهاج السنة 1/195 وغيرها ) . والشيخ الألباني – رحمه الله – لم يقع له الاشتباه في الكلام بل نقل قول الشارح كما ذكرنا عارفاً بمضمونه مقراً له لكن وقع له الاشتباه في الخلق كما رأيت فلعل الشيخ زهيراً الشاويش الذي أعد الكتاب وقدم له يستدرك هذا .
    (1) انظر مع ما ذكرت الباحثة الفاضلة كتاب " الرد العلمي على حبيب الرحمن الأعظمي " ج2 ص20.
    ولا ريب أن المسألة بتفصيلاتها ولوازمها دقيقة المنزع وعرة المسلك بعيدة الغور إلا أننا نذكر خلاصة ما يجب على المسلم – لا سيما طالب العلم – معرفته في هذا الشأن وهو هذه الأمور : -
    1- أن الله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء .
    2- أن الله تعالى متصف بصفات الكمال أزلاً وأبدلاً ومنها كونه خالقاً لما يشاء متى شاء فعال لما يريد فلم يأت عليه زمن كان معطلاً فيه عن الخلق او الكلام أو غير ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله .
    3- أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق له مربوب كائن بعد أن لم يكن .

    وبعد هذا إن أمكنه أن يفهم الفرق بين النوع والآحاد وبين حكم الواحد وحكم المجموع فقد انكشف له أصل المسألة ، وإن لم يفهمه فلا يضيره الوقوف بالساحل وإنما الضير في التخبط بلا هدى ، وأسوأ منه الجهل المركب الذي اشترك فيه من كفروا الشيخ أو خطأوه ومن دافع عنه بنفي ما يعلم كل مطلع على كتبه أنه من مشهور أقواله .
    وقد كان من دواعي دهشتي وإعجابي أن تتصدى الباحثة الفاضلة لهذا الموضوع الذي قصرت عنه همم كثير من المتخصصين وتقدم عليه حين أحجموا وتفهم ما عجز عن فهمه كثير من أهل السنة والبدعة على السواء ، وتطلع بهذا المؤلف الذي يدل على عمق في التفكير وجلد على البحث العسير مما يبشر لها بمستقبل علمي زاهر بإذن الله تعالى وإنني إذ أسجل شكري لها وإعجابي بعملها لأوصيها بأن تفيد من ملاحظات العدو والصديق على السواء ؛ وأن تجتهد في تحسين الأسلوب والصياغة ليتناسب مع ما لديها من عمق الفكرة وجودة الفهم ودقة الملاحظة ولا أحسب هذا عليها صعباً بإذن الله ، والله الموفق للصواب المتكرم بالقبول والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً،،،

    سفر بن عبدالرحمن الحوالي
    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:54 م.
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره

    تعليق

    • سيف الكلمة
      إدارة المنتدى

      • 13 يون, 2006
      • 6036
      • مسلم

      #3
      مقدمـــــة المــؤلفــــة

      كاملة كورى


      بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين أما بعد ،،
      فإن من سنن الله أن يبتلى عباده المؤمنين وأكملهم الأنبياء ولهذا كانوا أكثر بلاء ـ وان من مظاهر ذلك أن خلق الله من يعاديهم فخلق لإبراهيم عليه السلام النمرود ، ولموسى عليه السلام فرعون ، ولمحمد  أبا جهل وأبا لهب وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً 
      وبعد الأنبياء يبتلى الصالحون الأمثل فالأمثل وإن من بين هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية الذي شهد التاريخ وسجل في صفحاته كم لاقى من صنوف البلاء وأنواع المحن إلا ان هناك محنة وقع فيها تكاد تكون مشتركة لأكثر الناس وهي محنة الافتراء والكذب والظلم للإنسان حسداً أو حقداً أو كرهاً ، أو لغير ذلك من الأسباب ، وقد يطعن الطاعن فيه جهلاً من غير قصد كأن لم يتحقق من كلامه بل من وشاية سمعت ، أو ظاهر عبارة لم يقصد مرادها وله نص صريح يخالف هذا الظاهر ولم يقف عليه الطاعن ، أو غير ذلك .
      ولقد كثر الطعن في شيخ الإسلام بسبب ما نسب إليه من القول بقدم العالم وأنه وافق في ذلك الفلاسفة من أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد وحكموا عليه بالضلال أو الكفر !!!!
      وليست هذه الفرية من صنع أجيال اليوم وأقلام الحاضر بل هي من قرون قديمة من صنع معاصريه ثم استمرت إلى زماننا هذا حتى تورط بعض محبي شيخ الإسلام ومن هم على عقيدة السلف الكرام ، بمقالة الطاعنين بل صرحوا بمخالفة ما قاله شيخ الإسلام .
      وكم كنت أتمنى أن يدافع عنه العلماء القادرون وبخاصة من أهل نجـد أو الحجاز الذين اشتهروا بالدفاع عن عقيدة السلف وحمل لوائه ونشره .
      ولم أر في عيوب الناس عيباً **** كنقص القادرين على التمام
      وقد فكرت منذ زمن أن أكتب في هذا الموضوع إلا أني كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ، أما سبب إقدامي فسأذكره في الباعث على الخوض في هذا الموضوع ، وأما تأخيرها فخشية عدم الاتقان والتوفيق وقد قال شيخ الإسلام في درء التعارض (1/357) :
      فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفى بموجب العلم والإيمان ، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ، ولا أفاد كلامه العلم واليقين ا 0 هـ .
      ثم شرح الله صدري للكتابة مستعينة به ومتوكلة عليه  ومن يتوكل على الله فهو حسبه 
      الباعث على الخوض في غمار هذا الموضوع :
      الذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع أمور :
      1- علمي بالظلم الذي وقع على شيخ الإسلام في هذه المسألة حتى نسب إلى الكفر !!!
      2- استمرار أهل الباطل في نشر هذا الطعن والاتهام بكل وسائل الدعوة المرئية والمكتوبة والمسموعة حتى صدق محبو شيخ الإسلام هذه الفرية بل وكانوا على استحياء منها وودوا ألا يلج ابن تيمية هذا المولج!!
      3- أنني لم أجد من جلّى هذه المسألة ووضحها وإن كان لبعضهم جهد مشكور سأذكره .
      4- وقوع كثير من طلبه العلم الذين هم على عقيدة السلف في اللبس ، وعدم فهم مراد شيخ الإسلام مع انهم يعتقدون بأن الله لم يزل فعالاً وخالقاً ومتكلماً ، وهذا هو مراد شيخ الإسلام كما سيتضح ، وبعضهم يقول هو خالق بالقوة وهذا تجويز لحوادث لا أول لها كما سيأتي .
      5- إحجام أهل الحق عن الكتابة خشية طعن الخصوم ، وخشية عدم فهم كلام شيخ الإسلام.
      الجهود السابقة في الموضوع :
      هناك جهود وكتب في هذا الموضوع منها :

      1- شرح الصدر في السؤال عن أول هذا الأمر لمنصور بن عبد العزيز السماري .
      2- موقف ابن تيمية من الأشاعرة د 0 عبد الرحمن المحمود .
      3- موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية .
      4- دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية لمراد شكري .
      5- الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د 0 عبد القادر صوفي .
      وهناك مؤلفات شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في هذه المسألة.
      منهجي في البحث :-
      سلكت في كتابة البحث المنهج الآتي :-

      1- ذكرت الأدلة التي للمتكلمين على هذه المسألة .
      2- وضحت أهم المصطلحات التي تعين على فهم المقصود .
      3- بينت الفرق بين قول الفلاسفة وقول ابن تيمية .
      4- جعلت مبحثاً خاصاً نقلت فيه أقوال شيخ الإسلام من الفتاوى ، ومنهاج السنة ، ودرء التعارض ، ينكر فيه قدم العالم أو ان الله موجب بالذات ، وقد أكثرت من هذه النقولات حتى يقول القارىء : لقد أيقنت أن شيخ الإسلام لا يقول بقول الفلاسفة !
      5- أفردت مبحثاً خاصاً نقلت فيه أبيات ابن القيم في النونية في القدم النوعي وأثبتها سواء كانت في أول الكتاب ، أم وسطه ، أم في آخره مع شرح خليل هراس ليكون مراجعة للقارئ لها نظماً بعد ان قرأ الموضوع نثراً ، وبخاصة أنني أحقق الكتاب وسيخرج قريباً إن شاء الله
      خطة البحث :
      قسمت البحث إلى تمهيد وموضوع وخاتمة .
      أما التمهيد فقد ذكرت فيه فرعين :
      الفرع الأول : بيان أساس المسألة والمدخل لتصورها.
      الفرع الثاني : بيان الأصل الذي بنى عليه المبتدعة مذهبهم.

      أما الموضوع ففيه خمسة مباحث :
      المبحث الأول : بيان المصطلحات التي تعين على فهم الموضوع وفيه ثلاثة مطالب :
      المطلب الأول : القدم النوعي .
      المطلب الثاني : الحوادث .
      المطلب الثالث : التسلسل .
      المبحث الثاني : أقوال الناس في المسألة وفيه مطلبان :
      المطلب الأول : قول المتكلمين وفيه تمهيد وفرعان :
      أما التمهيد ففيه بيان اختلاف المتكلمين في هذه المسألة .
      وأما الفرعان فهما :
      الأول : قول الجهمية والرد عليهم .
      الثاني : قول الكلابية والأشعرية مع ذكر أدلتهم والرد عليها .
      المطلب الثاني : قول السلف وأدلتهم على ذلك .
      المبحث الثالث : المخالفون لابن تيمية ونقل كلامهم في ذلك .
      المبحث الرابع : النقول المستفيضة عن ابن تيمية في إنكاره قدم العالم ، والفرق بين قوله وقول الفلاسفة .
      المبحث الخامس : ذكر أبيات نونية ابن القيم المتعلقة بالموضوع مع شرح خليل هراس .
      الخاتمة : وفيها خلاصة البحث .






      التمهيد وفيه فرعان :
      الفرع الأول : بيان أساس المسألة والمدخل لتصورها .
      الفرع الثاني : بيان الأصل الذي بنى عليه المبتدعة مذهبهم.











      الفرع الأول : بيان أساس المسألة والمدخل لتصورها :
      ينبغي أن يعلم أن أساس هذه المسألة والمدخل لتصورها وفهمها على حقيقتها وإدراك أهمية الخلاف فيها هو : هل يقال بدوام فاعلية الرب وأنه لم يزل فاعلاً ؛ ولم يأت يوم وهو معطل عن الفعل أم لا ؟
      فمن قال بذلك كان قائلاً بالقدم النوعي أو وجوب تسلسل الحوادث أي أفعال الرب ومن ثم بجواز تسلسل الحوادث أي المخلوقات أو الآثار (1) .
      ومن نفى دوام فاعلية الرب قال بعدم التسلسل إلا أنهم اختلفوا فمنهم من قال ان الفعل كان ممتنعاً عليه كالجهمية ، ومنهم من قال ان الفعل كان ممتنعاً منه كالكلابية والأشعرية كما سيأتي .
      والدليل على أن هذا هو أساس المسألة واضح من كلام شيخ الإسلام وكلام المخالفين .
      وأنقل كلام اثنين ممن صرح بذلك وان كانوا كثيرين :
      1- زاهد الكوثري رحمه الله في حاشيته على السيف الصقيل ص85 حيث قال : القول بدوام فعله في جانب الماضي قول بحوادث لا أول لها ، وقد سبق تسخيف ذلك مرات ا 0 هـ
      وقال في 81: ونسجل هنا على الناظم قيام الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى ، واعتقاده ان هذه الحوادث لا أول لها ا 0 هـ .
      2- د 0 محمد عبد الستار نصار في كتابه العقيدة (1/228) حيث قال :
      __________________________________________________
      (1) سيأتي أن الحوادث يطلق على الأمرين .

      ((العالم عند النظام له بداية ونهاية ، أي أنه مخلوق بعد العدم المحض ، خلافاً لما ذهب إليه جمهور الفلاسفة ، اعتقاداً منهم بأنه معلول لعلة قديمة ، والعلة والمعلول – في نظرهم – متساوقان في الزمان والوجود ، وهم لا يتصورون مدة يكون " الله " فيها معطلاً عن الفعل ، من ثم يذهبون إلى " الفاعلية " المستمرة أزلاً وأبداً ، وقد وافقهم على هذا الرأي بعض المفكرين الذين ينتسبون إلى المذهب السلفي ، وقد طوعوا لمذهبهم هذا ، بعض الآيات القرآنية ، مثل قوله تعالى : فعال لما يريد  وفهموا من هذه الآيات دوام الفعل أزلاً وأبداً ، ولم يغفلوا عن اللازم الذي يترتب على هذا الفهم ، وهو أن يكون مع الله قديم سواه ، فقالوا بقدم جنس العالم وحدوث أعيانه .
      ولا شك في أن هذه المسألة من أعقد المسائل التي تصادف الباحث في العقائد ، وذلك لأن القول بالمقابل ، وهو حدوث العالم ، يؤدي إلى اشكالات كثيرة ، أثارها الفلاسفة في وجه القائلين به ، منها : تعطيل القدرة الإلهية في الأزل عن المباشرة في تعلقاتها ، ومنها : أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد تجددت له إرادة لم تكن موجودة قبل إيجاد العالم ، …الخ .
      وبالرغم من أن هذه الإشكالات مردود عليها من قبل القائلين بحدوث العالم إلا أن القضية ليست سهلة بحيث يسلم أحد الفريقين لصاحبه ، وتنتهي إلى أحد طرفيها ، والقائلون بالقدم لهم في تفسير كلمة " خلق " التي وردت في القرآن الكريم ، فهمهم الخاص ، فهو عندهم ليس إيجاداً من العدم المحض كما يرى القائلون بالحدوث ، وإنما يعني عندهم : صدور العالم – المعلول – عن علته – الله – على سبيل الفيض الأزلي ، بل ربما اعتمد بعضهم على ظاهر بعض الآيات القرآنية التي تفيد أن الله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر ، وتعنى الأولية في نظرهم : ألا يكون مسبوقاً بالعدم ، ولا تعنى ألا يقارنه في الوجود الأزلي شيء هو معلوله ، كما أن الأخروية يعني ألا يلحقه عدم ، ولا تعني : ألا يساوقه في الوجود الأبدي شيء ، كما ذهب بعض فلاسفة الإسلام – وهو ابن رشد – إلى أن ظاهر قوله تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء  يدل على أنه كان هناك موجود قبل خلق السماوات والأرض هو العرش والماء ،وزمان قبل هذا الزمان ، هو المقارن لذاك الوجود)) ا0هـ
      ويلاحظ في كلامه أمور :
      (1) أن أساس المشكلة هو القول بدوام فاعلية الرب كما ذكرنا .
      (2) أنه قد قرر أن دوام فاعلية الرب يلزم منه قدم شيء مع الله ، والأمر ليس كذلك كما سيأتي .
      (3) انه جعل قول ابن تيمية وان لم يصرح باسمه موافقاً لرأي الفلاسفة ، مع أن الفرق بينهما شاسع فالفلاسفة لا يقولون بان الشيء مسبوق بالعدم بخلاف ابن تيمية الذي يقول بذلك ويكفر من لا يقول به وسوف نعقد مبحثاً خاصاً في الفرق بين كلام ابن تيمية وكلام الفلاسفة إن شاء الله.
      (4) ان المتكلمين الذين لم يقولوا بقول الجهمية بل قالوا ان الفعل كان ممكناً وليس ممتنعاً إلا أن المقدور ممتنع !! وسيأتي بطلان ذلك ومنه ما ذكره الدكتور بقوله : ان ذلك يؤدي إلى تعطيل القدرة الإلهية في الأزل عن المباشرة في تعلقاتها .
      الفرع الثاني : بيان الأصل الذي بنى عليه المبتدعة مذهبهم : (1)
      قبل أن ندخل في صلب الموضوع ، ونذكر أقوال الناس في المسألة أود أن أبين السبب الذي أوقع المتكلمين في تعطيل الرب عن الفعل أزلاً فأقول :
      إن القوم لما أسسوا لهم أصلاً ، وبنوا عليه جميع قواعدهم ، فقادهم هذا الأصل الفاسد رغماً عنهم إلى التعطيل والإنكار وهذا الأصل هو امتناع قيام الحوادث بذاته إذ لو قامت به الحوادث من الأفعال لوجب القول بتسلسلها وتعاقبها لا إلى أول وهو يؤدي إلى تسلسل الأعيان التي هي المفعولات فتكون قديمة فينسد طريق إثبات الصانع لأن الطريق إلى إثباته هو انفكاكها عنه ولهذا قالوا ببطلان التسلسل ولزوم حدوث الأجسام .
      وحدوث الأجسام هو المسمى بدليل الأعراض ، أو دليل حدوث العالم ، أو دليل حدوث الأجسام والأعراض ، وكلها أسماء لدليل واحد .
      وقد ابتدعت الجهمية والمعتزلة هذا الدليل ، تم تبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية والماتريدية وغيرهم ، بل بالغوا في الأمر وغلوا فيه حتى قالوا إن من لا يعتقد حدوث الأجسام لا أصل لاعتقاده في الصانع .
      وقد زعموا :
      1- أنّ إثبات الصانع لا يُعرف إلا بالنظر المفضي إلى العلم بإثباته .
      2- وبعد النظر تبين لهم أن العلم بإثبات الصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم ؛ إذ الحدوث هو العلة المحوجة إلى المؤثر ، وإذا ثبت أن العالم
      __________________________________________________ __________
      (1) وتتمة للموضوع ذكرت مسألة الخلق والمخلوق لصلتها بالأمر فانظر ذلك كله في الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د.عبد القادر بن صوفي .
      حادثٌ ، فلابد له من محدثٍ يُخرجهُ من حيز العدم إلى حيز الوجود .
      3- وقالوا : إن إثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بإثبات حدوث الأجسام .
      4- وحدوث الأجسام يُعلم : بلزومها للأعراض ؛ التي هي الصفات أو لبعضها ؛ كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، وهي التي تُعرف بالأكوان .
      وتقرير هذا - عندهم يحتاج إلى مقدمات منها :
      - إثبات امتناع حوادث لا أوّل لها .
      وإثبات حدوث الأجسام بامتناع حوادث لا أوّل لها مبني على مقدمتين أساسيتين :
      1- المقدمة الأولى : امتناع خلوّ الجسم من الأعراض التي هي الصفات .
      حيث قالوا إن الأجسام لا تخلو عن أعراض حادثة وصفات وأفعال تعتقب عليها .
      2- المقدّمة الثانية : ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض - أو ما لا ينفك عن الصفات ، أو ما لا يسبقها - فهو حادث ؛ لأنّ الصفات ، التي هي الأعراض - لا تكون إلا محدثة - بزعمهم .
      وتنوعت عباراتهم :
      - فتارة يقولون : كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث .
      - وتارة يقولون : كل ما لم يسبق الحوادث فهو حادث (1).
      __________________________________________________
      (1) وهذه الطريقة يلزم من إثباتها إثبات ثلاثة براهين هي : =
      - وتارة يقولون : ما قامت به الحوادث فهو حادث .
      - وتارة : ما حلت به الحوادث فهو حادث
      - وتارة : ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث .
      إلى غير ذلك من العبارات المتنوعة الألفاظ ، المتقاربة المعنى وقد نفى المعطلة أن يكون الله تعالى جسماً تقوم به الأعراض والحوادث ، ونفوا بالتالي أن يكون محلاً للحوادث ؛ لأن من كان محلاً للحوادث ، فلابد أن يكون حادثاً ؛ إذ الحوادث - على حد قولهم - لا تحل إلا بحادث مثلها ؛ لوجوب أن يكون لها أول - في نظرهم - وهو المراد من أصلهم : (امتناع حوادث لا أول لها )
      فسمت الجهمية والمعتزلة الصفات أعراضاً :
      وقالوا : لو قلنا : إن الصفات تقوم به ، للزم أن يكون جسماً ، والأجسام حادثة ؛ لأنها لم تسبق الحوادث ، ولا تخلو عنها ، وما لا يسبق الحوادث ، ولا يخلو عنها ، فهو حادث .
      وأطلقت الكلابية والأشعرية والماتريدية على أفعال الله تعالى اسم حوادث .
      ________________________________________
      أ‌- إثبات حدوث الأعراض بدليل الحركة والسكون ، وإثبات حدوث الأعراض ببطلان الحركة عند مجيء السكون ، فانقطاع الحركة عند السكون دليل على أن الأعراض حادثة.
      ب‌- إثبات حدوث الأجسام بدليل أن الأجسام لم تسبق الحوادث أي لم تسبق الأعراض والدليل على ذلك هو عدم انفكاك الأجسام عن الأعراض إذ لا أجسام ولا جواهر بدون أعراض فهي إذاً معها أو بعدها .
      جـ- فالأجسام حادثة لأنها لم توجد قبل الأعراض فلم تكن هذه الأعراض سابقة للجسم بل موجودة معه أو بعده فوجب القول بحدوثه.
      وقالوا : لو قلنا : إن الله تقوم به الصفات والكلام ، للزم قيام الحوادث به ؛ لأن
      هذه الصفات حادثة ؛ حدثت بعد أن لم تكن ، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث .
      فعطلت هذه الفرق المبتدعة الله جل وعلا عن كل صفاته ، أو بعضها ، مستندة إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام .
      ولكل فرقة من هذه الفرق توجيه خاص بها لهذا الدليل يوضح مذهبهم في نفي الصفات .
      • يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " لأجل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض : التزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم : نفي صفات الرب مطلقاً ، أو نفي بعضها ؛ لأن الدال عندهم على حدوث هذه الأشياء : هو قيام الصفات بها ، والدليل يجب طرده ؛ فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به ، وهو أيضاً في غاية الفساد والضلال ولهذا التزموا القول بخلق القرآن ، وإنكار رؤية الله في الآخرة ، وعلوه على عرشه…إلى أمثال ذلك من اللوازم التي التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم "
      • فأنكرت الجهمية والمعتزلة - لأجل هذا الدليل - صفات لله تعالى كلها .




      الخلق والمخلوق والفعل والمفعول :

      ترتب على إيجاب المتكلمين أن يكون للحوادث مبدأ إيجاب آخر ؛ هو قولهم : كل ما تقارنه الحوادث فهو حادث .
      فمنعوا بسبب ذلك أن يكون الباري جل وعلا لم يزل فاعلاً بمشيئته وقدرته ، وأوجبوا نفي أفعال الله تعالى الاختيارية ، بحجة أنها حوادث يجب تنزيه الله تعالى عنها .
      ولما قيل لهم : إن قولكم أن الله تعالى خالق العالم بعد أن لم يكن العالم موجوداً : هو قول بحلول الحوادث به جل وعلا : أجابوا بمذهبهم المشهور : الخلق هو المخلوق .
      وقولهم هذا يعني أن صفة الخلق لم تقم بالخالق عند الخلق ، وإنما وجد المخلوق منفصلاً عنه ، من غير صفة قامت بخالقه ، ولا سبب اقتضى إيجاده فجعلوا مفعوله هو فعله وهذا خلاف الكتاب والسنة ، وخلاف المعقول الصريح.
      ومسألة الخلق والمخلوق ، والفعل والمفعول تحتاج إلى مزيد بيان فنقول :
      لا ريب أنا نشهد الحوادث ؛ كحدوث السحاب ، ونزول المطر ، ونبات الزرع ، وإثمار الشجر ، وطلوع الشمس وغروبها ، وحدوث الإنسان ، وغيره من الحيوان ، وفنائهم ، وتعاقب الليل والنهار ، وغير ذلك من الحوادث المشاهدة فهذه كلها حوادث ، ومعلوم بضرورة العقل أن المحدث لابد له من محدث .
      " ومعلوم أن المحدث الواحد لا يحدث إلا بمحدث ، فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدث أولى ، وكلها محدثات ؛ فكلها محتاجة إلى محدث وذلك لا يزول إلا بمحدث لا يحتاج إلى غيره بل هو قديم أزلي بنفسه سبحانه وتعالى "
      وهذا الإحداث للمخلوقات من أفعال الله الاختيارية التي معرفتها والعلم بها من أعظم الأصول ؛ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
      ومن الأمور المتفق عليها عند جميع طوائف الأمة : أن السموات والأرض ، محدثتان مخلوقتان ، وجدتا بعد أن لم تكونا .
      ومما اتفقوا عليه أيضاً : أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض ، وأن هذه المخلوقات وجدت منفصلة عن الله تعالى .
      وإنما اختلفوا في قيام صفة الخلق بالله جل وعلا لما خلق السموات والأرض : هل قامت به ، أم لا ؟ .
      وقد تقدم معنا : أن دليل الأعراض وحدوث الأجسام وضع أصلاً لإثبات حدوث العالم .
      وحدوث العالم ووجوده بعد أن لم يكن لابد له من محدث خالق قامت به صفة الخلق عند إيجاده وهذا من بدهيات العقول .
      ووفق تعبير أهل الكلام : تكون قد قامت بالله تعالى عند خلقه للعالم : الحوادث التي لم تكن موجودة من قبل .
      ومن أصولهم المتفرعة عن دليل الأعراض : ما قامت به الحوادث ، أو ما لم يخل عن الحوادث: فهو حادث .
      وثمة سؤال مربك يمكن للقائلين بقدم العالم أن يعترضوا به على هؤلاء أصحاب دليل الأعراض القائلين بحدوثه ، سيما إذا علموا نفيهم لقيام أفعال الله الاختيارية بذاته جل وعلا ، استناداً إلى قولهم : ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث .
      وهذا السؤال أجاب عليه بعض أصحاب دليل الأعراض وحدوث الأجسام - وهم نفاة قيام الأفعال الاختيارية بذاته جل وعلا - بقولهم الخلق هو المخلوق ، والفعل هو المفعول .
      ومما لا شك فيه أن قائلي هذه المقالة إنما قالوها هرباً من القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى - بزعمهم .
      ومعنى قولهم : الخلق هو المخلوق ، والفعل هو المفعول : أن صفة الخلق ، أو الفعل لم تقم بالله تعالى ، ولا يمكن أن تقوم به ؛ استناداً إلى أصلهم : ما قامت به الحوادث فهو حادث ، فأثبتوا خالقاً لا خلق له وهذا ممتنع في بديهة العقول .
      وهم يقولون : الموجب للتخصيص بحدوث ما حدث دون غيره : هو إرادة قديمة أزلية هي المخصص لما حدث .
      وإنما قالوا أزلية ؛ لأنه لم يقم بالله شيء يكون مراداً ، ولا يقوم به وهذه الإرادة القديمة أزلية لم تزل - عندهم - على نعت واحد ، ثم وجدت الحوادث بلا سبب أصلاً .
      ويقولون عن هذه الإرادة : من شأنها أن تتقدم على المراد تقدماً لا أول له .
      " فوصفوا الإرادة بثلاث صفات باطلة ، يعلم بصريح العقل أن الإرادة لا تكون هكذا وهي المقتضية للخلق والحدوث ، فإذا أثبتت : فلا خلق ولا حدوث "
      ومن هنا قلنا آنفاً : إن هؤلاء - في الحقيقة - لم يثبتوا خالقاً .
      لأن حقيقة قولهم : أن الرب تعالى لم يكن قادراً ، ولا كان الكلام والفعل ممكناً له ، ولم يزل كذلك دائماً مدة ، ثم أنه تكلم وفعل من غير سبب اقتضى ذلك ، ومن غير أن يقوم بذاته فعل ، بل فعله هو مفعوله .
      وهذا قول طائفة : كالجهمية ، وأكثر المعتزلة ، وسائر الأشعرية ، كأبي الحسن الأشعري ، ومن وافقه من أصحابه ؛ كأبي المعالي ، وغيره ، ومن وافقهم من الفقهاء ؛ كابن عقيل وغيره .
      التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:54 م.
      أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
      والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
      وينصر الله من ينصره

      تعليق

      • سيف الكلمة
        إدارة المنتدى

        • 13 يون, 2006
        • 6036
        • مسلم

        #4
        المبحث الأول : بيان المصطلحات التي تعين
        على فهم الموضوع وفيه ثلاثة مطالب
        المطلب الأول : القدم النوعي .
        المطلب الثاني : الحــوادث .
        المطلب الثالث : التسلسل .



        المطلب الأول : القدم النوعي للعالم أو قدم المخلوقات النوعي :

        هذا المطلب من أهم مطالب هذا الكتاب ومن هداه الله إلى فهم هذا المطلب زال عنه كثير من الإشكالات التي أوردها الخصوم على شيخ الإسلام ، وسوف ننقل من كلام شيخ الإسلام ما يؤيد مقصودنا وقبل ذلك نريد أن نبين أنه قد فهم كثير ممن انتقد شيخ الإٍسلام بأنه يقوم بقدم العالم بمعنى أنه لم يزل مع الله ، وأن الله موجب بالذات وليس فاعلاً بالاختيار كما نقل عنه الهيتمي وغيره ممن سيأتي نقل أقواله في مبحث خاص إن شاء الله ، والآن نبين معنى القدم النوعي للعالم فنقول وبالله التوفيق .
        المشهور في تعريف القدم هو ما لم يسبقه عدم ، قال المناوي في التوقيف ص576:
        وقال الراغب : القدم الحقيقي : ما لم يسبقه عدم ، وهو المعبر عنه بالقدم الذاتي المختص بالباري تقدس .
        والقديم : ما لا يسبقُ وجوده عدم ، وهو معنى قولهم : ما لا ابتداء لوجوده .
        وكذا قال الجرجاني في التعريفات ص221 ، وأبو البقاء الكفوي في الكليات ص727 ، والطوفي في شرح مختصره (1/64) .
        ومن هنا وقع الإشكال في فهم كلام شيخ الإسلام لأن القدم إذا كان معناه ما لم يسبقه عدم فإن هذا يشمل النوع والفرد وهو قول الفلاسفة بلا شك ، وهؤلاء لم يقرأوا كلام شيخ الإسلام في القدم لأن القدم في كلام شيخ الإسلام له معنيان :
        أحدهما : القدم الذي لم يسبقه عدم كذات الله وصفاته اللازمة له عيناً كالحياة مثلاً كما ذكره في الصفدية (2/146) .
        الثاني : القدم بمعنى الشيء المتعاقب شيئاً بعد شيء أي أنه مسبوق بالعدم من حيث عين الفعل والمفعول لكنه متعاقب ومستمر فيطلق على الفعل المتعاقب والمفعول المتعاقب انه قديم أيضاً لكن من حيث النوع المتوالي وعدم سبق العدم عليه واضح من كون لازم ذلك أن يكون الرب معطلاً ثم خلق كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام عن أهل الكلام ولهذا قال في الصفدية (2/47) في بيان المعنيين السابقين :
        ولفظ القديم والأزلي فيه إجمال . فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجوداً ليس لوجوده أول ، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئاً بعد شيء ، فنوعه المتوالي قديم ، وليس شيء منه بعينه قديماً ولا مجموعه قديم ، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار ، فالتأثير الدائم الذي يكون شيئاً بعد شيء ، وهو من لوازم ذاته ، هو قديم النوع ، وليس شيء من أعيانه قديماً ، فليس شيء من أعيان الآثار قديماً ، لا الفلك ولا غيره ، ولا ما يسمى عقولاً ولا نفوساً ولا غير ذلك ، فليس هو في وقت معين من الأوقات مؤثراً في حادث بعد حادث ، ولكنه دائماً مؤثر في حادث بعد حادث ، كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثراً في مجموع الحوادث ، بل هو مؤثر شيئاً بعد شيء ، وهو مؤثر في حادث بعد حادث وقتاً بعد وقت ، فإذا كان المفعول مستلزماً للحوادث لم يفعل إلا والحوادث مفعوله معه ، وهي وإن كانت مفعولة فيه شيئاً بعد شيء ، فالمحدث لها شيئاً بعد شيء إن أحدث مقارنها في وقت بعينه ، لزم أن يكون محدثاً من جملتها ، وهو المطلوب .
        وإن قيل : هو مقارن له قديم معه بحيث يوجد معه كل وقت .
        قيل : فهذا لا يمكن إلا إذا كان علة موجبة له لا محدثاً له .
        وقال أيضاً (2/87) :
        وقد يقال في الشيء : إنه قديم ، بمعنى أنه لم يزل شيئاً بعد شيء ، وقد يقال : قديم بمعنى انه موجود بعينه في الأزل .
        وقال أيضاً 2/144) :
        ولكن النوع أزلي ، بمعنى وجوده شيئاً فشيئاً ، فيكون الفعل المشروط به موجوداً شيئاً فشيئاً ، لامتناع وجود المشروط بدون الشرط ، وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئاً فشيئاً كان المفعول كذلك بطريق الأولى ، لامتناع تقدم المفعول على فعله ، فلا يكون فعل دائم معين ، فلا يكون مفعول معين دائم .
        وقال أيضاً في (1/37) :
        غايته أنه يلزم قيام الأفعال المتعاقبة بالواجب نفسه وهذا قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم وطوائف من أهل الكلام والفلسفة ا0هـ .
        وقال في (1/77) :
        قيل : النوع لا يوجد إلا متعاقباً ، فيكون تمامها متعاقباً لا أزلياً ، وذلك إنما يكون بما يقوم بها شيئاً بعد شيء ، فأما أن يكون تمامها لمفعولها من غير فعل يقوم بها فهو ممتنع .
        وقال في (1/13) :
        إن قيل : لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث ، فهذا التسلسل في الأثار ، وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين ، وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم ، كما يظنه كثير من الناس ، بل نفس أهل الملل ، بل أئمة أهل الملل : أهل السنة والحديث ، يجوزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله ، فيقولون : أن الرب لم يزل متكلماً إذا شاء ، وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولا تزال أزلاً وأبداً ا0هـ.
        وبهذا نعلم أن القدم النوعي في كلام شيخ الإسلام معناه التعاقب والاستمرار سواء في فعل الله أو في مفعوله فكان من هذا الاعتبار فعله قديماً ككلامه سبحانه ، وكان مفعوله قديماً أيضاً من هذه الحيثية ، اما عين الفعل فهو مسبوق بالعدم أي كل فعل من أفعاله مسبوق بالعدم كما ان كل مفعول مسبوق بالعدل وأما نوعه من حيث التعاقب فقديم وهذا لا محذور فيه كما نقول ذلك في الكلام ولهذا قال في الصفدية (2/175) :
        وإذا قيل : إنه موجب للمعين دائماً .
        قبل له : إيجاب الفاعل للمفعول المعين بمعنى مقارنته له في الزمان ممتنع كما بين في موضعه .
        وإيجاب الحوادث شيئاً بعد شيء بدون قيام أمور متجددة به ممتنع أيضاً ، كما قد بسط في موضعه ، وإيجاب المعين بدون هذا الحادث وهذا الحادث محال ، وإيجاب هذا الحادث دائماً وهذا الحادث دائماً محال .
        وأما إيجاب الحوادث شيئاً بعد شيء فيستلزم أن لا يكون موجباً للحادث إلا عند حدوثه ، وحينئذ يستكمل شرائط الإيجاب ، فيلزم من ذلك تجدد الإيجاب بشيء بعد شيء ، فحينئذ لم يكن موجباً لمعين إلا بإيجاب معين ، وما استلزم الحوادث لا يكون له إيجاب معين ، وأما الإيجاب الذي يتجدد شيئاً بعد شيء فيمتنع أن يكون به شيء بعينه قديماً ، لأن القديم لا يكون إلا بإيجاب قديم بعينه لا يتجدد شيئا بعد شيء .
        وصار أصل التنازع في فعل الله : هل هو قديم ، أو مخلوق أو حادث ؟ من جنس أصل التنازع في كلام الله تعالى ، وكثير من المتنازعين في كلامه وفعله وليس عندهم إلا قديم بعينه لم يزل أو حادث النوع له ابتداء ، [ فالأول ] قول الفلاسفة القائلين بقدمه ، والثاني : قول المتكلمين من الجهمية والمعتزلة .
        والذي لا يدقق في كلام شيخ الإٍسلام فهم أنه يقول بالقدم بالمعنى الأول الذي هو عدم سبق العدم نوعاً وفرداً و هذا هو قول الفلاسفة الذي أنكره شيخ الإسلام حيث بين أن الفعل الدائم مع الله من غير تعاقب هو الذي أوقع الفلاسفة في قدم العالم ولهذا قال في (2/146) :
        وإذا لم يمكن فعله إلا مع فعل هذا وهذا ،لا يكون شيء منه قديماً ، فالآخر كذلك ، لا يمكن قدم شيء من العالم إلا بقدم فعل له معين ، ولزوم ذلك الفعل / لذات الرب كما تلزم الصفة للموصوف .
        ومن المعلوم بصريح المعقول الفرق بين صفة الموصوف وبين فعل الفاعل . أما الصفة فيعقل كونها لازمة للموصوف : إما عينا كالحياة ، وإما نوعاً كالكلام والإرادة ، ويعقل كونها عارضة ، لكن ذلك إنما يكون في المخلوق .
        وأما الفعل فلا يعقل إلا حادثاً شيئاً بعد شيء ، وإلا فمن لم يحدث شيئاً لا يُعقل أنه فعل ولا أبدع ، سواء فعل بالإرادة أو قدر إنه فعل بلا إرادة . ولو كان الفعل لا يحدث لم يعقل الفرق بينه وبين الصفة اللازمة ، إذ كلاهما معنى قائم بالذات لازم لها بعينه ، وما كان كذلك لم يكن فعلاً لذلك الموصوف ، ولا يعقل كون الموصوف فعله .
        وقال في (2/167) :
        فمن قال : إن الرب لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء وبما شاء ، كان الكلام عنده صفة ذات ، قائم بذات الله ، وهو يتكلم بفعله ، وفعله بمشيئته وقدرته ، فمقدار ذلك – إذا قيل بقدمه – كان وفاءً بموجب الحجة المقتضية لقدم نوع ذلك ، من غير أن يكون شيء من العالم قديم مع الله تعالى .
        وقال أيضاً : في (2/149) :
        وهذا الموضع من أحكمه انكشف له حجاب هذا الباب ، فإن نفس كون الفاعل فاعلاً يقتضى حدوث الفعل : إما نوعاً وإما عيناً . وأما فعل ليس بحادث لا نوعه ولا عينه ، بل هو لازم لذات الفاعل ، فليس هو فعل أصلاً .
        ولهذا كان نفس علم الخلق بأن الشيء مخلوق يوجب علمهم بأنه مسبوق بالعدم ، إذ لا يعقل مخلوق مقارن لخالقه لازم له لم يزل معه .
        ولهذا كان كلام الله الذي بعث به رسله موافقاً لما فطر الله عليه الخلائق .
        وقال أيضاً في (2/150) :
        فإذا قيل : هذا مفعول لهذا ، وهو معه لم يزل مقارناً له – كان هذا عند العقل جمعاً بين النقيضين وكأنه قيل : هو مفعول له ليس مفعولاً له . بل يقول العاقل : إذا كان الأمر كذلك لم يكن جعل أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً بأولى من العكس .
        وقال أيضاً : (2/160) :
        وأما كون هذا المعين مفعولاً مخلوقاً مربوباً مفتقراً إلى بارئه ، وأنه لازم لفاعله للزوم الفعل الذي به فعله فاعله كلزوم حياته ، أو بدون فعل قائم به ، فهذا مما لا يعقله الخلق بفطرتهم التي فطروا عليها .
        وقال في (1/63) :
        وعلى هذا التقدير إذا قيل : لم يزل الله موصوفاً بصفات الكمال ، حياً متكلماً
        إذا شاء ، فعالاً أفعالاً تقوم به أو مفعولات محدثة شيئاً بعد شيء أعطى هذا الدليل موجبه ، ولم يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه ، ولا دوام شيء منها كما تقوله أنت في حركات الفلك والحوادث الأرضية ، فإنك تقول : نوع الحوادث دائم باق لا أول له ، فليس فيها شيء بعينه قديم ، فهي كلها محدثة ، وإن كانت الأحداث لم تزل وإذا قلت مثل هذا في فعل الواجب كنت قد وفيت بموجب هذا الدليل ، ولم تخالف شيئاً من أدلة العقل ولا الشرع .
        وإن قلت : بل اللازم دوام مطلق التأثير فيقال : ليس في هذا ما يقتضي قدم شيء من العالم ، بل كونه فاعلاً للشيء يقتضي كون المفعول له مسبوقاً بالعدم ودوام كونه فاعلاً لا يناقض ذلك .
        وحينئذ ، فليس مع الفلسفي ما يوجب قدم شيء من العالم وأما قول المتكلم : " لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقاً بالعدم لزم أن يقال : أنه أوجد بعد أن لم يكن موجداً "
        فيقال له : أوجب في كل مفعول معين وكل فعل معين أن يكون مسبوقاً بالعدم ، أم أوجب في نوع الفعل ؟
        فإن قلت بالأول فلا منافاة بين أن يكون كل من الأفعال والمفعولات مسبوقة بالعدم مع دوان نوع المؤثرية والأثر ، وإذن ما دل عليه دليل العقل لا يناقض ما دل عليه ذلك الدليل الآخر العقلي . ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب ، في مسألة الأفعال ومسألة الكلام والخطاب .
        واعلم أن أولى الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتبعون لما جاء به الكتاب بخلاف المختلفين في الكتاب ، المخالفين للكتاب ، الذين قيل فيهم :  وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد  [ سورة البقرة : 176] .
        وحينئذ فالرب تعالى أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له ، وكل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادث : ولا يلزم من ذلك أن يكون نفس كماله الذي يستحقه متجدداً بل لم يزل عالماً قادراً مالكاً غفوراً متكلماً كما شاء ، كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الامام أحمد وغيره من أئمة السلف .
        فإن قال : ان نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقاً بالعدم .
        قيل له : من أين لك هذا ، وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ، ولا في المعقول ما يرشد إليه ؟ وهذا يستلزم أن يصير الرب قادراً على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادراً عليه ، فإنه ان لم يزل قادراً أمكن وجود المقدور ، فإن كان المقدور ممتنعاً ثم صار ممكناً صار الرب قادراً بعد أن لم يكن ، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الامكان من غير حدوث شيء ولا تجدده ، فإن الأزل ليس هو شيئاً معيناً ، بل هو عبارة عن عدم الأولية ، كما أن الأبد عبارة من عدم الآخرية ،فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية ا0هـ.
        وبهذا كله نعلم ان فصل الخطاب في المسألة هو الفرق بين العين والنوع ، وشيخ الإسلام أراد بهذا أن يرد على الفلاسفة الذين قالوا إن الفعل المعين دائم مع الله قديم فألزموا بقدم العالم وقال في (2/146) : ولا يمكن قدم شيء من العالم إلا بقدم فعل له معين ، ولزوم ذلك الفعل لذات الرب كما تلزم الصفة وللموصوف .
        وقال (2/96) :
        ( وهؤلاء القائلون بقدم العالم اشتبه عليهم نوع التأثير بعين التأثير ، فلما رأوا أن الذات تستلزم كونه مؤثراً لامتناع حدوث ذلك ، لم يميزوا بين النوع والعين ، فظنوا أن هذا يقتضى قدم الأفلاك او غيرها من أعيان العالم وهذا خطأ قطعاً ، فإن الذات تستلزم نوع التأثير لا عينه ، فإذا قدر أنها لم تزل فاعلة لشيء بعد شيء ، لم يكن شيء من مفعولاتها قديمة بل كل ما سواها حادث كائن بعد أن لم يكن وإن كان فعلها من لوازم ذاتها .
        والذين قابلوا هؤلاء لما أرادوا أن يثبتوا حدوث كل ما سوى الله ، ظنوا أن هذا يتضمن أنه كان معطلاً غير قادر على الفعل ، وأن كونه محدثاً لا يصح إلا على هذا الوجه ، فهؤلاء أثبتوا التعطيل عن نوع الفعل ، وأولئك أثبتوا قدم عين الفعل ، وليس لهم حجة تدل على ذلك قط ، وإنما يدل على ما يذكرونه من الحجج على ثبوت النوع لا على ثبوت عين الفعل ولا عين المفعول ، ولو كان يقتضي دليلهم الصحيح قدم عين الفعل والمفعول لامتنع حدوث شيء من الحوادث ، وهو مخالف للمشهود .
        وحينئذ فالذي هو من لوازم ذاته نوع الفعل لا فعل معين ولا مفعول معين ، فلا يكون في العالم شيء قديم وحينئذ لا يكون في الأزل مؤثراً تاماً في شيء من العالم ، ولكن لم يزل مؤثراً تاماً في شيء بعد شيء ، وكل أثر يوجد عند حصول كمال التأثير فيه ، والمقتضى لكمال التأثير فيه هو الذات عند حصول الشروط وارتفاع الموانع .
        وهذا إنما يكون في الذات التي تقوم بها الأمور الاختيارية ، وتفعل بالقدرة والمشيئة ، بل وتتصف بما أخبرت به الرسل من أن الله يحب ويبغض ، ةيرضى ويسخط ويكره ويفرح وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة ، فأما إذا لم يكن إلا حال واحدة أزلاً وأبداً ، وقدر أن لها معلولاً ، لزم أن يكون على حال واحدة أزلاً وأبداً .
        وقال في (1/37) :
        وذلك أنه إذا كان المؤثر التام أزلياً لزم من دوامه دوام أثاره فيلزم أن لا يحدث
        شيء ، وهو خلاف الحس .
        وقال في (1/281) :
        وإذا قيل : ذاته تحدث شيئاً بعد شيء ، فإنه لا يمكن احداث المحدثات جميعاً .
        قيل : فهذا ينقض قولكم لأن من أحدث شيئاً بعد شيء لم يكن موجباً بذاته في الأزل لشيء ، بل يكون كلما صدر عنه حادث وإن كانت أفعاله دائمة شيئاً بعد شيء فليس فيها واحد قديم ، وكذلك مفعولاته بطريق الأولى ) ، فإن المفعول تابع للفعل ، فلا يكون في أفعاله ولا مفعولاته شيء قديم وإن كانت دائمة لم تَزُل ، فإن دوام النوع وقدمه ليس مستلزماً قدم شيء من الأعيان ، بل لك متناقض لقدم شيء منها ، إذ لو كان فيها واحد قديم لكان ذلك الفعل المعين هو القديم ، ولم تكن الأفعال المتوالية هي القديمة والشيء الذي من شأنه أن يكون متوالياً متعاقباً كالحركة والصوت يمتنع قدم شيء من أجزائه ودوام شيء من أجزائه وبقاء شيء من أجزائه ، وإن قيل أنه دائم قديم باق أي نوعه هو الموصوف بذلك .
        وقال في (1/78) :
        قيل : الحركات الدائمة الأزلية لا يتعين فيها شيء دون شيء ، بل لم تزل ولا تزال أفرادها متعاقبة ، فيمتنع أن يكون علة تامة لواحد منها دون الآخر في الأزل ، مع أنه ليس فيها شيء أزلى بعينه ، ويمتنع أن يكون علة تامة لجميعها في الأزل لامتناع وجودها في الأزل ا0هـ .
        وقال في (2/49) :
        والفرق ثابت بين فعل الحوادث في الأزل وبين كونه لا يزال يفعل الحوادث ، فإن الأول يقتضي أن فعلاً قديماً معه فعل به الحوادث من غير تجدد شيء والثاني يقتضي أنه لم يزل يفعلها شيئاً بعد شيء ، فهذا يقتضى قدم نوع لفعل ودوامه ، وذاك يقتضي قدم فعل معين ، وقد تبين أنه يمتنع قدم فعل معين للحوادث.
        وقال في (2/50) :
        فقد تبين أن مع القول بجواز حوادث لا أول لها ، بل مع القول بوجوب ذلك ، يمتنع قدم العالم أو شيء من العالم ، وظهر الفرق بين دوام الواجب بنفسه القديم الذي لا يحتاج إلى شيء ، وبين دوام فعله أو مفعوله وقدم ذلك فإن الأول سبحانه هو قديم بنفسه ، واجب غنى ، وأما فعله فهو شيء بعد شيء .
        فإذا قيل : هو قديم النوع وأعيانها حادثة . لزم حدوث كل ما سواه وامتناع قدم شيء معه ، وأنه يمتنع أن يكون شيء من مفعولاته قديماً ، إذ كل مفعول فهو مستلزم للحوادث ، والإلزام حدوث الحوادث بلا سبب ، وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح ، لأنه لا يكون قديماً إلا بفعل قديم العين لا قديم النوع ، وفعل قديم العين للحادث ممتنع ولملازم الحادث ممتنع ، وفعلان قديمان مقترنان أحدهما للحادث والآخر لملازم الحادث ممتنع ، فتبين امتناع قدم فعل شيء من العالم على كل تقدير ، لأن وجود المفعول بدون الفعل المشروط فيه ممتنع "
        وقد عُرف أيضاً أن وجود العالم منفكاً عن الحوادث ثم إحداث الحوادث فيه أيضاً ممتنع ، فثبت امتناع قدمه على كل تقدير .
        ويمكن تقدير حدوث كل العالم بالنظر إلى نفس الفاعل المؤثر فيه ، مع قطع النظر عن العالم – خلاف ما يزعمه ابن الخطيب وطائفة – أن القائلين بالقدم
        نظروا إلى المؤثر ، والقائلين بالحدوث نظروا إلى الأثر .
        وذلك أن يقال : قد ثبت أنه موصوف بصفات الكمال ، وان الكمال الممكن الوجود لازم له واجب له ، وأنه مستلزم لذلك .
        وحينئذ فيقال : الفاعل الذي يمكنه أن يفعل شيئاً بعد شيء ويحدث الحوادث أكمل ممن لا يمكنه الإحداث ، بل لا يكون مفعوله إلا مقارناً له ، بل يقال هذا في الحقيقة ليس مفعولاً له ، إذ ما كان لازماً للشيء لا يتجدد فهو من باب صفاته اللازمة له ، لا من باب أفعاله ، فإن ما لزم الشيء ولم يحدث ويتجدد لم يكن حاصلاً بقدرته واختياره ، بل كان من لوازم ذاته ، وما كان من لوازم ذاته لا يتجدد ولا يحدث كان داخلاً في مسمى ذاته كصفاته اللازمة له ، فلم يكن ذلك من أفعاله ولا من مفعولاته.
        وإذا كان كذلك فتقدير واجب بنفسه أو قديم أو قيوم أو غني لا يفعل شيئاً ولا يحدثه ولا يقدر على ذلك تقدير مسلوب لصفات الكمال ، وكون الفعل ممكناً شيئاً بعد شيء أمر ممكن في الوجود ، كما هو موجود للمخلوقات ، فثبت أنه كمال ممكن ولا نقص فيه، لاسيما وهم يسلمون أن الجود صفة كمال ، فواجب لا يفعل ولا يجود ولا يحدث شيئاً أنقص ممن يفعل ويجود ويحدث شيئاً بعد شيء ، وإذا كان كمالاً لا نقص فيه وهو ممكن الوجود ، لزم أن يكون ثابتاً لواجب الوجود وأن يكون ثابتاً للقديم ، وان يكون ثابتاً للغنى عما سواه ، وأن يكون ثابتاً للقيوم .
        وإذا كان كذلك فمن كانت هذه صفته امتنع وجود المفعول معه ، لأنــه لو
        وجد معه للزم سلب الكمال ، وهو الإحداث شيئاً بعد شيء ، والفعل الدائم للمفعولات شيئاً بعد شيء ، وإذا كان نفس الكمال الذي يستحقه لذاته يوجب أن يفعل شيئاً بعد شيء ، ويمتنع أن يقارنه شيء من المفعولات فيكون لازماً له ثبت حدوث كل ما سواه وهو المطلوب ا 0هـ .
        وقال في (2/23) :
        ولهذا كان المانعون من هذا إنما منعوا منه لاعتقادهم امتناع الفعل في الأزل ، إما لامتناع حوادث لا أول لها عندهم ، أو لأن الفعل ينافي الأزلية ، أو لغير ذلك . وعلى كل تقدير فإنه يمتنع قدم شيء بعينه من العالم . وكذلك إذا قدر أن الفعل دائم ، فإنه دائم باختياره وقدرته ، فلا يكون الفعل الثاني إلا بعد الأول ، وليس هو موجباً بذاته في الأزل لشيء من الأفعال ، ولا من الأفعال ما هو قديم أزلي .
        والأفعال نوعان : لازمة ومتعدية فالفعل اللازم لا يقتضي مفعولاً ، والفعل المتعدي يقتضي مفعولاً ، فإن لم يكن الدائم إلا الأفعال اللازمة ، وأما المتعدية فكانت بعد أن لم تكن ، لم يلزم وجوب ثبوت شيء من المفعولات في الأزل . وإن قدر أن الدائم هو الفعل المتعدي أيضاً والمستلزم لمفعول ، فإذا كان الفعل يحدث شيئاً بعد شيء ، فالمفعول المشروط به أولاً بالحدوث شيئاً بعد شيء ، لأن وجود المشروط بدون الشرط محال ، فثبت أنه على كل تقدير لا يلزم أن يقارنه في الأزل لا فعل معين ولا مفعول معين ، فلا يكون في العالم شيء يقارنه في الأزل ، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً سبحانه وتعالى ، فهذه الطريقة قرر فيها ثبوت القديم المحدث للحوادث ، وحدوث كل ما سواه ، من غير احتياج إلى طريقة الوجوب والإمكان ، ولا إلى طريقة الجواهر والأعراض ا0هـ.
        وبعد كل هذا البيان نخلص أن القدم النوعي للعالم هو جواز استمرار المخلوقات من غير انقطاع لأن هذا نتيجة لديمومة فعل الله سبحانه ولهذا قال في (1/281):
        وإن كان أفعاله دائمة شيئاً بعد شيء ليس فيها واحد قديم وكذلك مفعولاته بطريق الأولى ، فإن المفعول تابع للفعل فلا يكون في أفعاله ولا في مفعولاته شيء قديم وإن كانت دائمة لم تزل فإن دوام النوع وقدمه ليس مستلزماً قدم شيء من الأعيان ا 0هـ .
        وقال في (2/144) :
        وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئاً فشيئاً كان المفعول كذلك بطريق الأولى ، لامتناع تقدم المفعول على فعله ، فلا يكون فعل دائم معين ، فلا يكون مفعول معين دائم ا0هـ .
        والمفعول هو المخلوق كما قال في (2/88) :
        والثاني : ما يكون مخلوقا بائناً عن الله فهذه هي المفعولات ا0هـ .
        وعلى هذا لم يخرج شيخ الإسلام عن معنى القدم الاصطلاحي في نوع الفعل ونوع المفعول لأن النوع إذا كان مستمراً فالنوع لم يسبق بعدم كما سبق أن وضحنا .
        وهنا أمر مهم ينبغي أن يضاف وهو ان الأزل ليس شيئاً محدوداً فقال في (2/46) : وليس في الأزل شيئاً محدوداً كان فيه فاعلاً للجميع ا0هـ
        وقال في (1/283) : وليس الأزل وقتاً محدوداً بل هو عبارة عن الدوام الماضي الذي لا ابتداء له الذي لم يسبق بعدم الذي ما زال ا0هـ .
        وبقي أن نذكر أن ما قاله شيخ الإسلام في القدم النوعي للعالم قد قاله كثيرون غيره ، كالفخر الرازي والسراج الأرموي وقبلهما ابو الثناء الأبهري – شيخ الأصفهاني – والدواني وبخيت المطيعي ومحمد عبده ومحمد الأمين الشنقيطي وكثير من المتكلمين – من قبل ومن بعد .
        قال الشنقيطي في كتابه رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص51 :
        وهذا الكلام كله في استحالة تسلسل تأثير بعض أفراد الهيولي في بعض اما بالنظر إلى وجود حوادث لا أول لها يايجاد الله ، فذلك لا محال فيه ولا يلزمه محذور لأنها موجودة بقدرة وإرادة من لا أول له جل وعلا . وهو في كل لحظة من وجوده يحدث ما يشاء كيف يشاء فالحكم عليه بأن احداثه للحوادث له مبدأ يوهم أنه كان قبل ذلك المبدأ عاجزاً عن الايجاد سبحانه وتعالى عن ذلك . وإيضاح المقام انك لو فرضت تحليل زمن وجود الله في الماضي إلى الأزل إلى أفراد زمانية أقل من لحظات العين أن تفرض ان ابتداء ايجاد الحوادث مقترن بلحظة من تلك اللحظات فإنك ان قلت هو مقترن باللحظة الأولى قلنا ليس هناك أولى البتة ، وإن فرضت اقترانه بلحظة أخرى فإن الله موجود قبل تلك اللحظة بجميع صفات الكمال والجلال بما لا يتناهى من اللحظات وهو في كل لحظة يحدث ما شاء كيف شاء فالحكم عليه بأن لفعله مبدأ ، لم يكن فعل قبله شيئاً يتوهم أن له مانعاً من الفعل قبل ابتداء الفعل ، فالحاصل أن وجوده جل وعلا لا أول له وهو في كل لحظة من وجوده يفعل ما يشاء كيف يشاء فجميع ما سوى الله كله مخلوق حادث بعد عدم ، إلا أن الله لم يسبق عليه زمن هو فيه ممنوع الفعل سبحانه وتعالى عن ذلك . فظهر أن وجود حوادث لا أول لها إن كانت بإيجاد من لا أول له لا محال فيه وكل فرد منها كائناً ما كان فهو حادث مسبوق بعدم لكن محدثه لا أول له وهو في كل وقت يحدث ما شاء كيف شاء سبحانه وتعالى .
        قال بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في سلم الوصول لشرح نهاية السول (2/103) :
        قال الأسنوى " الثاني أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعلل وأما التسلسل في الآثار فلا نسلم إلى آخره " كلام جيد واما قول الاصفهاني وفيه نظر لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها وهو باطل على رأينا فنقول لا يلزم كونه باطلاً على رأيه أنه باطل في الواقع ونفس الأمر فإنه لغاية الآن لم يقم دليل على امتناع التسلسل في الآثار الموجودة في الخارج وان اشتهر أن التسلسل فيها محال ولزوم حوادث لا أول لها لا يضر العقيدة إلا إذا قلنا لا أول لها بمعنى لا أول لوجودها وهذا مما لم يقل به أحد بل الكل متفق على ان ما سوى الله تعالى مما كان أو يكون حادث أي موجود بعد العدم بقطع النظر عن أن تقف آحاده عند حد من جانبي الماضي والمستقبل أولا تقف عند حد من جانبهما أو من أحدهما الا ترى ان الإجماع قام على أن نعيم الجنة لا يتناهى ولا يقف عند حد في المستقبل وبعد كونه حادثاً بمعنى أنه موجود بعد العدم لا يضرنا أن نقول لا آخر له بمعنى عدم انقطاع آحاده وعدم وقوفها عند حد ولو قلنا أنه لا آخر لها بمعنى أن البقاء واجب لها لذاتها لكان كفرا ، فكذلك من جانب الماضي نقول حوادث لا أول لها بمعنى أنها لا تقف آحادها عند حد تنتهي اليه وكل واحد منها موجود بعد العدم ولكنها لا تتناهى في دائرة ما لا يزال ولو قلنا أنها لا أول لوجودها ولا افتتاح له لكان ذلك قولاً بقدمها وذلك كفر وعليك بكتابنا القول المفيد وحواشي الخريدة ا0هـ .
        وقد رجح الدواني القول بحوادث لا أول لها في حدوث العالم فقال : " أنت خبير مما سبق أنه يمكن صدور العالم مع حدوثه ، وعلى هذا الوجه ، فلا يلزم القدم الشخصي في شيء من أجزاء العالم ، بل القدم الجنسي بأن يكون فردك لا يزال على سبيل التعاقب موجوداً "
        وقال الشيخ محمد عبده في حاشيته على " شرح الدواني للعقائد العضدية " (ص179) ما نصه : " وقد استشهد الحكماء على قدم الممكنات بدليل نقلي ، وهو ما ذم الله به اليهود  وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان  وبيانه : أنه لو قيل بحدوث العالم فقد قيل بأنه الحق في أزليته لم يزل معطلاً عن الفيض والجود أزمنة غير متناهية لا ابتداء لها ثم أخذ يعطي الوجود ، ومعلوم أنه على فرض أنه لم يزل خلاقاً إلى الأبد فكل ما خلقه فهو متناه ، ونسبة المتناهي إلى غير المتناهي كلا نسبة ، وذلك جلي التصور ، فنسبة إعطاء الحق للوجود إلى منعه عن كل موجود ليست بشيء ، وإن هذا إلا غل اليد ، حيث أن الإعطاء ليس بشيء يذكر في جانب المنع ، وهذا من الشناعة بمكان والجواب أن ذلك – التخلص من الشناعة – لا يتوقف على القول بقدم شيء من أجزاء العالم ، بل يكفي ان يقال : إن الله لم يزل خلاقاً وإن كان كل جزء من أجزاء العالم حادثاً ، فلا أول لعطائه ، ولا مانع يقهره سبحانه ، وهو الجواد الحق ، ينفق كيف يشاء ، ولا شيء من العالم قديم ، بل كل حادث فهو مسبوق بالعدم ، فلا دلالة في الآية على القدم " انتهى .
        فتأمل قوله ( فلا أول لعطائه ) وقوله ( كل جزء من أجزاء العالم حادث ) وقوله ( لم يزل خلاقاً )
        قال الأستاذ مراد شكري : " واعجب أخي أن أحداً من المحققين النظار لن يخطر بباله أبداً أن قدم النوع هو شيء قديم مع الله ، وأن النوع شيء محسوس له وجود ا 0 هـ
        و يقول محمد خليل هراس في كتابه ابن تيمية السلفي ص163 :
        ولكن ما معنى هذا الاستعطاف والاستتباع وهل هو مقتض لقدم العالم أو حدوثه فإن المسألة في نظر العقل لا تخرج عن أحد هذين الأمرين فإن ما ليس بقديم فهو حادث وما ليس بحادث فهو قديم .
        يجيب ابن تيمية على هذا بأنه يجب أن نفرق بين شيئين :
        1- نوع أنواع الحوادث أو أجناسها .
        2- وأعيانها أو أشخاصها
        __________________________________________________
        (1) هذا ما فهمه الهيتمي وغيره وسيأتي نص أقوالهم في مبحث خاص إن شاء الله .
        أما النوع أو الجنس فقديم ، وأما أعيان الحوادث أو أشخاصها فحادثة ومعنى قدم النوع أو الجنس أن الله لم يزل فاعلاً له إذا شاء فما من حادث إلا وقبله حادث لا ينتهي ذلك إلى حادث يعتبر هو أول الحوادث بمعنى أنه لا حادث قبله ومعنى حدوث العين أو الشخص أنه ما من حادث من هذه الحوادث المتسلسلة شيئاً بعد شيء لا إلى نهاية إلا وهو محدث كائن بعد أن لم يكن وذلك كما تقوله الفلاسفة في حركات الأفلاك من أن ماهيتها قديمة وإن كانت أشخاصها حادثة .
        ويرى ابن تيمية إن الذي أوقع الفلاسفة والمتكلمين في الغلط في هذه المسألة حتى التزموا من المحالات هو عدم اهتدائهم إلى هذا الفرق بين أنواع الحوادث وأشخاصها ا0هـ
        ويقول شيخ الإسلام في درء التعارض (8/279) :
        والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل . وقابلوا الباطل بباطل ، وردوا البدعة ببدعة ، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم ، في مسألة حدوث العالم ونحوها ، استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق ، التي هي فاسدة عند أئمة الشرع و العقل ، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها ، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها ، وأقاموا الدليل على دوام الفعل ، لزم من ذلك قدم هذا العالم ، ومخالفة نصوص الأنبياء .
        وهذا جهل عظيم ، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه ، لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً ، وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلاً ، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل ، وأن الفاعل لم يزل فاعلاً ، وأن الحوادث لا أول لها ، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم ، وهذا لا يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء ، بل يوافقها .
        وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وأن الله خالق كل شيء ، فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، فلا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً عقلياً يناقض هذا ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع ا0هـ
        وقال في الفتاوى ( 9/280) :
        ولكن موضع النظر والنزاع ( نوع الحوادث ) وهو انه هل يمكن أن يكون النوع دائماً فيكون الرب لا يزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك؟
        المطلب الثاني : الحوادث :
        الحوادث لها معنيان :
        المعنى الأول : تطلق ويراد بها المخلوقات ومنه قول النحراوي : الصفة الرابعة الواجبة له تعالى المخالفة للحوادث أي المخلوقات (1) .
        المعنى الثاني : تطلق ويراد بها التجدد .
        وبهذا نعلم أنه ليس كل حادث مخلوقاً .
        __________________________________________________ ____________
        (1) الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد بهامش فتح المجيد للجاوي ص13.
        وتسلسل الحوادث يراد بها تسلسل أفعال الرب التي نفاها أهل الكلام بحجة أن لا تحل في الذات الإلهية ، وأما أهل السنة فيقولون بإثبات هذه الأفعال ويقولون إن نوع الحوادث قديم أي أن صفة الفعل وهو نوع أو جنس الصفات الفعلية قديم ، أما أفرادها أو آحادها فهي حادثة وهذا الذي بمعنى التجدد ، وهذا التسلسل للحوادث واجب التسلسل كما سيأتي .
        أما الحوادث التي بمعنى المخلوقات وهو تسلسل الأعيان التي هي المفعولات وهي قديمة النوع أيضاً لأنه نتيجة القول بدوام فاعلية الرب أما أفرادها فلا شك أنها مسبوقة بالعدم ،وجائز أن يقال ما من زمن يفترض فيه خلق العالم إلا وجائز أن يقع قبله ذلك لأن الله أزلي وهو من التسلسل الجائز لا الواجب كما سيأتي .
        وإذا قلنا : تسلسل الحوادث فالسياق يدلنا على المعنى هل هو الأول أم الثاني ، ومن يقرأ كلام المتكلمين يعلم مرادهم من السياق هل الحوادث هي الصفات الفعلية كقولهم : لا تحل الحوادث في الذات الإلهية وهم يريدون نفي الصفات الفعلية ، ومنه قول الكوثري كما سبق أنه أخذ على ابن القيم قيام الحوادث بذات الله أم ان المراد المخلوقات كقول النحراوي السابق.
        ولما كان ابن تيمية يقرر هذه المسألة ، ويرد على الجهمية والمعتزلة ظن كثير ممن لم يفهم مراده ولم يعرف مذهب السلف في هذه المسألة ظن أنه يقول بقدم العالم ؛ لأنه يقول بحوادث لا أول لها ، لأنهم يسمون أفعال الله الاختيارية ، التي يفعلها بإرادته حوادث .
        ولم يعلم هؤلاء أن لازم قولهم أشنع وأفظع ، وهو أن الرب تعالى كان معطلاً عن الفعل ثم صار فاعلاً لأفعاله بعد أن لم يكن كذلك .
        المطلب الثالث : التسلسل(1) :
        التسلسل : مصطلح كلامي يراد به ( ترتيب أمور غير متناهية ) وإنما سمى تسلسلاً أخذاً من السلسلة وهي قابلة لزيادة الحلقات إلى ما لا نهاية له فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيها ففي السلسة مبتدؤها ومنتهاها وأما في التسلسل فطرفاه هما الزمن الماضي والمستقبل .
        والتسلسل أنواع :
        1- التسلسل في المؤثرين : بأن يؤثر الشيء في الشيء إلى ما لا نهاية أو أن يكون للحادث فاعل ، وللفاعل فاعل وهكذا وهما بنفس المعنى .
        وهذا التسلسل ممتنع وباطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا التسلسل الذي أمر النبي  أن يُستعاذ بالله منه ، وأمر بالانتهاء عنه ، وأن يقول القائل "آمنت بالله ورسله" كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله  "يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول :من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له : من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته "وفي رواية" لا يزال الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال : فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب ، فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال : فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال قوموا ، قوموا ، صدق خليلي " وفي الصحيح أيضاً عن أنس بـن مالك عـن رسول الله  : " قال الله : إن أمتك لا يزالون يسألون : ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا
        __________________________________________________ __
        (1) القواعد الكلية للبريكان ص208 ، الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د0 عبدالقادر صوفي (2/329) .
        الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ رواهما البخاري ومسلم " .
        2- التسلسل في العلل الفاعلة :
        وأما التسلسل في العلل الفاعلة : فهو أن يقال : للخلق خلق ، ولهذا الخلق خلق ، ولذلك الخلق خلق ، وهكذا أو لا يكون فعل أصلاً حتى يكون قبله فعل ما .
        ( وهذا ممتنع لذاته ؛ فإنه يستلزم وجود الشيء قبل وجوده . ووجوده قبل وجوده يقتضي أن يكون موجوداً معدوماً ، وهذا جمع بين النقيضين .
        ولهذا استدل غير واحد من أئمة المسلمين على أن كلام الله غير مخلوق بقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فإن النص دل على أنه
        لا يخلق شيئاً حتى يقول له : " كن " فيكون ، فلو كان " كن " مخلوقاً ، لزم أن يخلقه بكن ، وكذلك هذا يجب أن يكون مخلوقاً بكلمة أخرى وهذا يستلزم التسلسل في أصل الخلق …)
        فلو كانت " كن " مخلوقة ، لزم أن لا يخلق شيئاً أصلاً ، فإنه لا يخلق شيئاً حتى يقول " كن "، ولا يقول " كن " حتى يخلقها ؛ فلا يخلق شيئاً.
        وهذا التسلسل ممتنع لذاته –كما مر –" فإنه إذا لم يخلق شيئاً أصلاً حتى يخلق قبل ذلك شيئاً آخر ،كان هذا ممتنعاً لذاته ،فكان وجود مخلوق قبل أن يوجد مخلوق أصلاً فيه جمع بين النقيضين بخلاف ما إذا قيل : إنه لا يخلق مخلوقاً معيناً حتى يخلق مخلوقاً معيناً ؛ فإن هذا ليس بممتنع ؛كما أنه لا يخلق المولود من غيره حتى يخلق الولد ) .فهذا هو التسلسل في العلل الفاعلة وهو ممتنع كما تقدم .
        3- التسلسل في الأفعال ويكون :
        بأن يرتب الفاعل فعله الأول على فعله الآخر إلى ما لا نهاية وأما الفعل فلا تأثير
        له بذاته في ذات غيره من الأفعال والمراد به هنا ما دل عليه العقل والشرع من
        دوام أفعال الرب تعالى في الأبد والأزل بأنه ما زال ولا يزال موصوفاً بالفعل فلم تحدث له أفعال بعد أن لم يكن فاعلاً بل هو فاعل أبداً وأزلاً وهذا النوع من التسلسل واجب (1) ، والشرع والعقل قد دلا على إثباته وصحته ووقوعه وسيأتي
        ذلك في مبحث خاص إن شاء الله .
        4- التسلسل في الآثار :
        وهذا هو موضوع البحث وسيأتي في المبحث الثاني .
        والخلاصة أن التسلسل ثلاثة أقسام :
        1- تسلسل ممتنع كما سبق .
        2- تسلسل واجب وهو التسلسل في أفعال الله .
        تسلسل جائز أو ممكن وهو التسلسل في الأعيان والمخلوقات فهذا جائز أو ممكن وهذا هو الذي يقوله شيخ الإسلام ،فلا يقطع ولا يجزم بتسلسل المخلوقات لأننا لا نعلم إلا ما أخبرنا الله به من السماوات والأرض والقلم والعرش وغيرها ، أما ما لم يخبرنا به فلا علم لنا ولهذا لا نجزم بتسلسل المخلوقات بل نقول أنه ممكن وجائز ،أما تسلسل أفعال الرب فلا شك أنه واجب لا يتصور عدمه ولم يأت يوم وكان معطلاً سبحانه وتعالى .
        وإذا أطلق التسلسل انصرف للتسلسل في المؤثرين كما في قولهم: والتسلسل باطل .
        __________________________________________________ __________
        (1) الواجب هو : ما لا يتصور في العقل عدمه ، والجائر أو الممكن : وهو ما يصلح في نظر العقل وجوده وعدمه على السواء ، انظر حاشية الدرة المضية لابن قاسم ص15.
        وفي ختام هذا المبحث أنقل ما قاله الإمام ابن القيم في كتابه شفاء العليل (2/446) حيث بين في هذا النص عدة مسائل منها : مسألة التكوين الذي قال به الحنفية وسيأتي أيضاً في المبحث الأخير من هذا الكتاب ، ومنها التسلسل الواجب والممكن وهو المهم هنا فقال رحمه الله :
        قال القدري : فالآن حمي الوطيس ، فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقاً ورازقاً ومميتاً، والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت، إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه فالخلق إما قديم وإما حادث ، فإن كان قديماً لزم قدم المخلوق ، لأنه نسبة بين الخالق والمخلوق ، ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها ، وإن كان حادثاً لزم قيام الحوادث به وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر ولزم التسلسل ، فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه ، وقد اشتق له منه اسم .
        قال السني : أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيراً من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب سبحانه ، فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق ، فإن إثبات خالق بلا خلق ؛ إثبات اسم لا معنى له ، وهو كإثبات سميع لا سمع له ، وبصير لا بصر له ، ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة ، فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به ، والتعطيل أنواع :
        تعطيل المصنوع عن الصانع ، وهو تعطيل الدهرية والزنادقة .
        وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله ، وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات .
        وتعطيله عن أفعاله وهو أيضاً تعطيل الجهمية وهم أساسه ودب فيمن عداهم من الطوائف فقالوا : لا يقوم بذاته فعل ، لأن الفعل حادث ، وليس محلا للحوادث ، كما قال إخوانهم : لا تقوم بذاته صفة ، لأن الصفة عرض ، وليس محلاً للأعراض ، فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيراً من تعطيل صفات الرب وأفعاله ، فالمشبهة ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة ، ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات ، وإن كان التعطيلان متلازمين لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة .
        فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج ، ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات ، فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل ، وإخوانهم نفوا صفات الذات .
        وأهل السمع والعقل حزب الرسول والفرقة الناجية برأاء من تعطيل هؤلاء كلهم ، فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال ، وحقائق الأسماء الحسنى ، إذ جعلها المعطلة مجازاً لا حقيقة له ، فشر هذه الفرق لخيرها الفداء ، والمقصود أنه أي قول التزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق ، وتعطيل هذه الصفة عن الله ، وإذا عرض على العقل السليم مفعول لا فاعل له ، أو مفعول لا فعل لفاعله لم يجد بين الأمرين فرقاً في الإحالة ، فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل ، لا فرق بينهما البتة ، فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث ، والقول بقيام الأفعال بذات الرب سبحانه ، والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم بذات الرب سبحانه والقول بوجود مفعول بلا فعل ، ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع ، وأيها اقرب إليهما ، ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال .
        فقالت طائفة : نختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديماً قائماً بذات الرب سبحانه ، ولا يلزمنا قدم المخلوق المكون كما نقول نحن وأنتم : إن الإرادة قديمة ، ولا يلزم من قدمها قدم المراد ، وكل ما أجبتم به فهو في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة التكوين ، وهذا جواب سديد ، وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة .
        فإن قلتم : إنما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد ، لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته ، فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت ، وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال .
        قيل لكم : لسنا نقول أنه كونه قبل وقت كونه ، بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته ، كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته .
        فإن قلتم : كيف يعقل تكوين ولا مكون ؟
        قيل : كما عقلتم إرادة ولا مراد .
        فإن قلتم : المريد قد يريد الشيء قبل كونه ، ولا يكونه قبل كونه .
        قيل : كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده ، لا في الإرادة التي لا تستلزم المراد ،
        وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده ، وكذلك التكوين، يوضحه : أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين ، وذلك كله قديم ولم يلزم منه قدم المكون ، قالوا : وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة ، وعرضنا عليها مفعولاً بلا فعل ، بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا ، فهذا جواب هؤلاء.
        وقالت الكرامية : بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثاً ، وقولكم : يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه ، فالتكوين هو فعله ، وهو قائم به ، فكأنكم قلتم : [ يلزم ] من قيام فعله به قيامه به ، وسميتم أفعاله حوادث ، وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها ، كما سمى إخوانكم صفاته أعراضاً ، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه ، وكما سموا علوه على مخلوقاته واستواءه على عرشه تحيزاً ، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيه ، وكما سموا وجهه الأعلى ويديه جوارح ، وتوسلوا بذلك إلى نفيها ، قالوا : ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما ، وكلامه وتكليمه ، ونزوله إلى السماء ، واستواءه على عرشه ، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، ونداءه لأنبيائه ورسله وملائكته ، وفعله ما شاء ، بتسميتكم لهذا كله حوادث ، ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه رب العالمين ، فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه رباً للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية، وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية ، فالإجلال من هذا الإجلال واجب ، والتنزيه عن هذا التنزيه متعين ، فتنزيه الرب سبحانه عن قيام الأفعال به تنزيه له عن الربوبية وملكه ، قالوا : ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والمعقول .
        وقد اعترف أفضل متأخريكم بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه المسألة ، وذكرها شبهة شبهة وأفسدها ، وألزم بها جميع الطوائف .
        حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا : ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الرب خالقاً ومتكلماً وسامعاً ومبصراً ومجيباً للدعوات ، ومدبراً للمخلوقات وقادراً ومريداً ، إلا بالقول بأنه فعال وأن أفعاله قائمة به ، فإذا بطل أن يكون له فعل ، وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله .
        (فصل )
        وقد أجاب عن هذا عبدالعزيز بن يحيى الكناني في حيدته فقال في سؤاله للمريسي :بأي شيء حدثت الأشياء؟ فقال له : أحدثها الله بقدرته التي لم تزل فقلت له :أحدثها بقدرته كما ذكرت ، أفليس تقول : إنه لم يزل قادراً؟ قال : بلى ، قلت : فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال :لا أقول هذا ، قلت : فلابد أن نلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة لأن القدرة صفة ، ثم قال عبدالعزيز :لم أقل لم يزل الخالق يخلق ، ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ، ولا يمنعه منه مانع فأثبت عبدالعزيز فعلاً مقدوراً لله هو صفة له ليس من المخلوقات ، وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث ، أن الخلق غير المخلوق ، والفعل غير المفعول كما حكاه البغوى إجماعاً لأهل السنة ، وقد صرح عبدالعزيز أن فعله سبحانه القائم به مقدور له وأنه خلق به المخلوقات كما صرح به البخاري في آخر صحيحه وفي كتاب خلق الأفعال فقال في صحيحه : "باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق ، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره [وكلامه] فالرب سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان فعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون "فصرح إمام السنة ان صفة التخليق هي فعل الرب وأمره ، وأنه خالق بفعله وكلامه .
        وجميع جند الرسول وحزبه مع محمد بن اسماعيل في هذا، والقرآن مملوء من الدلالة عليه كما دل عليه العقل والفطرة ، قال تعالى :  أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ يس :81] ثم أجاب نفسه بقوله :  بلى وهو الخلاق العليم  [ يس :81] فأخبر أنه قادر على نفس فعله ، وهو أن يخلق ، فنفس أن يخلق فعل له ، وهو قادر عليه .
        ومن يقول لا فعل له ، وأن الفعل هو عين المفعول ، يقول : لا يقدر على فعل يقوم به البته ‍ بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له الحادث بغير فعل منه سبحانه وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة ، بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل ، فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي ؛ ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمن ، فإذا سلبت دلالته التضمنية ، كان سلب دلالته اللزومية أسهل ، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته .
        وذكر قدرة الرب سبحانه على أفعاله وتكوينه في القرآن كثير كقوله  قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم [الأنعام :65] "فأن يبعث "هو نفس فعله ، والعذاب هو مفعوله المباين له وكذلك قوله  أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى[القيامة : 65] فإحياء الموتى نفس فعله ، وحياتهم مفعوله المباين له وكلاهما مقدور له ، وقال تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه  [القيامة :4] فتسوية البنان فعله ، واستواؤها مفعوله .
        ومنكرو الأفعال يقولون :إن الرب سبحانه يقدر على المفعولات المباينة له ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه لا لازم ولا متعد وأهل السنة يقولون: الرب سبحانه يقدر على هذا وعلى هذا وهو سبحانه له الخلق والأمر ، فالجهمية أنكرت خلقه وأمره وقالوا :خلقه نفس مخلوقه وأمره مخلوق من مخلوقاته فلا خلق ولا أمر ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون به فعل ، فقد أثبت الأمر دون الخلق ولم يقل أحد بقيام أفعاله به ونفي صفة الكلام عنه فيثبت الأمر دون الخلق .
        وأهل السنة يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر ، فالخلق فعله ، والأمر قوله وهو سبحانه يقول ويفعل .
        وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل ، وقالوا : ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دام فاعلية الرب سبحانه ؛ وتعاقب أفعاله شيئاً قبل شيء إلى غير غاية ، كما تتعاقب شيئاً بعد شيء إلى غير غاية ، فلم يزل فعالاً .
        قالوا : والفعل صفة كمال ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل .
        قالوا : ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا ، ومن زعم أن الفعل كان ممتنعاً عليه سبحانه في مدد [ غير مقدرة ] لا نهاية لها ، ولا يقدر أن يفعل ، ثم انقلب الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي ، من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل ، فقد نادى على عقله بين الأنام .
        قالوا : وإذا كان هذا في العقول ، جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل ، وإن امتنع هذا في بداية العقول ، فكذلك تجدد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب ، وأما أن يكون هذا ممكناً ، وذاك ممتنعاً ، فليس في العقول ما يقتضي بذلك .
        قالوا :والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ، ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن ،فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته ، وهو أن يكون بين مؤثرين كل واحد منهما استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية .
        والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له ، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه ، لأنه لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته ، فإن كل حي فعال ، والفرق بين الحي والميت بالفعل ، ولهذا قال غير واحد من السلف : الحي الفعال وقال عثمان بن سعيد :كل حي فعال ، ولم يكن ربنا تبارك وتعالى قط في وقت من الأوقات المحققة او المقدرة معطلاً عن كماله من الكلام [ والإرادة والفعل ].
        وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف ، كما يتسلسل في طرف الأبد ، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً ، وذلك من لوازم ذاته ، فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له ، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه ، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له ، فلكل مخلوق أول ، والخالق سبحانه لا أول له ، فهو وحده الخالق ، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن .
        قالوا : وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ، ويقضي ببطلانه ، وكل من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادراً على الفعل لزمه أحد أمرين لابد له منهما ، إما بأن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً ، وإما ان يقول لم يزل واقعاً ، وإلا تناقض تناقضاً بيناً ، حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادراً على الفعل ،والفعل محال ممتنع لذاته لو أراده لم يمكن وجوده ، بل فرض إرادته عنده محال ،
        وهو مقدور له ، وهذا قول يناقض بعضه بعضا .
        وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير فقالوا : تسلسل الآثار إما أن يكون ممكناً أو ممتنعاً ، فإن كان ممكناً فلا محذور في التزامه ، وإن كان ممتنعاً لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به ، فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل ، والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه .
        ولهذا كثير من الطوائف يقولون : الخلق غير المخلوق ، والفعل غير المفعول ، مع قولهم ببطلان التسلسل ، مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة ، وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين ، ثم من هؤلاء من يقول : الخلق – الذي هو التكوين – صفة قديمة كالإرادة ، ومنهم من يقول : بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلام والإرادة وهي قائمة بذاته سبحانه ، وهم الكرامية ومن وافقهم ، أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته ، وأبطلوا دوامها فراراً من القول بحوادث لا أول لها ، وكلا الفريقين لا يقول ان ذلك التكوين والخلق مخلوق ، بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة .
        قالوا : فإذا كان القول بالتسلسل لازماً لكل من قال : إن الرب تعالى لم يزل قادراً على الخلق ، يمكنه أن يفعل بلا ممانع فهو لازم لك ، كما الزمته لخصومك ، فلا ينفردون بجوابه دونك ، وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل ، ومخلوق بلا خلق ، فهو لازم لك وحدك .
        قالوا : ونحن إنما قلنا : الفعل صفة قائمة به سبحانه ، وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع ، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه ، فلا يلزم أن يكون معه
        مخلوق في الأزل ، إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي ، وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات ، ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها ، وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها ، وحينئذ فنقول : أي لازم لزم من إثبات فعله سبحانه كان القول به خيراً من نفي الفعل وتعطيله عنه .
        فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به ، كما يقوله كثير من الناس ، بطل قولكم ، وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به ، والقول بانها مفتتحة ولها أول ، فهو خير من قولكم ، كما تقول الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة ، فهو خير من قولكم ، وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقاً كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم ، ولو قدر انه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديماً بقدمه كان خيراً من قولكم ، مع أن هذا لا يلزم ، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام ، بل ولا أهل الملل ، فكلهم متفقون على أن الله سبحانه وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه ، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساوياً لوجوده .
        فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وامره وصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه رب العالمين ، وأن كماله المقدس من لوازم ذاته فإنا به قائلون ، وله ملتزمون ، كما أنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديراً سميعاً بصيراً متكلماً آمراً ناهياً ، فوق عرشه ، بائن من خلقه ، يراه المؤمنون بأبصارهم عياناً في الجنة ، وفي عرصات القيامة ، ويكلمهم ويكلمونه ، فإن هذا حق ، ولازم الحق مثله ، وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون ، وعن القول به عادلون ، وبالله التوفيق .
        التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:54 م.
        أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
        والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
        وينصر الله من ينصره

        تعليق

        • سيف الكلمة
          إدارة المنتدى

          • 13 يون, 2006
          • 6036
          • مسلم

          #5
          المبحث الثاني : أقوال الناس في المسألة وفيه مطلبان :

          المطلب الأول : قول المتكلمين وفيه تمهيد وفرعان :
          أما التمهيد ففيه بيان اختلاف المتكلمين في هذه المسألة .
          وأما الفرعان فهما :
          الأول : قول الجهمية والرد عليهم .
          الثاني : قول الكلابية والأشعرية مع ذكر أدلتهم والرد عليهم .
          المطلب الثاني : قول السلف وأدلتهم على ذلك .


          المطلب الأول : قول المتكلمين وفيه تمهيد وفرعان :
          أما التمهيد ففيه بيان اختلاف المتكلمين في هذه المسألة .
          وأما الفرعان فهما :
          الأول : قول الجهمية والرد عليهم .
          الثاني : قول الكلابية والأشعرية مع ذكر أدلتهم والرد عليهم .



          تمهيد :

          ذهب المتكلمون إلى امتنـاع تسلسل الحوادث في الماضي وافترقوا إلى طوائف :
          الطائفة الأولى : الجهمية وهؤلاء ذهبوا إلى ان الفعل كان ممتنعاً على الله ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي .

          الطائفة الثانية : الكلابية والأشعرية وقد ذهبوا إلى ان الفعل كان ممتنعاً منه لا عليه أي يثبت له القدرة لكن لا يثبت له الفعل لأن المقدور ممتنع منه .

          الطائفة الثالثة : الكرامية وقد ذهبوا إلى حلول الحوادث بالذات إلا أنهم جعلوا نوع الفعل منفتحاً به حذراً من التسلسل فكانوا كقول الجهمية في أن الفعل كان ممتنعاً ثم كان ممكناً .


          الفرع الأول : قول الجهمية والرد عليهم :

          ذهب الجهمية كما ذكرنا إلى أن الفعل ممتنع على الله ثم انقلب إلى الامكان ، وقالوا يجب أن يكون للحوادث مبدأ .
          قال شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 1/156) وما بعده :
          فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن الرب في الأزل كان يمتنع منه الفعل والكلام بمشيئته وقدرته - وكان حقيقة قولهم أنه لم يكن قادراً في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعاً لنفسه ، والممتنع لا يدخل تحت المقدور - صاروا حزبين :
          حزباً قالوا : إنه صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه ، [لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً ، وإنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ] . وهذا قول المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة ، ( وهو قول الكرامية وأئمة الشيعة كالهاشمية وغيرهم) .
          [ وحزباً ] قالوا : صار الفعل ممكناً بعد أن كان ممتنعاً منه . وأما الكلام فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة ، بل هو شيء واحد لازم لذاته ، وهو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما .
          أو قالوا : إنه حروف ، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لا تتعلق بمشيئته وقدرته ، وهو قول طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه ، ويعزى ذلك إلى السالمية ، وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة ، وليس هو قول جمهور أئمة الحنابلة ، ولكنه قول طائفة منهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم .
          وأصل هذا الكلام كان من الجهمية [ أصحاب جهم بن صفوان ] وأبي الهذيل العلاف ونحوهما قالوا : لأن الدليل قد دل على أن دوام الحوادث ممتنع ، وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول لها ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
          قالوا : فإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثاً ، فيمتنع أن يكون البارىء لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته وقدرته ، بل يمتنع أن يكون لم يزل قادراً على ذلك ، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة ، فيمتنع أن يكون قادراً على دوام الفعل والكلام بمشيئته وقدرته .
          قالوا : وبهذا يُعلم حدوث الجسم ، لأن الجسم لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث .
          ولم يفرق هؤلاء بين مالا يخلو عن نوع الحوادث ، وبين ما لا يخلو عن عين الحوادث ، ولا فرقوا فيما لا يخلو عن الحوادث ، بين أن يكون مفعولاً معلولاً ، أو أن يكون فاعلاً واجباً بنفسه .
          فقال لهؤلاء أئمة الفلاسفة وأئمة [ أهل ] الملل وغيرهم : فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه .
          وذلك لأن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً ، فلابد أن يكون ممكناً ، والإمكان ليس له وقت محدود ، فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله ، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهي إليه ، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً ، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه ، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها .
          قال المناظر عن أولئك المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم : نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له ، لكن نقول : إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له . وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع ، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها ، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه . فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له ، بخلاف جنس الحوادث .
          فيقال لهم : هب أنكم تقولون ذلك . لكن يقال : إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية ، فإنه صار جنس الحدوث ، عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً ، وليس لهذا الإمكان وقت معين ، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله ، فيلزم دوام الإمكان ، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع ، من غير حدوث شيء ولا تجدد شيء .
          ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث ، أو جنس الحوادث ، أو جنس الفعل ، أو جنس الإحداث ، أو ما يشبه هذا من العبارات ، من الامتناع إلى الإمكان ، هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد . وهذا ممتنع في صريح العقل ، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة .
          وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين ، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله ، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً ، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا : لم يزل الحادث ممكناً . فقد لزمهم فيما فروا [إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا ] منه ، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل . وأما كون الممتنع ممكناً ، فهو ممتنع في نفسه ، فكيف إذا قيل : لم يزل إمكان هذا الممتنع !
          وأيضاً فما ذكروه من الشرط : وهو أن جنس الفعل أو جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم - لم يزل ممكناً ، فإنه يتضمن الجمع بين النقيضين أيضاً . فإن كون هذا لم يزل ، يقتضي أنه لا بداية لإمكانه وأن إمكانه قديم أزلي . وكونه مسبوقاً بالعدم يقتضي أن له بداية، وأنه ليس بقديم أزلى . فصار قولهم مستلزماً أن الحوادث يجب أن يكون لها بداية ، وأنه لا يجب أن يكون لها بداية.
          وذلك لأنهم قدروا تقديراً ممتنعاً ، والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع ، كقوله تعالى :  لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا  [ سورة الأنبياء : 22]
          فإن قولهم : إمكان جنس الحوادث - بشرط كونها مسبوقة بالعدم - لا بداية له ، مضمونة (1) : أن ما له بداية ليس له بداية ، فإن المشروط بسبق العدم له بداية ، وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعاً بين النقيضين .
          (1) وأيضاً فيقال : هذا تقدير لا حقيقة له في الخارج ، فصار بمنزلة قول القائل : جنس الحوادث بشرط كونها ملحوقة بالعدم ، هل لإمكانها نهاية ؟ أم ليس
          لإمكانها نهاية ؟ فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية ، فكذلك الأول يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية .
          __________________________________________________
          كذا في الأصل ، والصحيح : مضمونه كما في طبعة بيروت (1/40) .
          وأيضاً فالممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام يجب به الممكن . وقد يقولون : لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام يستلزم وجود ذلك الممكن .
          [ وهذا الثاني أصوب ، كما عليه نظار المسلمين المثبتين ، فإن بقاءه معدوماً لا يفتقر إلى مرجح . ومن قال : إنه يفتقر إلى مرجح ، قال : عدم مرجحه يستلزم
          عدمه . ولكن يقال : هذا مستلزم لعدمه ، لا أن هذا هو الأمر الموجب لعدمه ، ولا يجب عدمه في نفس الأمر ، بل عدمه في نفس الأمر لا علة له ، فإن عدم المعلول يستلزم عدم العلة ، وليس هو علة له ، والملزوم أعم من كونه علة ] ، لأن ذلك المرجح التام لو لم يستلزم وجود الممكن ، لكان وجود الممكن مع المرجح التام جائزاً لا واجباً ولا ممتنعاً ، وحينئذ فيكون ممكناً فيتوقف على مرجح ، لأن الممكن لا يحصل إلا بمرجح .
          فدل ذلك على أن الممكن إن لم يحصل مرجح يستلزم وجوده امتنع وجوده ، وما دام وجوده ممكناً جائزاً غير لازم لا يوجد ، وهذا هو الذي يقوله أئمة أهل
          السنة المثبتين للقدر مع موافقة أئمة الفلاسفة لهم ، وهذا مما احتجوا به على أن الله خالق أفعال العباد .
          والقدرية من المعتزلة وغيرهم تخالف في هذا ، وتزعم أن القادر يمكنه ترجيح الفعل على الترك بدون ما يستلزم ذلك ، وادعوا أنه إن لم يكن القادر كذلك ، لزم أن يكون موجباً بالذات لا قادراً . قالوا : والقادر المختار هو الذي إن شاء
          فعل وإن شاء ترك ، فمتى قيل : إنه لا يفعل إلا مع لزوم أن يفعل ، لم يكن مختاراً بل مجبوراً .
          فقال لهم الجمهور من أهل الملة وغيرهم : بل هذا خطأ فإن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ، ليس هو الذي إن شاء الفعل مشيئة جازمة ، وهو قادر عليه قدرة تامة ، يبقى الفعل ممكناً جائزاً ، لا لازماً واجباً ، ولا ممتنعاً محالاً .
          بل نحن نعلم أن القادر المختار إذا أراد الفعل إرادة جازمة ، وهو قادر عليه قدرة تامة ، لزم وجود الفعل ، وصار واجباً بغيره لا بنفسه ، كما قال المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وما شاء سبحانه فهو قادر عليه ، فإذا شاء شيئاً حصل مراداً له - وهو مقدور عليه فيلزم وجوده وما لم يشأ لم يكن ، فإنه ما لم يرده - وإن كان قادراً عليه - لم يحصل المقتضى التام لوجوده ، فلا يجوز وجوده .
          قالوا : ومع القدرة التامة والإرادة الجازمة يمتنع عدم الفعل ، ولا يتصور عدم الفعل ، إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة . وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه ، وهو معروف بالأدلة اليقينية ، فإن فعل المختار لا يتوقف إلا على قدرته وإرادته ، فإنه قد يكون قادراً ولا يريد الفعل فلا يفعله ، وقد يكون مريداً للفعل لكنه عاجز عنه فلا يفعله ، أما مع كمال قدرته وإرادته ، فلا يتوقف الفعل على شيء غير ذلك ، والقدرة التامة والإرادة الجازمة هي المرجح التام للفعل الممكن ، فمع وجودهما يجب وجود ذلك الفعل .
          والرب تعالى قادر مختار يفعل بمشيئته لا مكره له ، وليس هو موجباً له ، بمعنى أنه علة أزلية مستلزمة للفعل ، ولا بمعنى أنه يوجب بذات لا مشيئة لها ولا قدرة ، بل هو يوجب بمشيئته وقدرته ما شاء وجوده ، وهذا هو القادر المختار ، فهو قادر مختار يوجب بمشيئته ما شاء وجوده .
          وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة ، فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه . فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته [ للعالم ] في الأزل ، [ لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل ] ، وذلك ممتنع . بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فكل ما شاء الله وجوده من العالم فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته ، وما لم يشأ يمتنع وجوده ، إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته ،ـ وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده .
          ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال ، فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته ، فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار ، وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير . وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار ، فهذا باطل ممتنع وإن أريد أنه علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلي ، بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه ، لازم لذاته ، أزلاً وأبداً - الفلك أو غيره - فهذا أيضاً باطل .
          فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله ، أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله ، فهو باطل . وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق . فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته ، لكن لا يقتضى هذا أنه شاء شيئاً من المخلوقات بعينه في الأزل ، بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوده متعددة .
          ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مراداً مقدوراً ، ولا أعلم نزاعاً بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزلياً لازماً لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مراداً مقدوراً ، وأن ما كان مراداً مقدوراً لا يكون إلا حادثاً شيئاً بعد شيء ، وإن كان نوعه لم يزل موجوداً ، أو كان نوعه كله حادثاً بعد أن لم يكن .
          ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم . والذين قالوا : كلامه قديم ، وأرادوا أنه قديم العين ، متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته ، سواء قالوا : هو معنى واحد قائم بالذات ، أو قالوا : هو حروف ، أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان .
          بخلاف أئمة السلف الذين قالوا : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء . فإن هؤلاء يقولون : الكلام قديم النوع ، وإن كلمات الله لا نهاية لها ، بل لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته ، ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء ، ونحو ذلك من العبارات . والذين قالوا : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وكلامه حادث بالغير قائم بذاته ، أو مخلوق منفصل عنه ، يمتنع عندهم أن يكون قديماً .
          فقد اتفقت الطوائف كلها على أن المعين القديم الأزلي لا يكون مقدوراً مراداً ، بخلاف ما كان نوعه لم يزل موجوداً شيئاً بعد شيء ، فهذا مما يقول أئمة السلف وأهل السنة والحديث إنه يكون بمشيئته وقدرته ، كما يقول ذلك جماهير الفلاسفة الأساطين الذين يقولون بحدوث الأفلاك وغيرها ، وأرسطو وأصحابه الذين يقولون بقدمها .
          فأئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة يقولون : إن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن ، مع قولهم : إنه لم يزل النوع المقدور المراد موجوداً شيئاً بعد شيء .
          ولكن كثيراً من أهل الكلام يقولون : ما كان مقدوراً مراداً يمتنع أن يكون لم يزل شيئاً بعد شيء ، ومنهم من يقول بمنع ذلك في المستقبل أيضاً .
          وهؤلاء هم الذين ناظرهم الفلاسفة القائلون بقدم العالم ، ولما ناظروهم واعتقدوا أنهم قد خصموهم وغلبوهم ، اعتقدوا أنهم قد خصموا أهل الملل مطلقاً ، لاعتقادهم الفاسد الناشيء عن جهلهم بأقوال أئمة أهل الملل ، بل وبأقوال أساطين الفلاسفة القدماء ، وظنهم أنه ليس لأئمة الملل وأئمة الفلاسفة قول إلا قول هؤلاء المتكلمين وقولهم ، أو قول المجوس والحرانية ، او قول من يقول بقدم مادة بعينها ، ونحو ذلك من الأقوال التي قد يظهر فسادها للنظار ، وهذا مبسوط في موضع آخر .
          والمقصود هنا أن عامة العقلاء مطبقون على أن العلم بكون الشيء المعين مراداً مقدوراً ، يوجب العلم بكونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن ، بل هذا عند العقلاء : أن الشيء مقدور للفاعل مراد له فعله بمشيئته وقدرته ، موجب للعلم بأنه حادث . بل مجرد تصورهم كون الشيء مفعولاً أو مخلوقاً أو مصنوعاً أو نحو ذلك من العبارات ، يوجب العلم بأنه محدث كائن بعد أن لم يكن ا0هـ .
          فقول الجهمية فاسد من وجوه : -
          1- انه يدل على امتناع حدوث العالم كما قال شيخ الإسلام . وهو حادث لأنه إذا كان الفعل ممتنعاً ، فالممتنع ما لا يمكن وجوده ، فهو ممتنع الوجود ، أما وقد حدث العالم ، فإن حدوثه يدل على أنه ممكن وليس بممتنع فإذا كان ممكناً في وقت كذا ، فلابد أن يكون أيضاً ممكناً في أي وقت قبله أو بعده ، فيلزم دوام الإمكان ، وهو ما عُبر عنه بجواز حوادث لا نهاية لأولها(1) .
          يقول الرازي (2) في المطالب ( 4/35) :
          أن كل ما كان ممتنع الوجود لعينه ولذاته امتنع أن يقبل الوجود البتة ،لأن مقتضى الماهية لا يتبدل ولا يتغير ، فإن كانت الماهية مقتضية لعدم قبول الوجود ، وجب أن تكون أبداً كذلك ، وإن كانت مقتضية لقبول الوجود ، وجب أن تكون [ أبداً ] كذلك . فيثبت : أن العالم لو صدق عليه في بعض الأوقات [أنه ممتنع الوجود لذاته ، لصدق عليه الحكم في كل الأوقات ولما كان التالي كاذباً ، كان المقدم أيضاً كاذباً .
          2- [ إنه ] لو كان العالم ممتنعاً لذاته في الوقت الأول ، ثم انقلب ممكناً لذاته في الوقت الثاني ، فذلك الإمكان إما أن يحدث مع جواز أن لا يحدث ، أو يحدث مع وجوب أن يحدث .
          فإن كان الأول كان إمكان حدوث هذا المكان سابقاً على حدوث هذا الإمكان يقتضي حصول الإمكان ، فقد كان الشيء ممكناً [قبل كونه ممكناً ] وذلك محال ، وإن كان الثاني وهو أنه حدث مع وجوب أن يحدث ، فنقول : إن هذا غير معقول ، وبتقدير كونه معقولاً ، فإنه يقتضي نفي الصانع . أما أنه ______________________________________
          (1) تقريب الطحاوية لخالد فوزي (1/561).
          (2) نقلنا كلامه لأن فيه رداً قوياً على الجهمية القائلين بانقلاب الفعل من الامتناع إلى الامكان فبين الرازي أن هذا خرق لقانون العقل وأحكامه فيكون سفسطة ، وقد نقل شيخ الإسلام من الرازي بعض الردود على الخصم لأن حق كل فريق من ضالة المؤمن .
          غير معقول ، فلأن الأوقات متشابهة متساوية ، فإن بتقدير أن يحدث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد ، لا يصير أزلياً . وإذا كانت الأوقات متشابهة متساوية ، كان القول بأنه ممتنع الحدوث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد ، وواجب الحدوث في ذلك الوقت بعينه : قول خارج عن العقل . وأما أن بتقدير صحته ، فإنه يلزم نفي الصانع وذلك [ محال ] لأنه لو جاز أن يقال : إنه حدث ذلك الإمكان في ذلك الوقت بعينه ، حدوثاً لا على سبيل الوجوب الذاتي ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن وجود العالم حدث في ذلك الوقت بعينه حدوثاً على سبيل الوجوب الذاتي ؟ وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بحدوث المحدثات على افتقارها إلى الصانع ، وذلك يوجب نفي الصانع . فثبت بهذا أن هذا القول باطل .
          3- إنا توافقنا على أنه تعالى كان قادراً على إيجاد [ هذا ] العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه بمقدار ألف سنة ، لأن بتقدير أن يتقدم حدوثه [ على هذا الوقت الذي حدث ] فيه بمقدار ألف سنة لا يصير أزلياً ، وإذا ثبت هذا فلا وقت يفرض كونه أولاً لوقت حصول الإمكان ، إلا وكان الإمكان حاصلاً قبله بمقدار آخر متناه ، وإذا كان لا وقت يشار إليه إلا وقد كان الإمكان حاصلاً قبله لزم القطع بأنه ليس هذا الإمكان مبدأ البتة ، فوجب القطع بأنه لا أول لهذا الإمكان وهو المطلوب .
          4- [ إنه ] لو صدق في وقت من الأوقات أنه يمتنع على قدرة الله التأثير في الإحداث والتكوين ، ثم صدق بعد ذلك على تلك القدرة أنه يصح منها التأثير والتكوين ، فإما أن يحصل هذا التبدل لأمر ، او لا لأمر ، والقسمان باطلان . أما حصوله لا لأمر أصلاً ، فهو غير معقول ، وأما حصوله لأمر [ ما ] سواء كان ذلك وجوداً [ بعد عدم ، أو كان عدماً] بعد وجود ، فحصول ذلك التبدل في ذلك الوقت بعينه ، إما ان يكون واجباً أو ممكناً فإن كان واجباً عاد التقسيم الأول فيه ، وهو أن اختصاص ذلك التبدل بذلك الوقت المعين من غير سبب : كلام لا يقبله العقل . وإن كان ممكناً فحينئذ يمكن حصول ذلك قبل ذلك الوقت ، وبتقدير حصول ذلك التبدل قبل [ حصول ] ذلك الوقت ، لزم حصول ذلك الإمكان قبل ذلك الوقت . وإذا كان كذلك فذلك الشيء كان ممكن الوجود قبل ذلك الوقت ، وكنا فرضناه ممتنعاً . هذا خلف . فثبت : أن القول بإثبات أول لهذا الإمكان ، ولهذه الصحة : كلام لا يقبله العقل .
          5- إن الذي يكون ممتنعاً لذاته ، وجب أن يكون ممتنعاً أبداً والذي يكون ممكناً لذاته ، وجب أن يكون ممكناً أبدا . ولو جاز التغير على هذه المعاني ، فحينئذ لا يبقي للعقل أمان في الحكم بجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات فلعل الجمع بين الضدين وإن كان ممتنعاً ، فسيجيء وقت يصير فيه واجباً لعينه ، ولعل كون الأربعة زوجاً ، وإن كان واجباً لذاته ، فسيجيء وقت يصير فيه ممتنعاً لعينه . وبالجملة : فالعقل إنما يمكنه تركيب المقدمات بناء على أن ما يكون ممتنعاً لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبداً ، وما كان واجباً لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبداً فإن أدخلنا الطعن والتكذيب في هذه المقدمة ، فحينئذ لا يبقى عند العقل مقدمة يمكنه الجزم بها ، وذلك [ دخول في السفسطة ] .
          وطرد الجهم قاعدته في المستقبل أيضاً وقال بامتناع الحوادث فيها ، وأما العلاف

          فذهب إلى فناء الحركات دون الذات وسيأتي في مبحث نونية ابن القيم(1) .
          لكن يمكن أن يقال ان الفرق بين قول شيخ الإسلام وتلميذه وقول الجهم ان الجهم يرى ان الدوام مستحيل أما شيخ الإسلام وابن القيم فيريان أنه ممكن لكن بفضل الله يفنيها .
          وليس هذا مجال بسط المسألة ولا ذكر الأدلة .
          __________________________________________________
          (1) : حكي عن شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم القول بفناء النار وللمعاصرين تحقيقات في هذه المسألة ، منهم من ينكر ذلك عنهما ومنهم من يثبت ذلك عنهما ويمكن أن تراجع هذه المسألة في الكتب التالية :
          1- رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني - ط . المكتب الإسلامي
          2- توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين لمرعي الحنبلي – تحقيق : خليل السبيعي .
          3- الرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية – تحقيق د 0 محمد السمهري – ط . الرياض
          4- كشف الأستار لابطال إدعاء فناء النار المنسوب لإبن تيمية وابن القيم للدكتور علي اليماني – ط . طيبة في مكة .


          الفرع الثاني : قول الأشعرية ومن نحا نحوهم :

          ذهب الأشعرية ومن سلك مسلكهم إلى ان الله يوصف بالقدرة لا كما يقول الجهمية بأن القدرة ممتنعة عليه لكن قالوا : يمتنع المقدور منه وقد وضح شيخ الإسلام في منهاج السنة أصل شبهتهم وشبهة غيرهم.
          يقول رحمه الله في (2/377) :
          [ وقول القائل : الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل – ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب – كلام متناقض ، كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال ، بل هو مخلوق بائن عنه ؟
          وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعاً للمعتزلة فهو خطأ في نفسه ، فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع بين المتناقضين المتضادين ، بل حقيقة قول هؤلاء : إن الفعل لا يوصف به الرب ، فإن الفعل هو مخلوق ، والمخلوق لا يوصف به الخالق ، ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب ، وهذا لا يقوله عاقل فضلاً عن مسلم
          فإن قلتم : هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به ، لأنه لو قام به لقامت به الحوادث .
          قيل : والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ،ويقولون : كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ، ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون ؟
          وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبى حنيفة . وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد [ والقاضي أبو يعلى في آخر قوليه ] , [ هو ] قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث ، [وحكاه] البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " عن العلماء مطلقاً وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم .
          ثم القائلون بقيام فعله به ، منهم من يقول : فعله قديم والمفعول متأخر ، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر ؛ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم ، [ وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة ]
          [ ومنهم من يقول : هو يقع بمشيئته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنه لم يزل متصفاً به ، فهو حادث الآحاد قديم النوع ، كما يقول ذلك من يقول من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي أحمد .
          وسائر الطوائف [ منهم من يقول : بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ، ومنهم من يقول : بل هو قائم بنفسه لا في محل ، كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ، ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى ، كما يقوله معمر بن عباد وغيره ]
          وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم ؛ فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله ، فيقولون : قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم ، فقلنا العدم لا يؤمر ، ولا ينهى ، وقلنا : الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم .
          فإن قلتم لنا : قد قلتم بقيام الحوادث بالرب .
          قالوا لكم : نعم ، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ، ومن لم يقل : إن البارىء يتكلم ، ويريد ، ويحب ويبغض ويرضى ، ويأتي ويجىء ، فقد ناقض كتاب الله [ تعالى ] .
          ومن قال : إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل ، فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل ن لأن الله يقول : فلما جاءها نودى [ سورة النمل : 8] ، وقال : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  [ سورة يسن : 82] ، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال .
          قالوا : وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته [ وقدرته] ، وأنه يتكلم إذا شاء ، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء فنحن نقول به ؛ وما يقول به من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وإنه صفة له ، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به ، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما . فإذا قالوا لنا :فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به .
          قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل ، وهو قول لازم لجميع الطوائف ، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته .
          ولفظ " الحوادث " مجمل ، فقد يراد به الأمراض والنقائص ، والله [تعالى ] منزه عن ذلك [ كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب ، وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع .
          ثم إن كثيراً من نفاة الصفات – المعتزلة وغيرهم – يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الحوادث به مطلقاً ، وهو غلط منهم ، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفى العام ، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال ]
          ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة .
          ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به : أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة ؟ أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية ؟
          فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائماً بالمتكلم لا منفصلاً عنه كافياً في هذا الباب .
          وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء : أتجوزون حدوث الأحداث بلا سبب حادث أم لا ؟ فإن جوزتم ذلك – وهو قولكم – لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلاً لها ولا لضدها ، فإذا جاز هذا [ فلم ] لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها ؟
          ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول ، فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل .
          فإن قلتم : القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده .
          قلنا : هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ، [ ثم إذا سلم ذلك فهو كقول القائل : القادر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده ، وأنتم تقولون : إنه لم يزل قادراً ، ولم يكن فاعلاً ولا تاركاً ، لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور ، وأنتم تقولون : لم يكن فاعلاً لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادراً ، بل تقولون : إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادراً عليه .
          وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى ، فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته ، وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادراً ]
          ثم نقول : إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث ، وتسلسل الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون : لم يزل متكلماً إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة .
          وإن لم يكن جائزاً [ أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائماً به ، كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلاً لها ] وكان قولنا هو الصحيح ، فقولكم أنتم باطل على [ كلا ] التقديرين .
          فإن قلتم لنا : أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث ، وهو حجتنا وحجتكم على [ نفى ] قدم العالم .
          قلنا لكم : موافقتنا لكم حجة جدلية ، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم ، وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم . وأنتم تقولون : إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك .
          قلنا : إن صحت هاتان المقدمتان – ونحن لا نقول بموجبهما – لزم خطؤنا : إما في هذه وإما في هذه . وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه ، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا : إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده ، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها .
          أكثر ما في هذا الباب [ أنا نكون ] متناقضين ،والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها . وإذا كنا متناقضين ، فرجوعنا إلى قول نوافق [ فيه ] العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل
          فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل ، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً ،لكن قد نكون [ نحن ] لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين ، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه ، ولا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ ، فنحن نرجع عن تلك [ المتناقضات ] ونقول بقول أهل الحديث .
          فإن قلتم : إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية .
          قلنا : بل قولكم : إن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً ، ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون ، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادراً ، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعاً غير ممكن جمع بين النقيضين ، فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادراً ما يبين أنه لم يزل قادراً على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته .
          والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم ، كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم ، وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية – فضلاً عن اللازمة – وهو دوام إحسانه ، [وذلك قوله وقول المسلمين : يا قديم الإحسان ، إن عنى بالقديم قائم به ]
          والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم [ الأفلاك وغيرها من ] العالم ، وأن الحوادث فيه لا إلى أول ، وأن البارىء موجب بذاته للعالم ليس فاعلاً بمشيئته وقدرته و يتصرف بنفسه .
          [ ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ، ولا يكون المخلوق إلا محدثاً ، فمن جعل مع الله شيئاً قديماً بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح لعقل ]
          وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم : إنه لا يتصرف بنفسه ، ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه ، بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل ، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه ، فوافقتموهم على بعض باطلهم .
          ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته ، وأنه قادر على الفعل بنفسه [ وعلى التكلم بنفسه ] كيف شاء ـ، وقلنا إنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً إذا شاء ، فلا نقول : إن كلامه مخلوق منفصل عنه .

          وقد اشتمل كلام شيخ الإسلام على أمور :
          1- ان إثبات صفة للرب وهي مباينة له لا يقول به عاقل .
          2- بين من يقول بإثبات الفعل من غير ان يقوم بالرب .
          3- بين أن الذين قالوا بقيام الفعل تفرقوا مذاهب شتى والصواب هو قول أهل الحديث .
          4- قيام الحوادث بالرب دل عليه الشرع والعقل (1) .
          5- بين قول المتكلمين الذين قالوا ان الله قادر والمقدور ممتنع .
          6- بين الفرق بين قول الفلاسفة وقول أهل الحديث وسيأتي ذلك في مبحث خاص أن شاء الله .
          7- ذكر الأدلة على دوام فاعلية الرب وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله .
          __________________________________________________
          (1) بل قال الرازي في المطالب انه لازم لجميع الطوائف .



          أدلة المتكلمين على مذهبهم :

          استدل المتكلمون على قولهم بالكتاب والسنة والمعقول
          أولاً : الكتاب في قوله تعالى وأحصى كل شيء عدداً  فلو كانت الحوادث متسلسلة إلى غير أول لم يتصور حشر ما لا نهاية له على محدود (1) .

          والجواب أن يقال :
          ليس المراد بالتسلسل عدم الحد ولكن المراد منه عدم إمكان الحصر الذي لا يتنافى مع الحد فالأعداد الكسرية ما بين الصفر والواحد لا حصر لها ولها حدان من أسفل ومن أعلى وهذا هو الفارق بين عدم إمكان الحصر مع وجود الحد وبين ما لا حد له أصلاً فعلم من ذلك ان المخلوقات لكونها محدودة بالعدم ابتداء وانتهاء فليس المراد في تسلسلها عدم الحد كما هو بين قطعاً ، والذي لا حد له كالأعداد تتسلسل إلى ما لا نهاية له من غير حصر ولا حد ، ومن هنا كان بالإمكان حشر الخلق في مكان لكونهم تحت الحد ، وما أعجزنا حصره من المحدودات فإنه لا يعجز الله .


          (1) التنبيه والرد ص9
          ثانياً : السنة وقد استدلوا بحديثين :
          1- قوله  ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب .
          ووجه الدلالة ان الحديث صرح بأن هناك أول مخلوق خلقه الله وأنه ليس قبل القلم مخلوق .
          والجواب عن هذا الحديث هو أنه لا يخلو قوله : " أول ما خلق الله القلم " ….الخ إما أن يكون جملة أو جملتين . فإن كان جملة ، وهو الصحيح ، كان معناه : أنه عند أول خلقه قال له : :" اكتب " ، كما في اللفظ : " أول ما خلق الله القلم قال له " اكتب " بنصب " أول " " والقلم " ، وإن كان جملتين ، وهو مروي برفع " أول " و " القلم " ، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ، فيتفق الحديثان ، إذ حديث عبدالله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق القلم ، وفي اللفظ الآخر : " لما خلق الله القلم قال له : اكتب "
          وحديث عبدالله بن عمرو ثبت في الصحيح أن رسول الله  قال : " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء " فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم ، بحديث عبادة هذا .
          قال المباركفوري في شرح الترمذي (6/369) : -
          فالأولية إضافية .

          فائدة :
          قال النووي في شرح مسلم :قال العلماء : المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له ا0هـ
          2- الحديث الثاني هو قوله  ( كان الله ولا شيء معه ) .
          ووجه الدلالة من الحديث أن الشيء يشمل الجسم والفعل والنوع والآحاد ، قاله السبكي في السيف الصقيل ص86 .
          والجواب :
          1- ان قوله ( لا شيء معه ) محمول على المعية المقارنة لله من أعيان المخلوقات والقائل به كافر بالله كما هو قول الفلاسفة ولهذا قال ابن حبان في صحيحه (14/10] : ولا شيء معه لأنه خالقها ا0هـ . أما نوع الفعل فلا شك أنه معه بمعنى تعاقب الفعل شيئاً بعد شيء ولهذا قال شيخ الإسلام كما سيأتي : وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل بل هي من كماله.
          والإشكال الذي وقع فيه السبكي وغيره هو ما فهموه من أن قدم الشيء يلزم منه قدم فرد من أفراده الأمر الذي جعل الشيخ هراس يقول : إنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبير ، وقد بين شيخ الإسلام كما سيأتي أن قدم النوع مع حدوث جميع الأفراد لا محذور فيه سواء كان قدم نوع الفعل أم قدم نوع المفعول فكلاهما بمعنى التعاقب ولا يوجد فرد منهما قديم وقد بينا ذلك فيما سبق .
          وقال القسطلاني في شرح البخاري ( 5/449) :
          ومن ثم جاء قوله : ولم يكن شيء غيره لنفي توهم المعية ، وفيه رد على من
          توهم من قوله : كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ان العرش لم يزل مع الله ا 0 هـ بتصرف .
          وقال الكرماني ( 25/139) :
          لا يلزم من قوله ( وكان عرشه على الماء ) المعية إذ اللازم من الواو هو الاجتماع في أصل الثبوت وإن كان بينهما تقديم وتأخير ، وأقره عليه العيني (25/119) .
          قال هراس في شرح النونية (1/174) :
          وليس وجود الأشياء مقارناً بوجوده ، بل وجوده سابق عليها جميعاً كما في الحديث ( كان الله ولا شيء معه ) أي مساوق عنه في الوجود متأخر عنه .
          2-ان ( لا شيء ) في الحديث ليس من باب العام الذي ذهب إليه السبكي بل هو من باب الظاهر وسبب هذا الحمل هو ما ثبت من دوام الفاعلية فنوع الفعل معه كما ذكرنا .
          3-ما أجاب به شيخ الإسلام في شرحه للحديث حيث قال :
          إن الناس في هذا الحديث على قولين : منهم من قال : ان مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجوداً وحده . ثم انه ابتدأ إحداث جميع الحوادث وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها ، و أعيانها مسبوقة بالعدم ، وان جنس الزمان حادث لافي زمان ، وجنس الحركات والمتحركات حادث . وإن الله صار فاعلاً بعد ان لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتدأ الفعل ؛ ولا كان الفعل ممكناً .
          ثم هؤلاء على قولين : منهم من يقول : وكذلك صار متكلماً بعد إن لم يكن يتكلم بشيء ، بل ولا كان الكلام ممكناً له . ومنهم من يقول : الكلام أمر يوصف به بأنه يقدر عليه ، لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته .
          ثم هؤلاء منهم من يقول : هو المعنى دون اللفظ المقـروء ، عبر عنـه بكل
          من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . ومنهم من يقول : بل هو حروف
          وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال ، وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها وغير ذلك .
          والقول الثاني في معنى الحديث : انه ليس مراد الرسول هذا : بل ان الحديث يناقض هذا ، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش ، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع ، فقال تعالى :  وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء  وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو ، عن النبي  أنه قال : ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء ) ، فأخبر  ان تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام ، وكان حينئذ عرشه على الماء . كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه ؛ عن عمران رضي الله عنه .
          ومن هذا : الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي  انه قال : ( أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ! قال : وما أكتب ؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة ) ، فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض ، وهو أول ما خلق من هذا العالم ، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص ، وهو قول جمهور السلف ، كما ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع .
          والمقصود هنا : بيان ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة .
          والدليل على هذا القول الثاني وجوه :
          ( أحدها ) ان قول أهل اليمن : " جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر " ، إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم ، أو جنس المخلوقات ، فإن كان المراد هو الأول كان النبي  قد أجابهم ؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم ، وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم ؛ لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً ؛ بل قال : " كان الله ولا شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض " ، فلم يذكر إلا خلق السموات والأرض ، لم يذكر خلق العرش ، مع أن العرش مخلوق أيضاً ، فإنه يقول : " وهو رب العرش العظيم " وهو خالق كل شيء : العرش وغيره ، ورب كل شيء : العرش وغيره . وفي حديث أبي رزين قد أخبر النبي  بخلق العرش . وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه ، بل أخبر بخلق السموات والأرض ، فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم لا بأول الخلق مطلقاً .
          وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم انهم إنما سألوه عن هذا ، لم يسألوه عن أول الخلق مطلقاً ، فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه ، بل هو  منزه عن ذلك ، مع أن لفظه إنما يدل على هذا ؛ لا يدل على ذكره أول الخلق وإخباره بخلق السموات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض ، فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب . وإنما سألوه عن أول هذا الأمر ، فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك ، كما نطق في أولها في أول الأمر "خلق الله السموات والأرض "وبعضهم يشرحها في البدء أو في الابتداء خلق الله السموات والأرض.
          والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض . وأنه كان الماء غامراً للأرض ، وكانت الريح تهب على الماء ، فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماء وهواء وترابا ، وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ، وفي الآية الأخرى :  ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض : ائتيا طوعاً أو كرهاً ، قالتا : أتينا طائعين  ، وقد جاءت الآثار عن السلف بأن السماء خلقت من بخار الماء وهو الدخان .
          والمقصود هنا : أن النبي  أجابهم عما سألوه عنه ولم يذكر إلا ابتداء خلق السموات والأرض ، فدل على أن قولهم : " جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر " كان مرادهم خلق هذا العالم ، والله أعلم .
          ( الوجه الثاني ) : أن قولهم : " هذا الأمر " إشارة إلى حاضر موجود ، والأمر يراد به المصدر ، ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره ، وهذا مرادهم ، فإن الذي هو قوله : كن ليس مشهوداً مشاراً إليه ، بل المشهود المشار إليه هذا المأمور به ، قال تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً  ، وقال تعالى :  أتي أمر الله  ، ونظائره متعددة ، ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لم يشيروا إليه بهذا ؛ فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا ، بل لم يعلموه أيضاً ؛ فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء ، والرسول  لم يخبرهم بذلك ، ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه ، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
          ( الوجه الثالث ) : أنـه قـال : " كـان الله ولـم يكـن شـيء قبلـه "
          وقد روي : " معه" ، وروي : " غيره " ، و الألفاظ الثلاثة فـي البخاري (1).
          __________________________________________________ __________
          (1) نسب هنـا شيخ الإسـلام روايـة ( ولا شيء معه ) إلى البخـاري وكـذا فعل
          في الصفدية ( 1/15) و (2/224) وفي الفتاوى (2/275) عزاه إلى أصحاب الصحيح من غير نسبة إلى البخاري ، وفي تفسير ابن كثير ( 3/226) عزا هذه الرواية إلى البخاري (أيضا) وتابعهم ابن أبي العز ، وقال الحافظ في الفتح (13/421) ، وفي رواية (كان الله قبل كل شيء ) وهو بمعنى ( كان الله ولا شيء معه )ا 0 هـ .
          وعزا محمد الخضر الشنقيطي في كتابه استحالة المعية بالذات ص 327 هذه الرواية إلى صحيح مسلم وهي ليست فيه أيضاً .
          وقد عزا الكوثري في حاشية السيف الصقيل ص86 هذه الرواية إلى ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة وهي ليست فيها بل برواية ولم يكن شيء غيره
          وقد وجدت الحافظ في الفتح ( 6/333) يقول : إنها في رواية غير البخاري ا 0 هـ .
          وبعد البحث في كتب السنة لم أجد هذه الرواية وإنما وجدت روايتين فقط هما :
          أ‌- لا شيء غيره ، وهي التي رواها الحاكم في المستدرك (2/372) ، وابن حبان في صحيحه (14/7] وابن أبي شيبة في العرش ص 294، والدارمي في رده على بشر (1/461) ، والطبراني في المعجم الكبير في ثلاثة مواضع في (18/203، 204،205) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/3) .
          ب‌- ولا شيء قبله ، وهي التي رواها أحمد في مسنده (4/431) وابن حبان في صحيحه (14/11) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/2) ، وفي الأسماء والصفات ( 1/564) ، والذهبي في العلو ص 66 ، والروايتان في البخاري أيضاً .

          والمجلس كان واحداً ، وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس ، وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين انقضى المجلس ؛ بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس ، وهو المخبر بلفظ الرسول ، فدل على أنه إنما قال أحـد "أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " ، وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى :  هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن  وإذا ثبت في هذا الحديث [ القبل ] فقد ثبت أن الرسول  قاله ، واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبداً ، وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل : " كان الله ولا شيء قبلـه " ، مثل :الحميدي (1) والبغوي (2) وابن الأثير (3) وغيرهم . (4) .
          وإذا كان إنما قال : " كان الله ولم يكن شيء قبله " لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق .
          ( الوجه الرابع ) : أنه قال فيه : " كان الله ولم يكن شيء قبله ، أو معه ، أو غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء " فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو ، لم يذكر في شيء منها ثم ، وإنما جاء ثم في قوله : " خلق السموات والأرض " وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم ، وبعضهم ذكرها بالواو .
          __________________________________________________ ___________
          (1) في الجمع بين الصحيحين ( 1/353) .
          (2) في مصابيح السنة ( 4/16) .
          (3) في جامع الأصول (4/15) .
          (4) كأبي حفص الموصلي في الجمع بين الصحيحين ( 1/261) .
          فأما الجمل الثلاث المتقدمة فالرواة متفقون على انه ذكرها بلفظ الواو ، ومعلوم ان لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور ، فلا يفيد الإخبار بتقديم بعض ذلك على بعض ، وإن قدر أن الترتيب مقصود ، إما من ترتيب الذكر لكونه قدم بعض ذلك على بعض ، واما من الواو عند من يقول به ، فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء ، وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكـر كل شيء ، وتقـديم كتابتـه في الذكـر كل شيء على تقديم خلق السموات والأرض ، وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً ، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء ، وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر ، لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما ، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك .
          ( الوجه الخامس ) أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها ولم يتعرض لابتداء خلقها ، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها ، وسواء كان قوله : " وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك ، وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن ، وإن كان قد خلق من مادة ، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي  انه قال : " خلق الله الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .
          فإن كان لفظ الرسول  " ثم خلق " فقد دل على ان خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كون عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر ، وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله  ؛ لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظة الترتيب ، وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده انه خلق السموات والأرض بعد ذلك ؛ وكما دل على ذلك سائر النصوص ؛ فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء ؛ فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السموات والأرض ، وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السموات والأرض ، - وقد أخبر عن خلق السموات مع كون ذلك – علم ان مقصوده خلق السموات والأرض حين كان العرش على الماء ، كما أخبر بذلك في القرآن ، وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال : " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " ، فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء .
          ( الوجه السادس ) أن النبي  : إما أن يكون قد قال : " كان ولم يكن قبله شيء " ؛ واما أن يكون قد قال : " ولا شيء معه " ؛ " او غيره " . فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث ، وإن كان قد قال الثاني أو الثالث فقوله : " ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر " : اما أن يكون مراده انه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء ؛ أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء . فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالم ، ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود وكان عرشه على الماء .
          وأما القسم الثالث : وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه وبعد ذلك كان عرشه على الماء وكتب في الذكر ثم خلق السموات والأرض ، فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقاً ، بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء ، بل إنما فيه إخباره بخلق السموات والأرض ، ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك ، بل ذكره بحرف الواو ، والواو للجمع المطلق والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه . وإذا كان لم يبين الحديث أول المخلوقات ولا ذكر متى كان خلق العرش الذي أخبر انه كان على الماء مقروناً بقوله : " كان الله ولا شيء معه " ، دل ذلك على أن النبي  لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء ، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك ؛ إذ لم يكن لفظه دالاً على ذلك ، وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض .
          ( الوجه السابع ) أن يقال : لا يجوز أن يجزم بالمعنى الذي أراده الرسول  إلا بدليل يدل على مراده ، فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعنى وهذا المعنى لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل ، فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما فمن جزم بأن الرسول  أراد ذلك المعنى الآخر فهو مخطىء .
          ( الوجه الثامن ) : أن يقال : هذا المطلوب لو كان حقاً لكان أجل من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحد ، ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور ؛ لحاجة الناس إلى معرفة ذلك ؛ لما وقع من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس . فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب ؛ لم يجز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث بسياقه ، وإنما سمعوا أن النبي  قال : " كان الله ولا شيء معه " فظنوه لفظاً ثابتاً مع تجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي  ، وظنوا معناه الإخبار بتقديمه تعالى على كل شيء ،وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي  ، وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم ، بل ولا ظن يستند إلى إمارة .
          وهب أنهم لم يجزموا بأن مراده المعنى الآخر ، فليس عندهم ما يوجب الجزم بهذا المعنى وجاء بينهم الشك ، وهم ينسبون إلى الرسول ما لا علم عندهم بأنه قاله ، وقد قال تعالى :  و لا تقف ما ليس لك به علم  ، وقال تعالـى : قل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛ والإثم والبغي بغير الحق ؛ وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ؛ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وهذا كله لا يجوز .
          ( الوجه العاشر ) أنه قد زاد فيه بعض الناس : " وهو الآن على ما عليه كان " ، وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده ، وليست في شيء من الروايات . ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود ، بل وجوده عين وجود المخلوقات ! كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون : عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق . كما يقوله ابن عربي ؛ وابن سبعين ؛ والقونوي ؛ والتلمساني ؛ وابن الفارض ؛ ونحوهم . وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعاً وعقلاً أنه باطل .
          ( الوجه الحادي عشر ) أن كثيراً من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع : أن الحوادث لها ابتداء ، وإن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطبق به ؛ مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين واليهود والنصارى ، كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام الذي ذمه السلف ؛ وخالفوا به الشرع والعقل . وبعضهم يحكيه إجماعاً للمسلمين ، وليس معهم بذلك نقل ، لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن الكتاب والسنة فضلاً عن أن يكون هو قول جميع المسلمين .
          وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال بقدم العالم ، ووافق الفلاسفة الدهرية ؛ لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها إلا قولين : قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته ، سواء قيل : هو موجود بنفسه ؛ أو معلول لغيره . وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام : الجهمية ؛ والمعتزلة ؛ والكرامية ؛ الذين يقولون : إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء ، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً .
          وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون : بل الكلام قديم العين إما معنى واحد ، وأما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان ، ويقول هؤلاء : ان الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته ، إما قائماً بذاته أو منفصلاً عنه عند من يجوز ذلك ، وإما منفصلاً عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته .
          ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء ، وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ، فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمناً بأن الرسل لا يقولون إلا حقاً يظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم . ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك ، لا نصاً ولا ظاهراً ، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي  والتابعين لهم بإحسان.
          وقد جعلوا ذلك معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم ، ليس عندهم ما يعلمون به ان الرسول قاله ولا في العقل ما يدل عليه ، بل العقل والسمع يدل على خلافه ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه .
          ( الوجه الثاني عشر ) أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم ، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج ، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها ، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة ، وسموا ذلك إثباتا لحدوث الأجسام ، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل ، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به ، بل كلامه مخلوق منفصل عنه ، وكذلك رضاه وغضبه ، والتزموا على ذلك أن الله لا يرى في الآخرة ، وأنه ليس فوق العرش ، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله ، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول  ، وتسلط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها .
          وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم وبينوا فساده . ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول  واعتقدوا أنه باطل ، قالوا : ان الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها ، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به . فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات ، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة ، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان : قول أولئك المتكلمين وقولهم . وقد رأوا أن قول أولئك باطل ، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم ، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً ، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله  .
          ( الوجه الثالث عشر ) : ان الغلط في معنى هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة ، بل والمعقول الصريح ؛ فإنه أوقع كثيراً من النظار واتباعهم في الحيرة والضلال ، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين : قول الدهرية القائلين بالقدم ، وقول الجهمية لقائلين بأنه لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته ، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه ، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين ، وهذه حال من لا يحصى منهم ، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره .
          ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول المعين مقارناً للفاعل أزلاً وأبداً . وصريح العقل يقتضي بأنه لابد أن يتقدم الفاعل على فعله ، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل عليه ؛ بل هو معه أزلاً وأبداً : أمر يناقض صريح العقل . وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن . ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا ، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر ، ولم يقله إلا شر ذمه قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله .
          وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون : أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء ؛ بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء ، وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم ، فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً ، ورأوا صريح العقل يقتضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً ، فلابد من حدوث شيء وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان ممتنعاً بلا حدوث ، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث ؛ وأن حدوث جنس الوقت ممتنع ، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين ، وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد ان لم يكن فيكون الفعل معه ، فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد ان لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم ، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم ، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم ، ووجدوا عقولهم تقصر عما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي ، والجمع بين النقيضين ممتنع ، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك .
          ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل ، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة ، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات ، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً ، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً ، و بين آحاد الفعل والكلام ، فيقول : كل واحد من أفعاله لابد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم ، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل ، فإذا كان الفاعل حياً ، وقيل : إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما فإذا كان الفاعل حياً ، وقيل : إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما ، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك ، كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة : كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته ، وحياته لازمة له ، فلم يزل متكلماً فعالاً ، مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته ، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل ، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله ، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق ، ولا نقول : أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق [له قدرة ] والذي ليس له قدرة هو عاجز ، ولكن نقول : لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً ، لا شبه له ولا كيف .
          فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه ، لا بل هو خالق كل شيء ، وكل ما سواه مخلوق له ، وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن وان قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً .
          وإذا قيل : أن الخلق صفة كمال ؛ لقوله تعالى  افمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم ، وليس مع الله شيء قديم ؟ وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب . وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله ، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول .
          فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وان ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعليه فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية ، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى ، ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما أنزل على الرسول  فإن أوله :  اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم  . فأطلق الخلق ثم خص الإنسان ، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم ، والخلق يتضمن فعله ، والتعليم يتضمن قوله ، فإنه يعلم بتكليمه وتكليمه بالايحاء ؛ وبالتكلم من وراء حجاب ، وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء ، قال تعالى :  وعلمك ما لم تكن تعلم ) ، وقال تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم  ، وقال تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل : رب زدني علماً  وقال تعالى :  الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان الشمس والقمر بحسبان .
          وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم ، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل ، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً ، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له ، فإن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله 0
          ( الوجه الرابع عشر ) : أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له ، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته ، وهي المخلوقات المشهودة الموجودة : من السموات والأرض وما بينهما ، فأخبر [ في ] الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهورة في ستة أيام ثم استوى على العرش .
          وشرع لأهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يوماً يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك ، ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق الله فيه السموات والأرض . ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع فإن التسمية تتبع النصوص فالاسم يعبر عما تصوره ، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفاً بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك ، واما الأسبوع فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم ، وحينئذ فاخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه ، وأنه خلقه في ستة أيام ، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما . وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً .
          ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " قام فينا رسول الله  مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم " رواه البخاري . فالنبي  أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما .
          وقوله : " بدأ الخلق " مثل قوله في الحديث الآخر : " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء ، ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم ، كما في حديث القلم : ان الله لما خلقه قال : أكتب ! قال : وماذا اكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
          وكذلك في الحديث الصحيح : " ان الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقوله في الحديث الآخر الصحيح : " كان الله ولا شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السموات والأرض " ، يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك ؛ فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له ، كما في قوله :  بكل شيء عليم  ،  وعلى كل شيء قدير  ، وقوله : الله خالق كل شيء  ،  تدمر كل شيء  ، وأوتيت من كل شيء  ، و فتحنا عليهم أبواب كل شيء  ،  ومن كل شيء خلقنا زوجين  ، وأخبرت الرسل بتقديم أسمائه وصفاته كما في قوله :  وكان الله عزيزاً حكيماً ،  سميعاً بصيراً  ،  غفوراً رحيماً  وأمثال ذلك .
          قال ابن عباس : " كان ولا يزال " ولم يقيد كونه بوقت دون وقت ويمتنع أن يحدث له غيره صفة ، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه ، فهو المستحق لغاية الكمال ، وذاته هي المستوجبة لذلك . فلا يتوقف شيء من كماله ولوازم كماله على غيره . بل نفسه المقدسة ، وهو المحمود على ذلك أزلاً وأبداً ، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه ،. وأما غيره فلا يحصى ثناء عليه ، بل هو نفسه كما أثنى على نفسه ، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ،وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ،أنت كما أثنيت على نفسك "
          وإذا قيل : لم يكن متكلماً ثم تكلم ، أو قيل : كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له ، كان هذا مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال : ممتنعاً ؛ من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب ، والعدم المحض لا شيء فيه ، فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث .
          وكذلك إذا قيل : كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة ، كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين ، إذ هو إثبات لموجود حقيقة له ، بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال
          وكذلك إذا قيل : كلامه كله قديم العين ، وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة . كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده ففي المعقول لا كمال فيه ، إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه .
          أما قول من يقول : ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره . فهذا تعطيل للكلام من كل وجه ، وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية ، وهو سلب للصفات ؛ إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه : ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين ، بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهي ؛ ويخبر ويبشر ؛ وينذر وينادي ؛ من غير أن يقوم به شيء من ذلك ، كما قالوا : أنه يريد ويحب ويبغض ؛ ويغضب ، من غير أن يقول به شيء من ذلك ، وفي هذا من مخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
          وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف ؛ ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره ، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والتخيلات ، وهذا معنى تكليمه لموسى عليه السلام عندهم ، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم ، ثم إذا قالوا مع ذلك : أنه لا يعلم الجزئيات ، فلا علم ولا أعلام ، وهذا غاية التعطيل والنقص ، وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم ، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل ، وأنه لم يزل الفاعل فاعلاً أو لم يزل لفعله مدة ؛ أو أنه لم يزل للمادة مادة . وليس في شيء من أدلتهم ما يل على قدم الفلك ، ولا قدم شيء من حركاته ؛ ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك . والرسل أخبرت بخلق الأفلاك وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها ، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك ، وفي زمان قبل هذا الزمان ؛ فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وسواء قيل : أن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها ؛ أو قيل : أنها أكبر منها كما قال بعضهم : إن كل يوم قدره ألف سنة ، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام ، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك . وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض .
          وقد أخبر سبحانه أنه  استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض : ائتيا طوعاً أو كرهاً ! قالتا : أتينا طائعين  فخلقت من الدخان وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء ؛ وهو الماء الذي كان العرش عليه ، المذكور في قوله :  وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء  ، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة ، ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شئ ، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئاً ، كما قال :  و قد خلقتك من قبل ولـم تك شيئاً  ، مع إخباره أنه خلقه من نطفة .
          وقوله :  أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟  فيها قولان .
          فالاكثرون على ان المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض ؟ كما قال تعالى :  وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه  ، وكما قال تعالى:  وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه  ، و قـال تعالى :  وما بكم من نعمة فمن الله  .
          وقيل : أم خلقوا من غير مادة ؟ وهذا ضعيف ، لقوله بعد ذلك :  أم هم الخالقون ؟  ، فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق ، أو هم الخالقون ؟ ولو كان المراد من غير مادة لقال : أم خلقوا من غير شيء ، أو من ماء مهين ؟ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم .
          ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق ، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في ايمانهم بالخالق بل دل على جهلهم ، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك ، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم ، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم ، والاستفهام استفهام انكار مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء ، فإذا أقروا بأن خالقاً خلقهم نفعهم ذلك ، وأما إذا أقروا بأنهم خلقـوا من مـادة لم يغـن
          ذلك عنهم من الله شيئاً .
          ( الوجه الخامس عشر ) : أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به ؛ وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه ، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادراً على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له ؛ فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته ، والتي هي من أظهر صفات الكمال ، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني ، فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلابد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن . فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن . وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد ان لم يكن قبل هذا ، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر ثم جعله غيره عالماً قادراً ، وكذلك إذا قالوا : كان غير متكلم ثم صار متكلماً .
          وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية ؛ إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلما ، قالوا : كالإنسان ، قال : فقد جمعتم بين تشبيه وكفر . وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع .
          وإذا قال القائل : كان في الأزل قادراً على أن يخلق فيما لا يزال ، كان هذا كلاماً متناقضاً ، لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل ، ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادراً في الأزل ؛ فإن الجمع بين كونه قادراً وبين كون المقدور ممتنعاً جمع بين الضدين ، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادراً .
          وأيضاً يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعاً إلى كونه ممكناً بغير سبب موجب يحدد ذلك وعدم ممتنع .
          وأيضاً فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهـو قـادر ، وإذا
          قدر قبل ذلك شيئاً شاءه الله فالأمر كذلك ، فلم يزل قادراً والفعل ممكن ؛ وليس لقدرته وتمكنه من الفعل أول ، فلم يزل قادراً يمكنه أن يفعل ، فلم يكن الفعل ممتنعاً عليه قط .
          وأيضاً فانهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل والأزل . ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل ، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة ، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها ؛ وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة فني الخردل كله والأزل لم ينته ، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافاً لا ينتهي . فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك . وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى ؟
          وأيضاً فالأزل معناه : عدم الأولية ، ليس الأزل شيئاً محدوداً ، فقولنا : لم يزل قادراً بمنزلة قولنا : هو قادر دائماً ، وكونه قادراً وصف دائم لا ابتداء له ، فكذلك إذا قيل : لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء ، يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته ، وإذا ظن الظان ان هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره ، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مسبوق بالعدم ، فليس معه شيء قديم بقدمه . وإذا قيل : لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق ، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً يعد مخلوق ، ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئاً بعد شيء ، وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل ، لا بأن معه مفعولاً من المفعولات بعينه .
          وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل ، بل هي من كماله ، قال تعالى :  أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون ؟  والخلق لا يزالون معه ، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله ، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن إذ كان كل مخلوق فله ابتداء ، ولا نجزم أن يكون له انتهاء .
          وهذا فرق في أعيان المخلوقات ، وهو فرق صحيح لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين ، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام فلم يفرقوا بين كونه كلامه قديماً بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ، وبين كون الكلام المعين قديماً .
          وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين [ قديماً وبين كون نوع الفعل ] المعين قديماً كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم ، وكذلك كل ما سواه ، وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار ، وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه ، كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع ، وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح .
          وإن غلط أهل الفلسفة والكلام أو غيرهم فيهما أو في أحدهما ، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً ، قال تعالى :  والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون  ، بعد قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه  ، وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق ، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع
          أحدهما بالآخر .
          وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل مالا يصح نسبته إليه ، أو كذب بالحق لما جاءه ، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل ، وقال تعالى عن أهل النار :  لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير  فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار . وقال تعالى :  أو لم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور  ، وقال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق  أي : ان القرآن حق ، فأخبر أنه سيرى عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق .
          ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك .
          فطائفة – كأرسطو وأتباعه – قالت : لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً ؛ وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن ، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً ، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في زمان ، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة ، ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم ، فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين .
          وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك ، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلاً ، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً ،وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب ، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب ، وكان الشيء بعد ما لم يكن في غير زمان ، وأمثال ذلك مما يخالف صريح العقل .
          وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى ، وليس هذا القول منقولاً عن موسى ؛ ولا عيسى ؛ ولا محمد صلوات الله عليهم وسلامه ؛ ولا عن أحد من أصحابهم ، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم ، فظنوا أن هذا قول الرسل  الله عليهم وسلم ،وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم : إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية ، وإما بعدم بيان الحق . وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول  وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان . فإن الله تعالى أرسل رسوله  بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيداً .
          ثالثاً : المعقول من وجوه :
          1- برهان التطبيق والموازنة والمسامتة :
          وهو أشهر الأدلة وأجلاها ، بل هو عمدتها ، عند المتكلمين ، وحاصله ، أننا لو فرضنا ، سلسلتين غير متناهيتين ، احداهما تزيد عن الأخرى ، بأن نفرض أن الأولى تبدأ من أكتوبر سنة 1985 ، إلى غير بداية في الماضي ، وأن الثانية تبدأ من أكتوبر سنة 1984 ، إلى غير بداية في الماضي ، أيضاً ، ثم تطابق بين هاتين السلسلتين ، بأن نأخذ الحلقة الأولى ، ونطبقها على الحلقة الأولى ، من السلسة الثانية ، ثم نأخذ الحلقة الثانية ، من السلسلة الأولى ، ونطبقها على الحلقة الثانية ، من السلسلة الثانية ، وهكذا ، تنطبق الثالثة بالثالثة ، والرابعة بالرابعة ، والخامسة بالخامسة ،وهلم جرا ، ذاهبين بالتطبيق نحو الماضي ، فلا يخلو الأمر : اما أن يستمر التطبيق ، إلى غير نهاية فيترتب مع ذلك مساواة الزائد للناقص وهذا ظاهر البطلان ، أو تنتهي الناقصة ، فيلزم أيضاً انتهاء الزائدة ، لأنها قد زادت عليها ، بقدر متناهي ، والزائد بالمتناهي متناهي ، وبذلك ينقطع التسلسل ، وهو المطلوب إثباته .
          والرد على هذا الدليل من وجوه : -
          أ‌- إن التطبيق بين المتفاضلين غير وارد وإنما يرد في المتماثلين - ولو سلم فيرد عليه أمر آخر وهو :
          ب‌- وهو قولهم : إنه " إذا لم تفرغ السلسلتان لزم مساواة الناقص للزائد " غير صحيح ، لأن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار ، وهذا يتضح بمثال وهو :
          إذا ضاعف شخص : الواحد تضعيفاً لا يتناهى هكذا :
          21 ، 31 ، 41 ، 51 ، 61 ، 71
          __________________________________________________ _________
          (1) انظر علم التوحيد د 0 عبد الحميد ص 104 ، حاشية الأمير على اللقاني ص61 ، شرح جوهرة اللقاني للبيجوري ص52 ، والمواقف للإيجى ص90 وشرحه للجرجاني (4/168)

          ثم ضاعف الاثنين كذلك تضعيفاً لا يتناهي هكذا :
          22 ، 32 ، 42 ، 52 ، 62 ، 72
          فإن الواحد والاثنين اشتركا في عدم التناهي في التضعيف ، وهما قطعاً لا يتساويان لأن حاصل تضعيف الواحد دائماً يساوي واحداً فالمسألة هكذا :
          21 = 1، 31=1، 41 =1 …
          أما الرقم اثنان فإنه يزاداد مقداره بتضعيفه هكذا
          22 = 4 ، 32 =8 ، 42 = 16، 52 = 32 ، ……
          فظهر من هذا أن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار .
          جـ- وأما قولهم " لتحقق الزيادة في أحدهما " فغير وارد لأن هذه الزيادة في الجهة المتناهية وهي المستقبل ، فلا يلزم إذاً المساواة بينهما في الماضي ، وغاية ما في الأمر أنه لم يمكنهم حصر الأعداد في الماضي بحسب الواقع بل بحكم العقل .
          ولهذا فإن التفتازاني لما وجد صعوبة في بيان برهان التطبيق لإبطال حوادث لا أول لها قال : " والحق أن تحصيل الجملتين من سلسلة واحدة ثم مقابلة جزء من هذه بجزء من تلك إنما هو بحسب العقل دون الخارج ، فإن كفى في تمام الدليل حكم العقل بأنه لابد أن يقع بإزاء كل جزء جزء أو لا يقع ، فالدليل جار في الأعداد وفي الموجودات المتعاقبة والمجتمعة والمترتبة وغير المترتبة ، لأن للعقل أن يفرض ذلك في الكل ، وإن لم يكف ذلك بل اشترط ملاحظة أجزاء الجملتين على التفصيل لم يتم الدليل في الموجودات المترتبة فضلاً عما عداها ، لأنه لا سبيل إلى ذلك إلا فيما لا يتناهى من الزمان " وقال الظواهري بعد نقل كلام التفتازاني " وبعد ما تقدم صار التطبيق غير متفق عليه في إبطال التسلسل وإن قيل إنه العمدة !! " ا هـ .
          (2) أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم ، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان فيلزم من التسلسل قدم المفعول .
          والجواب على ذلك أنه : لا يلزم من ذلك قدم العالم ، لأن كل ما سوى الله محدث ممكن الوجود ، موجود بإيجاد الله تعالى له ، ليس له من نفسه إلا العدم ، والفقر والإحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى ، والله تعالى واجب الوجود لذاته ، غني لذاته ، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى بل القول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك وإن الله لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلاً .
          (3) ما أورد أبو المعالي في " إرشاده " (2) وغيره من النظار على التسلسل
          في الماضي ، فقالوا : لأنك لو قلت : لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده درهماً ، كان هذا ممكناً ، ولو قلت : لا أعطيك درهماً حتى أعطيك قبله درهماً ، كان هذا ممتنعاً .
          __________________________________________________ _________
          (1) أنظر درء التعارض ( 1/304) ، ومنهاج السنة ( 1/434) ، ومنهج أهل السنة والأشاعرة لخالد نور ( 1/363)
          (2) ص47
          فهو قد فرق بمثاله بين الماضي و المستقبل ، وذكر أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل : لا أعطيك درهماً ، إلا أعطيتك بعده درهماً ، وهذا كلام صحيح ، والماضي بمنزلة أن يقول : لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً ، وهذا كلام متناقض .
          وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن هذا المثال ليس بمطابق ؛ " لأن قوله : لا أعطيك : نفي للحاضر والمستقبل ، ليس نفياً للماضي ، فإذا قال : لا أعطيك هذه الساعة ، أو بعدها شيئاً ، إلا أعطيتك قبله شيئاً ؛ اقتضى أن لا يحدث فعلاً الآن ، حتى يحدث فعلاً في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول : لا أفعل حتى أفعل : وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول : ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً ؛ فكلاهما ماض .
          فإذا قال القائل : ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء : كان مثاله أن يقول : ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء . وكل ما له ابتداء وانتهاء ؛ كعمر العبد : يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له ، أو عطاء لا ابتداء له . وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال "
          فهذا المثال الذي ذكره الجويني على الفرق بين الماضي والمستقبل ، ليس مطابقاً فلا يصح لأن يكون دليلاً على التفريق بينهما .
          وقد قلبه شيخ الإسلام رحمه الله ؛ فجعله حجة على قائله ، وبين أن مطابقته لحوادث الماضي أبين .
          __________________________________________________
          (1) درء التعارض (2/359) ، (9/186) .
          (2) نظر حاشية الشرقاوي على أم البراهين ص103
          (4) ومن شبههم أيضاً أنه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثاً ، فكيف يكون نوعه قديماً مع أن النوع ليس إلا مجموعة الأفراد ، فإذا كان كل فرد حادثاً مسبوقاً بالعدم ، كان الكل كذلك ، إذ لا يصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الأفراد ، فإذا قلت مثلاً كل زنجي أسود ، كان الكل أسود بالضرورة ويقول الشيخ هراس في كتاب ابن تيمية السلفي ص127:
          ولكن كيف يقول ابن تيمية بقدم جنس الصفات والأفعال مع حدوث آحادها ، وهل الجنس شيء آخر غير الإفراد مجتمعة ، وهل للكلي وجود إلا في ضمن جزئياته فإذا كان كل جزئي من جزئياته حادثاً فكيف يكون الكلي قديماً .
          ويقول ص 123 :
          وقد رأيت سعد الدين التفتازاني في رده على الفلاسفة القائلين بقدم الحركة بالنوع مع حدوث أشخاصها يقول بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزئياتها أزلياً إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن جزئياته ويذكر أيضاً عند بيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية أنه لما كان كل حادث مسبوقاً بالعدم كان الكل كذلك فإذا كان كل زنجي أسود كان الكل أسود ضرورة .
          وقد تعقبه الجلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية وعد ذلك سخافة منه وبين أن مراد الفلاسفة بقدم الحركة هو قدم نوعها بمعنى أن لا يزال فرد من أفراد ذلك النوع موجوداً بحيث لا ينقطع بالكلية ثم قال ومن البين أن حدوث كل فرد لا ينافي ذلك أصلاً وضرب لذلك مثلاً بالورد الذي لا يبقى منه فرد أكثر من يوم أو يومين مع أن الورد باق أكثر من شهر أو شهرين .
          ونحن نقول له هذا قياس باطل فإن الكلام ليس فيما لا نهاية له من الحوادث في جانب المستقبل كما يقول به كثير من المتكلمين في نعيم أهل الجنة ونحو ذلك حتى يعترض ببقاء الورد مع فناء كل فرد من أفراده وإنما كلامنا فيما لا بداية له من الحوادث في جانب الماضي بمعنى أنه ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث لا إلى أول بحيث يكون جنس هذه الحوادث قديماً ، وكل فرد منها حادثاً هل هو معقول أو لا الحق أنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبيرا0هـ.
          وأجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة في منهاج السنة (1/426) بقوله(1) :
          لا يلزم من حدوث كل فرد فرد مع كون الحوادث متعاقبة [ حدوث النوع ] ، فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلاً عن الفعل والكلام ، ثم حدث ذلك بلا سبب ، كما لم يلزم [ مثل ] ذلك في المستقبل ، فإن كل فرد فرد من المستقبلات المنقضية فان ، وليس النوع فانياً كما قال تعالى :  أكلها دائم وظلها  [ سورة الرعد : 35] وقال إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ سورة ص : 54 ] فالدائم الذي لا ينفد - أي لا ينقضي - هو النوع ، وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم .
          وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد إذا كان لمعنى موجود في الجملة [وصفت به الجملة ، مثل وصف كل فرد بوجود أو إمكان أو بعدم ، فإنه يستلزم وصف الجملة] بالوجود والإمكان والعدم ، لأن طبيعة الجميع هي طبيعة كل واحد واحد ، وليس المجموع إلا الآحاد الممكنة أو الموجودة أو المعدومة .
          _________________________________________________
          (1) وانظر درء التعارض (9/137-158)
          وأما إذا كان ما وصف به الأفراد لا يكون صفة للجملة ، لم يلزم أن يكون حكم الجملة حكم الأفراد ، كما في أجزاء البيت والإنسان [ والشجرة ] ، فإنه ليس كل منها بيتاً ولا إنساناً [ ولا شجرة ] ، وأجزاء الطويل والعريض والدائم والممتد ، لا يلزم أن يكون كل مكنها طويلاً وعريضاً ودائماً وممتداً .
          وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث ، لم يلزم أن يكون النوع منقطعاً أو حادثاً ، بعد أن لم يكن ، لأن حدوثه معناه أنه وجد بعد أن لم يكن كما أن فناءه معناه أنه عدم بعد وجوده . وكونه عدم بعد وجوده أو وجد بعد عدمه ، أمر يرجع إلى وجوده وعدمه ، لا إلى نفس الطبيعة الثابتة للمجموع ، كما في الأفراد الموجودة أو المعدومة أو الممكنة ، فليس إذا كان هذا المعين لا يدوم ، يلزم أن يكون نوعه لا يدوم ، ، لأن الدوام تعاقب الأفراد ، وهذا أمر يختص به المجموع لا يوصف به الواحد ، وإذا حصل للمجموع بالاجتماع حكم يخالف به حكم الأفراد ، لم يجب مساواة المجموع للأفراد في أحكامه وبالجملة فما يوصف به الأفراد قد توصف به الجملة وقد لا توصف به ، فلا يلزم من حدوث الفرد حدوث النوع ، إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد .
          وضابط ذلك أنه إن كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد ، لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد ، وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد ، كان حكم المجموع حكم أفراده .
          مثال الأول : إنا إذا ضممنا هذا الجزء إلى هذا الجزء ، صار المجموع أكثر وأطول وأعظم من كل فرد ، فلا يكون في مثل هذا حكم المجموع حكم الأفراد ، فإذا قيل : إن هذا اليوم طويل ، لم يلزم أن يكون جزؤه طويلاً وكذلك إذا قيل : هذا الشخص أو الجسم طويل أو ممتد ، أو قيل : إن هذه الصلاة طويلة ، أو قيل [ إن ] هذا النعيم دائم ؛ لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائماً .
          قال الله تعالى  أكلها دائم وظلها  [ سورة الرعد : 35] ، وليس كل جزء من أجزاء الأكل دائماً ، وكذلك في الحديث الصحيح قوله  : " أحب العمل إلى الله أدومه " وقول عائشة [ رضي الله عنها ] : وكان عمله ديمة فإذا كان عمل المرء دائماً ، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائماً وكذلك إذا قيل : هذا المجموع عشر أوقية أو نش أو إستار ، لم يلزم أن يكون كل جزء من أجزائه عُشر أوقية ولا نشا ولا إستارا ، لأن المجموع حصل بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض ، والاجتماع ليس موجوداً للأفراد .
          وهذا بخلاف ما إذا قيل كل جزء من الأجزاء معدوم أو موجود أو ممكن أو واجب أو ممتنع ، فإنه يجب في المجموع أن يكون معدوماً أو موجوداً أو ممكناً أو واجباً أو ممتنعاً ، وكذلك إذا قلت : كل واحد من الزنج أسود ، فإنه يجب أن يكون المجموع سوداً ، لأن اقتران الموجود بالموجود لا يخرجه عن كونه موجوداً ، واقتران المعدوم بالمعدوم لا يخرجه عن العدم ، واقتران الممكن لذاته والممتنع لذاته بنظيره لا يخرجه عن كونه ممكناً لذاته وممتنعاً لذاته بخلاف ما لا يكون ممتنعاً لذاته إلا إذا انفرد وهو بالاقتران يصير ممكناً ، كالعلم مع الحياة ، فإنه وحده ممتنع ومع الحياة ممكن ، وكذلك أحد الضدين هو وحده ممكن ومع الآخر ممتنع اجتماعهما ، فالمتلازمان يمتنع انفراد أحدهما ، والمتضادان يمتنع اجتماعهما .
          وبهذا يتبين الفرق بين دوام الآثار الحادثة الفانية واتصالها ، وبين وجود علل ومعلولات ممكنة لا نهاية لها . فإن من الناس من سوى بين القسمين في الامتناع ، كما يقوله كثير من أهل الكلام ، ومن الناس من توهم أن التأثير واحد في الإمكان والامتناع ، ثم لم يتبين له امتناع علل ومعلولات لا تتناهى ، وظن أن هذا موضع مشكل لا يقوم على امتناعه حجة ، وإن لم يكتب قولاً لأحد ، كما ذكر ذلك الآمدى في " رموز الكنوز " والأبهري [ومن اتبعهما ]
          والفرق بين النوعين حاصل ، فإن الحادث المعين إذا ضم إلى الحادث المعين ، حصل من الدوام والامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلاً للأفراد ، فإذا كان المجموع طويلاً ومديداً ودائماً وكثيراً وعظيماً ، لم يلزم أن يكون كل فرد طويلاً ومديداً ودائماً وكثيراً وعظيماً ا0هـ .وانظر الصفدية ايضاً (1/24-27) .

          وقال الرازي في المباحث المشرقية ( 1/781) :
          أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثُبوت الأول للكل إذ من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفاً لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة . فكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم . بل نقول إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساوياً لجزئه من حيث هو جزء وإلا لم يكن أحدهما كلاً والآخر جزءاً وأما المثال الواحد فلا يكفي لأنا لا ندعي أن حكم الجملة يجب أن يكون مساوياً لحكم الآحاد حتى يضرنا المثال الواحد بل نقول ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون والأمر فيه موقوف على البرهان .
          وقال في المطالب ( 4/275) :
          والدليل على أنه قد لا يحصل التساوي : وجوه .
          الأول : إن كل شيء وجزؤه ، لا يتساويان في كونه كلا وجزءاً . وذلك لأن الكل يصدق عليه : أنه كل ، ويكذب عليه أنه جزء . وأما الجزء فيصدق عليه : أنه جزء ، ويكذب عليه أنه كل . فثبت أن الكل والجزء لا يتساويان في كل الأحكام ، وكذلك كل واحد من أجزاء العشرة ليس بعشرة ، مع أن مجموع العشرة موصوف بأنه عشرة .
          والثاني : إن لكل من الناس رأس [ واحد ] وليس للكل رأس واحد .
          والثالث : إن الجسم يجوز خلوه عن الحركة بعينها ، وعن السكون بعينه ، مع أنه لا يجوز خلوه عنهما معاً .
          والرابع :إن كل واحدة من المقدمتين لا توجب النتيجة ، ومجموعهما يوجبها .
          الخامس : إن كل واحد من أهل التواتر ، يجوز الكذب عليه ، وأما مجموعهم فإنه لا يجوز الكذب عليهم . وأيضاً : الخطأ على كل واحد من الأمة جائز ، وعلى مجموعهم غير جائز ، عند من يقول : " اجتماع الأمة حجة " .
          السادس : إن دخول كل واحد من المقدورات التي لا نهاية لها في الوجود : ممكن . وإما دخولها بأسرها في الوجود ، فإنه غير ممكن . لأن دخول ما لا نهاية له : محال .
          واعلم أن نظائر هذا الباب كثيرة . فقد ظهر أنه لا يجب أن يكون حكم المجموع مساوياً لحكم كل واحد من آحاد المجموع .
          وأما المثال الذي ذكروه فضعيف . وذلك لأنهم إما أن يقولوا : حكم الكل يجب أن يكون مساوياً لحكم الجزء في جميع المواضع ، أو يقولوا : إن هذه المساواة قد تحصل في بعض الصور . فإن قالوا : بالوجه الأول كان المثال الذي ذكروه لا يفيد . لأن ثبوت الحكم في بعض الصور ، لا يدل على حقيقة القضية . وإن قالوا : بالوجه الثاني ، فذاك حق . لكن لم قالوا : إن الحال في هذه المسألة ، يجب أن يكون على هذا الوجه ؟
          واعلم أن ذكر الصور الجزئية لا يدل على حقيقة المقدمة الكلية [أما ورود الحكم على بعض الصور على نقيض المدعي ، يدل على أن تلك المقدمة الكلية] باطلة . ثم نقول : الفرق بين قولنا : لما كان كل واحد من الزنج أسود ، وجب أن يكون الكل أسود . وبين قولنا : لما كان كل واحد من الحوادث له أول ، وجب أن يكون للكل أول : وهو أن علمنا بأن كل واحد من الزنج أسود ، يوجب العلم الضروري ؛ بأن الكل أسود . أما علمنا بأن كل واحد من الحوادث له أول ، فإنه لا يفيد العلم الضروري : بأنه يجب أن يكون للكل أول
          (5) من أدلة المتكلمين أيضاً أنه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلولات على عدد العلل لكن التالي باطل فما أدى إليه وهو التسلسل باطل .
          أما وجه لزوم التالي للمقدم فهو أننا لو فرضنا سلسلة من المعلول الأخير إلى غير النهاية لكانت جميع الأفراد قد تحققت فيها للعلية والمعلولية إلا المعلول الأخير فإنه يكون معلولاً ولا يكون علة وبذلك يزيد عدد المعلومات على عدد العلل .
          وهذا نشأ من التسلسل ولو كانت العلل متناهية لا يلزم ذلك لأن كل فرد يكون علة ومعلولاً ما عدا الأول فإنه يكون علة وما عدا الأخير فإنه معلول فتتساوى العلل والمعلولات .
          أما وجه بطلان التالي فهو أن العلة مع المعلول أمران متضايفان تضايفاً حقيقياً ، ومن لوازمها التكافؤ في الوجود والتساوي في العدد لأنه لا يمكن وجود أحد
          المتضايفين بدون الآخر (1) .
          والجواب ان هذا تسلسل في العلل وكلامنا ليس فيه بل في الأفعال والآثار .
          (6) برهان العلة :
          لو فرض أن سلسلة من الممكنات ، تمتد في الماضي ، إلى غير بداية ، ثم تسائلنا فقلنا : أن هذه السلسلة ، يمكن اعتبارها كلا ، مؤلفا من أجزاء ممكنة ، فيكون الكل - أيضاً ممكناً ولكل ممكن لابد له من علة ، ترجح وجوده على عدمه ، فما هي علة ذلك المجموع ؟
          الفروض العقلية ، للإجابة على هذا التساؤل ، تنحصر في واحد ، من ثلاثة ، هي :
          1- إما أن تكون علة هذه السلسلة ، هي السلسلة نفسها .
          2- أو تكون علتها ، جزءاً من أجزائها .
          3- أو تكون علتها ، أمراً خارجاً عن تلك السلسلة .
          لا جائز ، أن تكون علة هذه السلسلة : نفسها ، لما يلزم عليه ، من كون الشيء
          علة لنفسه ، وهو يقتضي ، كونه سابقاً على نفسه ، في الوجود ، من حيث هو علة ، ومتأخراً على نفسه ، من حيث هو معلول ، وهذا ظاهر التناقض .
          __________________________________________________
          (1) مذكرة التوحيد لحسن متولي ص9.
          ولا جائز ، أن تكون علة هذه السلسلة : جزءها ، وذلك لأن علة المركب ، يجب أن تكون علة لكل جزء ، من أجزائه ، فلو كانت علته ، هي أحد أجزائه ، لكان هذا الجزء ، علة لنفسه ، ولعلته ، إذ المفروض ، أن هذا الجزء ، هو حلقة في هذه السلسلة غير المتناهية ، فله علة سابقة عليه ، فلو كان هو ، علة جميع السلسلة ، لكان علة لنفسه ، ولعلته ، وذلك - أيضاً - باطل .
          وإذا بطل هذان الفرضان ، تعين الفرض الثالث ، وهو أن تكون علة هذه السلسة ، أمرا خارجاً عنها ، فهو واجب الوجود ، ثم يقال :أن الواجب، قد أوجد ممكناً ،هو أول الممكنات ، وبه تنقطع السلسلة ،وهو المطلوب إثباته (1).
          والجواب أن هذا ليس تسلسلاً في الأفعال بل في العلل وهو ممتنع .
          (7) دليل التربيع :
          وهو ان الذين يقولون بحوادث لا أول لها كلامهم متناقض لأن كونها حوادث يقتضي أن لها أولاً ، و كونها لا أول لها يقتضي أنها ليست حوادث وهذا هو دليل التربيع .(2)
          والجواب ان الحوادث إما أن يراد بها أفعال الرب فلا أول لها ، أو أنها المخلوقات فهذه لا أول لها من حيث أفرادها وآحادها لأنها مسبوقة بعدم ، أما من حيث جنسها فهي قديمة وقد سبق بيان ذلك .
          __________________________________________________ _______
          (1) انظر المباحث المشرقية للرازي ( 1/591) وكتاب علم التوحيد ص139 ، ومذكرة التوحيد المعاصر لصفوان جودة ( 2/13) .
          (2) انظر حاشية الشرقاوي على الهدهدي ص103

          (8) لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده فكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية (1) .
          والجواب على ذلك ما قاله الرازي في المباحث المشرقية (1/781) : (2) .
          والجواب : أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في
          وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الثاني قبله فإن كان الأمر على هذا فقد وجدنا أمراً معدوماً ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة فيبتدي في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود وأما إن عنى بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال فهذا هو نفس المطلوب فإن النزاع ما وقع إلا فيه .
          وقال شيخ الإسلام في موافقة صحيح المنقول (2/79):
          قال الرازي : السادس : لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له ، والموقوف على المحال محال.
          قال الأرموي : ولقائل أن يقول : انقضاء ما لا نهاية له محال ، وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع .
          __________________________________________________
          (1) المباحث المشرقيه (1/780) ، والأربعين للرازي ص34.
          (2) وانظر المطالب (4/275) .
          قلت : هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي ، أما اللفظي ، فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم انقطاعها وأنها لا أول لها ، فهل يعبر عن هذا بأن يقال : لا نهاية لها ، أو يقال : لا بداية لها ، ولا يقال لا نهاية لها ؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها ، والمعترض أنكر ذلك ، وهذا نزاع لفظي . وذلك أنه يقال : هذا غير متناه ، بمعنى أنه ليس له حد محدود ، وقال يقال " غير متناه " بمعنى أنه لا آخر له ، ويقال " هذا له نهاية " أي : له آخر ، و هذا لا نهاية له " أي : لا آخر له ، والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل ، فإنه يقال " لا نهاية لها " بالمعنى الأول ، وأما بالمعنى الثاني : فقد انقضت وانصرمت ولها آخر .
          حجة أخرى للرازي واعترض الأموري عليها : وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كأبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية ، وذكروا أنه اعتمد عليها يحيي النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضياً منصرماً ، فإن ما انقضى وانصرم فقد تناهى ، فكيف يقال : إنه لا نهاية له ؟ واشتبه عليهم لفظ " النهاية " لما فيه من الإجمال والاشتباه ، فإن الماضي له آخر انتهى إليه ، فهو منتهاه بهذا الاعتبار ، فلا نزاع ، وبهذا المعنى يقال : إنه انصرم وانقضى ، وفرغ ونفد ، وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو انه لا بداية له : أي لم تزل آحاده متعاقبة .
          وأما النزاع المعنوي فهو أنه : هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي من جهة مبدئه أولا ؟ المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك ، لكن أخذ لفظ " ما لا يتناهى " وفيه إجمال ، فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره ، فإذا قيل : " إن هذا ينقضي " كان ذلك جمعاً بين النقيضين ، وقد يعني به ما لا بداية له ، وهو ينازع في إمكان ذلك ، لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية ، وكأنه يقول : ما لا نهاية فلابد له من بداية ، ومنازعوه يقولون : هذا مسلم في الأشخاص ، فكل شخص ينتهي فلابد له من مبدأ ، إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديماً ، وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي ينازعونه في النوع ، ويقولون : يمكن أن يقال : الله لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء .



          المطلب الثاني
          قول أهل الحديث وأدلتهم




          قول أهل الحديث وأدلتهم :

          ذهب أهل الحديث إلى ان التسلسل جائز في الماضي كما أنه جائز في المستقبل ، واستدلوا على ذلك بالكتاب وأقوال السلف والمعقول .

          أولاً : الكتاب :
          استدلوا بقوله تعالى  فعال لما يريد  فالآية تدل على أمور :
          أحدها : أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته .
          الثاني : أنه لم يزل كذلك ، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ، وأن ذلك من كماله سبحانه ، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات ، وقد قال تعالى :  أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون  [النحل : 17] ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله ، لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن .
          الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله ، فإن " ما " موصولة عامة ، أي : يفعل كل ما يريد أن يفعله ، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله ، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد ، فتلك لها شأن آخر ؛ فإن أراد فعل العبد ، ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً ، لم يوجد الفعل ، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً وجد الفعل. وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية ، وخبطوا في مسألة القدر ، لغفلتهم عنها ، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد ، وإرادة أن يجعله فاعلاً .
          الرابع : أن فعله وإرادته متلازمان ، فما أراد أن يفعله فعله وما فعله ، فقد أراده ، بخلاف المخلوق ، فإنه يريد ما لا يفعل ، وقد يفعل ما لا يريد ، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده .
          الخامس : إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال ، وأن كل فعل له إرادة تخصه ، هذا هو المعقول في الفطر ، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ، ويفعل ما يريد.
          السادس : أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته ، جاز فعله ، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء وأن يرى عباده نفسه ، وأن يتجلى لهم كيف شاء ، ويخاطبهم ، ويضحك إليهم ، وغير ذلك مما يريد سبحانه - لم يمتنع عليه فعله ، فإنه تعالى فعال لما يريد ، وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به ، فإذا أخبر وجب التصديق ، وكذلك محو ما يشاء ، وإثبات ما يشاء ، كل يوم هو في شأن ، سبحانه وتعالى .
          والقول بأن الحوادث لها أول : يلزم منه التعطيل قبل ذلك ، وان الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ، ثم صار فاعلاً .







          ثانياً :
          ورد عن السلف ما يدل على دوام فاعلية الرب ومن ذلك (1) :
          1- قول ابن عباس :
          روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( أنه سأله سائل عن قوله :  و كان الله غفوراً رحيماً   عزيزاً حكيماً   سميعاً بصيراً فكأنه كان ثم مضى ، فقال ابن عباس : وكان الله غفوراً رحيماً  سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي : لم يزل كذلك ) (2) هذا لفظ البخاري وهو رواه مختصراً .
          ولفظ البوشنجي محمد بن إبراهيم الإمام ، عن شيخ البخاري الذي رواه من جهته البرقاني في صحيحه : 0 فإن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره ، فذلك قوله : ( وكان الله ) أي : لم يزل كذلك ) هكذا رواه البيهقي عن البرقاني .
          وذكر الحميدي لفظه : ( فإن الله جعل نفسه وسمى نفسه ، وجعل نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره ( وكان الله ) أي : لم يزل كذلك ) .
          ولفظ يعقوب بن سفيان عن يوسف بن عدي شيخ البخاري :
          ( فإن الله سمى نفسه ذلك ، ولم يجعله غيره ( وكان الله ) أي : لم يزل كذلك)
          فقد أخبر ابن عباس أن معنى القرآن : أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء لم ينحله ذلك غيره ، وقوله :  وكان الله  يقول : إني لم أزل كذلك .
          __________________________________________________
          (1) رد الكوثري في حاشية السيف الصقيل ص80 ذلك كله بإنكار بعضه ، وتأويل الآخر .
          (2) وكذلك لم يزل الله جواداً ، وقد أنكر القاضي عبدالجبار ذلك في المحيط ص74 .

          ومن المعلوم أن الذي قاله ابن عباس هو مدلول الآيات ، ففي هذا دلالة على فساد قول الجهمية من وجوه :
          أحدها : أنه إذا كان عزيزاً حكيماً ، ولم يزل عزيزاً حكيماً ، والحكمة تتضمن كلامه ومشيئته ، كما أن الرحمة تتضمن مشيئته ، دل على أنه لم يزل متكلماً مريداً ، وقوله :  غفوراً  أبلغ ، فإنه إذا كان لم يزل غفوراً فأولى أنه لم يزل متكلماً ، وعند الجهمية بل لم يكن متكلماً ولا رحيماً ولا غفوراً ، إذ هذا لا يكون إلا بخلق أمور منفصلة عنه ، فحينئذ كان كذلك .
          والثاني : قول ابن عباس : فإن الله سمى نفسه ذلك ، يقتضي أنه هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء ، لا أن المخلوق هو الذي سماه بها ، ومن قال : إنها مخلوقة في جسم ، لزمه أن يكون ذلك الجسم هو الذي سماه بها .
          الثالث : قوله : ولم ينحله ذلك غيره ، وفي اللفظ الآخر : ولم يجعله ذلك غيره ، وهذا يتبين بجعله ذلك في الرواية أي : هو الذي حكم لنفسه بذلك لا غيره ، ومن جعله مخلوقاً لزمه أن يكون الغير هو الذي جعله كذلك ونحله ذلك .
          الرابع : أن ابن عباس ذكر ذلك في بيان معنى قوله :  وكان الله غفوراً رحيما ،  عزيزاً حكيماً  ،  سميعاً بصيراً  ، ليبين حكمة الإتيان بلفظ كان في مثل هذا ، فأخبر في ذلك أنه هو الذي سمى نفسه ذلك ولم ينحله ذلك غيره .
          ووجه مناسبة هذا الجواب ، أنه إذا نحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقاً بخلق ذلك الغير ، فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك ، وأما إذا كان هو الذي سمى به نفسه ناسب أن يقال : إنه كان كذلك وما زال كذلك ، لأنه هو لم يزل – سبحانه وتعالى – وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق ، ليصح أن يقال : لما كان هو المسمي لنفسه بذلك ، كان لم يزل كذلك ا 0 هـ من التسعينية لشيخ الإسلام ( 2/578) .
          2- الإمام جعفر الصادق:
          روى الثعلبي في " تفسيره " بإسناده عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه : أنه سئل عن قوله تعالى :  أفحسبتم إنما خلقنا كم عبثاً  لم خلق الله الخلق ؟ فقال : لأن الله كان محسناً بما لم يزل فيما لم يزل إلى ما لم يزل ، فأراد الله أن يفيض إحسانه إلى خلقه ، وكان غنياً عنهم ، لم يخلقهم لجر منفعة ولا لدفع مضرة ، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتى يفصلوا بين الحق والباطل ، فمن أحسن كافأه بالجنة ، ومن عصى كافأه بالنار ا 0 هـ من فتاوى شيخ الإسلام .
          3- الإمام الدارمي :
          فقد قال ان الفعل لازم للحياة ، فكل حي لابد أن يكون فعالاً ، وما ليس بفعال فهو ليس بحي ، فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود .
          انظر شرح هراس على النونية ( 1/170)
          4- الإمام أحمد بن حنبل :
          قال في رده على الجهمية ص34 :
          وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة : يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، أليس الله هو القائل ؟ قالوا : فيكون الله شيئاً فيعبر عن الله ، كما يكـون شيئاً فعبر لموسى . قلـنـا : فمن القائـل فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم  أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا هذا كله إنما يكون شيئاً فيعبر عن الله . فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم . فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله ، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال : إن الله يتكلم ولكن كلامه مخلوق . قلنا : وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ، فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق . ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم ، وكذلك بنو آدم كانوا ولا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً . فقد جمعتم بين كفر وتشبيه ، فتعالى الله عن هذه الصفة ، بل نقول : إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولا تقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام . ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول أنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه ، عظمة ، فقالت الجهمية لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات : إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته . قلنا لا نقول : عن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره ، لا متى قدر ، ولا كيف قدر فقالوا : لا تكونن موحدين أبداً حتى تقولوا : قد كان الله ولا شيء . قلنا : نحن نقول قد كان الله ولا شيء . ولكن إذا قلنا : إن الله لم يزل بصفاته كلها . أليس إنما يصف إلهاً واحداً بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلاً . فقلنا : أخبرنا عن هذه النخلة ، أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار ، واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة . بجميع صفاتها ؟ فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إلاه واحد لا نقول أنه قد كان في وقت من الأوقات ولا بقدرة حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ، ولا يعلم حتى خلق له علماً فعلم ، والذي لا يعلم هو جاهل ، ولكن نقول لم يزل الله عالماً قادراً . لا متى ولا كيف .
          5- الإمام ابن المبارك :
          قال : لم يزل لله متكلماً إذا شاء ، نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة (2/383).
          6- الإمام البخاري :
          قال في كتابه خلق أفعال العباد ص107 :
          قال أبو عبدالله : ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحى من الميت إلا بالفعل ، فمن كان له فعل فهو حى ومن لم يكن له فعل فهو ميت ، وأن أفعال العباد مخلوقة ، فضيق عليه حتى مضى لسبيله ، وتوجع أهل العلم لما نزل به .
          وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً ومن نحا نحوه ليس بمفارق ولا مبتدع ، بل البدع والرئيس بالجهل بغيرهم أولى ، إذ يفتون بالآراء المختلفة ، مما لم يأذن به الله .


          ثالثاً : المعقول :

          ذكرنا فيما سبق أن التسلسل قد يكون واجباً وهو في الأفعال ، وقد يكون جائزاً وهو في المفعولات .
          أما أدلة التسلسل الواجب من المعقول فهو : (1)
          1- أن المتصف بالفعل أكمل ممن لا يتصف ولو خلا الرب تعالى منه لكان خالياً من كمال يجب له وهذا ممتنع .
          2- أن الفعل لازم من لوازم الحياة فكل حي فهو فعال والله حي فهو فعال وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً فيمتنع حدوث الفعل له بعد أن لم يكن فيجب دوامه أبداً وأزلاً .
          3- أن الفرق بين الحي والميت الفعل والله حي فلابد وأن يكون فاعلاً وخلوه من الفعل في أحد الزمانين ممتنع لأنه حي فيهما فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً .
          4- قوله تعالى :  فعال لما يريد  والفعال هو من يفعل على الدوام ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً .
          5- قدم الفعل يمنع حدوثه فيكون دائماً في الأزل والأبد .
          6- ويقال لهم كذلك ان الله لم يزل قاراً مريدا عالما حيا ، وهذه الأربعة صفات ذاتية له ، وليس يحتاج الفاعل في كونه فاعلاً إلى غير هذه الأربع
          ________________________________________________
          (1) القواعد الكلية للبريكان .
          فهي التي بها تمام الفعل لأنها أركانه التي لا يتحقق بدونها الفعل ، وإذا كان ذلك فلماذا تأخر فعله سبحانه عن وجود الموجب التام لجميع أركانه ، فإن قلتم : تأخر الفعل لأنه كان ممتنعاً في الأزل ، قلنا : كذبتم بل لم يزل الفعل ممكناً ، إذ لو كان ممتنعاً في الأزل لم يقبل الوجود فيما لا يزال لأن الممتنع لا ينقلب ممكناً .
          وأما أدلة التسلسل الجائز من المعقول فهو :
          1- لعدم امتناع ذلك في العقل فإن العقل لا يمنع أن يخلق الله خلقاً بعد خلق ويرتب وجود الثاني على الأول وهكذا .
          2- أن هذا واقع فما زال الإنسان والحيوان منذ خلقه يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه .
          3- أنه تابع لدوام فعل الخلق فإن وجب دوامه في الأزل والأبد جاز دوام مفعوله لأنه حادث بعد أن لم يكن .
          4- دلالة قوله تعالى :  أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد فبين أن عدم عجزه في الأزل على الخلق دليل على عدم عجزه في الأبد .
          فالتسلسل المثبت عند السلف قسمان :
          أ‌- واجب وهو التسلسل في الأفعال .
          ب‌- جائز وهو التسلسل في المفعولات والشروط .
          ويعبرون عنه بدوام أفعال الله ومفعولاته .

          وبهذا العرض تتبين لنا الأمور التالية :
          1- أن الدوام في أفعال الله يمثل الجزء الثاني من عقيدة السلف في أفعال الله والتي تقوم على عنصرين : -
          أ‌- إثبات الأفعال في ذاتها .
          ب‌- إثبات دوام فاعليته تعالى .
          2- أن لله كمالاً من أفعاله وكمالاً من صفاته .
          3- إثبات دوام أفعال الله ومفعولاته .
          4- بطلان قول من منع التسلسل مطلقاً .
          5- أن الدوام في الماضي كالدوام في المستقبل في وجوبه وإثباته في أفعال الله.
          6- أن ما كان من التسلسل يستلزم تأثير الذوات في الذوات هو الممتنع سواء كان في الفاعلين أو الأفعال أو المفعولات وأما ما كان من الأفعال والمفعولات بتأثير الفاعل فهو غير ممتنع فإن كان في أفعال الله وجب وإن كان في مفعولاته جاز .
          7- اتفاق جميع الطوائف على امتناع التسلسل في المؤثرين والفاعلين وذوات المفعولات في بعضها مما يدل على بطلان أقوال الدهريين والطبائعيين في القديم والشيوعيين في الحديث .
          8- أن اثبات خالق قديم ومخلوق محدث أمر من ضرورات العقول .
          9- امتناع فرض محدث بلا محدث ومخلوق بلا خالق .
          10-تناقض الدهريين والطبائعيين والشيوعيين إذ منتهى أقوالهم كون المخلوق هو الخالق
          11-بطلان قول الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية بكون الفعل هو المفعول فإن تسلسل فعل الله واجب والمفعول تسلسه جائز والواجب لا يكون جائزاً .
          12- بيان الفرق بين فعل الله ومفعوله من وجوه :
          أ‌- الفعل قديم والمفعول محدث .
          ب‌- دوام الفعل واجب ودوام المفعول جائز .
          جـ- الفعل صفة الفاعل والمفعول أثره .
          د‌- الفعل يؤثر في المفعول عند تعلقه به والمفعول متعلق الفعل .
          هـ - أن نسبة الفعل للفاعل تقتضي اتصافه به ونسبة المفعول للفاعل تقتضي تأثير فعله فيه وأنه مخلوق للفاعل فنسبة الأول نسبة الصفات والثاني نسبة المخلوقات .

          وأخيراً يقال للمتكلمين الذين منعوا تسلسل الحوادث خوفاً من مقارنتها الله :
          أننا نقول بتسلسل الحوادث وهذا القول لا يؤدي إلى مقارنة المخلوقات للخالق قطعاً والذي يقول بأن المخلوقات أزلية مقارنة لله فإنه كافر ومشرك .
          لكن ابن تيمية يقول بأن الله لا يزال فعالاً فعندنا هنا ثلاثة أشياء :
          فاعل وهو الرب .
          وفعل الله يكون بعده .
          والمفعول يكون بعد الفعل .
          إذاً الفاعل متقدم والمفعول يكون بعده قطعاً وعلى هذا لا يلزم من القول بأزلية الحوادث أو أنها لا أول لها أن تكون مع الله أو مقارنة له فلا محذور إذا من قولنا وإنما المحذور أن نقول بدوام عين المخلوق في الماضي أي أن الكون لم يزل موجوداً فهذا كفر لأنه يقتضي ألا خالق له مع أنه محدث من عدم
          ثم يقال للمتكلمين أيضاً :
          هل كان الله في الأزل قادراً على الخلق أم لا ؟
          فإن قالوا أنه غير قادر على الخلق ثم خلق كان ذلك تعطيلاً للرب سبحانه من الفعل .
          وإن قالوا إن الفعل كان ممكناً ولكن تأخر قلنا هل التأخر واجب أم جائز ؟ فإن كان واجباً فمن الذي أوجبه ؟! وإن كان جائزاً فهذا قول بحوادث لا أول لها لأن الرب أزلي ومذ كان خالقاً أمكن أن يخلق فهذا هو القول بحوادث لا أول لها وهو ما نقول به .

          رابعاً : الفطرة :
          وأما الفطرة فأننا نسمع الناس في دعائهم واستغاثتهم ، وطلبهم الحاجات من الله عز وجل يلهجون بهذه العبارات من قولهم : يا قديم الإحسان ، يا قديم المعروف والسلطان ، يا دائم الجود والامتنان إلى غير ذلك مما يفهم أنهم فطروا على اعتقاد ذلك فطرة دون أن يوصي بعضهم بعضاً بذلك ، أو يعلمه إياه ودون أن ينكر بعضهم على بعض ا 0 هـ من شرح هراس على النونية ( 1/170).
          التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:54 م.
          أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
          والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
          وينصر الله من ينصره

          تعليق

          • سيف الكلمة
            إدارة المنتدى

            • 13 يون, 2006
            • 6036
            • مسلم

            #6
            المبحث الثالث :
            المخالفون لابن تيمية ونقل كلامهم في ذلك

            المبحث الثالث : المخالفون لابن تيمية :

            بعد ان ذكرنا اختلاف الناس في تسلسل الحوادث ، وعرفنا أن المتكلمين على منعه ! عقدت هذا المبحث للذين خالفوا ابن تيمية تصريحاً أو تلميحاً ، واتهموهما بقدم العالم وأن الله موجب بالذات لا فاعلاً بالاختيار ، وكذلك من أنكر عليهما من غير اتهامهما ، وكذلك من اضطرب كلامه في شيخ الإسلام .
            وسوف أكتفي بمجرد النقل للأقوال في هذا المبحث إلا إذا دعت الحاجة إلى التعليق ! وسأخصص المبحث الرابع للرد على الطاعنين في ابن تيمية من كلام ابن تيمية نفسه إن شاء الله فإن صاحب البيت أدرى بما فيه .
            وأما المخالفون فهم :
            1- تقي الدين السبكي الكبير في السيف الصقيل ص86 ، وقدر رد فيه على نونية ابن القيم الذي نصر رأي شيخه في هذه المسألة فقال السبكي :
            وقد صرح بقبائح منها إمكان التسلسل ، ومنها نسبة أكابر علماء الأشعرية إلى التلبيس ، ومنها نسبة ذلك إلى القرآن والسنة وأنه لم يجيء أثر ينص على العدم المتقدم وقد جاء ( كان الله ولا شيء معه ) والشيء يشمل الجسم والفعل والنوع والآحاد .
            2- ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ( 6/421) فقال :
            وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب ، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية ، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها ، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس ، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق .
            3- ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية ص116:
            واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره ، فمما خرق فيه الإجماع قوله في ان العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقاً دائماً فجعله موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار (1) ا 0هـ
            4- تقي الدين الحصني صاحب كفاية الأخيار في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد ص 60 حيث قال :
            ومما انتقد عليه : وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (2) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضاً فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عز وجل في قوله هو الأول فجعل معه قديماً وتكذيب النبي  في قوله كان الله ولا شيء معه وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر .
            __________________________________________________ __
            (1) سيأتي بطلان نسبة هذا الكلام لابن تيمية في المبحث الرابع إن شاء الله وكيف ظلموا هذا العالم المجاهد عن عقيدة السلف .
            (2) ان كان المخلوق فهو مسبوق بالعدم بلا شك ، وكذلك فعل الرب المعين مسبوق بالعدم كما سبق أما نوع المخلوق ونوع الفعل فهو قديم كما سبق أن بينا في مطلب القدم النوعي.
            وقال ص 45 : فصار كفره مجمعاً عليه ا 0 هـ
            5- زاهد الكوثري في حاشيته على السيف الصقيل وفي حاشيته على الإجماع لابن حزم :
            قال في حاشيته على السيف ص 81 :
            ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى
            واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها (1) . وإني ألفت نظر حضرة القارئ إلى هذه العقيدة وهل تتفق مع دعوى أنه إمام دونه كل إمام ؟ بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوى أنه في عداد المسلمين فقط ؟
            وقال في حاشية السيف ص82:
            وهذا (2) تصريح منه بأن الله سبحانه فاعل بالإيجاب انخداعاً منه بقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وقد أتى أهل الحق بنيانهم من القواعد ، وإن كان الناظم المسكين بعيداً عن فهم أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء ، ثم يناقض الناظم نفسه ويثبت لله الاختيار وهو في الحالتين غير شاعر بما يقول (3) ، تعالى الله عما يقول ، وأرجو أن يفهم القارىء هنا معنى لابد من اعتقاده وهو أن القائل بأن الله فاعل بالإيجاب في ناحية ودين الإسلام كله في ناحية ، وأي مسلم يستطيع أن يقول إن ربنا مرغم على فعل ما يفعله .
            __________________________________________________
            (1) فيه دليل على أن المراد من نفيهم لحوادث لا أول لها هو أفعال الرب ، وأن نفيهم بحلول الحوادث أي نفي الصفات الفعلية ، وقد سبق لنا انه قد يطلق على المفعول أيضاً .
            (2) أي في قول ابن القيم : فلأي شيء تأخر فعله مع موجب .
            (3) بل ان الكوثري هو المسكين الذي لا يدرك ما يقول لأن الإيجاب لفظ مجمل .
            وقال في حاشيته السيف ص 83 :
            لو كان الناظم سعى في تعلم أصول الدين (1) عند أهل العلم قبل أن يحاول الإمامة في الدين لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك ، ولعلم أن كل ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور وأما المستقبل فلا يحدث فيه حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر لا إلى غير نهاية بخلاف الماضي كما سبق
            وقال في ص84 :
            عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه ، وأين قدم النوع مع حدوث أفراده ؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك .
            وقال في ص 85 :
            القول بدوام فعله في جانب الماضي قول بحوادث لا أول لها وقد سبق تسخيف ذلك مرات ا 0 هـ
            __________________________________________________ __
            = قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (1/164) :
            ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال . فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته ، فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار ، وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار ، فهذا باطل ممتنع وإن أريد أنه علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلي ، بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه ، لازم لذاته ، أزلا وأباً – الفلك أو غيره – فهذا أيضاً باطل
            فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله ، فهو باطل وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق .
            (1) والحمد لله ان الناظم لم يتعلم مثل ما تعلم لكوثري فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
            وقال في ص 87 :
            وهذا (1) يناقض القول بحوادث لا أول لها ودوام الفعل في جانب الماضي ، والناظم كم ينقض غزله وله هوى في إكفار الأمة بكل وسيلة ، ولا أدري ماذا يكسب هذا المتهوس إذا لم يبق من الأمة مسلم سوى مكسرى الحشوية .
            وقال في حاشيته على الإجماع لابن حزم ص169
            العجب كل العجب اجتراء ابن تيمية هنا على القول بحوادث لا أول لها والقول بالقدم النوعي في العالم وبقيام الحوادث به سبحانه ، متعامياً عن حجة إبراهيم المذكورة في القرآن الكريم ومنكراً لما يعزوه لصحيح البخاري ( كان الله ولا شيء معه ) (2) مع أنه هو القائل بأن ما في الصحيحين يفيد العلم – يعني اليقين إجراء له مجرى الخبر المتواتر – ومخالفاً للإجماع اليقيني في ذلك ، وأنى يتصور قدم للنوع الذي لا وجود له إلا في الذهن ! وعدم تناهي ما دخل بالفعل تحت الوجود لا يتصوره إلا عقل عليل ، وعلى فرض وجود النوع في الخارج لا يكون موجوداً إلا في ضمن أفراده ، وأني يكون للنوع قدم مع حدوث أفراده ؟ !! ودعوى ( أن الله لم يزل ومعه شيء ) (3) تـوازن فـي البشاعة القول بقدم شيء بعينه سواه تعالى بل القول بالقدم النوعي كالقول بالقدم الشخصـي في
            ________________________________________
            (1) أي في قول ابن القيم : ( والله كان وليس شيء غيره ) ففهم الكوثري أنه تناقض لأجل ان الشيء يعم نوع الفعل عنده في حين ان ابن القيم يقصد المخلوق المقارن لله رداً على الفلاسفة ، أما نوع الفعل فليس داخلاً في قول الناظم كما سبق لنا .
            (2) سبق ان الحديث ليس في البخاري .
            (3) ان الله لم يزل فعالاً أي معه نوع الفعل لا فعل معين ولا مفعول معين وقد سبق.


            البطلان بل ذاك أسقط من هذا وكلاهما يستلزم نفي الإرادة عن الله (1) سبحانه.
            6- سلامة القضاعي في كتابه فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان ص77 نقلاً عن التقي :
            وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم ، والتزمه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها ، فاثبت الصفة القديمة حادثة ، والمخلوق الحادث قديماً ، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ، ولا نحلة من النحل ، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمة ، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة ، وكل ذلك و إن كان كفراً شنيعاً مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع " ا 0هـ

            7-د 0 محمد البوطي في كتابه السلفية ص 166 حيث قال :
            هذا هو كلام ابن تيمية بطوله تعليقاً على ما جاء في كلام ابن حزم ، من أن الإجماع قد انعقد على أن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه ، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء .
            ثم أطال في بيان ما يقرره طوائف من علماء الكلام ، والفلاسفة في هذه المسألة ، لينتهي إلى ما يقرره الفلاسفة (2) من أن الأشياء حادثة بالعين والجزئيات ولكنها قديمة بالنوع وسلسلة التوالدات ، وأكد ذلك بقوله :
            __________________________________________________
            (1) وهل يوجد أحد يفهم من دوام فاعلية الرب نفي الإرادة عنه ، سبحانك هذا بهتان عظيم !
            (2) بل هناك فرق بين وظاهر بينهما كما سيأتي في المبحث الرابع .
            " ولكن فرق بين حدوث الشيء المعين ، وحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء "
            أي فالأول هو الحادث بعد أن لم يكن ، أما سلسلة الحوادث المتوالدة شيئاً بعد
            شيء على حد تعبيره – فهي قديمة مستمرة (1) .
            ومن تأمل الكلام الطويل الذي ساقه في الرد على ابن حزم في نقله الإجماع على أن الله خالق كل شيء ، وأنه عز وجل كان وليس معه شيء ثم خلق الأشياء كما أراد ، وقع على خلط وتخبط عجيبين في كلامه هذا . ولا تدري ما الذي أقحمه في هذه المخاضة الفلسفية التي يبـرأ إلى الله منها السلف الصالح (2) بعصورهم الثلاثة ، شكلاً ومضموناً ؛ وهو الذي ما زال يحذرنا من أضاليل الفلاسفة وابتداعاتهم ويوصينا بالوقوف عند نصوص الكتاب والسنة !
            والعجب كل العجب أن نرى ابن تيمية الذي يسفه الفلسلفة والفلاسفة ، ويشدّ أزره دوماً بانتمائه إلى السلف والسير على صراطهم ، والبعد عن كل ما ترفعوا عن الخوض فيه ، وقد أصابته من الفلاسفة لوثة وأي لوثة ، وأصبح يدافع عن رأيهم (3) في القول بقدم النوع الأساسي وحدوث الأعيان الجزئية .
            ففي سبيل الدفاع عن رأيهم هذا ، يعلن أنه لا إجماع على كفر من نازع في أن
            __________________________________________________ __
            (1) من الواضح ان البوطي يقول بأن حكم الواحد هو حكم المجموع وقد سبق ايضاح الفرق بينهما ص101.
            (2) بل هو مذهب السلف وقد ذكرنا الأدلة على ذلك .
            (3) بل رأي الفلاسفة هو كون المخلوق مقارناً لله ولم يسبق من عدم ، أما ابن تيمية فيقول بسبق كل مخلوق من عدم إلا ان أفعال الله قديمة وهذا لا يلزم منه قدم المخلوق بحيث يكون مع الله .
            الله كان وحده ولا شيء معه ثم خلق الأشياء كما شاء ! أي فلنا أن نقرر بأن
            المادة الأولى للمكونات كانت قديمة ولم تستـحدث ، و أنها تشتـرك مع الله اشتراكاً ذاتياً في صفة القدم (1) ، لنا أن نقرر هذا ولا حرج ! .
            بل يزيدنا ابن تيمية رحمه الله تعجباً واستغراباً عندما يقول بأن تكفير القائلين بهذا الرأي لم يأت عليه دليل صريح لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله  .
            إذن فما معنى قول الله عز وجل :  الله خالق كل شيء [ الرعد 16، والزمر : 62] وقد علمت أن المادة بمعناها النوعي ، الذي توالدت منها الأشياء ، على حد تصور الفلاسفة ، بفريقيهم اليونانين والإشراقيين ، داخلة في عموم كل شيء . ولا شك أن خالقيته بإرادة واختيار ، لا بتسبب ولا بفيض أو اضطرار . إذن فكل الأشياء حادثة مهما سبق بعضها بعضاً ، وليس انتقاء بعض منها (2) دون بعض لإعطائها صفة القدم إلا ترجيحاً بين أشياء متساوية دون أي مرجع ، وهو باطل يرفضه العقل .
            وما معنى قول الله عز وجل :  قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق [ العنكبوت : 22] وقد علمنا أن بداءة الشيء تعني كونه مسبوقاً بالعدم (3) فلو كان أصل المادة ذا وجود قديم مع وجود الله ، إذن لما كانت له بداءة ، ولما اتصف __________________________________________________
            (1) هذا كلام من لم يفهم قول شيخ الإسلام وسيأتي تفصيله في المبحث الرابع .
            (2) ابن تيمية لم يقل بقدم شيء من المادة أو أي مخلوق آخر بل صرح بأن كل شيء فهو مسبوق بالعدم إلا ان الأفعال والمفعولات من حيث النوع فقديمة كما سبق .
            (3) وهو ما يصرح به ابن تيمية كما سيأتي .

            خلق الله له – إن صح أن يسمى ذلك خلقاً – بالبدء كما يقرر أكثر من مرة في محكم كتابه ، والخلق في الآية عام يشمل الإنسان وغيره من سائر الموجودات والمخلوقات ، فلا يوهمنك مبطل من ذوي السمادير الفلسفية بأن الآية تعني الإنسان وتلفت لنظر إلى كيفية خلق الله له من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار فإن لفت النظر إلى خصوص نشأة الإنسان لا يحتاج إلى الأمر بالسير في الأرض وتأمل قصة الكائنات عموماً .
            وما معنى اسم الله ( الأول ) في قوله عز وجل :  هو الأول والآخر والظاهر والباطن  [ الحديد : 3 ] وهل منا من لا يعلم أن أول اسم تفضيل أصله أوءل على وزن أفعل ، وأنه على تقدير : أول من كذا أي أسبق في الوجود منه ؟ فما هو هذا ( الكذا ) الذي يدل عليه اسم الله ( الأول ) ؟ وهل منا من يجهل
            أن التقدير : أول من كل شيء ، أي أسبق في الوجود من كل شيء ؟ وهل من مسلم يجرؤ أن يقول : لا بل التقدير : أول من بعض الأشياء ، أي باستثناء أصل الأشياء ونوعها الأول (1) ، فهي قديمة كقدمه وهي الأخرى جديرة أن تكتسب الاشتراك مع اسمه ( الأول ) !
            ولا يقف العجب بنا عند تجاهل ابن تيمية (2) رحمه الله لهذه النصوص البينة في كتاب الله عز وجل ، بل الأغرب من ذلك أنه يبذل جهداً شاقاً متكلفاً لينتقي __________________________________________________
            (1) واضح أن البوطي لم يفهم قول ابن تيمية حيث يظن ان ابن تيمية يقول بقدم المادة مع ان ابن تيمية يقول بقدم فعل الرب وانه لم يزل فعالاً لا ان المخلوق لم يزل مع الله فإن هذا كفر بالله أما نوع المخلوق فقد سبق انه قديم وبينا معنى ذلك .
            (2) لم يتجاهل ابن تيمية ذلك وإنما قال بدوام فاعلية الرب سبحانه .
            من الروايات الثلاثة الصحيحة التي وردت عن النبي  في هذا الموضوع ، ما هو أقرب إلى التناسب مع رأيه هذا ، فيرجحها على الروايتين الأخريين ويشطب عليها بالوهم والبطلان ، دون أي مسوغ لهذا الترجيح . فقد ورد في البخاري في كتاب ( بدء الخلق ) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء غيره " وورد في رواية أبي معاوية في الكتاب ذاته " كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء " وورد في كتاب ( التوحيد ) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء قبله " ولما كانت الروايتان الأوليان أصرح في الرد على الفلاسفة الذين أثبتوا حوادث لا أول لها ، أي أثبتوا ما يسمونه القدم النوعي ، فقد اختار ابن تيمية أن يشطب عليهما ، ويرجح عليهما رواية " ولم يكن قبله شيء " مع أن ابن تيمية رحمه الله يعلم ما هو معلوم لدى جميع علماء أصول الفقه ، من أن الترجيح إنما يلجأ إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع ، فأما ان كان الجمع بين الروايات ممكناً بل لا تعارض بينها ، فيجب المصير إليه ويمنع من الإلغاء والترجيح . والروايات الثلاث هنا منسجمة مع بعضها ولا تعارض بينهما . فقد كان الله وليس معه شيء (1) ، وليس غيره شيء وليس قبله شيء . فما المسوغ إذن لترجيح واحدة منها واعتمادها ، وإلغاء الروايتين الآخريين ؟ وهذه من القواعد الأصولية التي لا خلاف فيها والتي لا تخفى على أحد ، فضلاً عن ابن تيمية رحمه الله .
            وقد علمت أن الدافع الوحيد الذي حمله على اختيار رواية " ولا شيء قبله " التي لا تخالف الروايات الأخرى مخالفاً القاعدة المتفق عليها في تفسير النصوص ، هو أن لا يجد أمامه ما يمنعه من القول باستمرار حوادث متوالدة من بعضها إلى ما لا نهاية كما يقول الفلاسفة ، وأن يصح له التفريق في المنع بين " حدوث الشيء المعين وحدوث شيئاً بعد شيء " على حد تعبيره ، أي فالأول هو الذي يمنع في حقه القدم ، أما الثاني فقديم مع الله (1) عز وجل!
            ثم أن الأغرب من هذا وذاك أن يدعي رحمه الله أنه لا إجماع على كفر من يقول بقدم المادة نوعاً إذا علم أنها حادثة من حيث الأعيان الجزئية(2) !
            كل تلك النصوص القرآنية ، وهذا البيان النبوي الصحيح ، لا يجعل المسألة من ضروريات العقيدة الإسلامية ، ولا يستتبع إجماعاً من أئمة المسلمين وعلمائهم على كفر من اعتقد بقدم المادة أو أعتقد بأصلها النوعي ! إذن فما هي الأسباب الثلاثة التي أجمع أئمة المسلمين على كفر الفلاسفة بها ؟ (3)
            ومع هذا فلعل أنصح ردّ على كلام ابن تيمية هذا ، كلام ابن تيمية نفسه ! فقد أثبت كفر من قال بقدم العالم (4) ( قدماً نوعياً أو عينياً ) ونقل الإجماع على ذلك في أكثر من موضع ومناسبة ، في رسائله وكتاباته .
            8- د 0 عبد الفتاح بركة في شرح السنوسية الكبري ص 100
            (ش) اعلم أن الملل كلها أجمعت على حدوث كل ما سوي الله جل وعلا ،
            __________________________________________________
            (1) لكن البوطي لم يفسر لنا مراده من قوله ( ليس معه شيء ) هل يعني أن الله لم يكن فاعلاً
            ولا خالقاً كما قال السبكي فيكون معطلاً للرب أم لا ؟! وعلى كل حال سبق أن فصلنا معنى الرواية على فرض صحتها .
            (2) الرد على هذه الأسطر الأخيرة واضح كما بيناه في مطلب القدم النوعي فليراجع هناك .
            (3) انما كفر الفلاسفة لكونهم لم يقولوا بسبق الأشياء من العدم بل هي مقارنة لله تعالى عن قولهم .
            (4) وهل ابن تيمية من السذاجة بحيث يقول بالقدم النوعي ثم ينقل الإجماع على كفر قائله أم ان البوطي حفظه الله لم يفهم مراد ابن تيمية ولم يتأمله ؟!!
            حتى اليهود والنصارى ، وحتى المجوس .
            ولم يخالف في ذلك إلا شر ذمة من الفلاسفة .
            وتبعهم على ذلك بعض من ينسب نفسه للإسلام ، وليس له فيه نصيب .
            والاشتغال بتفصيل مذاهبهم في ذلك يطول .

            9- د 0 محمد عبد الستار نصار في كتابه العقيدة الإسلامية ( 1/228) :
            العالم عند النظام له بداية ونهاية ، أي أنه مخلوق بعد العدم المحض خلافاً لما ذهب إليه جمهور الفلاسفة ، اعتقاداً منهم بأنه معلول لعلة قديمة والعلة والمعلول – في نظرهم – متساوقان في الزمان والوجود ، وهم لا يتصورون مدة يكون " الله " فيها معطلاً عن الفعل ، من ثم يذهبون إلى " الفاعلية " ، المستمرة أزلاً وأبداً ، وقد وافقهم على هذا الرأي بعض المفكرين الذين ينتسبون إلى المذهب السلفي ، وقد طوعوا لمذهبهم هذا ، بعض الآيات القرآنية ، مثل قوله تعالى : " فعال لما يريد " وفهموا من هذه الآيات دوام الفعل أزلاً وأبداً ، ولم يغفلوا عن اللازم الذي يترتب على هذا الفهم ، وهو أن يكون مع الله قديم سواه ، فقالوا بقدم جنس العالم وحدوث أعيانه

            10-الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 133 حيث قال :
            ( وفيه رد أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها ، وأنه ما من مخلوق ، إلا ومسبوق بمخلوق قبله ، وهكذا إلى ما لا بداية له ، بحيث لا يمكن أن يقال : هذا أول مخلوق ، فالحديث يبطل هذا القول ويعين أن القلم هو أول مخلوق ،


            فليس قبله قطعاً (1) أي مخلوق . ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها ، وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول ، ولا تقبله أكثر القلوب ، حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها ، مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم ، ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له . كما يقول
            هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية(2) ، فذلك القول منه غير مقبول ، بل هو مرفوض بهذا الحديث ، وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج ، لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه ، ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال : " ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر  "

            11-الحبشي في كتابه الدليل القويم ص41 وليس عندي كتابه فسأنقله من كتاب موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (2/1091) :
            قال الحبشي " فإن قلت أين قال ابن تيمية بأن دوام النوع أزليته قلنا مراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى فلم ينقل الحبشي شيئاً من كتب ابن تيمية وانما قال ________________________________________
            (1) القطع بأنه ليس قبل القلم مخلوق مما لا علم فيه للبشر ولابد فيه من نص صريح ويقال للألباني ان كان يعتقد بدوام الفاعلية للرب فهو قائل بقول ابن تيمية ، وإن كان لا يقول بدوام الفاعلية فقد وقع في قول أرباب أهل الكلام المذموم ، والظن به أنه يقول بدوام الفاعلية إلا ان يعين أول مخلوق اجتهاداً منه فيكون قائلاً بتجويز حادث لا أول لها وموافقاً في ذلك شيخ الإسلام .
            (2) وماذا يقول الشيخ الألباني في التسلسل أبداً ؟ .
            "لا يخفى أن يكون هذا مراده " أي مقصوده . ولو كان لابن تيمية نص صريح لتمسك به الحبشي وأظهره على الملأ لكنه لا يملك نصاً فلم يسعه إلا أن يقول : ومراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى " وهذا تلبيس ماكر لا يتفطن له العامة من الناس .
            وهو لا يخبرهم أن ابن تيمية يرى أن الصفات الفعلية لله تعالى وإن كانت أزلية النوع إلا أنها حادثة الإفراد كالخلق والكلام .
            لكن الظالمين قلبوها إلى " قدم العالم النوعي " وجعلوا ذلك موافقاً لقول ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد ، بطريقة اعتباطية جائزة ، وهذا كقولهم عن
            الحنابلة أنهم يعتقدون بأزلية وقدم ورق المصحف والحبر وجلد الغلاف . وقد جهلوا أن الله مطلع على هذا التلبيس الذي لا يزيد طالب الحق إلا نفوراً من مذهب الظلم .
            وقد أفتى ابن تيمية بكفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم ، وصرّح مراراً بأن الله لم يزل خالقاً فعالاً وأن دوام خالقيته من لوازم وجوده فهذا ليس قولاً بقدم شيء من العالم .

            12- د 0 أحمد الحجازي السقا في كتابه دفع الشبهات عن الشيخ محمد لغزالي حيث قال ص13 :
            وللشيخ ابن تيمية عبارات تل على قدم العالم فإنه يقول : إن الله والعالم كالخاتم والإصبع ، لا يتصور تحرك أحدهما منفصلاً عن الآخر ا 0 هـ .
            __________________________________________________ __
            (1) والسقا لم يأت بنقل واحد من كتب ابن تيمية !!! بل شيخ الإسلام رد على هذا المثال في منهاج السنة (1/170)و(1/222) وهو من شبهات الفلاسفة .
            13- حسن السقاف في كتابه التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد حيث قال ص6 وما بعده :
            مسألة قدم العالم
            اعلم أن عقيدة الإسلام جاءت مبينة بأن الله تعالى : ( هو الأول ) الذي تفرد وحده بالقدم ، حيث لم كن أنس ولا جان ، ولا ملائكة أو شيطان ، ولا مكان ولا زمان ، ولا أرض ولا سماء ، ولا قلم ولا ماء ، ولا عرش ولا هواء ،
            ولا فرش ولا ضياء ، ولا ظلمة ولا نور لقوله  كما في صحيح البخاري وغيره : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) وفي رواية ( كان الله ولم يكن شيء معه ) وفي رواية ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) وجاء أيضاً في صحيح الحديث : ( ان أول شيء خلقه الله تعالى القلم ، وأمره أن يكتب كل شيء يكون ) وأئمة المسلمين نقلوا الإجماع على ان الله تعالى كان وحده في الأزل ولم يكن معه شيء من المخلوقات (1) ، بل نقلوا الإجماع على كفر من خالف في هذا ووافقهم ابن حزم في مراتب الإجماع ص167 وذكره الحافظ القاضي عياض في الشفاء وغيرهم ، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة ولننقل ما يقوله الإمام القاضي عياض في الشفا 2/606 ، ناقلاً لجملة من الاعتقادات الكفرية التي يجب حفظ الإيمان منها ، قال : ( أو – اعتقد – ان معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو ان ثم صانعا للعالم سواه ، أو مدبراً غيره فذلك كله كفر بإجماع المسلمين) .
            __________________________________________________ __
            (1) وابن تيمية لا يقول ان شيئاً من المخلوقات أزلي مع الله بل يقول إنه تعالى لم يزل فاعلاً ، وان نوع المفعول معه وقد سبق انه لا محذور من ذلك .
            فقوله هنا : ( أو انه معه في الازل شيئاً قديماً غيره ) نفي لقدم العالم بالنوع وتكفير لقائل ذلك ومعتقده وناشره (1) ، وكذا لقدم الإفراد عند كل مبصر لبيب لم يغشى على عقله ، وقد صرح جماعات من العلماء بلفظ ( نوع ) كما سيمر ان شاء الله تعالى ، وكذا بلفظة ( حوادث لا أول لها ) وأن ذلك كله كفـر بواح (2) صراح ، وقال القاضي عياض أيضاً في نفس المرجع السابق :
            ( وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية ) (3) الشفا 2/606.
            فاتضح ان قدم العالم نوعا أو فرداً شيء واحد من حيث أن مؤدى كل منهما إلى الكفر ، وان الكل يطلق عليه قدم العالم (4) ، وأينما أطلق لفظ قدم العالم في كلام العلماء فالمراد به ما يشمل النوع والفرد ، إلا عند كل عنيد معثار ، ومعنى قدم العالم بالنوع هو (5) : أن هذا العالم كان قبله عالم آخر وقبل ذلك آخر وهكذا إلى غير بداية أي إلى عدد غير متناه وغير محدود ، وإني أعجب ممن
            __________________________________________________
            (1) واضح أن السقاف لم يفهم المراد من القدم النوعي وأن المراد به دوام فاعلية الرب ، والتبس عليه معنى الأزل والفرق بين النوع والآحاد .
            (2) هل الاعتقاد بأن الرب لم يأت يوم وهو معطل عن الخلق كفر به أم ان الضلال في اعتقاد تعطيله ؟ !
            (3) وهذا ما يقول به شيخ الإسلام .
            (4) هناك فرق بين القدم النوعي بمعنى أن الله لم يزل يخلق شيئاً بعد شيء وبين ان يكون شيء من العالم قديماً مع الله فهو كفر بلا شك .
            (5) هذا تفسير غير دقيق وبقراءة ما سبق يتضح خطؤه لأن ابن تيمية يصرح بكونها مسبوقة من عدم .
            يصف الله تعالى بالحد وينزه المخلوق عن عدد يبلغه الحد ، أو يدركه العد ، والقول بعدم تناهي المخلوقات إلى اللابداية يبطله قول الله تعالى : وأحصى كل شيء عدداً  وقوله إنا كل شيء خلقناه بقدر  ، وبعض من يعتقد قدم العالم بالنوع أي تسلسل الحوادث إلى لا بداية يقول متبجحاً : انه إذا قال ان الله تعالى كان وحده في الأزل ولم يكن معه أحد من المخلوقات اقتضى ذلك أنه لم يكن خالقاً ثم صار خالقاً ، وان هذا تعطيل لصفة الخلق ، وهذا الاشكال مع كونه منهاراً باطلاً فجوابه : ان الله تعالى كان في الأزل خالقاً ولم يخلـق ، أي أنه اقتضت ارادته ومشيئته أن لا يخلق فهو خالق ولم يخلق (1) ، ولو شاء لخلق متى شاء ( والله على كل شيء قدير ) كما أخبر ، وقد أخبرنا أنه كان وحده ولم يكن معه شيء في القرآن وعلى لسان رسوله الصادق المصدوق ، والذي وصفه بأنه لا ينطق عن الهوى . وقال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر : وكان الله خالقاً قبل أن يخلق ورازقاً قبل أن يرزق أ 0 هـ .
            وقد قال الإمام حجة الإسلام الغزالي واصفاً الفلاسفة الذين عارضوا القرآن والسنة بعقولهم الفاسدة :
            بثلاثة كفر الفلاسفة العدا **** في نفيها وهي حقا مثبته
            علم يجزئي حدوث عوالم **** حشر لأجساد وكانت ميتة .
            __________________________________________________
            (1) هل لم يخلق وجوباً أو جوزاً ؟ فإذ كان جوازاً فهو تجويز لحوادث لا أول لها مع أن حكم الجواز قول على الله بغير علم ، وإن كان وجوباً فهل دليله العقل أم النقل ؟ !!
            وعلى كل حال فإن كلام السقاف أنه لو شاء الله لخلق متى شاء قول بحوادث لا أول لها فيكون قائلاً بقول ابن تيمية الذي مال إلى كفره . !! ولكن لازم المذهب ليس بمذهب .
            فعقيدة قدم العالم هي قضية الفلاسفة التي يبرأ منها المسلمون .
            - القول بتسلسل الحوادث إلى غير بداية ، من غير أن يكون هناك مخلوق قديم بعينه وهذا هو المعبر عنه بقدم العالم النوعي ، أي معية المخلوقات لله في الأزل بجنسها ،د ون أن يكون لابتدائها أول وهذا الذي يعتقده ابن تيمية ويقول به ، وهو الموجود في كتبه ومؤلفاته كما سننقله حرفياً منها ، وهذا القول أبطله الله تعالى كما في نصوص قرآنية ، منها قوله تعالى :
            ( هو الأول ) ومنها قوله تعالى :  وأحصى كل شيء عدداً  فلو كانت الحوادث متسلسلة إلى غير أول ما يتصور حشر ما لا نهاية له على محدود ، كما أبطل هذا القول أيضاً رسول الله  الذي لا ينطق عن الهوى في قوله :
            ( كان الله ولم يكن شيء غيره ) رواه البخاري وإجماع الأمة على ذلك أيضاً ، وأما قول بعض الفلاسفة ومن تبعهم : أننا إذ قلنا بأن الله تعالى كـان فـي الأزل ولم يكن معه شيء غيره اقتضى ذلك تعطيله من الخالقية ، فظاهر البطلان.
            وقول ابن تيمية عند إثباته قدم العالم بالنوع : ( إن كل ما سوى الله مخلوق وجد بعد ان لم يكن ) لا ينفي قوله : بقدم العالم بالنوع ، وإنما ينفي به قدم شيء بعينه ، ارضاء وإيهاما في هذا المقام ، ولا سيما أنه قد صرح بهذا الكلام الذي قررته في منهاج السنة 1/109 حيث قال :
            ( وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزلياً وإن جاز أن يكون نوع الحوادث (1)
            _______________________________________________
            (1) نعم فنوع الحوادث قديم سواء قلنا إن الحوادث هي الأفعال أو المفعولات وقد عرفنا سابقاً معنى القدم النوعي لهما.
            دائماً لم يزل ) فتأمل هذا ، فإن قال بعضهم :
            انما أراد ابن تيمية بهذا الكلام : أن الأشياء متعلقة بالمشيئة الأزلية ولم يرد قدم العالم بالنوع . فنقول له : قولك هذا فاسد ، ينقضـه قـول ابـن تيمية
            نفسه : ( وإن جاز أن يكون نوع الحوادث دائماً لم يزل ) فنوع الحوادث الذي يصفه بالديمومة الأزلية ليس هو المشيئة ، يثبت ذلك أيضاً نصوص كثيرة قالها ابن تيمية ستأتي ، علماً بأن مشيئة الله تعالى متعلقة بالنوع والفرد ، فلا معنى لقول المدافع بباطل ان المراد تعلقها بالمشيئة ، وهل المشيئة متعلقة بالنوع دون الفرد ؟ !!!! فابن تيمية قائل بهذه المسألة الثانية بلا شك ولا ريب ، وقوله مع ذلك ان كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد ان لم يكن لا ينجيه من ذلك بداهة ، وقد اعترف بذلك حتى الألباني (1) في سلسلته الصحيحة عند حديث رقم 133 ( أول ما خلق الله القلم ) فليراجع .
            - القول بقدم بعض أفراد العالم كالعرش أو الكرسي أو غير ذلك في العالم العلوي ، وهذا قول باطل أيضاً ، وأدلة نقضه نفس الأدلة الناقضة للمسألة الثانية ، وقد صرح ابن تيمية بقدم بعض الأشياء وإن حاول أحياناً أن يقول بأن العرش مخلوق ، فهو يقول مخلوق لكن يقول بنفس الوقت أنه لا أول له (2) ، ومراده أحياناً بقوله ان العالم مخلوق وله أول هو : العالم السفلي الذي هو : السموات والأرض ، الذي خلقه الله تعالى على حسب ما يراه في ستة أيام ، وأما العالم _____________________________________
            (1) الألباني قرر ان القلم أول مخلوق ولم يقرر ان الرب كان معطلاً عن الخلق كما هو قول أرباب أهل الكلام المذموم .
            (2) لا أدري ما الذي فهمه السقاف من ذلك لكن نقطع أنه لم يفرق بين النوع والأفراد !!
            العلوي الذي فيه العرش والكرسي والقلم واللوح ففيه حوادث لا أول لها.

            ( إيضاح قضية أن قدم نوع العالم أمر ذهني فقط ) (1) :

            اعلم ان معنى قولهم أن قدم العالم أمر ذهني ، أي : أن هذا التسلسل الذي لا أول له بزعمهم غير موجود في وقت معين بأجمعه ، وإنما يتصوره الذهن فقط أي العقل ، لكن هذا التسلسل الذي لا أول له بزعمهم غير موجود في وقت معين بأجمعه ، يعني أن هذه الأعداد الهائلة لا يتصور وجودها في لحظة واحدة أو
            في وقت معين بأجمعها ، وإنما يتصورها الذهن فقط أي العقل ، لكن هذا التسلسل الباطل واقع حتماً بالنسبة لله تعالى على زعمهم .
            وتقريب المسألة أكثر للفهم بمثال نقول : ان تسلسل الإنسان من الآن إلى ألف سنة سبقت يدرك بالنسبة إلينا من جهة أفراده فوجوده الآن أمر ذهني مع كونه حقيقة ملموسة من أوله إلى الآن ، وخصوصاً عند من عاش مثلاً أكثر من ألف سنة فإنه يشاهده من أوله إلى هذه اللحظة .
            فتبين أن قول بعضهم: أن قدم العالم أمر ذهني أي غير موجود حقيقة باطل فاسد صادر عن عقل عليل .
            واتضح أيضاً أن معنى قدم العالم بالنوع هو : أن هذا العالم كان قبله عالم آخر ، وقبل ذلك كان آخر وهكذا إلى غير بداية وقد هدمت عقيدة الإسلام هذه العقيدة الباطلة العارية عن الدليل المستمد من آراء أرسطو ، بقول النبي  __________________________________________________
            (1) لا زال الكلام للسقاف .

            "كان الله ولا شيء معه (1) " فالحمد لله على توفيقه .
            والفلاسفة الزائغون (2) قبحهم الله تعالى قال قسم منهم أن العالم العلوى وهو السماء وما فيها أزلي بمادته وأفراده ، ومن هؤلاء أرسطو وتبعه الفارابي وابن سينا ، ومنهم من يقول أن العالم بأسره قديم الجنس والنوع حادث الأفراد وهؤلاء متأخروا الفلاسفة وتبعهم في ذلك أبو العباس ابن تيمية من غير ان ينسب نفسه إلى اتباعهم بل نسب ذلك لأهل الحديث ظلماً منه لهم وهم بريئون من ذلك قطعاً .
            وقوله : ( أكثر أهل الحديث ) افتراء منه عليهم وعلى الأبرياء ، لأن أهل الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يكفرون من قال بقدم العالم إجماعاً ، سواء بنوعه أو بأفراده ، إذ لا فرق بين قدم العالم نوعاً أو فرداً ، إذ ان الكل يطلق عليه قدم العالم ، (3) وإن كان هناك فرق بين الفرد والجنس ، فلا يفرق بينهما إذ أن مؤدي كل منهما إلى قعر سقر ، فمن قال بواحد منهما أو بكليهما فإنه باعتقاده الفاسد هذا أثبت أولاً قديماً غير الله تعالى وهذا مما نقضته عقيدة الإسلام في القرآن والسنة مع إجماع من يعتد به في الإجماع .
            __________________________________________________
            (1) سبق الجواب عن هذه الرواية.
            (2) بتصرف لما يقتضيه المقام .
            (3) كل ذلك دليل على ان السقاف قد فهم من كلام ابن تيمية ان العالم قديم بمعنى انه لم يزل مع الله وليس الأمر كذلك كما سبق تفصيله .


            والذين اضطرب كلامهم في المسألة هم :
            1- محمد خليل هراس :
            يقول في كتابه ابن تيمية السلفي ص122 :
            ولكننا نتعجل فنقول إن ابن تيمية قد بني على هذه القاعدة ( قدم الجنس وحدوث الأفراد ) كثيراً من العقائد وجعلها مفتاحاً لحل مشاكل كثيرة في علم الكلام وهي قاعدة لا يطمئن إليها العقل كثيراً فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة فإذا فرض أن كل فرد منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً .
            وقد رأيت سعد الدين التفتازاني في رده على الفلاسفة القائلين بقدم الحركة بالنوع مع حدوث أشخاصها يقول بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزئياتها أزلياً ، إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن جزئياته . ويذكر أيضاً عند بيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية أنه لما كان كل حادث مسبوقاً بالعدم كان الكل كذلك فإذا كان كل زنجي أسود كان الكل أسود ضرورة .
            وقد تعقبه الجلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية وعد ذلك سخافة منه وبين أن مراد الفلاسفة بقدم الحركة هو قدم نوعها بمعنى أن لا يزال فرد من أفراد ذلك النوع موجوداً بحيث لا ينقطع بالكلية ثم قال ومن البين أن حدوث كل فرد لا ينافي ذلك أصلاً وضرب لذلك مثلاً بالورد الذي لا يبقى منه فرد أكثر من يوم أو يومين مع أن الورد باق أكثر من شهر أو شهرين .
            ونحن نقول له هذا قياس باطل فإن الكلام ليس فيما لا نهاية له من الحوادث في جانب المستقبل كما يقول به كثير من المتكلمين في نعيم أهل الجنة ونحو ذلك حتى يعترض ببقاء الورد مع فناء كل فرد من أفراده وإنما كلامنا فيما لا بداية له من الحوادث في جانب الماضي بمعنى انه ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث لا إلى أول بحيث يكون جنس هذه الحوادث قديماً ، وكل فرد منها حادثاً هل هو معقول أم لا ، الحق أنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبيـر ا 0 هـ
            وقد سبق الرد على ذلك من كلام شيخ الإسلام في منهاج السنة .
            2-سليم الهلالي :
            قال في كتابه عن ابن تيمية ص 83 : ان ابن تيمية لم يثبت حوادث لا أول لها وإنما أجاز هذا الاحتمال العقلي لابقاء حجج الخصمين .ا هـ .
            وصواب العبارة أن يقول : وابن تيمية لم يقطع أو لم يجزم بحوادث لا أول لها ، هذا إن كان يقصد بالحوادث هنا المفعولات أما ان قصد أفعال الرب فلا شك انه يجزم بأنه لا أول لها .
            وقال ص 86 : يجب التفريق بين الاحتمال والإثبات وابن تيمية أجاز ذلك عقلاً ولم يثبته شرعاً ا 0 هـ ، وقال مثله : ص88
            ويقال فيه ما قيل في سابقه.
            وقال في ص93 :
            إن مما يشرح الصدر إلى ما قدمناه من تبرئه ساحة ابن تيمية من القول بالقدم النوعي للعالم وإثبات حوادث لا أول لها أن هذه الأمور لم ترد في شيء مما صنفه مبيناً عقيدته كالعقيدة الواسطية والحموية والرسالة التدمرية وعقيدة الفرقة الناجية وغيرها بل لاحظنا ذلك كله في أثناء مناقشة الخصمين وإيراد حجج
            الفريقين .
            وقد علمت أن لا زم المذهب ليس بمذهب ، إذن فالقدم النوعي والقول به ليس مذهباً لابن تيمية رحمه الله ، وإنما مذهبه التصريح بأن هذا العالم حادث مخلوق وأول ما خلق الله خلق القلم ، قال رحمه الله : " فأول ما خلق خلق الله القلم ……." ا 0 هـ .
            ولا أدري كيف وقع الباحث في هذا الخطأ ، ويظهر أنه لم يفهم المراد من القدم النوعي لأنه يرى أن بينهما تعارضاً والأمر ليس كذلك ، وعلى كل حال لعل ما سبق من شرح هذه المسألة قد وضح للقارىء بجلاء خطأ كلام الهلالـي .
            3- محمد أمان الجامي رحمه الله :
            قال في شرحه على شرح الطحاوية (1) :
            ان أهل السنة قالوا ان تسلسل الحوادث من حيث الوقوع والوجود ممتنع عقلاً وشرعاً ، وأما من حيث الإمكان فغير ممتنع ا 0 هـ .
            ولا شك ان كلامه غير صحيح لأنه إن قصد بالحوادث أفعال الرب فكلامه خطأ ، وان قصد المخلوقات فكلامه خطأ أيضاً لأن امتناعه مع القول بدوام الفاعلية تناقض ، والظاهر ان الشيخ قد فهم ان القول بدوام الفاعلية وتسلسل المخلوقات يلزم منه قدم العالم ولهذا قال بعد ذلك : ودوام الحوادث في الماضي بحيث يكون المفعول مقارناً لفاعله محال وممتنع عقلاً وشرعاً ا هـ
            والصحيح ان يقول بوجوب تسلسل الأفعال وجواز تسلسل المخلوقات أما ما قاله رحمه الله فغير صحيح .
            __________________________________________________
            (1) في الشريط العاشر من شرحه .
            التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:53 م.
            أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
            والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
            وينصر الله من ينصره

            تعليق

            • سيف الكلمة
              إدارة المنتدى

              • 13 يون, 2006
              • 6036
              • مسلم

              #7
              المبحث الرابع
              النقول المستفيضة عن ابن تيمية في إنكاره قد العالم ،
              والفرق بين قوله وقول الفلاسفة


              - الفرق بين قول ابن تيمية وبين قول الفلاسفة :
              نسب كثيرون إلى شيخ الإسلام أنه يقول بقدم العالم وأنه وافق في ذلك ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد .
              والجواب على هذا :
              أن هناك فرقاً بين قول الفلاسفة وقول ابن تيمية فالفلاسفة يقولون بحدوث ما سوى الله لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير لا بمعنى سبق العدم عليه ومعنى الاحتياج إلى الغير أي ان قدم هذا العالم مستند إلى قدمه تعالى أي فقدمه تعالى أوجب قدم هذا العالم وهكذا زعموا قبحهم الله وهو كفر بإجماع المسلمين ولأجل هذا القول كفروا :
              بثلاثة كفر الفلاسفة العدا **** إذ أنكروها وهي حقاً مثبته
              علم بجزئي ، حدوث عوالم **** حشر لأجساد وكانت ميته(1)
              فالفلاسفة عندهم ان الحادث قسمان والقديم قسمان :
              أولاً : الحادث قسمان هما :
              1- حادث بالذات وهو ما يحتاج في وجوده إلى مؤثر

              سواء سبقه عدم كأفراد الإنسان أم لم يسبقه عدم كالأفلاك
              فإنها تحتاج في وجودها لمؤثر فإنها محتاجة في وجودها لمؤثر
              وقد سبقها العدم ولم يسبقها عدم .
              2- حادث بالزمان وهو ما سبق وجوده العدم كأفراد الإنسان
              __________________________________________________
              (1) انظر شرح الخريدة مع حاشية الصاوي ص30 ، وشرح البيجوري على الجوهرة ص68
              ثانياً : القديم قسمان هما :
              1- قديم بالذات وهو ما لا يحتاج في وجوده لمؤثر كذات المولى
              2- قديم بالزمان وهو نوعان :
              أ‌- الذي لم يسبقه عدم كذات المولى
              ب‌- ما احتاج في وجوده لمؤثر كالأفلاك فإنها عندهم لم يسبقها عدم لأنها ناشئة عن العقول بطريق العلة ويقولون ان واجب الوجود سبحانه وتعالى واحد من كل جهة فلا قدرة له ولا إرادة ولا صفة له زائدة على الذات والواحد من كل جهة إنما ينشأ عنه واحد بطريق العلة فالواحد الذي ينشأ عنه يقال له العقل الأول ثم إن ذلك العقل متصف بالإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وبالوجوب لعلته فهو قديم لعلته حادث باعتبار ذاته فنشأ عنه باعتبار الجهة الأولى عقل ثان ونشأ عنه من الجهة الثانية فلك أول وهو المسمى في لسان الشرع بالعرش ، ثم ان هذا العقل الثاني متصف بإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وهو العقل الأول وبالوجوب لعلته فهو حادث لذاته قديم لعلته فنشأ عنه باعتبار الجهة الأولى فلك ثان وهو المسمى في لسان الشرع بالكرسي وباعتبار الجهة الثانية عقل ثالث مدبر لذلك الفلك الثاني ثم إن ذلك العقل الثالث متصف بالإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وبالوجوب من حيث علته فنشأ عنه من الجهة الأولى فلك ثالث وهو المسمى السماء السابعة ونشأ عنه من الجهة الثانية عقل رابع مدبر لذلك الفلك الثالث وهكذا إلى سماء الدنيا فتكاملت الأفلاك تسعة والعقول عشرة ويسمون العقل المدبر لفلك القمر وهو سماء الدنيا بالعقل الفياض لإفاضته على ما تحت فلك القمر من أنواع الحيوانات والنباتات والمعادن وبهذا ظهر لك وجه قولهم إن الأفلاك حادثة بالذات قديمة بالزمان وأنه لا أول لها تبعاً لعلتها لأن المعلول يقارن علته ومثلها في ذلك العقول وسائر الأنواع من الحيوان والنباتات والمعادن وأما أفرادها فهي حادثة ذاتاً وزماناً ا هـ .
              وقول الفلاسفة : ان الرب لا اختيار له كفر(1) ا 0 هـ .
              وعلى ضوء ما سبق يكون :
              1- ان أفراد الإنسان حادثة بالذات والزمان معاً .
              2- الأفلاك حادثة بالذات قديمة بالزمان
              والخلاصة يمكن أن نتصور الأقوال من خلال هذا الجدول .


              كان مع الخلق مذ كان الله فهو الفعال كان ثم خلق
              وهذا قول الفلاسفة وهذا قول أهل السنة وهذا قول المتكلمين

              وأنقل ما قاله الشيخ خليل هراس في كتابه ابن تيمية السلفي ص162 توضيحاً لما سبق : " ويقولون ( الفلاسفة ) إنه علة تامة في الأزل فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان ثم يعترفون بأن حوادث العالم
              _________________________________________________
              (1) انظر في ذلك حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص70 ، وحاشية الصاوي على شرح الخريدة للدردير ص28 .
              حدثت شيئاً بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة بل حقيقة قولهم إن الحوادث حدثت بلا محدث وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم ، وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وأن الحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث .
              ولم يهتد الفريقان للقول الوسط وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثـره عقب تأثيره لا مع التأثير ولا متراخياً عنه كما قال تعالى  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون 
              فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخياً عن تكوينه كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان (1) .
              ومعنى هذا صراحة أن ابن تيمية لا يقول بمقارنة العالم لله حتى يكون قديماً معه كما يقول الفلاسفة ولا يقول بتراخيه عنه في الزمان حتى يكون متراخياً عنه كما يقول المتكلمون ، بل يرى أنه متصل به بمعنى أنه حاصل عقب إرادته له وهو سبحانه مستتبع له استتباع المؤثر لأثره .
              اعتراضات الفلاسفة على المتكلمين :
              الفلاسفة القائلون بقدم العالم اعترضوا على المتكلمين القائلين بحدوثه ، والمانعين لتسلسل الآثار في الماضي باعتراضين :
              __________________________________________________ __
              (1) وقد نقله من الفتاوى (9/282) .
              أحدهما : قولهم بامتناع الترجيح بلا مرجح .
              والثانية : قولهم بأن المؤثر التام يستلزم أثره .
              • الاعتراض الأول :
              قال الفلاسفة للمتكلمين : إن في قولكم عن الله إنه لم يكن قادراً ثم صار قادراً : ترجيحاً لأحد طرفي الممكن بلا مرجح ، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به ، ثم قالوا : والقول بوجود سبب يقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر ، وهكذا إلى غير نهاية ، فليزم التسلسل ؛ وهو ممتنع عندكم
              هذا هو الاعتراض الأول ، وهو واحد من مقدمتين هما عمدة الفلاسفة في القول بقدم العالم ، وملخص هذا الاعتراض : قول الفلاسفة : الترجيح لابد له من مرجح تام يجب به .
              وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (1) رحمه الله أن هذا الاعتراض ( هو أصعب المواضع على المتكلمين في بحثهم مع الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وهذه الشبهة أقوى شبهة للفلاسفة ؛ فإنهم لما رأوا أن الحدوث يمتنع إلا بسبب حادث ، قالوا : والقول في ذلك الحادث ، كالقول في الأول )
              • فما هي إجابة المتكلمين على هذا الاعتراض ؟
              تنوعت إجابات المتكلمين على هذا الاعتراض
              __________________________________________________
              (1) الصفدية (1/122) وفيه صرح ان هذا هو حجة الفلاسفة على قدم العالم وفصل الرد عليهم في ص 131 ، وانظر شرح العقيدة الأصفهانية ص71 ، وكذلك صرح بذلك مراراً في دراء التعارض ومنهاج السنة . .

              أ‌- فبعضهم أجاب ( بأن المرجح هو القدرة ، أو الإرادة القديمة ، أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ، ونحو ذلك )
              لكن الفلاسفة لم يقبلوا هذه الأجوبة ، وقالوا : كلها غير مفيدة ؛ لأن هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث ، لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث ؛ فالكلام في حدوثه ، ككلام في حدوث ما حدث به .
              فإن لم يوجد بسبب القدرة القديمة ، أو الإرادة القديمة ، أو العلم القديم ، أو إمكان الحدوث سبب حادث : كان الأمر ترجيحاً بلا مرجح .
              والحق أن قول جمهور الأشعرية أن المرجح هو الإرادة القديمة : قول ضعيف جداً ؛ لأنهم ذكروا للإرادة القديمة ثلاثة لوازم ، والثلاثة تناقض الإرادة :
              - قالوا : أنها تكون ولا مراد لها ، ثم لا تزال على نعت واحد حتى يحدث مرادها من غير تحول حالها ؛ فتوجد الحوادث بلا سبب أصلاً
              - قالوا : إنها ترجح مثلاً على مثل دون سبب مرجح
              - قالوا : إنها يتخلف عنها مرادها مع وجود القدرة ؛ فتتقدم على المراد تقدماً لا أول له.
              وهذه اللوازم الثلاثة تناقض القدرة.
              ب‌- وكثير من المتكلمين جوز ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح .
              يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنهم : " كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناءً على أن القادر المريد يرجح بقدرته ، او بالقدرة والداعي ، أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر .
              وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية ، ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة ، وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة ، وبه أجاب الآمدي ، وغيره " .
              ومعلوم أن صنيع هؤلاء متفق على امتناعه عند عامة العقلاء ؛ إذ انتفاء ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وبطلانه مما اتفق عليه العقلاء
              ج - " وعدل آخرون إلى الإلزام ، فقالوا : هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه "
              وقد رد عليهم الفلاسفة بأن هذا الذي ذكرتموه إنما يلزم إذا كان التسلسل باطلاً ، " وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله وإذا كان الحدوث موقوفاً على حوادث متجددة زال هذا المحذور "
              فأعلمهم الفلاسفة أن هذا الجواب يكون ملزماً لهم لو كانوا يمنعون التسلسل مثلهم ، ولكن لما كانوا يجيزون التسلسل ، لم يكن هذا الجواب ملزماً لهم .
              فهذه الشبهة - كما ذكر شيخ الإسلام - هي أقوى شبهة للفلاسفة والمتكلمون لم يستطيعوا الإجابة عليها بإجابات شافية ؛ لذلك لم يستطيعوا التخلص من المأزق الذي أوقعهم فيه الفلاسفة .
              يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم ؛ يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث . ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع ، وقال لهم الناس : هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع ؛ وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة ، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه ، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح " .
              وهذا مما يثبت تناقض أصحاب هذا الدليل في دليلهم ، بل وفي مقدماته .
              ففي إثبات الصانع جل وعلا : استدلوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ؛ فيفتقر إلى مرجح خارج عنه ؛ وهو الواجب الوجود تبارك وتعالى الذي يرجح وجوده على عدمه فيخرجه من العدم إلى الوجود .
              فأوجبوا وجود مرجح يرجح أحد طرفي الممكن على الآخر .
              وهنا جوزوا ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ؛ فناقضوا أنفسهم بأنفسهم ، ونقضوا بصنيعهم دليلهم الذي اثبتوا به الصانع جل وعلا .
              أما عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من اعتراض الفلاسفة الأول ، وإجابة المتكلمين عليه ؛ فقد وجه نقداً للفلاسفة ونصيحة للمتكلمين .
              أما نقده للفلاسفة ، فهو قوله عنهم : "فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين -نفاة الأفعال القائمة به- أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث ، مع كون الفاعل موصوفاً بصفات الكمال وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا ذات موصوفة بصفات الكمال بل حقيقة قولهم : أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل ؛ إذ كان مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها ؛ فلا يبقى للحوادث فاعل أصلاً لا هي ولا غيرها،فعلم أن قولهم أعظم تناقضاً من قول المعتزلة ونحوهم ، وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم هو على حدوثه أدل منه على قدمه باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم "
              فتبين أن الفلاسفة أشد تناقضاً من المتكلمين ، وأنهم ما ألزموا المتكلمين بشيء إلا وفي مذهبهم ما هو أشد إلزاماً لهم .
              وأما عن النصيحة التي وجهها ابن تيمية رحمه الله إلى المتكلمين ؛ فقد وجهها على لسان مثبتي قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى ، وهي نصيحة مشتملة على نقد ضمني ، فكأنه يقول لهم من خلاله : لو أثبتم قيام أفعال الله الاختيارية به جل وعلا لما جرى عليكم ما جرى ، ولتخلصتم من المأزق الذي أوقعتم أنفسكم فيه بنفيكم قيام هذه الأفعال بالله دجل وعلا . يقول شيخ الإسلام رحمه الله : " قال هؤلاء المثبتة لقيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى : وعلى أصلنا يبطل كلام الفلاسفة ؛ فإنه يقال لهم : أنتم تجوزون قيام الحوادث بالقديم ؛ إذ الفلك قديم عندكم ، والحركات تقوم به ، وتجوزون حوادث لا أول لها وتعاقب الحركات على الشيء لا يستلزم حدوثه وإذا كان كذلك : فلم يجوز أن يكون الخالق للعالم له أفعال اختيارية تقوم به يحدث بها الحوادث ، ولا يكون تسلسلها وتعاقبها دليلاً على حدوث ما قامت به "
              وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن قول المتكلمين بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح سبب استطالة الفلاسفة والملاحدة عليهم .
              يقول شيخ الإسلام رحمه الله مخاطباً المتكلمين : " أنتم تقولون : إن الرب كان معطلاً في الأزل ، لا يتكلم ولا يفعل شيئاً ، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب حادث اصلاً ، فلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح . وبهذا استطالت عليكم الفلاسفة - وخالفتم أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة في ذلك - وظننتم أنكم أقمتم الدليل على حدوث العالم بهذا ؛ حيث ظننتم أن ما لا يخلو عن نوع الحوادث يكون حادثاً ؛ لامتناع حوادث لانهاية لها .
              وهذا الأصل ليس معكم به كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة والتابعين ، بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والقرابة وأتباعهم بخلاف ذلك "
              فالمقصود أن المتكلمين لما قالوا إن الله لم يزل معطلاً عن الفعل والكلام حتى أحدث العالم بلا سبب أصلاً ، " بل نفس القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح أصلاً ، كالجائع إذا قدم له رغيفان ، والهارب إذا عنّ له طريقان " ؛ أطمعوا القائلين بقدم العالم فيهم ؛ فاعتقد القائلون بقدم العالم أنهم إذا أثبتوا امتناع حدوث العالم بعد دوام التعطيل الذاتي ، فقد قطعوا هؤلاء وأثبتوا قدم العالم وقدم هذه الأفلاك .
              • الإعتراض الثاني :
              قال الفلاسفة للمتكلمين : إن المؤثر التام يستلزم أثره ، والعلة التامة تستلزم معلولها .
              وهذا الاعتراض هو ثاني مقدمتي حجة الفلاسفة على قدم العالم ، إذ قالوا العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها ، فيكون العالم بما فيه من أفلاك أزلياً .
              وهذا يلزم منه أن لا يكون في العالم شيئاً محدثاً ، بل الكل قديم وهذا خلاف المحسوس .
              هذا هو الاعتراض الثاني
              وقد أجاب عنه المتكلمون بأن " المؤثر التام يجوز ، بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره ، فقالوا : البارى كان في الأزل مؤثراً تاماً ، وتراخى عنه أثره "
              وقد رد عليهم بأن هذا باطل ، لأنه يلزم منه : " أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً بعد أن لم يكن مؤثراً تاماً بدون سبب حادث ، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام ، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام "
              وهذا كله باطل .
              وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الجواب عن شبهة العلة التامة ، و قول المتكلمين : إنه يجب أن يتراخى عنها معلولها جواب غير صحيح ، كما أن قول الفلاسفة عن هذه العلة : إنه يجب أن يقارنها معلولها بالزمان قول باطل أيضاً .
              والجواب الصحيح هو قول ثالث ، وهو : " أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر ، فيكون عقبه ، لا مقارناً له ، ولا متراخياً عنه ؛ كما يقال : كسرت الإناء فانكسر ، وقطعت الحبل فانقطع ، وطلقت المرأة فطلقت ، وأعتقت العبد فعتق ، قال تعالى :  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  فإذا كون شيئاً ، كان عقب تكوين الرب له ، لا يكون مع تكوينه ، ولا متراخياً عنه وقد يقال : يكون مع تكوينه ؛ بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه ، وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته ، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له ، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثاً مسبوقاً بالعدم ؛ فإنه يجب أن يكون عقب تكوينه له ؛ فهو مسبوق بغيره سبقاً زمانياً ، وما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً ، والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام " .
              فليس القول بوجوب مقارنة العلة لمعلولها قولاً صحيحاً ، ولا بوجوب تراخيها عنه كذلك .
              وقول الفلاسفة بمقارنة العلة لمعلولها : " يوجب أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة ؛ فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء "
              وهو من أعظم الباطل المخالف لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام (1) ا 0هـ
              وبهذا نعلم ان شيخ الإسلام انما يجيز التسلسل في الآثار وهذا النوع من التسلسل جائز عند أكثر العقلاء ؛ من أئمة أهل الملل ، وأئمة الفلاسفة ، وغيرهم .
              وليس يُفهم من هذا وجود المفعولات أزلاً مع الله تعالى ؛ فما من مفعول إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن ؛ " فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ؛ إذ كان كل منهما حادثاً بعد أن يكن ، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل .
              والسلف رحمهم الله يجيزون هذا النوع من التسلسل ، ويرون أن إثباته ضروري لإثبات أفعال الله تعالى الاختيارية .
              وعلى هذا النوع يشهد قولهم :لم يزل الله فاعلاً بمشيئته وقدرته ، أولم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته ، ولا نهاية لكلماته ؛ كما أخبر جل وعلا  قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً  .
              لهذا يقول السلف رحمهم الله عن أفعال الله الاختيارية : لم يزل يفعل كذا ؛ يريدون بذلك قدم النوع ، وتجدد الآحاد ، لا بمعنى وجود المفعولات معه جل وعلا أزلاً ؛ فإن القول بوجود المفعولات أو المخلوقات مع الله تعالى أزلاً ليس من أقوال المسلمين .
              _________________________________________________
              (1) من الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د 0 عبد القادر صوفي .
              فهذا هو التسلسل في الآثار الذي أجازه السلف رحمهم الله ، وأكثر العقلاء ، وشهد بصحته العقل الصريح .
              النقول عن ابن تيمية في إنكار ما نسب إليه :
              إن خير من يدافع عن المتهم هو المتهم نفسه ولهذا جعلت هذا المبحث لنقول ابن تيمية في إنكار ما نسب إليه من القول بقدم العالم وان الله موجب بالذات لا فاعلاً بالاختيار ، وسيذكر قول المتكلمين أهل التراخي ، وقول الفلاسفة أهل المقارنة ، وقول أهل الحديث وهو ان الله لم يزل فعالاً ، وفي أثناء ذلك يذكر المسائل المتعلقة بالموضوع كحدوث العالم ، وكلام الله ونحو ذلك ، وقد نقلنا هذه النقولات من الفتاوى ، والدرء ، والمنهاج ، وله في الصفدية كذلك إلا أننا تركناه خشية الإطالة .
              يقول شيخ الإسلام في المجلد الخامس من الفتاوى ص537

              وأما ( المقدمة الثانية ) : وهو منع دوام نوع الحادث فهذه يمنعها أئمة السنة والحديث القائلين بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته ؛ وأن كلماته لا نهاية لها ؛ والقائلين بأنه لم يزل فعالاً ؛ كما يقوله البخاري وغيره ؛ ويمنعها أيضاً جمهور الفلاسفة ، ولكن الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية يقولون بامتناعها وهي من الأصول الكبار التي يبتني عليها الكلام في كلام الله تعالى وفي خلقه .
              وهذا القول هو أصل الكلام المحدث في الإسلام الذي ذمه السلف والأئمة ؛ فإن أصحاب هذا الكلام في الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم ظنوا أن معنى كون الله خالقاً لكل شيء – كما دل عليه الكتاب والسنة ، واتفق عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم – أنه سبحانه وتعالى لم يزل معطلاً . لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء أصلاً ، بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله ولا فعل يفعله ثم أنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه فأحدث العالم . وظنوا ان ما جاءت به الرسل واتفق عليه أهل الملل – من أن كل ما سوى الله مخلوق ، والله خالق كل شيء – هذا معناه وإن ضد هذا قول من قال بقدم العالم أو بقدم مادته ، فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين :
              ( احدهما ) : قول المسلمين وغيرهم من أهل الملل أن العالم محدث ، ومعناه عندهم ما تقدم .
              (والثاني ) : قول الدهرية الذين يقولون : العالم قديم ، وصاروا يحكمون في كتب الكلام والمقالات ان مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم ان الله كان فيما لم يزل لا يفعل شيئاً ، ولا يتكلم بشيء ،
              ثم إنه احدث العالم ؛ ومذهب الدهرية ان العالم قديم .
              والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له ؛ فينكرون الصانع جل جلاله . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم " أرسطو " صاحب التعاليم الفلسفية : المنطقي والطبيعي والإلهي . وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون في كتبهم العلة الأولى ، ويقولون : إن الفلك يتحرك للتشيبه بها ؛ فهي علة له بهذا الاعتبار ، إذ لولا وجود من تشبه به الفلك لم يتحرك ، وحركته من لوازم وجوده ، فلو بطلت حركته لفسد ولم يقل أرسطو : إن العلة الأولى أبدعت الأفلاك ؛ ولا قال هو موجب بذاته ، كما يقوله من يقول من متأخري الفلاسفة كابن سينا وأمثاله ، ولا قال : أن الفلك قديم وهو ممكن بذاته ؛ بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء ان الممكن هو الذي يمكن وجوده وعدمه ، ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً ، والفلك عندهم ليس بممكن بل هو قديم لم يزل وحقيقة قولهم أنه واجب لم يزل ولا يزال .
              فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم ، إلا عمن ينكر الصانع ، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة ، صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم ، وصاروا أيضاً يطلقون ألفاظ المسلمين من انه مصنوع ومحدث ونحو ذلك ، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي لا يريدون بذلك ، أن الله أحدث شيئاً بعد ان لم يكن ، وإذا قالوا : ان الله خالق كل شيء ، فهذا معناه عندهم ؛ فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول ، والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم ، كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم .
              وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام من امتناع دوام فعل الله ، وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم ، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين ، فقالوا : الأجسام لا تخلو من الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، لأن ما لا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها ، وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث .
              وكثير منهم لا يذكر على ذلك دليلاً لكون ذلك ظاهراً (1) ، إذ لم يفرقوا بين __________________________________________________
              (1) وانظر درء التعارض (1/303) .
              نوع الحوادث وبين الحادث المعين ، لكن من تفطن منهم للفرق ، فإنه يذكر دليلاً على ذلك بأن يقول : الحوادث لا تدوم بل يمتنع وجود حوادث لا أول لها ، ومنهم من يمنع أيضاً وجود حوادث لا آخر لها ، كما يقول ذلك إماما هذا الكلام : الجهم بن صفوان وأبو الهذيل .
              ولما كان حقيقة هذا القول ان الله سبحانه لم يكن قادراً على الفعل في الأزل ؛ بل صار قادراً على الفعل بعد أن لم يكن قادراً عليه ؛ كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء ، حتى انه كان من البدع التي ذكروها : من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما اظهروا لعنة أهل البدع ، والقصة مشهورة .
              فيقال " لأرسطو واتباعه " ممن رأى دوام الفاعلية ولوازمها : العقل الصريح لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم : لا فلك ولا غيره ؛ وإنما يدل على أن الرب لم يزل فاعلاً . وحينئذ فإذا قدر أنه لم يزل يخلق شيئاً بع شيء كان كل ما سواه مخلوقاً محدثاً مسبوقاً بالعدم ، ولم يكن من العالم شيء قديم ، وهذا التقدير ليس معكم ما يبطله فلماذا تنفونه ؟ !
              وإذا كان مدلول الدليل العقلي انه لابد أنه قديم تقوم به الأفعال شيئاً بعد
              شيء ، فهذا إنما يناقض قول المبتدعة من أهل الملل الذين ابتدعوا الكلام المحدث – الذي ذمه السلف والأئمة – الذين قالوا : إن الرب لم يزل معطلاً عن الفعل والكلام . فصار ما علمته العقلاء من أصناف الأمم من الفلاسفة وغيرهم بصريح المعقول هو عاضد وناصر لما جاء به الرسول  على من ابتدع في ملته ما يخالف أقواله .
              وكان ما علم بالشرع مع صريح العقل أيضاً زاد لما يقوله الفلاسفة الدهرية من قدم شيء من العالم مع الله بل القول " بقدم العالم " قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه ؛ فليس أهل الملة وحدهم تبطله ، بل أهل الملل كلهم ، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين : مشركي العرب ، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم ، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد ان لم يكن ، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء ، والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن الله خالق كل شيء ، وان هذا العالم كله مخلوق ، والله خالقه وربه ، وهذه الأمور مبسوطة في موضعها .
              ويقول في المجلد السادس ص231
              و " طائفة " يقولون : هب أنه يفتقر إلى فعل قبله ، فلم قلتم : ان ذلك ممتنع ؟ وقولكم : هذا تسلسل فيقال : ليس هذا تسلسلاً في الفاعلين ، والعلل الفاعلة ؛ فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء ؛ بل هو تسلسل في الآثار والأفعال ، وهو حصول شيء ، وهذا محل النزاع " فالسلف " يقولون : لم يزل متكلماً إذا شاء ؛ وقد قال تعالى  قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماتي ربي ولو جئنا بمثله مددا  فكلمات الله لا نهاية لها ، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم نفاد له ، فما من شيء إلا وبعده شيء لا نهاية له .
              و أما قـدم " الفاعلية " وهو : أنه ما زال فاعلاً ، فيقال : هذا لفظ مجمل ؛

              فأنتم(1) تريدون بالفاعل أن مفعوله مقارن له في الزمان وإذا كان فاعلاً بهذا الاعتبار وجب مقارنة مفعوله له فلا يتأخر فعله ، فهذه عمدتكم ، والفاعل عند عامة العقلاء وعند سلفكم ، وعندكم أيضاً – في غير هذا الموضع – هو الذي يفعل شيئاً فيحدثه ، فيمتنع أن يكون المفعول مقارناً له بهذا الاعتبار ـ بل على هذا الاعتبار يجب تأخر كل مفعول له ، فلا يكون في مفعولاته شيء قديم بقدمه ، فيكون كل ما سواه محدث .
              ثم للناس هنا طريقان :
              " منهم " من يقول : يجب تأخر كل مفعول له ، وأن يبقى معطلاً عن الفعل ثم يفعل ، كما يقوله أهل الكلام المبتدع من أهل الملل ، من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا النفي يناقض دوام الفاعلية فهو يناقض موجب تلك الحجج.
              و " الثاني " : أن يقال : ما زال فاعلاً لشيء بعد شيء ، فكل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن وهو وحده الذي اختص بالقدم والأزلية ، فهو " الأول" القديم الأزلي ليس معه غيره ، وانه ما زال يفعل شيئاً بعد شيء .
              فيقال لهم : الحجج التي تقيمونها في وجوب قدم " الفاعلية " كما أنها تبطل قول أهل الكلام المحدث فهي أيضاً تبطل قولكم ؛ وذلك أنها لو دلت على دوام الفاعلية بالمعنى الذي ادعيتم ، للزم أن لا يحدث في العالم حادث ؛ إذ كان المفعول المعلول عندكم يجب أن يقارن علته الفاعلية في الزمان ، وكل ما __________________________________________________
              (1) أي الفلاسفة .
              سوى الأول مفعول معلول له ، فتحدث مقارنة كل ما سواه فلا يحدث في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة والمعقول ، وباطل باتفاق بني آدم كلهم ، مخالف للحس والعقل .
              وأيضاً إذا وجب في العلة يقارنها معلولها في الزمان فكل حادث يجب أن يحدث مع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان ، لا يسبق بعضها بعضاً ولا نهاية لها ، وهذا قول بوجود علل لا نهاية لها ؛ وهذا أيضاً باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ؛ ولا فرق بين امتناع ذلك في ذات العلة أو شرط من شروطها ؛ فكما يمتنع ان يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى في آن واحد ؛ وكذلك شروط العلة وتمامها فإنها إحدى جزئي العلة ؛ فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في هذا الجزء ولا في هذا الجزء ؛ وهذا متفق عليه بين الناس وأما النزاع في " وجود مالا يتناهى على سبيل التعاقب " فقد زال جزء حجتهم ليس هو ما قالوه ؛ بل موجبه هو " القول الآخر " وهو : أن الفاعل لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء ، وحينئذ كل مفعول محدث كائن بعد ان لم يكن وهذا نقيض قولهم ، بل هذا من أبلغ ما يحتج به على ما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء ؛ فإنه بهذا يثبت أنه لا قديم إلا الله ، وانه كل ما سواه كائن بعد ان لم يكن سواء سمى عقلاً أو نفساً أو جسماً أو غير ذلك .
              بخلاف دليل أهل الكلام المحدث على الحدوث ؛ فإنهم قالوا : لو كان صحيحاً لم يدل إلا على حدوث الأجسام ، ونحن أثبتنا موجودات غير العقول ، و" أهل الكلام " لم يقيموا دليلاً على انتفائها ، وقد وافقهم على ذلك المتأخرون : مثل الشهر ستاني ، والرازي ، والآمدي وادعوا أنه لا دليل للمتكلمين على نفي هذه الجواهر العقلية ، ودليلهم على حدوث الأجسام لم يتناولها ؛ ولهذا صار الذين زعموا أنهم يجيبونهم " بالجواب الباهر " إلى ما تقدم ذكره من التناقض ؛ فقد تبين أن نفس ما احتجوا به يدل على فساد قولهم ، وفساد قول المتكلمين ، ويدل على حدوث كل ما سوى الله وانه وحده القديم ، دلالة صحيحة لا مطعن فيها .
              فقد تبين – ولله الحمد – ان عمدتهم على قدم العالم إنما تدل على نقيض قولهم ، وهو : حدوث كل ما سوى الله – ولله الحمد والمنة –

              ويقول في المجلد الثامن ص 380 وما بعده

              وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته فهذا قول السلف وأئمة الحديث والسنة كثير من أهل الكلام .
              وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل فإنه إذا خلق شيئاً لحكمة توجد بعد وجوده وتلك الحكمة لحكمة أخرى لزم التسلسل في المستقبل فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة وإنما يخالف في ذلك من شك : كالجهم بن صفوان الذي يقول : بفناء الجنة والنار وكأبي الهذيل الذي يقول : بانقطاع حركات أهل الجنة والنار . فإن هذين ادعيا امتناع وجود مالا يتناهى في الماضي والمستقبل ، وخالفهم جماهير المسلمين .
              و ( الجواب الثاني ) : أن يقال التسلسل نوعان :
              ( احدهما ) في الفاعلين ، وهو أن يكون لكل فاعل فاعل . فهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء .
              و ( الثاني ) التسلسل في الآثار ؛ مثل أن يقال : ان الله لم يزل متكلماً إذا شاء ويقال : ان كلمات الله لا نهاية لها فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل الملل ، وأئمة الفلاسفة ولكن الفلاسفة (1) يدعون قدم الأفلاك . وإن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لها وهذا كفر مخالف لدين الرسل وهو باطل في صريح المعقول .
              وكذلك القول : بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته ثم صار يمكنه الكلام والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية . ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل . وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة
              ومبتدعة أهل الكلام . في هذا الباب والكلام على هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية . أنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والاشكالات اللازمة على كل قول حتى أوقعت كثيراً من فحول النظار في بحور الشك والارتياب وهي مبسوطة في غير هذا الموضع .
              ويقول في المجلد التاسع :

              وكان أرسطو واتباعه يسمون " الرب " عقلاً وجوهراً ، وهو عندهم لا يعلم شيئاً سوى نفسه ولا يريد شيئاً ، ويسمونه " المبدأ " و " العلة الأولى " لأن الفلك عندهم متحرك للتشبه به أو متحرك للشبه بالعقل ، فحاجة الفلك عندهم إلى العلة الأولى من جهة أنه متشبه بها كما يتشبه المؤتم بالإمام والتلميذ بالأستاذ وقد يقول : أنه يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه ، ليس عندهم أنه ابدع شيئاً __________________________________________________
              (1) هذا هو قول الفلاسفة الذين يزعمون ان الشيء غير مسبوق بالعدم وهو كفر كما قال شيخ الإسلام .
              ولا فعل شيئاً ، ولا كانوا يسمونه واجب الوجود ، ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن ، ويجعلون الممكن هو موجوداً قديماً أزلياً كالفلك عندهم .
              وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء وخالفوا أنفسهم أيضاً فتناقضوا ؛ فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء من ان الممكن الذي يمكن أن يكون موجوداً وان يكون معدوماً ، لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم .
              وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء ان يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم ، بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثاً ، وهذا مما يستدل به على ان كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد ان لم يكن ، كما بسط في موضعه .
              لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر ان الوجود ينقسم إلى : واجب ، وممكن ، وان الممكن قد يكون قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال يمتنع عدمه ، ويقولون : هو واجب بغيره وجعلوا الفلك من هذا النوع ؛ فخرجوا عن إجماع لعقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وان لا يوجد وانه مع هذا يكون قديماً أزليا أبدياً ممتنع العدم واجب الوجود بغيره فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء وذلك بين في صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط في موضعه .
              وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم ؛ لأن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله . ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول . فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل . حتى قالوا : إن الله لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئة ، ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث ، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلماً بمشيئته ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء ؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف إلى امتناع دوامهما في المستقبل والماضي ، فقال الجهم : بفناء الجنة والنار ، وقال أبو الهذيل : بفناء حركاتهما ، وأنهم يبقون دائماً في سكون ، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا هو مقتضى العقل ، وان كل ماله ابتداء فيجب أن يكون له انتهاء .
              ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة كما قال تعالى :  أكلها دائم وظلها  وقال :  إن هذا لرزقنا ماله من نفاد  ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل ، ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة ، بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية . بل إذا تعارضت حجتان دل على فساد إحداهما وفسادهما جميعاً .
              وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي ، وذكروا فروعاً عرف حذاقهم ضعفها كما بسط في غير هذا الموضع ، وهو لزومهم أن يكون الرب كان غير قادر ثم صار قادراً من غير تجدد سبب يوجب كونه قادراً ، وانه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته ثم صار الفعل ممكناً له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان وإذا ذكر لهم هذا قالوا : كان في الأزل قادراً على ما لم يزل ، فقيل لهم : القادر لا يكون قادراً مع كون المقدور ممتنعاً ، بل القدرة على الممتنع ممتنعة ، وإنما يكون قادراً على ما يمكنه أن يفعله ، فإذا كان لم يزل قادراً فلم يزل يمكنه أن يفعل .
              ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال .
              ( فرقة ) قالت : الكلام لا يقوم بذات الرب بل لا يكون كلامه إلا مخلوقاً ؛ لأنه إما قديم وإما حادث ، ويمتنع أن يكون قديماً لأنه متكلم بمشيئته وقدرته ، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة ، وإذا كان الكلام بالقدرة والمشيئة كان مخلوقاً لا يقوم بذاته ، إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث والحوادث لا تقوم به ، لأنها لو قامت به لم يخل منها ، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ، قالوا : إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام ، وبه ثبت حدوث العالم قالوا : ومعلوم أن ما لم يسبق الحادث لم يكن قبله إما معه وإما بعده ، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث .
              وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين ، فإن الحادث المعين والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة ، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها وما كان كذلك فهو حادث قطعاً وهذا لا يخفي على أحد.
              ولكن موضع النظر والنزاع " نوع الحوادث " وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائماً فيكون الرب لا يزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك ؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة قالوا : وهذا أيضاً ممتنع لامتناع حوادث لا أول لها ، وذكروا على ذلك حججاً كحجة التطبيق ، وحجة امتناع انقضاء مالا نهاية له وأمثال ذلك وقد ذكر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع ، ولكل مقام مقال .
              وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث ، ويمتنع كون الرب يصير فاعلاً بعد أن لم يكن وان المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه – ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه من " قدم العالم " كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر ، وضلوا ضلالاً عظيماً خالفوا به صرائح العقول ، وكذبوا به كل رسول .
              فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد ان لم يكن ليس مع الله شيء قديم بقدمه ، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام والعقول الصريحة تعلم ان الحوادث لا بد لها من محدث ، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع فإنه إذا كان معلولها لازماً لها كان قديماً معها لم يتأخر عنها ، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث ، وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث ، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلاً لا قادر ولا غير قادر فكان ما فروا إليه شراً مما فروا منه وكانوا شراً من المستجير من الرمضاء بالنار .
              واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك يقارن فاعله أزلاً وأبداً لا يتقدم الفاعل عليه تقدماً زمانياً وأولئك قالوا : بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه ، فأقام الأولون الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا ، كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة على بطلان قول الآخرين ، ولا ريب ان قول هؤلاء أهل المقارنة أشد فساداً ومناقضة لصريح المعقول وصحيح المنقول من قول أولئك أهل التراخي .
              ( والقول الثالث ) الذي يدل عليه المعقول الصريح ويقر به عامة العقلاء ودل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة لم يهتد له الفريقان : وهو أن المؤثر يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام لا يقترن به ولا يتراخى كما إذا طلقت المرأة فطلقت ، وأعتقت العبد فعتق ، وكسرت الإناء فانكسر ، وقطعت الحبل فانقطع ، فوقوع العتق والطلاق ليس مقارناً لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه ، ولا هو أيضاً متراخ عنه بل يكون عقبه متصلا به ، وقد يقال هو معه ومفارق له باعتبار أنه يكون عقبه متصلاً به ، كما يقال : هو بعده متأخر عنه باعتبار إنما يكون عقب التأثير التام ، ولهذا قال تعالى :  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  فهو سبحانه يكون ما يشاء تكوينه فإذا كونه كان عقب تكوينه متصلاً به ، لا يكون مع تكوينه في الزمان ولا يكون متراخياً عن تكوينه بينهما فصل في الزمان ، بل يكون متصلاً بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض .
              وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن وان قيل مع ذلك بدوام فاعليته ومتكلميته ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .


              ويقول في المجلد الحادي عشر ص232
              وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً ، كاطلاقهم أن " الفلك " محدث ؛ أي معلول مع انه قديم عندهم ، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم ، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً ، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء ؛ وكل مخلوق فهو محدث ، وكل محدث كائن بعد ان لم يكن ؛ لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل ، ولا احكموا فيها قضايا العقول .
              فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا ، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة ، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة ، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
              ويقول في المجلد الثاني عشر ص 42
              واصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية ، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء .
              ويقولون أنه علة تامة في الأزل ؛ فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان ، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة ، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان ، ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئاً بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة ؛ بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث ، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم .
              وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره ، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، والحوادث لها ابتداء ، وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث ولم يهتد الفريقان للقول الوسط ، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه ، كما قال تعالى :  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ، ولا متراخياً عن تكوينه ، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ، ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان .
              والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى ، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك ؛ فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته ، ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته . فافترقوا بعد ذلك ، منهم من قال : كلامه لا يكون إلا حادثاً ؛ لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً ، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه ؛ لامتناع قيام الحوادث به ، وتسلسلها في ظنهم .
              ومنهم من قال : بل كلامه لا يكون إلا قائماً به ، وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته ، بل لا يكون إلا قديم العين ؛ لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به ، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها ، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ؛ لامتناع حوادث لا أول لها .
              ومنهم من قال : بل هو متكلم بمشيئته وقدرته ، لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل ، أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته ؛ لأن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها ، وذلك ممتنع .
              قالت " هذه الطوائف " : ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم ؛ فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلوا من الحوادث ولا تسبقها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث ، ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لاجمالها ، ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء ، أما الأول فهو حادث بالضرورة ؛ لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين ، فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث .
              وأما جنس الحوادث شيئاً بعد شيء فهذا شيء تنازع فيه الناس ، فقيل إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل ، فقال الجهم : بفناء الجنة والنار ، وقال أبو الهذيل : بفناء حركات أهلهما وقيل : بل هو جائز في المستقبل دون الماضي ؛ لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف النظار ، وقيل : بل هو جائز في الماضي والمستقبل وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ؛ وأن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته ، وهو أيضاً قول أئمة الفلاسفة .
              لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ؛ ويقولون إنه قديم أزلي ، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء . فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض ؛ بل هو خالق كل شيء ، وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن ، وإن القديم الأزلى هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ؛ بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ، ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها .
              ثم لما تكلم في " النبوات " من اتبع أرسطو – كابن سينا وأمثاله – ورأوا ما جاءت به الأنبياء من إخبارهم بأن الله يتكلم ، وأنه كلم موسى تكليماً ، وأنه خالق كل شيء ، أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه ، فيقولون : الحدوث نوعان ، ذاتي وزماني ، ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني ؛ بمعنى أنه معلول وإن كان أزلياً لم يزل مع الله ، وقالوا إنه مخلوق بهذا الاعتبار ، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون في أيام .
              وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء ، وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك انه خلق المخلوق ، وأحدثه بعد أن لم يكن ، كما قال : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً  والعقول الصريحة توافق ذلك ، وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارناً للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده ، وأن الفعل لا يكون إلا باحداث المفعول .
              وقالوا لهؤلاء قولكم :" إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره ، فإن أردتم " الأول " لزم أن لا يحدث في العالم حادث ، وهذا خلاف المشاهدة وإن أردتم " الثاني " لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً حادثاً كائناً بعد أن لم يكن ، وكان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء ، وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل ، وعلى هذا يدل العقل الصريح ، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء ، وإن أردتم " الثالث " فسد قولكم ؛ لأنه يستلزم أنه يشاء [ حدوثها ] بعد أن لم يكن فاعلاً لها من غير تجدد سبب يوجب الأحداث ، وهذا يناقض قولكم ، فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشىء ، وإن لم يصح هذا بطل ، فقولكم باطل على التقديرين .
              وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره ، ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن ، وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء ، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر ، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر ، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه .
              وأيضاً فكونه فاعلاً لمفعول معين يقارن له أزلاً وأبداً باطل في صريح العقل ، وأيضاً فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون [ إلا ] ممكناً يقبل الوجود والعدم ، وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب ، والضروري الممتنع لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً اخرى ، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضرورياً واجباً يمتنع عدمه ، وهذا مما اتفق عليه أرسطو واتباعه حتى ابن سينا وذكره في كتبه المشهورة " كالشفا" وغيره . ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وزعم أن له ماهية غير وجوده وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع .
              وهذا الأصل تنازع الناس فيه على " ثلاثة أقوال "
              فقيل : ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم .
              وقيل : بل يجوز دوام الحوادث مطلقاً وليس كل ما قارن حادثاً بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثاً ؛ بل يجوز أن يكون قديماً سواء كان واجباً بنفسه أو بغيره ، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول ، والفاعل والمفعول ونحو ذلك وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك ، كأرسطو واتباعه مثل ثامسطيوس ، والاسكندر الافريدوسي وبرقلس ، والفارابي ، وابن سينا وأمثالهم .
              وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بقدم الأفلاك ، ثم الفلاسفة من هؤلاء وهؤلاء متنازعون في قيام الصفات والحوادث بواجب الوجود على قولين معروفين لهم ، وإثبات ذلك قول كثير من الأساطين القدماء ، وبعض المتأخرين ، كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره ، كما بسطت أقوالهم في غير هذا الوضع .
              وقيل : بل أن كان المستلزم للحوادث ممكناً بنفسه ، وانه هو الذي يسمى مفعولاً ومعلولاً ومربوباً ونحو ذلك من العبارات وجب أن يكون حادثاً وان كان واجباً بنفسه لم يجز أن يكون حادثاً وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة ، وهو قول جماهير أهل الحديث ، وصاحب هذا القول يقول مالا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث ؛ لأنه إذا كان مفعولاً مستلزماً للحوادث امتنع أن يكون قديماً ؛ فإن القديم المعلول لا يكون قديماً إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله ، بحيث يكون معه أزلياً لا يتأخر عنه ، وهذا ممتنع .
              فإن كونه مفعولاً ينافي كونه قديماً بل قدمه ينافي كونه ممكناً ، فلا يكون ممكناً إلا ما كان محدثاً عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ، وهذا قول الفلاسفة القدماء قاطبة كأرسطو وأتباعه ، وأما " الفريق الثاني " الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً ، وأن القديم الواجب بنفسه يجوز أن تتعقب عليه الحوادث مطلقاً ، وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه ، فهؤلاء القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم الأفلاك ، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية ، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته .
              وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا : أن لها علة غائبة تتحرك للتشبه بها في تحركها ، كما يحرك المعشوق عاشقه ، ولم يثبتوا لها مبدعاً موجباً ولا موجباً قائماً بذاته ، ولا قالوا أن الفلك ممكن بنفسه واجب بغيره.
              بل الفلك عندهم واجب بنفسه لكن قالوا ، مع ذلك : إن له علة غائبة يتحرك للتشبه بها لا قوام له إلا بها ، فجعلوا الواجب بنفسه الذي لا فاعل له مفتقراً إلى علة غائية منفصلة عنه ، هذه حقيقة قول أرسطو وأتباعه ؛ ولهذا لم يثبتوا الأول عالماً بغيره ؛ إذ لم يكن الأول عندهم مبدعاً للفلك ؛ فإنه إذا كان مبدعاً يجب أن يكون عالماً بمفعوله ،كما قال :  ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ 
              ولهذا كانت أقوالهم في الإلهيات من أعظم الأقوال فساداً ، بخلاف أقوالهم في الطبيعيات ؛ ولهذا كان قولهم أشد فساداً في العقل والدين .
              وقال في المجلد السادس عشر ص94 :
              ( الثاني) : أنه قد سلم (1) أنه لم يزل قادراً على أن يخلق الخلق ؛ وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل فإنه إذا كان المقدور ممتنعاً لم تكن هناك قدرة فكيف يجعله لم يزل قادراً مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكناً؟ بل المقدور عنده كان ممتنعاً ثم صار ممكناً بلا سبب حادث اقتضى ذلك .
              ( الثالث ) أن قوله : " لأن معنى الخلق أنه لم يكن ثم كان ، فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجوداً ؟ " فيقال : بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه ، وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده . وإذا قيل : " لم يزل خالقاً " فإنما يقتضي قدم نوع الخلق ، و " دوام خالقيته " لا يقتضي قدم شىء من المخلوقات فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن ، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئاً أزلياً ومن قال بقدم شيء من العالم – كالفلك أو مادته – فإنه يجعله مخلوقاً بمعنى أنه كان بعد أن لم يكن ؛ ولكن إذ أوجده القديم .
              ولكن لم يزل فعالاً خالقاً ، [ ودوام خالقيته ] من لوازم وجوده ، فهذا ليس __________________________________________________
              (1) هذا جواب ابن تيمية على الخصوم الذين يقولون انه قادر والمقدور ممتنع .
              قولا بقدم شيء من المخلوقات ، بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه وهذا مقتضى سؤال السائل له .

              وقال في منهاج السنة ( 1/148)
              وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم : يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ، فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب .
              وهذا القول لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم لا الأفلاك ولا غيرها ، إنما يدل على أنه لم يزل فعالاً وإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئاً بعد شيء ، كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة ، مع القول بأن كل ما سوى الله محدث [ مخلوق ] بعد أن لم يكن ، [ كما أخبرت الرسل أن الله خالق كل شيء ] ، وإن كان النوع لم يزل متجدداً ، كما في الحوادث المستقبلة : كل منها حادث [ مخلوق ] ، وهي لا تزال تحدث شيئاً بعد شيء .
              قال هؤلاء : والله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، وأخبر أنه خالق كل شيء ، ولا يكون المخلوق إلا مسبوقاً [ بالعدم ] فالقرآن يدل على أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث
              فليس شيء من الموجودات مقارناً لله تعالى ، كما يقوله [ دهرية ] الفلاسفة ك إن العالم معلول له ، وهو موجب له مفيض له ، وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع ، وليس متقدماً عليه بالزمان فإنه لو كان علة تامة موجبة يقترن بها معلولها – كما زعموا – لم يكن في العالم شيء محدث ، فإن ذلك المحدث لا يحدث عن علة تامة أزلية يقارنها معلولها ، فإن المحدث المعين لا يكون أزلياً .
              وسواء قيل إنه حدث عنه بوسط أو بغير وسط – كما يقولون : إن الفلك تولد عنه بوسط عقل أو عقلين ، أو غير ذلك مما يقال – فإن كل قول يقتضي أن يكون شيء من العالم قديماً لازماً لذات الله فهو باطل ، لأن ذلك يستلزم كون البارىء موجباً بالذات بحيث يقارنه موجبه ، إذ لولا ذلك لما قارنه ذلك الشيء ، ولو كان موجباً بالذات لم يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه ، فكان يلزم أن لا يكون في العالم شيء محدث .

              وقال في ص 396:
              ومما يستفاد بذلك : أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه ، وهو متضمن الجواب عن عمدتهم .
              ومما يستفاد بذلك : الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيراً من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا ، من المعتزلة والشيعة ، وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام ، فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو .
              وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته ، لكن هل يجب وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة أم لا ؟ فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر ، وغيرهم من نفاة القدر ، أنه يجب وجود المفعول عند وجود المقتضى التام ، وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة وطائفة [أخرى ] من مثبته القدر : الجهمية وموافقيهم ، ومن نفاة القدر : المعتزلة وغيرهم ، لا توجب ذلك ؛ بل يقولون : القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ، ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات ، وهؤلاء يقولون : إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين .
              ثم القدرية من هؤلاء يقولون : العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، كما يقولون مثل ذلك في الرب . ولهذا كان [ من ] قول هؤلاء القدرية : إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم خصهم بها حتى أطاعوه بها ، بل تمكينه للمطيع وغيره سواه ؛ لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح ، بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك ، وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته ، من غير سبب أوجب ذلك .
              وأما الجبرية – كجهم وأصحابه – فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة .
              الأشعري يوافقهم في المعنى فيقول : ليس للعبد قدرة مؤثرة ؛ ويثبت شيئاً يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه ، وكذلك الكسب الذي يثبته .
              وهؤلاء لا يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لابد لها من مرجح – كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية – ولهذا لم يذكر الأشعري وقدماء أصحابه هذه الحجة .
              وطائفة من الناس – كالرازي وأتباعه – إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل ، وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام ، وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام، ونصروا أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدورية على الآخر إلا بالمرجح [ التام ] وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار ، وإبطال قولهم بالموجب بالذات ، سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبدالله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض .
              وفصل الخطاب أن يقال : أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات ؟ إن عنى [ به ] أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة ، فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج ، فضلاً عن أن تكون موجبة
              والفلاسفة يتناقضون فإنهم يثبتون للأول غاية ، ويثبتون العلل الغائبة في إبداعه ، وهذا يستلزم الإرادة .
              وإذا فسروا الغاية بمجرد العلم ، وجعلوا العلم مجرد الذات ، كان هذا في غاية الفساد و التناقض ؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الإرادة ليست مجرد العلم ، وأن العلم ليس هو مجرد العالم ، لكن هذا من تناقض هؤلاء الفلاسفة في هذا الباب ، فإنهم يجعلون المعاني المتعددة معنى واحدا ، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة ، ويجعلون الصفة هي نفس الموصوف ، كما يجعلون العلم هو [نفس] العالم ، والقادر هو القدرة ، والإرادة هي المريد ، والعشق هو العاشق .
              وهذا قد صرح به فضلاؤهم – وحتى المنتصرون لهم – مثل ابن رشد الحفيد ، الذي رد على [ أبي حامد ] الغزالي في " تهافت التهافت " وأمثاله .
              وأيضاً : فلو قدر وجود ذات مجردة عن المشيئة والاختيار ، فيمتنع أن يكون العالم صادراً عن موجب بالذات بها التفسير ، لأن الموجب بالذات بهذا الاعتبار يستلزم موجبه ومقتضاه ؛ فلو كان مبدع العالم موجباً بالذات بهذا التفسير ، لزم أن لا يحدث في العالم شيء ، وهو خلاف المشاهدة ، فقولهم بالموجب بالذات يستلزم نفي صفاته ونفي أفعاله ونفي حدوث شيء من العالم ، وهذا كله معلوم البطلان .
              وأبطل من ذلك أنهم جعلوه واحداً بسيطاً ، وقالوا : إنه لا يصدر عنه إلا واحد ، ثم احتالوا في صدور الكثرة عنه بحيل تدل على عظيم حيرتهم وجهلهم بهذا الباب ، كقولهم : إن الصادر الأول هو العقل الأول ، وهو موجود ، واجب بغيره ، ممكن بنفسه ، ففيه ثلاث جهات ؛ فصدر عنه باعتبار وجوبه عقل آخر ، وباعتبار وجوده نفس ، وباعتبار إمكانه [ فلك وربما قالوا : وباعتبار وجوده صورة الفلك ، وباعتبار إمكانه ] مادته وهم متنازعون في النفس الفلكية : هل هي جوهر مفارق له ، [ أم ] عرض قائم به ؟
              ولهذا أطنب الناس في بيان فساد كلامهم ، وذلك أن هذا الواحد الذي فرضوه لا يتصور وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية ، وهم لو علموا ثبوتها في [ بعض ] الصور ، لم يلزم أن تكون كلية إلا بقياس التمثيل ، فكيف وهم لا يعلمون واحداً / صدر عنه شيء؟
              والمقصود هنا أن الموجب بالذات إذا فسر بهذا فهو باطل ، وأما إذا فسر الموجب بالذات [ بأنه ] الذي يوجب مفعوله بمشيئته وقدرته لم يكن هذا المعنى منافياً لكونه فاعلاً بالاختيار بل يكون فاعلاً بالاختيار ، موجباً بذاته التي هي فاعل قادر مختار ، وهو موجب بمشيئته وقدرته .
              وإذا تبين أن الموجب بالذات يحتمل معنيين : أحدهما لا ينافي كونه فاعلاً بمشيئته [ وقدرته ] ، و الآخر ينافي كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ؛ فمن قال : القادر لا يفعل إلا على وجه الجواز – كما يقوله من يقوله من القدرية والجهمية – يجعل الفعل بالاختيار منافياً للإيجاب ، لا يجامعه بوجه من الوجوه ويقولون : إن القادر المختار لا يكون قادراً [ مختاراً ] إلا إذا فعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب .
              والجمهور من أهل السنة وغيرهم يقولون : القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لكنه إذا شاء أن يفعل مع قدرته لزم وجود فعله ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فإنه قادر على ما يشاء ، ومع القدرة التامة والمشيئة الجازمة يجب وجود الفعل .
              ولهذا صارت الأقوال ثلاثة :
              فالفلاسفة يقولون بالموجب بالذات المجردة عن الصفات ، أو الموصوف بالصفات الذي يجب أن يقارنه موجبه المعين أزلا وأبداً
              والقدرية من المعتزلة وغيرهم [ من الجهمية ، ومن وافقهم من غيرهم ] يقولون بالفاعل المختار الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب .
              ثم منهم من يقول : يفعل لا بإرادة ، بل المريد عندهم هو الفاعل العالم ومنهم من يقول بحدوث الإرادة وما يحدثه من إرادة أو فعل فهو يحدثه بمجرد القدرة ، فإن القادر عندهم يرجح بلا مرجح ثم القدرية من هؤلاء يقولون : يريد ما لا يكون ، ويكون ما لا يريد ، وقد يشاء ما لا يكون ، ويكـون مـا لا يشاء ، [ بخلاف المجبرة ] والجمهور من أهل السنة وغيرهم المثبتين للقدر والصفات ، يقولون إنه فاعل بالاختيار ، وإذا شاء شيئاً كان ، وإرادته وقدرته من لوازم ذاته سواء قالوا بإرادة واحدة قديمة ، أو بإرادات متعاقبة ، أو بإرادات قديمة تستوجب حدوث إرادات أخر فعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة يجب عندهم وجود مراده .
              وإذا فسر الإيجاب بالذات بهذا المعنى كان النزاع لفظياً ، فالدليل الذي ذكرناه يمكن تصوره بلفظ الموجب بالذات ، ولفظ العلة والمعلول ، ولفظ المؤثر والأثر ، ولفظ الفاعل المختار ، وهو بجميع هذه العبارات يبين امتناع قدم شيء من العالم ، ووجوب حدوث كل ما سوى الله .
              وهنا أمر آخر ، وهو أن الناس تنازعوا في الفاعل المختار : هل يجب أن تكون إرادته قبل الفعل ويمتنع مقارنتها له ؟ أم يجب مقارنة إرادته التي هي القصد – للفعل ، وما يتقدم الفعل يكون عزماً لا قصداً ؟ أم يجوز كل من الأمرين ؟ على ثلاثة أقوال .
              ونحن قد بينا وجوب حدوث كل ما سوى الله على كل قول من الأقوال الثلاثة : قول من يوجب المقارنة ، [ وقول من يقول بأن المقارنة ] ممتنعة ، وقول من يجوز الأمرين .
              وقال في درء التعارض ( 1/341) :
              وهذا على قول الجمهور الذين يقولون : الموجب يحصل عقب الموجب التام ، والأثر يحصل عقب المؤثر التام ، والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية ، والمعلول يحصل عقب كمال العلية .
              وأما من جعل الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان – كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم – فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله ؛ فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ، ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ، وهلم جرا ، وهذا تسلسل في تمام المؤثرية ، وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار ، فإن التسلسل في الآثار هو أن يكون أثر بعد أثر ، والتسلسل في المؤثرات ان يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر ؛ فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه ، وإنما يفعل في حال وجوده ، فعند وجود التأثير لابد / من وجود المؤثر ، فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير ، بل لا يكون إلا مع وجوده ، لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر ، فإن جعل تمام المؤثرية مقارناً للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات ، لا في الآثار .
              وإن قلتم : " إن التسلسل في الآثار جائز " – وهو قولكم – بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم ؛ فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم ، وإنما تدل على وجوب دوام كون الرب فاعلاً .
              فيقال لكم حينئذ : لم لا يجوز أن تكون الأفلاك ، أو كل ما يقدر موجوداً في العالم ، أو كل ما يحدثه الله : موقوفاً على حادث بعد حادث ، ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة ؟
              فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل ، سواء كان تسلسل الحوادث جائزاً أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزاً بطلت الحجة ، وبطل المذهب المعروف عندكم ، وهو أن حركات الأفلاك أزلية ، فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزاً / فإذا كان تسلسلها ممتنعاً لزم أن يكون لحركة الفلك أول ، وإن كان تسلسل الحوادث جائزاً ، لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم ، لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفاً على حوادث قبله ، وهلم جرا .
              وقال ص 345
              ولكن مثار الغلط والاشتباه هنا : أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر ، بمعنى أنه يحدث شيء بعد شيء ، ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً ، وهذا عند من يقول : " إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان " كما يقوله هؤلاء الدهرية ، فيقتضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارناً للأثر لا يتقدم عليه ، فتبين به فساد حجتهم .
              وأما من قال : " إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر " فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموى ، وهو أن كونه مؤثراً في الأثر المعين يكون مشروطاً بحادث يحدث يكون الأثر عقبه ، ولا يكون الأثر مقارناً له .
              ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم ، ويوافق أصل أئمة السنة وأهل الحديث الذين يقولون : لم يزل متكلماً إذا شاء .
              فإنه على قول هؤلاء يقال : فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر ، ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث ، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي ، إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثرة ، ومقارنة الأثر للمؤثر زماناً ممتنعة ا0هـ.
              التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:53 م.
              أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
              والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
              وينصر الله من ينصره

              تعليق

              • سيف الكلمة
                إدارة المنتدى

                • 13 يون, 2006
                • 6036
                • مسلم

                #8
                المبحث الخامس
                القدم النوعي من نونية ابن القيم

                تمهيد :

                خصصت هذا المبحث لأبيات نونية ابن القيم مع شرح خليل هراس ليكون مراجعة لما سبق ، ولتوضيح مقالة ابن القيم في المسألة رداً على السبكي والكوثري في السيف الصقيل مع حاشيته .
                وهذه الأبيات تشمل كلام الله تعالى أيضاً لصلة ذلك بالموضوع ، وسوف أذكر الأبيات ثم شرح هراس عليه ، و ما يوجد من تعليق مني على ذلك فسيكون في الحاشية .
                و قضى بأن الله كان معطلا **** و الفعل ممتنع بلا ا مكان
                ثم استحال وصار مقدوراً له **** من غير أمر قام بالديان
                بل حاله سبحانه في ذاته **** قبل الحدوث و بعده سيان
                الشرح
                كان الجهم يقول بحدوث العالم بمعنى أنه صار موجوداً بعد أن كان معدوماً لا فرق في ذلك عنده بين أنواع الحوادث وأشخاصها . وتبعه على ذلك معظم فرق المتكلمين كالمعتزلة والأشعرية والكرامية .
                ويلزم على هذا القول من الفساد أن الله عز وجل لم يزل معطلاً عن الفعل أو غير قادر عليه ، ثم صار فاعلاً وقادراً من غير تجدد سبب أصلاً أوجب له القدرة والفعل . أو أن الفعل منه كان ممتنعاً في الأزل ثم صار ممكناً مقدوراً من غير سبب اقتضى إمكانه – وهذا يستلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ويلزم هؤلاء أيضاً أن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن فلابد أن يكون ممكناً . والإمكان ليس له وقت محدد فما من وقت يقدر حدوثه فيه إلا والإمكان ثابت قبله . ليس لإمكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه ، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها .
                فقول المؤلف رحمه الله : وقضى بأن الفعل كان معطلاً إلخ ، إنما هو بيان لما يلزم مذهب جهم وشيعته في قولهم بحدوث العالم وأن له بداية في الزمان .
                ويقابل قول هؤلاء قول الفلاسفة بقدوم العالم ، وأنه صدر عن الله عز وجل صدور المعلول عن علته بلا قصد ولا اختيار ، ولا شك أن هذا القول أفسد من سابقه وساده من الظهور بحيث لا يحتاج إلى إطالة الكلام له .
                بقى القول الثالث وهو ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله عز وجل لم يزل حياً قادراً فعالاً لما يريد متكلماً إذا شاء بما شاء ، وأن الفعل والكلام من صفات كماله التي لا يجوز تعطيله عنها في وقت من الأوقات ، وأن الفعل والكلام لم يزل ممكناً مقدوراً لا يجوز القول بامتناع ذلك منه في وقت من الأوقات كذلك .
                فصل في مذهب الكرامية

                و القائلـون بأنـه بمشيئــة **** في ذاته أيضاً فهم نوعـان
                إحداهمـا جعلتـه مبدوءًا به **** نوعاً حذار تسلسل الأعيان
                فيسـد ذاك عليهم في زعمهـم **** إثبات خالق هذه الأكـوان
                فلـذاك قـالـوا أنـه ذو أول **** ما للفناء عليه من سلطان
                وكلامـه كفعـاله وكلاهـما **** ذو مبدأ بل ليس ينتهيـان

                الشرح
                وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن الكلام متعلق بمشيئته تعالى وقدرته فانقسموا إلى طائفتين . الطائفة الأولى الكرامية أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الله تعالى يتكلم بمشيئته بالقرآن العربي وغيره ، إلا أنهم لا يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء لأنه يمتنع عندهم أن يكون الله متكلماً في الأزل فيجعلون كلامه حادثاً في ذاته ،مسبوقاً باليوم . بمعنى أن الله لم يكن عندهم متكلماً ، ثم صار متكلماً ، فنوع الكلام عندهم له ابتداء في ذاته (1) ، وإنما ألجأهم إلى ذلك الخوف من القول بحوادث لا أول لها ، فإن هذا يلزمه التسلسل في الموجودات والقول بقدم الأنواع فينسد عليهم طريق إثبات الصانع في زعمهم إذ كان الطريق إلى ذلك هو حدوث الأشياء المستلزم لوجود محدث لها فلهذا اضطر الكرامية إلى أن يجعلوا لما يحدث في ذاته تعالى من الكلام او الفعل ابتداء ، لكنه مع ذلك إذ حدث فليس قابلاً عندهم للزوال والفناء ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرقان ( ومحمد بن كرام فكان بعد ابن كلاب في عصر مسلم بن الحجاج أثبت أنه يوصف بالصفات الاختيارية ، ويتكلم بمشيئته وقدرته . ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلماً بمشيئته وقدرته لامتناع حوادث لا أول لها ، فلم يقل بقول السلف لم يزل متكلماً إذا شاء ، وقال هو وأصحابه في المشهور أن الحوادث التي تقوم به لا يخلو عنها ، ولا تزول عنه )
                _________________________________________________
                (1) أي النوع عندهم حادث وليس قيماً كما يقول السلف فالله لم يكن يتكلم ثم صار يتكلم فعطلوا الله عن كلامه في أول الأمر وأثبتوه له في ثاني الحال .

                قالوا ولم ينصف خصـوم جعجعـوا **** وأتـوا بتشنيع بلا برهان
                قلنـا كمـا قالـوه فـي أفعالـه **** بل بيننا بون من الفرقان
                بل نـحـن اسعـد منهم بالحـق إذ **** قلنا هما بالله قائمتـان
                و هـم فقـالوا لـم يقـم بالله لا **** فعل ولا قول فتعطيلان
                لفعـالـه و مقالـه شـر و أبطـل **** من حلول حوادث ببيان
                تعـطـيله عـن فعلـه و كـلامـه **** شر من التشنيع بالهذيان
                هذى مقـالات ابـن كـرام و مـا **** ردوا عليه قط بالبرهان
                أنـى و ما قـد قال أقرب منهـم **** للعقل والآثار و القرآن
                لكنهـم جـاءوا لـه بجعـاجـع **** وفراقع وقعاقع بشمان
                الشرح
                قالت الكرامية أن خصومنا من الكلابية والأشعرية قد شنعوا علينا في قولنا بحدوث الكلام في ذاته تعالى بمشيئته واختياره مع أنه لا حجة لهم في هذا التشنيع على أنهم قد قالوا بمثل قولنا في أفعاله تعالى فجعلوها حادثة ، ولزمهم في ذلك مثل ما لزمنا من أن الله كان معطلاً عن الفعل في الأزل ، ثم صار فاعلاً بلا تجدد سبب أوجد القدرة والإمكان ، بل نحن أقرب منهم إلى الحق لأننا جعلنا الكلام والفعل صفتين قائمتين بذاته ، وأما هم فعطلوه عن قوله وفعله ، فإن القول المسموع عندهم مخلوق كما أن الفعل عين المفعول المخلوق ، ولا شك أن تعطيل الباري عن قوله وفعله شر ، وأدخل في الباطل من القول بحلول الحوادث في ذاته ، والحق أن مقالة ابن كرام وإن كانت منحرفة عن جادة الصواب حيث حكم بخلوه تعالى في الأزل من الكلام والفعل وهما من صفات كماله إلا أن خطأه أهون من خطأ الأشعرية ، ولهذا لم يستطيعوا أن يردوا عليه ببرهان جلي ، فإن ما قاله أقرب إلى العقل والنقل مما قالوه .
                أما من جهة العقل فلأنه لا يعقل متكلماً ولا فاعلاً إلا من قام به الفعل والكلام وأما من جهة النقل فالنصوص كلها دلت على أن الله متكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلامه ليس إلا حروفاً وأصواتاً مسموعة .
                قوله جعجعوا : أحدثوا ضجة شديدة ، وقوله : بتشنيع من شنع عليه إذا نسبه إلى الشناعة وهي القبح . وقوله لفعاله ومقاله متعلق بتعطيلان في البيت قبله وتعطيلان مبتدأ خبره شر وأني بمعنى كيف والاستفهام استبعاد والجعاجع و الفراقع والقعاقع أسماء أصوات .
                *****
                فصل في ذكر مذهب أهل الحديث
                والآخرون أولـوا الحديـث كأحمـد **** و محمـد و أئـمـة الإيمـان
                قالـوا بـأن الله حقـاً لم يـزل **** متكلـماً بمشيئـة و بيــان
                إن الكـلام هـو الكمـال فكيف **** يخلو عنه فـي أزل بلا إمكـان
                و يصيـر فيمـا لم يـزل متكلماً **** ماذا اقتضاه لـه مـن الإمـكان
                و تعـاقب الكلمـات أمر ثابـت **** للذات مثـل تعاقب الأزمـان
                والله رب العـرش قـال حقيقـة **** حم مع طـه بغيـر قـران
                بل أحرف متـرتبـات مثـل مـا **** قد رتبت في مـسمـع الإنسان
                وقتـان في وقـت محـال هكـذا **** حرفـان أيضاً يوجـدا في آن
                من واحد متكلـم بـل يـوجدا **** بالرسـم أو يتكلم الرجـلان
                هذا هـو المعقـول أمـا الاقتـران **** فليس معقولاً لذي الأذهـان
                الشرح
                و أما الآخرون من القائلين بأن الله متكلم بكلام قائم بذاته متعلق بمشيئته وإرادته فهم أصحاب الحديث أهل السنة والجماعة كأحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهما من أئمة الإيمان رضي الله عنهم ذهبوا إلى أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ، لأن الكلام صفة كمال إذ أن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته وإذاً فلا يعقل خلوه تعالى عنه في الأزل ، لأن الخلو عن الكمال نقص يستحيل على الله . ولأن الكلام إذا كان ممتنعاً عليه في الأزل ، ثم صار متكلماً فيما لا يزال ، فما الذي اقتضى انقلابه من الامتناع إلى الإمكان ، مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يوجب ذلك الانقلاب فتبين أن الرب سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء بمعنى أن جنس كلامه قديم وتعاقب الكلمات وخروجها إلى الوجود شيئاً بعد شيء هو أمر ثابت لها لذواتها مثل تعاقب الأزمنة فكما أن أجزاء الزمان لا توجد مجتمعة ، بل توجد على سبيل التعاقب آنا بعد آن ، فكذلك الحروف التي هي أجزاء الكلمات لا يمكن النطق بها مجتمعة بحيث يكون النطق بالحرف الثاني مع الأول في آن واحد ، بل لابد من وجودها على سبيل التعاقب والتسلسل حرفاً بعد حرف ، فإذا قال الله عز وجل : حم أو طه فلا يعقل اجتماع الحرفين من كل من هاتين الآيتين بحيث ينطق بالميم مع الحاء ، أو بالهاء مع الطاء بل تأتي الحروف مترتبات في النطق كما هي مترتبة في السماع . وإذا كان وجود وقتين من الزمان في وقت واحد غير معقول لأن الزمان كم متصل غير قار الذات لا يجتمع أجزاؤه في الوجود ، فكذلك وجود حرفين من متكلم واحد في آن واحد مستحيل ، وإنما يعقل ذلك في الرسم أي الكتابة أو إذا كان المتكلم أكثر من واحد ، وأما الاقتران الذي تزعم الاقترانية فشيء غير معقول لذوي الأذهان بل إن استحالته ضرورية لا تحتاج إلى بيان .
                ******
                فتقول هذا القدر قد أعيـا على **** أهل الكلام و قاده أصلان
                إحداهما هل فعلـه مفعولـه **** أو غيره فهما لهم قـولان
                و القائلون بأنـه هـو عينه **** فروا من الأوصاف بالحدثان
                لكن حقيقة قولهم و صريحـه **** تعطيل خالق هذه الأكوان
                عن فعلـه إذ فعلـه مفعوله **** لكنـه مـا قـام بالرحمـن
                فعل الحقيقة ما لـه فعـل إذ **** المفعول منفصـل عن الديان
                الشرح
                هذا جواب المؤلف على إيراد المعتزلة الذي أرادوا به تصحيح مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل ، وقولهم أن وصفه بالمتكلم لا يقتضي قيام الكلام به ، كما لا يقتضي وصفه بفاعل قيام الفعل به ، وقد استطرد المؤلف في الجواب بذكر مذاهب المتكلمين في فعله تعالى ، وهل هو عين مفعوله أو غيره ، فالقائلون بأنه هو عينه كالجهمية والمعتزلة إنما دعاهم إلى ذلك فرارهم من القول بقيام الحوادث بذاته ، فان الفعل إذا جعل وصفاً له لم يكن إلا حادثاً ، والله ليس محلا للحوادث عندهم ، لأن ذلك يستلزم حدوثه ، وهذا الأمر مما وافقت فيه الأشعرية المعتزلة حيث منعوا هم أيضاً قيام الحوادث بذاته ، وقالوا ان مالا يخلو من الحوادث فهو حادث
                وقد قادت هذه القضية الكاذبة كلا من الطائفتين إلى أحكام فاسدة ، فقد التزم المعتزلة لأجلها أن يكون الفعل عين المفعول ، وأن يكون كلامه تعالى مخلوقاً له منفصلاً عنه ، والتزم الأشاعرة لأجلها بنفي الحرف والصوت ،ونفي صفات الأفعال من الاستواء والمجىء ، والغضب والرضى ، والمحبة والسخط ، والكراهية والنزول والإتيان الخ .
                والتزموا أن يكون الله قد تكلم في الأزل بكلام سمعه موسى ، وأنه ناداه وناجاه في الأزل إلى غير ذلك مما هذى به الفريقان مما يصادم المعقول والمنقول مصادمة صريحة .
                وحقيقة قول هؤلاء المعتزلة والجهمية أن الفعل عين المفعول هو نفي الفعل وتعطيل الخالق عنه ، فإنه إذا كان الفعل هو المفعول ، ومعلوم أن المفعول مخلوق له منفصل عنه لم يكن له في الحقيقة فعل هو وصف له قائم به ، فتفسير الفعل بالمفعول مستلزم لنفيه ، وأنه ليس هناك إلا المفعول .
                *****
                و القائلـون بأنـه غـير لـه **** متنازعـون و هم فطائفتان
                إحداهما قالت قـديـم قائـم **** بالذات وهو كقدرة المنـان
                سمـوه تكويناً قديماً قالـه **** اتباع شيـخ العالم النعماني
                وخصومهم لم ينصفـوا في رده **** بل كابروهم ما أتوا ببيـان
                والآخرون رأوه أمراً حادثـاً **** بالذات قام وإنهم نـوعـان
                إحداهـما جعلتـه مفتتحاً به **** حذر التسلسل ليس ذا إمكان
                هذا الـذي قالتـه كـرامية **** ففعالـه و كلامـه سيـان
                الشرح
                وأما القائلون بأن الفعل غير المفعول فقد انقسموا أولاً إلى طائفتين :
                إحداهما : قالت أنه قديم بالذات لازم لها كالقدرة (1) ، ولم يجعلوه متعلقاً بمشيئته تعالى وقدرته ، وهم الماتريدية أتباع الشيخ أبي منصور الماتريدي من علماء الحنفية وهذه المسألة مما خالف فيه الماتريدية الأشاعرة رغم ما بين الطائفتين من اتفاق في كثير من مسائل الكلام ، فإن المشهور عن الأشاعرة أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات ، يسمونها صفات المعاني وهي : الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام ، ويجعلونها كلها قديمة قائمة بالذات وأما صفات الأفعال عندهم من الخلق والرزق والإحياء والإماتة إلخ ، فيجعلونها تعلقات تنجيزية حادثة للقدرة القديمة ، ومن العجب أنهم يقولون أن تعلقات الإرادة كلها تنجيزية قديمة ، فكيف إذا تخلف عنها المراد في الأزل وكذلك قالوا في تعلقات العلم والكلام . وأما الماتريدية فقد أثبتوا التكوين صفة أخرى وراء الصفات السبع المتقدمة وجعلوها قديمة كما سبق ، وقد عارضهم خصومهم ، من الأشاعرة وردوا قولهم في إثبات هذه الصفة مكابرة بلا دليل .
                وأما الطائفة الأخرى فقد ذهبت إلى أن الفعل حادث قائم بالذات ، ثم انقسمت إلى فرقتين : الكرامية أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا إلى أن فعله حادث قائم بذاته ومتعلق بمشيئته وقدرته ، ولكنهم جعلوا له ابتداء في ذاته ،
                __________________________________________________
                (1) وانما قالوا ذلك مداهنة للمعتزلة والجهمية والذين يقولون ان الفعل إذا كان حادثاً وقام بالله لزم ان يكون الله محلاً للحوادث فيكون حادثاً ن ولهذا قالوا ان الفعل قديم ويلزم على هذا ان يكون المفعول قديماً لأن الفعل لابد ان ينتج مفعولاً ولهذا قالوا لا نسميه فعلاً بل تكويناً ، و التكوين ان أرادوا به التقدير أي قدر كذا فعلى هذا لم يقروا بالفعل بل جعلوا الفعل هو التقدير والقضاء ، وإن جعلوا التكوين هو فعل الشيء وعمله فعلى هذا يكون المفعول قديماً ، وعلى هذا جرى أبو جعفر الطحاوي .
                بمعنى أنه لم يكن فاعلاً ثم فعل (1). وهكذا قالوا في جميع الصفات المتعلقة بالمشيئة من الكلام والرضى والمحبة والنزول والاستواء ، والذي دعاهم إلى ذلك الخوف من القول بالتسلسل في أفعاله ، فيلزم قدم أنواع المفعولات ، فيسد ذلك عليهم في زعمهم طريق إثبات الصانع ، إذ كان إثباته من طريق حدوث المخلوقات ، وذهبوا إلى أن الفعل والكلام سيان ، كلاهما حادث له ابتداء في الذات ، فالله عندهم لم يكن متكلماً ولا فاعلاً ، ثم حدث له الفعل والكلام ، فعطلوه سبحانه عن فعله وكلامه وجعلوا كلاً منهما ممتنعاً في الأزل .
                *****
                والآخرون أولوا الحديث كأحمد **** ذاك ابن حنبل الرضي الشيباني
                قد قال إن الله حقاً لم يزل **** متكلـماً إن شاء ذو إحسان
                جعل الكلام صفات فعل قائم **** بالذات لم يفقد من الـرحمن
                وكذاك نص على دوام الفعل **** بالإحسان أيضـاً في مكان ثان
                وكذا ابن عباس فراجع قوله **** لما أجـاب مسائـل القـرآن
                وكذاك جعفر الإمام الصادق **** المقبول عند الخلـق ذو العرفان
                قد ق ال لم يزل المهيمن محسناً **** بـراً جـواداً عنـد كـل أوان
                الشرح
                وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن فعله تعالى حادث وقائم بذاته ، فهم أصحاب الحديث كالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، هؤلاء ذهبوا إلى ما دلت عليه النصوص الصريحة وحكم به العقل السليم من أن الله لم يزل متصفاً بصفات __________________________________________________
                (1) أي كان ممكناً بعد أن كان مستحيلاً .
                كماله سواء ما كان فيها لازماً لذاته أو ما كان متعلقاً بمشيئته وقدرته ، ليس لما يحدث في ذاته عندهم ابتداء ، بل يقولون لم يزل الله متكلماً إذا شاء بما شاء وكيف شاء خلوه عنها في وقت مـن الأوقات لأن الخلـو عن الكمال الممكن نقص مستحيل على الله ، ولا يلزم من دوام فعله وكلامه قدم شيء من المفعولات ، فإن الله لم يزل يفعل الأشياء ويحدثها شيئاً بعد شيء ، وكذلك لم يزل متكلماً بما شاء ، فكل من الكلام والفعل قديم النوع ولكن آحاده لم تزل تحدث في ذاته سبحانه بلا بداية ولا انقطاع ، وهذا مستلزم للتسلسل في الآثار ، وهو ليس بممتنع ، بل دل الشرع والعقل على ثبوته ، وإنما الممتنع هو التسلسل في العلل والمؤثرين .
                وقوله في البيت الثاني : ذو إحسان خبر ثان لأن ، أي لم يزل محسناً كما لم يزل متكلماً ، وقوله في البيت الرابع وكذلك نص الخ ، يعني به أحمد رحمه الله أنه نص في مكان آخر من كتابه الذي رد به على الجهمية على دوام فعله سبحانه بدوام إحسانه كما نص على ذلك ابن عباس فيما أجاب به على مسائل القران ، وكذاك جعفر الصادق من أئمة أهل البيت المشهود لهم بالورع والتقوى والمعرفة الحقة . وقال لم يزل المهيمن محسناً برا جواداً في كل وقت وحال ، وهذا إثبات لدوام فعله سبحانه واستمراره في أوقات الزمان كلها بلا بداية ولا انقطاع .
                *****
                وكذا الإمام الدارمى فإنـه **** قد قال ما فيه هدى الحيران
                قال الحياة مع الفعال كلاهمـا **** متلازمان فليس يفترقان
                صدق الإمام فكل حي فهو **** فعال وذا في غاية التبيان
                إلا إذا ما كان ثم موانع **** من آفة أو قاسر الحيوان
                والرب ليس لفعله من مانع **** ما شاء كان بقدرة الديان
                ومشيئة الرحمن لازمة له **** وكذاك قدرة ربنا الرحمن
                الشرح
                وممن نص على دوام فاعلية الرب ، وأنه لم يعطل عنها في وقت من الأوقات – الإمام الكبير عثمان بن سعيد الدارمي – المشهور في رده على الجهمية والقدرية ، وقد قال في هذا كلاماً جيداً وأدلى بحجة قوية ، مبناها على أن الفعل لازم للحياة ، فكل حي لابد أن يكون فعالا ، وما ليس بفعال فهو ليس بحي ، فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود ، اللهم إلا إذا وجد مانع يمنع لحي من الفعل من آفة تصيبه أو قاسر يقسره ، وذلك لا يتصور في حقه سبحانه فإن حياته أكمل حياة فيجب أن تستلزم أكمل الأفعال ويستحيل أن تطرأ عليه آفة يعجز معها عن الفعل بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالمشيئة لازمة له لا مكره له ولا غالب ، والقدرة كذلك من صفاته اللازمة فلا يعتريه وهن ولا عجز ولا قصور ، ومع نفوذ المشيئة وتمام القدرة وانتفاء كل الموانع التي تمنع من تعلقها بالممكن لا يتصور التعطيل عن الفعل ، فثبت أنه سبحانه لم يزل فعالاً لأنه لم يزل حياً قادراً مريداً .
                *****
                هذا وقـد فطر الإله عباده **** إن المهيمن دائم (1) الإحسـان
                أو لست تسمع قول كل موحد **** يا دائم المعروف و السلطان
                ______________________________________
                (1) والدوام يقتضي التسلسل في الأزل والأبد .
                وقديم الإحسان الكثير ودائـم **** الجود العظيم وصاحب الغفـران
                من غير إنكار عليهـم فطـرة **** فطروا عليها و لا تـواصٍ ثـان
                أو ليس فعل الرب تابع وصفـه **** و كماله (1) أفذاك ذو حـدثـان
                وكماله سبب الفعـال و خلقـه **** أفعالهم سبـب الكمـال الثانـي
                أو ما فعـال الرب عين كمالـه **** أفـذاك ممتنـع عـلـى المـنان
                أزلاً إلى أن صـار فيما لم يـزل **** متمكـناً و الفعـل ذو إمكـان
                الشرح
                بعد أن قرر المؤلف مذهب السلف القويم في دوام فاعلية الرب وكلامه أورد من النقول عن بعض أئمة أهل السنة كأحمد وغيره ما يشهد لصحته أراد أن يستدل عليه كذلك عن طريق الفطرة والعقل وأما الفطرة فأننا نسمع الناس في دعائهم واستغاثتهم ، وطلبهم الحاجات من الله عز وجل يلهجون بهذه العبارات من قولهم : يا قديم الإحسان ، يا قديم المعروف والسلطان ، يا دائم الجود والامتنان إلى غير ذلك مما يفهم أنهم فطروا على اعتقد ذلك فطرة دون أن يوصى بعضهم بعضاً بذلك ، أو يعلمه إياه ودون أن ينكر بعضهم على بعض .
                وأما دليل العقل فهو أن فعل الرب سبحانه تابع لوصفه وكماله ، فإذا كان لم يزل موصوفاً بصفات الكمال ونعوت لجلال بحيث لا يتصور خلوه عنها لحظه من اللحظات في جانب الأزل أو الأبد فهو إذاً لم يزل فعالاً لأن الفعل من جملة الصفات التي لم يزل بها موصوفاً ، والفعل من لوازم كماله سبحانه فكماله في _________________________________________________
                (1) ففعل الرب تابع لكماله ، وكمال الرب ليس حادثاً بل وصفه الدائم ، ولما كان كاملاً كان الكمال سبب الفعل .
                ذاته وصفاته هو سبب كونه فاعلاً فهو سبحانه كامل ففعل ، أما الكمال في المخلوقات والمكونات في أعيانها وأوصافها فهو تابع لكمال الكون المكون فإن أثر الكمال لا يكون إلا كاملاً .
                وإذا كان الفعل عين كماله سبحانه لأن الكمال مستتبع له ولا يحصل إلا به . فكيف إذاً يجوز القول بامتناع الفعل منه في الأزل ، ثم يصير هذا الفعل ممكناً فيما لا يزال من غير تجدد سبب أوجب ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا غيرهما .
                *****
                تالله قد ضلت عقول القـوم إذ **** قالـوا بهذا القول ذي البطلان
                ماذا الذي أضحى له متجـدداً **** حتى تمكـن فانطقـوا ببيان
                والرب ليس معطـلاً عن فعلـه **** بل كل يـوم ربنا فـي شان
                والأمر والتكوين وصف كمالـه **** ما فقد ذا ووجـوده سيـان
                وتخلف التأثير بعد تمـام موجبـه **** محال ليـس فـي الإمكـان
                والله ربـي لـم يـزل ذا قدرة **** و مشيئـة ويليـهما وصفـان
                العلم مـع وصـف الحياة وهذه **** أوصـاف ذات الخالق المنـان
                وبها تمام العقـل ليـس بدونهـا **** فعـل يتم بواضـح البرهـان
                فلأى شـيء قـد تأخـر فعلـه **** مع موجب قـد تم بالأركـان
                ما كـان ممتنعاً عليـه الفعل بـل **** مـا زال فعـل الله ذا إمكان
                الشرح
                يعني أن هؤلاء الذين قالوا بأن الله كان معطلاً عن الفعل في الأزل وإن الفعل كان ممتنعاً منه فيما لم يزل ، ثم صار ممكناً فيما لا يزال قد قالوا بما يعلم كل عاقل بطلانه وبرهنوا على سخافة عقولهم إذ لو كان الفعل ممتنعاً عنه في الأزل فما الذي صيره ممكناً مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يقتضي هذا الانقلاب من الامتناع إلى الإمكان ، وهذا الإلزام لا مخلص لهم منه فإن أجابوا عنه بأن نفس الأزل هو المانع من التأثير في الممكن لأن من شرائط التأثير فيه أن يكون مسبوقاً بالعدم قلنا سبق العدم أمر عدمي يصلح أن يكون شرطاً للتأثير ، ولكن الذي يصلح شرطاً هو الإمكان والإمكان ثابت في الأزل فثبت أن الرب سبحانه لم يكن معطلاً عن فعله في وقت من الأوقات بل كل يوم هو في شأن يدبر ما يشاء ويحدث من الأمور ما تقتضيه حكمته – ويقال لهؤلاء أيضاً أليس الأمر والتكوين من صفات الكمال بدليل أن المتصف بهما أكمل من الفاقد لهما ، وحينئذ فالله لم يزل آمراً مكوناً والأمر والتكوين هما الموجب التام للتأثير وهو مستلزم لوجود الأثر لأن تخلف الآثر بعد تمام علته الموجبة له محال غير ممكن ، ويقال لهم كذلك أن الله لم يزل قادراً مريداً عالماً حياً وهذه الأربعة صفات ذاتية له ، وليس يحتاج الفاعل في كونه فاعلاً إلى غير هذه الأربع فهي التي بها تمام الفعل لأنها أركانه التي لا يتحقق بدونها ، وإذا كان ذلك فلماذا تأخر فعله سبحانه عن وجود الموجب التام لجميع أركانه ، فإن قلتم : تأخر الفعل لأنه كان ممتنعاً في الأزل ، قلنا : كذبتم بل لم يزل لأن الممتنع لا ينقلب ممكناً
                *****
                والله عاب المشركين بأنهم **** عبدوا الحجارة في رضا الشيطـان
                ونعـى عليهم كونها ليست **** بخالقة وليست ذات نطـق بيـان
                فأبان أن الفعل والتكليم من **** أوثـانهـم لا شـك مفقـودان
                وإذا هما فقدا فما مسلوبهـا **** بإلـه حـق وهـو ذو بطـلان
                والله فهـو إلـه حق دائماً **** أفعنـه ذا الوصفـان مسلوبـان
                أزلاً وليس لفقدها من غاية **** هـذا المحـال وأعظـم البطلان
                الشرح
                ويقال لهؤلاء أيضاً إذا كان الله معطلاً عن الفعل والكلام في الأزل لم يكن إلهاً حقاً ولا واجب العبادة فإن الإلهية الحقة واستحقاق العبادة لا يكون إلا مع القدرة على الخلق والتكليم ، ولهذا عاب الله المشركين الذين يعبدون الأصنام إرضاء للشيطان بأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة لأنه لا يقدر على خلق شيء ولا يستطيع تكليم عابديه . قال تعالى  أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون وقال في سورة النحل  أفمن يخلق كمن لا يخلق  وقال في سورة الفرقان :  واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون  وقال في سورة الأحقاف  قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات  وقال تعالى في شأن الذين عبدوا العجل من قوم موسى عليه السلام  ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا  وقال الحكاية عما قاله إبراهيم عليه السلام لقومه  بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون 
                فدللت هذه الآيات الكريمة على أن الفعل والتكليم مفقودان من هذه الأوثان وفقدهما يدل على أنها ليست بآلهة . ومعلوم أن الله إله حق دائماً . ولا يكون كذلك إلا إذا كان موصوفاً بالفعل والتكليم دائماً لأن فاقدهما لا يكون إلهاً حقاً كما تقدم ، فكيف يجوز أن يقال أن هذين الوصفين اللذين عليهما مدار الألهية مسلوبان عنه أزلاً ، ومعلوم أن الأزل لا غاية له ولا نهاية ، هذا من أمحل المحال وأعظم البطلان .
                إن كان رب العرش حقـاً لم يـزل **** أبداً إلـه الحـق ذا سلطـان
                فكذاك أيضـاً لم يـزل متكلماً **** بل فاعلاً مـا شـاء ذا إحسان
                والله ما في العقل ما يقضي لـذا **** بالرد و الإبطـال و النكـران
                بل ليس في المعقـول غير ثبوتـه **** للخالق الأزلي ذي الإحسـان
                هـذا وما دون المهيمن حـادث **** ليس القديم سواه في الأكـوان
                والله سابـق كـل شـيء غيـره **** مـا ربنـا والخلق مقتـرنـان
                والله كـان و ليـس شيء غيـره **** سبحانـه جل العظيم الشـان
                الشرح
                فإذا كان الله لم يزل ولا يزال له الإلهية الحقة والسلطان الأعظم ، فيجب كذلك أن يكون لم يزل متكلماً بما شاء وفاعلاً لما شاء ، ولم يزل محسناً براً رحيماً ، وليس في العقل ما يحيل هذا أو يأباه ، كيف والعقل إنما يقتضي ثبوته للخالق جل وعلا ، لأنه يقر له بالأزلية ذاتا وصفات . والأزلية تنافي حدوث الصفات وابتداؤها في ذاته ، ولا يلزم من القول بقدم الفعل القول بقدم شيء من المفعولات ، فإن الله هو وحده القديم ، وكل ما سواه حادث ، وليس وجود الأشياء مقارناً بوجوده ، بل وجوده سابق عليها جميعاً كما جاء في الحديث " كان الله ولم يكن شيء معه " أي مساوق له في الوجود سبحانه ، بل متأخر عنه . ولكنا مع ذلك لا نقول بوجود فاصل لا نهاية له في الزمان بين وجود الله ووجود العالم كما يقوله من ذهب إلى أن العالم وجد من عدم ، فإن هذا يستلزم كما قدمنا أن يكون الباري معطلاً عن الفعل أو غير قادر عليه مدة لا تقاس بها مدة فاعليته ، بل نقول أنه سبحانه يكون الشيء فيكون عقب تكوينه ، لا مع تكوينه ولا متراخياً عنه فإن المؤثر التام يجب أن يكون أثره عقيب تأثيره بلا مهلة ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى :  إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون 
                *****
                لسنا نقول كما يقول الملحد **** الزنديق صاحب منطق اليونان
                بدوام هذا العالم المشهـود(1) **** والأرواح (2) في أزل وليس بفان
                هذى مقالات الملاحدة الأولى **** كفروا بخالق هـذه الأكوان
                الشرح
                يعني أننا وإن قلنا بقدم الفعل الذي هو صفة الله ، لا نقول بأن العالم المفعول قديم مع الله ، وأنه مقارن له في الزمان ، كما يقول ذلك أرسطو صاحب المنطق ، فالمشهور عن أرسطو أنه كان يرى أن العالم مساوق لله في الوجود أزلاً وأبداً ، والله عنده ليس خالقاً للعالم ، وإنما هو محرك فقط ، ولهذا كان يسميه المحرك الأول أو العلة الأولى أو الصورة المحضة . ولا يعني أرسطو بذلك أن الله فعل في العالم الحركة ، فإن الله ليس بعلة فاعلية عنده ، وإنما هو علة غائية .
                ويقول أرسطو في بيان ذلك : أن الله لما كان صورة محضة كان في غاية الكمال وكانت المادة في الجهة الأخرى أقرب إلى العدم منها إلى الوجود إذ كانت إمكاناً وكانت وجوداً بالقوة لا بالفعل ، فتركت بدافع الشوق إلى محاكاة تلك الصورة المحضة والقرب منها قدر الطاقة ، وكانت هذه الحركة الشوقية هي التي أبرزت هذه المادة إلى الوجود بالفعل وسارت بها في طريق التقدم والارتقاء ولا
                __________________________________________________
                (1) وهو السماوات والأرض والأفلاك .
                (2) وهو عالم خفي .
                ريب أن هذا الكلام هو إلى الشعر والخيال أقرب منه إلى الفلسفة ، فكيف خان صاحب المنطق منطقه ولم يسعده في هذه المشكلة حتى تورط فيما تورط فيه من كلام هو إلى الهذيان أقرب منه إلى الجد .
                فليبين لنا أرسطو ما الذي بث الشوق والحنين في مادته المزعومة حتى تحركت تحاول التشبه بتلك الصورة المحضة ، وكيف كانت المادة أو الهيولي الأولى قبل حلول الصورة فيها إمكاناً أو قوة ، والإمكان معنى من المعاني التي توصف بها المادة وليس هو المادة ، ولسنا هنا بصدد الرد على هذه الحماقة من فيلسوف طار صيته وذاع ، حتى كاد أن يعبده أتباعه من متفلسفة الإسلام المارقين من أمثال الفارابي وابن سينا ويزعمون لآرائه العصمة والقداسة ، ويقدمونها على الوحي المنزل ولا ريب أن هذا الذي قال به أرسطو في قدم العالم هو رأى الملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويقولون  ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر  .
                *****
                واتى ابن سينا بعد ذاك مصانعـاً **** للمسلمين فقـال بـالإمكـان
                لكنه الأزلى ليـس بمحـدث **** ما كان معدوماً ولا هـو فـان
                وأتى بصلح بين طائفتين بينهمـا **** الحـروب وما همـا سلمـان
                أنى يكون المسلمـون وشيعـة **** اليـونان صلحـا قـط في الإيمان
                والسيف بين الأنبيـاء وبينهـم **** و الحرب بينهـم فحـرب عوان
                الشرح
                جاء ابن سينا بعد أرسطو ، وكان كما قلنا تلميذاً وفياً لفلسفة أستاذه ، ولكنه من جهة أخرى كان يريد مصانعة المسلمين ومداهنتهم حتى لا يفطنوا لمروقه وإلحاده ، فتكايس بمحاولة التوفيق بين الفلسفة التي تقول بقدم العالم ومقارنته الله في الزمان ، وبين الدين الذي يجعله مخلوقاً حادثاً ، بعد أن لم يكن ، فزعم أن الله علة تامة لوجود العالم ، والعلة التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتخلف عنها ،
                وعلى هذا فيمكن القول بأن العالم أزلى مقارن لله في الزمان ، كما تقول الفلسفة ، ولكنه من جهة أخرى متأخر وممكن حادث بالذات أما كونه متأخراً فلأن المعلول قد استفاد الوجود من علته ، ولا نعنى بالحدوث الذاتي إلا استفادة الوجود من الغير ومن العجيب أن ابن سينا مع قوله بقدم العالم يسمى الله خالقاً وفاعلاً ويسمى العالم مخلوقاً ومفعولا ، فمتى خلق الله العالم على رأيه أو فعله إذا كان وجوده مقارناً لوجوده وكيف يمكن أن يكون الله خالقاً للعالم مع القول بأنه علة والخلق إنما يعتمد على القصد والاختيار ، وأما العلة فيصدر عنها معلولها بالايجاب المنافي للاختيار ، والعالم عنده كما هو أزلي مساوق لعلته في جانب الأزل ، هو كذلك أبدى غير قابل للفناء لأن المعلول لعلة تامة يجب أن يبقي ببقاء علته .
                وهكذا يظن ابن سينا أنه أفلح بهذا التمويه والمغالطة في لبس الأمر على المسلمين ، ولكن الأذكياء من علماء هذه الأمة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية استطاعوا كشف تلبيساته وفضح سرائره ونياته .
                ومن العجب أيضاً أن يزعم هذا الرجل أنه يحاول الصلح والتوفيق بين طائفتين لا يعقل أن تهدأ بينهما الحرب أو أن يتم سلام ، فهذه طائفة تؤمن بالوحي والقرآن وتعتصم بعرى الإسلام والإيمان وهذه طائفة كافرة تدين بما ضرطت به عقول فلاسفة اليونان مما كله أو أغلبه كفر وإلحاد وهذيان . فلا يمكن أن يوضع السيف بينهم وبين أتباع الأنبياء أبد الدهر ، وستبقى بينهم الحرب العوان حتى لا تكون فتنة وحتى يظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون .
                *****
                وكذا أتى الطوسى بالحرب الصريـح **** بصـارم منـه وسـل لسـان
                وأتى إلى الإسـلام يهـدم أصلـه **** من أسـه و قواعـد البنـيان
                عمر المـدارس للفلاسـفـة الألـى **** كفـروا بدين الله والقـرآن
                وأتى إلى أوقـاف اهـل الـدين **** ينقلها إليهم فعـل ذى أضغـان
                وأراد تحـويـل الإشـارات الـتي **** هي لابن سينا موضع الفرقـان
                وأراد تحويـل الشريعـة بالنوامـيس **** التي كانـت لـذى اليونان
                لكنـه علـم اللعيـن بـأن هـذا **** ليس في المقدور و الإمكـان
                إلا إذا قـتـل الخليفـة و القضـاة **** وسائر الفقهاء في البلـدان
                فسعى لذاك وساعد المقـدور بالأمـر **** الذي هو حكـمـة الـرحمن
                الشرح
                بعد أن فرغ المؤلف من الكلام على ابن سينا القرمطي ، وما كان يكيد به للإسلام وأهله في الخفاء بسبب اتباعه للفلسفة مع إيهامه انه حريص على اتباع الشريعة ، وأنه يحاول جاهداً التوفيق بينها وبين الفلسفة ، أخذ في الحديث على ذيل من ذيوله الذين تعلقوا بفلسفته وهو الخواجة نصير الدين الطوسي ، فذكر أن هذا الرجل لم يكن يصانع المسلمين كسلفه ، ولكنه أعلنها على الإسلام وأهله حرباً صريحة سافرة بسيفه ولسانه ، فكان يسعى جهده لكى يهدم الإسلام من أساسه ، فأنشأ المدارس ، لا لدراسة الكتاب والسنة وعلوم الشريعة ، ولكن لدراسة الكفر والإلحاد باسم الفلسفة ، وحول الأحباس التي كانت لأهل الدين إلى طلبه هذه المدارس حسداً منه وبغياً .
                وقد أراد هذا الخبيث أن يجعل الإشارات الذي ألفه سيده ابن سينا كتاباً مقدساً بدلاً من القرآن ، يعني بحفظه ودراسته وتعليمه ، كما أراد أن ينسخ الشريعة ويستعيض عنها بالنظم والقوانين التي كانت عند اليونان والرومان ، ولكنه علم أن ذلك لا يتم له ولا يقر عليه إلا إذا أزال دولة الإسلام بقتل رجالاتها من الخليفة والقضاة والفقهاء في سائر البلدان ، فسعى لذلك سعيه باستعداء التتار أتباع جانكيز خان على المسلمين ، وكان يعمل كالمشير لهم ، وساعد على تحقيق غرضه موافقة الأقدار له لحكمة أرادها الله سبحانه وهو أحكم الحاكمين
                *****
                فأشار أن يضع التتـار سيوفهـم **** فـي عـسكـر الإيمـان والقـرآن
                لكنهم يبقون أهل مصانع الدنيـا **** لأجـل مـصـالح الأبـــدان
                فغدا على سيف التتار الألـف في **** مثـل لهـا مضـروبـة بــوزان
                وكذا ثمان مئينهـا في ألفهـا **** مضـروبـة بالعـد و الحسبـان
                حتى بكى الإسلام أعداه اليهود **** كـذا المجـوس وعابـد الصلبـان
                فشفى اللعين النفس من حزب **** الرسـول وعسـكر الإيمان والقرآن
                وبوده لو كان في أحد و قـد **** شهـد الوقيعـة مـع أبي سفيـان
                لأقـر إعينهم وأوفـى نـذره **** أو أن يـرى متمـزق اللحمـان
                الشرح
                أراد هذا الخبيث شفاء غيظه المتقد على الإسلام وأهله بمحاولة الإتيان على أصوله وقواعده والقضاء على حملته ، فأشار على أعوانه من التتار ، وهم أهل جهل وغلظة أن يضعوا سيوفهم في معسكر الإيمان والقرآن من رجال الفقه والدين مع الإبقاء على ذوى الحرف وأرباب الصنائع من أجل عمارة البلدان ومصالح الأبدان .
                وقد أخذ هؤلاء السفكة من التتار بمشورة هذا الخبيث الملحد ، فأعملوا سيوفهم في أهل الإسلام في كل بلد دخلوه حتى قدر عدد القتلى بسيوف هؤلاء المجرمين بما يقرب من مليون وثمانمائة ألف شخص ونكب الإسلام بهم نكبة جعلت أعداءه من اليهود والنصارى والمجوس يبكونه ويرثون لحاله ، وبذلك تمكن هذا اللعين من شفاء نفسه من حزب الرسول  الذين هم جند الإيمان وعسكر القرآن . وكان يود له أنه شهد وقعة أحد مع أبي سفيان وحزنه ، وكان جنديا في جيش الباطل إذاً لصال وجال وأقر أعين إخوانه من أهل الشرك والضلال وأوفى نذره في الكيد للإسلام وجها أهله ، او يرى مقتولاً متمزق اللحمان .
                *****
                وشواهد الأحداث ظاهرة على **** ذا العالم المخلـوق بالبرهـان
                وأدلـة التوحيـد تشهد كلها **** بحدوث كل ما سوى الرحمن
                أو كان غيـر الله جل جلالـه **** معه قديماً كان ربـا ثـان
                إذ كان عن رب العلي مستغنياً **** فيكـون حينئـذ لنا ربـان
                والرب باستقلالـه متوحـد **** أفممكـن أن يستقـل اثنان
                لو كان ذاك تنافيا وتساقطـا **** فإذا هما عـدمـان ممتنعـان
                والقهر والتوحيد يشهد منهما **** كل لصاحبـه هما عـدلان
                ولذلك اقترنا جميعاً في صفات **** الله فانظـر ذاك في القـرآن
                فالواحد القهار حقاً ليس في **** الإمكان أن تحظـى به ذاتان
                الشرح
                بعد هذا الاستطراد الطويل بذكر مذاهب الفلاسفة والدهرية في قدم العالم وموقف ابن سينا ونصيره نصير الدين الطوسي من الإسلام وأهله رجع إلى ما كان فيه من بيان أن الله هو وحده القديم، وأن ما سواه حادث ، فقال إن أمارات الحدوث وهو الوجود بعد العدم بادية على كل جزء من أجزاء هذا العالم المخلوق المصنوع – فإن هذه التغيرات الدائبة التى تجري في هذا العالم علويه وسفليه من ولادة وموت وزرع وحصاد ، وهبوب رياح ونزول أمطار ، وشروق وغروب وحر وبرد ، وزلازل وصواعق الخ تشهد بحدوثه إذ لو كان قديماً لما قبل هذه التغيرات ، كما أن أدلة التوحيد المثبتة لانفراده سبحانه بالربوبية والقهر شاهدة كذلك بحدوث كل ما سواه ، إذ لو كان معه قديم غيره لكان مستغنياً في وجوده وبقائه عنه فيكون ربا معه ، ومن خصائص الرب أن يستقل بالخلق والإيجاد ، فلو كان هنا ربان لحاول كل منهما أن يستقل بالفعل ولا يتم له ذلك ما دام له شريك مساو له في القدرة ومكافيء في الربوبية فيتمانعان ويتعارضان ، فإذا هما عدمان ممتنعان قال تعالى :  ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وحينئذ فلابد أن ينفرد أحدهما بالقهر والعلو على الآخر ويكون الآخر عاجزاً مغلوباً ولهذا كان كل من القهر والتوحيد عدلا للآخر ودالاً على صاحبه فقل واحد قهار وكل قهار واحد وهذا هو سر مجيئهما مقترنين في كتاب الله تعالى كما قال سبحانه في سورة الرعد  قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار وكما قال في سورة الزمر  لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار  فصفة القهر والعلو لا يمكن أن يتصف بها اثنان .

                فصل في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية الرب
                تعالى وكلامه والانفصال عنه

                فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل **** قلنا صدقتم وهـو ذو إمكـان
                كتسلسل التأثير في مستقبـل **** هـل بين ذلـك قط من فرقان
                والله ما افترقا لذى عقل ولا **** نقـل ولا نظـر ولا برهـان
                في سلب إمكان ولا في ضده **** هذى العقول ونحـن ذو أذهان
                فليأت بالفرقان من هو فارق **** فرقـا يبـين لصـالح الأذهـان
                وكذاك سوى الجهم بينهما **** كذا العلاف في الإنكار والبطلان
                ولأجل ذا حكما بحكم باطل **** قطعـا علـى الجنات والنيران
                فالجهم أفنى الذات والعلاف **** للحركات أفنى قالـه الثـوران
                الشرح
                هذا بيان لشبهة قد ترد من جانب المانعين لدوام فاعلية الرب وكلامه بأن ذلك يستلزم التسلسل في جانب الماضي بلا بداية ، فإنه ما دام نوع الفعل والكلام قديماً يجب أن يكون كل حادث منهما مسبوقاً بحادث لا ينتهي ذلك إلى حادث يعتبر أول الحوادث .
                والجواب عن الشبهة المذكورة أننا نلتزم لزوم التسلسل ، ولكن نمنع استحالته فإن هذا تسلسل في الحوادث والآثار وهو ممكن في جانب الماضي كما هو ممكن في جانب المستقبل بلا فارق أصلاً ، فإذا كان الخصوم يسلمون بإمكان تسلسل التأثير في المستقبل بمعنى أنه ما من حادث إلا وبعده حادث لا ينتهي ذلك إلى حادث يعتبر آخر الحوادث فيجب عليهم أن يسلموا كذلك بإمكانه أيضاً في جانب الماضي إذ لا يدل على الفرق بينهما شيء من عقل ولا نقل ، ولا يثبت ذلك الفرق بنظر ولا برهان وإلا فمن ادعى ذلك الفرق فليبينه لنا بياناً يرتضيه العقل . وقد سوى بينهما الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف لكن لا في الثبوت والإمكان بل في الإنكار والبطلان ؛ فحكموا بامتناع كل منهما ، وبنوا على هذا حكمهم الجائز بفناء الجنة والنار وأهلهما ، فالجهم حكم بفناء الذات ، وأما أبو الهذيل فقال بانقطاع الحركات ، وقد سبق الكلام على ذلك فلا نطيل فيه .
                *****
                و أبو علي وابنـه و الأشعري **** و بعده ابن الطيب الرباني
                و جميع أرباب الكلام الباطل **** المذموم عند أئمة الإيمـان
                فرقوا و قالوا ذاك فيما لم يـزل **** حق و في أزل بلا إمكان
                قالوا لأجل تناقض الأزلـي و **** الأحداث ما هذان يجتمعان
                لكن دوام الفعل في مستقبل **** ما فيه محذور من النكـران
                الشرح
                انقسم الناس في تسلسل الحوادث والآثار إلى ثلاث طوائف فأهل السنة والجماعة ذهبوا إلى إمكانه في جانب الماضي والمستقبل جميعاً بلا فارق ،
                وذهب الجهم وأبو الهذيل إلى القول بامتناعه في جانب الماضي والمستقبل جميعاً كما تقدم .
                وأما أبو على الجبائي المعتزلي شيخ الجبائية وولده أبو الحسن الأشعري وتلميذه أبو بكر الباقلاني وجميع أهل الكلام الباطل المذموم ففرقوا بينهما فذهبوا إلى جوازه في جانب المستقبل وبامتناعه في جانب الأزل وكانت شبهتهم في ذلك أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم ، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان لهذا منعوا دوام الفعل في الماضي لما يلزمه من قدم المفعول ، وأما دوام الفعل في المستقبل وتسلسه إلى غير نهاية ، فهذا لا محذور فيه ولا يقتضي الدليل إنكاره ، فالعقل يجيز أن يكون بعد كل حادث حادث دون انقطاع في جانب الأبد .
                ومن شبههم أيضاً أنه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثاً ، فكيف يكون نوعه قديماً مع أن النوع ليس إلا مجموعة الأفراد ، فإذا كان كل فرد حادثاً مسبوقاً بالعدم ، كان الكل كذلك ، إذ لا تصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الأفراد ، فإذا قلت مثلاً كل زنجي أسود ، كان الكل أسود بالضرورة ، راجع كتابنا ابن تيمية السلفي في مبحث قيام الحوادث بذاته تعالى .
                *****
                فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق **** ترويجاً على العوران والعميان
                ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو **** أزل لذي ذهـن ولا أعيان
                بل كل فرد فهـو مسبـوق **** بفرد قبله أبـداً بلا حسبـان
                ونظير هذا كـل فـرد فهو **** ملحوق بفرد بعـده حكمان
                النـوع والآحـاد مسبـوق **** وملحوق وكل فهو منها فان
                والنوع لا يفني أخـيراً فهـو **** لا يفني كذلـك أولاً ببيـان
                وتعاقب الآنات أمر ثابت **** في الذهن وهو كذاك في الأعيان
                الشرح
                هذا رد لتلك الشبهة التي بنى عليها الأشعري وموافقوه الفرق بين الدوام في جانب الأزل وبين الدوام في جانب المستقبل ، وملخص الدفع أن هذه التفرقة مغالطة وتلبيس لا يروح إلا على السذج البسطاء من الجهلة وأنصاف العلماء ، إذ لم يقل أحد من العقلاء الذين ذهبوا إلى دوام فاعلية الرب تعالى وتسلسل أفعاله ماضياً ومستقبلاً أن شيئاً من أعيان المخلوقات وأفرداها قديم ، لا ذهنا ولا خارجاً ، بل قالوا أن كل فرد منها فهو مسبوق بفرد قلبه إلى غير بداية يمكن أن يحضرها العد والحساب ، مع قولهم بأن كل فرد منها حادث . ونظير هذا قولهم أن كل فرد فهو ملحوق بفرد آخر يجيء بعده بلا نهاية ، كذلك فالآحاد كلها لها ابتداء وانتهاء ، سواء في ذلك السابق منها واللاحق ، وأما النوع فهو مستمر أزلاً وأبداً بلا ابتداء ولا انتهاء . وقس ذلك على آنات الزمان ، وهي أجزاؤه ، فإنها تتعاقب في الوجود شيئاً بعد شيء لا إلى نهاية مع امتدادها كذلك في جانب الأزل بلا بداية ، فليست تبتدىء من آن هو أول الآنات . ولا تنتهي إلى آن هو آخرها ، مع أن كل آن منها له بداية وانتهاء ، لأنه واقع بين آنين ، فكل آن منها يبتدىء من نهاية الآن الذي قبله بابتداء الذي بعده ومع ذلك فجمله الآنات لا أول لها ولا آخر لا في الذهن ولا في الخارج . فكل فرد من أفراد المخلوقات حادث موجود بعد أن لم يكن .
                وأما النوع الذي هو من لوازم الكمال لأنه وصفه تعالى فلا مبتدأ له ولا منتهى ، بل لم يزل الله فعالاً لما يريد ، لأنه لا يمكن أن يكون في وقت من الأوقات فاقداً لشيء من الكمال .
                *****
                فـإذا أبيتـم ذا وقلـتـم أول **** الآنـات مفتتح بلا نكران
                ما كان ذاك الآن مسبوقاً يـرى **** إلا بسلـب وجوده الحقاني
                فيقال ما تعنون بالآنـات هـل **** تعنون مدة هـذه الأزمـان
                من حين إحداث السموات العلي **** والأرض والأفلاك والقمران
                ونظنكم تعنـون ذاك ولم يكن **** من قبلها شيء من الأكـوان
                هل جاءكم في ذاك من أثر ومن **** نص ومن نظر ومـن برهان
                هذا الكتـاب وهذه الآثـار و **** المعقول في الفطرات والأذهان
                إنا نحاكمكـم إلى ما شئتمـو **** منها فكل الحـق في تبيـان
                الشرح
                لما مثل المؤلف لتعاقب الحوادث وتسلسلها فيما لم يزل ولا يزال بلا بداية ولا نهاية بتعاقب آنات الزمان ، كذلك قال للخصوم المانعين : فإذا أبيتم هذا القياس ومنعتم التسلسل في المقيس عليه وهو الآنات ، وقلتم إن أول الآنات مفتتح وله بداية ، ولم يكن هذا الآن الأول مسبوقاً بآن قبله . وإنما كان مسبوقاً بعدم وجود ، فيقال لكم : ماذا تعنون بالآنات التي أنكرتم الحكم عليها بالتسلسل هل تعنون بها مدة الأزمنة الكائنة منذ خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الأشياء ، ولا نظنكم تعنون بالزمان إلا ذلك بدليل أنكم تقيسون الزمان بحركات الأفلاك و دورانها ، فهذا يفيد أن الزمان عندكم حادث بحدوث هذه الأفلاك ، وأنه قبل خلق السموات والأرض لم يكن في زعمكم شيء من الأكوان موجوداً ونحن نسألكم : هل عندكم على ذلك دليل من نقل أو عقل ، فهذا كتاب الله عز وجل وهذه الآثار المروية عن رسوله  وأصحابه ، وهذه هي الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ، وهذه هي بدائه العقول ومسلماتها ، فأين تجدون زعمكم في شيء من هذه الأربع التي هي مرجع كل حجة ومصدر كل دليل ، إنا نحاكمكم إلى أيها شئتم حتى يتبين الحق ويتضح ، ويظهر أنكم لا ترجعون في قولكم هذا إلى دليل معتبر ولا حجة بينة .
                *****
                أو ليس خلق الكون في الأيام كـان **** وذاك مأخـوذ مـن القـرآن
                أو ليس ذلـكـم الزمـان بمـدة **** لحدوث شيء وهو عين زمـان
                فحقيقـة الأزمان نسبـة حـادث **** لسواه تلك حقيقـة الأزمـان
                واذكر حديث السبـق للتقديـر و **** التوقيت قبل جميع ذى الأعيان
                خمسين ألفاً من سنيـن عـدهـا **** المختار سابقة لذى الأكـوان
                هذا وعرش الرب فوق المـاء مـن **** قبل السنـين بمـدة وزمـان
                الشرح
                يعني أن الأدلة من النقل والعقل دلت على فساد زعم هؤلاء أن السموات والأرض هما أول المخلوقات ، وأنه لم يكن قبلهما شيء يمكن أن يقاس به الزمان ، فقد ذكر الله عز وجل في عدة مواضع من القرآن أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وهذه الأيام التي جعلها الله مدة وظرفاً لذلك الخلق هي جملة معينة من الزمان ، وحقيقة الزمان هي نسبة حادث إلى آخر ، فلابد أن تكون هذه الأيام مقدرة بحركة أخرى غير سير الشمس والقمر إذ كانت سابقة عليهما وهذا يدل على وجود أزمنة ومخلوقات قبل خلق السموات والأرض ، وهذا هو ما يشهد له الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول  ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ) والحديث الآخر الذي بمعناه ( أن الله لما خلق القلم قال له : أكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : أكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام وكان عرشه على الماء )
                فهذا صريح في وجود مخلوقات قبل السموات والأرض حيث أخبر أن التقدير سابق على وجود هذه الأعيان بخمسين ألف سنة ، ووجود العرش كان سابقاً على هذا التقدير بدليل قوله  وكان عرشه على الماء  أي عند كتابة القلم للمقادير ولا يرى إلا الله كم من السنين كان العرش على الماء قبل أن يجري القلم بما جرى به من قدر الله عز وجل .
                *****
                والناس مختلفون في القلم الـذي **** كتب القضاء به من الديان
                هل كان قبل العرش أو هو بعده **** قولان عند أبي العلا الهمذاني
                والحـق أن العـرش قبـل لأنه **** قبل الكتابة كان ذا أركان
                وكتابـة القلم الشريف تعقبت **** إيجاده من غير فصل زمان
                لما براه الله قال : اكتب كـذا **** فغدا بأمر الله ذا جريان
                فجرى بما هو كائن أبـداً إلى **** يوم المعـاد بقدرة الرحمن .
                الشرح
                اختلف العلماء هل القلم كان قبل العرش أو بعده ، وأيهما كان أول المخلوقات؟ قولان ذكرهما الحافظ أبو العلا الهمداني ، أصحهما أن العرش كان قبل القلم ، لما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله  ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء )
                فهذا صريح أن التقدير إنما وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم بلا مهلة لما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله  يقول ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب ، قال يا رب وماذا أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يعني أنه عند أول خلقه للقلم قال له أكتب ، بدليل الرواية الأخرى ( أول ما خلق الله القلم قال له أكتب ) بنصب أول على الظرفية ، ونصب القلم على المفعولية وأما على رواية رفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ، - يعني عالم الأقلام – ليتفق الحديثان ، إذ حديث عبدالله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق القلم وفي لفظ ( لما خلق الله القلم قال له أكتب) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة بقدرة الله عز وجل .
                *****
                أفكـان رب العرش جل جلاله **** من قبل ذا عجز وذا نقصـان
                أم لم يـزل ذا قـدرة والفعـل **** مقدور له أبـدا وذو إمكـان
                فلئن سألت وقلت ما هذا الذي **** أداهـم لخـلاف ذا التبيـان
                ولأي شـيء لم يقولـوا إنـه **** سبحانه هو دائـم الإحسـان
                فاعلـم بأن القـوم لما أسسـوا **** أصل الكلام عموا عن القرآن
                وعن الحديث ومقتضى المعقول بل **** عن فطرة الرحمن و البرهـان
                وبنوا قواعدهـم عليـه فقادهـم **** قسراً إلى التعطيل والبطلان
                الشرح
                أفبعد هذا البيان الذي دل على وجود مخلوقات قبل هذا العالم ووجود زمان قبل هذا الزمان يصح أن يقال أن رب العرش قبل وجود هذا العالم كان عاجزاً عن الفعل والإيجاد ، فيما لم يزل ، أم الحق هو عكس ذلك تماماً ، وهو أنه سبحانه لم يزل قادراً على إيجاد الفعل والفعل لم يزل مقدوراً له ممكناً .
                فلئن سأل سائل عما حدا بهؤلاء الخصوم إلى المنازعة في تلك القضية التي تتألق وضوحاً وتبياناً ، ولماذا لم يقولوا بما قال به السلف من أنه سبحانه دائم الإحسان وقديمه ، فإنا نقول له : أن هؤلاء المخذولين اغتروا بعقولهم الفاسدة وبما أصلته لهم من أصول باطلة ، فعموا بسبب ذلك عن كل ما يصلح أن يكون حجة ودليلا عموا عن القرآن والحديث ، وعموا عن الفطرة الإنسانية وعما يقتضيه العقل السليم والنظر الصحيح ، لقد أسسوا لهم أصلاً في الكلام وبنوا عليه جميع قواعدهم ، فقادهم هذا الأصل الفاسد رغماً عنهم إلى التعطيل والإنكار وهذا الأصل هو :
                ****
                نفي القيـام لكـل أمـر حـادث **** بالرب خوف تسلسل الأعيان
                فيسد ذاك عليهـم في زعمهـم **** إثبات صانع هذه الأكـوان
                إذ أثبتوا بكون ذي الإجساد حادثـة ****فلا تنفـك عـن حدثـان
                فإذا تسلسلت الحوادث لم يكـن **** لحدوثها إذ ذاك من برهـان
                فلأجل ذا قالوا التسلسـل باطل ****والجسم لا يخلو عـن الحدثان
                فيصح حينئذ حدوث الجسـم من **** هذا الدليل بواضح البرهـان
                هذى نهايـات لإقـدام الورى **** في ذا المقام الضيق الأعطان
                فمن الـذي يأتـي بفتـح بيـن **** ينجي الورى من غمرة الحيران
                فالله يجـزيـه الـذي هـو أهلـه **** من جنة المأوى مع الرضـوان
                الشرح
                هذا هو الأصل الذي أسسوه وبنوا عليه مذاهبهم في تعطيل الرب سبحانه عن صفاته الإختيارية التي تحدث في ذاته بمشيئته وهو الحكم بامتناع قيام الحوادث بذاته إذ لو قامت به الحوادث من الأفعال لوجب القول بتسلسلها وتعاقبها في الوجود شيئاً قبل شيء لا إلى أول ، وهذا يؤدي بدوره إلى القول بتسلسل الأعيان التي هي المفعولات وبذلك تكون هذه المفعولات قديمة فينسد حينئذ طريق إثبات الصانع إذ كان الطريق إلى إثباته هو لزوم الحدوث لهذه المخلوقات وعدم انفكاكها عنه ، فإذا تسلسلت بطل دليل حدوثها فلأجل هذا قالوا ببطلان التسلسل ولزم الحدوث للأجسام .
                وهذه الآراء التي تقدم ذكرها هي غاية ما وصلت إليه عقول الورى في هذا المقام الذي هو مزلة الأقدام ومضلة الأفهام فمن ذا يستطيع أن يأتي فيه بحكم بين وقول فصل ينجي به الناس من هذه الحيرة الغامرة ويكون له عند الله ما هو له أهل من جنة ورضوان .
                *****
                فاسمع إذاً وافهم فذاك معطـل**** ومشبه وهـداك ذو الغفـران
                هذا الليل هو الذي أرداهم **** بل هد كـل قواعـد القـرآن
                وهو الدليل الباطل المـردود **** عند أئمـة التحقيق والعرفـان
                ما زال أمر الناس معتـدلاً إلى **** أن دار في الأوراق والأذهـان
                وتمكنت أجـزاؤه بقلوبهـم **** فأتت لـوازمه إلـى الإيـمان
                رفعت قواعده و تحت أساسه **** فهوى البناء وخر للأركـان
                وجنوا على الإسلام كل جناية **** إذ سلطوا الأعداء بالعدوان
                الشرح
                بعد أن أورد المؤلف الأصل الذي بني عليه أهل الكلام قواعدهم الفاسدة في منع قيام الحوادث بذاته تعالى ، وزعمهم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث واتخاذهم من هذه القضية الكاذبة التي يزعمون أن عقولهم قد اجتمعت على صحتها أساساً لنفي صفات الفعل والصفات الاختيارية التى تحدث في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته أراد بعد ذلك أن يبين فساد هذا الدليل الي تشبثوا به فذكر أن هذا الدليل هو الذي أوقعهم في الهلكة وأضلهم عن سواء السبيل كما أنه قد هدم كل ما جاء به القرآن الحكيم من قواعد الإيمان فقد وصف الله نفسه في كتبه بأنه كلم موسى عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الأيمن وأنه استوى على عرشه بعد خلق السموات والأرض ،وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وأنه سيأتي ويجيء يوم القيامة وأنه يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويبغض الكافرين ويغضب عليهم ، وأنه يفرح بتوبة عبده التائب وأنه يسمع أصوات عباده حين تحدث ويرى حركاتهم وأعمالهم إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة والتي تدل أقوى دلالة على حدوث هذه الأفعال في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته ، فكيف إذاً يصح قول هؤلاء الجاهلين أن ما لم يخلو من الحوادث فهو حادث دون أن يفرقوا بين جنس الحوادث وأعيانها ، فالممنوع هو قيام أشخاص الحوادث بذاته بمعنى أن يكون لها ابتداء في ذاته ، أما قيام أجناس الحوادث وحدوث آحادها في ذاته شيئاً بعد شيء وفي وقت دون آخر بمعنى أنه لم يزل فاعلاً لها إذا شاء فإنه لا يدل على امتناعه دليل بل نصوص الكتاب والسنة تثبته ولا تنفيه .
                فقد تبين بذلك بطلان دليل هؤلاء وفساده ومصادمته للنصوص ولهذا اشتغل برده وإبطاله كثير من أئمة التحقيق والعرفان . ولقد كان أمر الناس معتدلاً وبعيداً عن الزيغ والانحراف قبل أن يلقي الشيطان بهذا الدليل إلى أوليائه من الإنس ، ويدفعهم إلى أن يشيعوه بين الناس ويشتغلوا به كتابة وتفكيراً حتى تمكنت قضاياه من قلوبهم فالتزموا من أجله اللوازم الفاسدة التي أتت على الإيمان من القواعد حتى هوى بناؤه وتداعت أركانه ، وجنوا على الإسلام أكبر جناية ومكنوا منه أعداءه وأعطوهم السلاح الذي يستطيعون محاربته به ، فقد جاء الفلاسفة واستغلوا هذا الدليل الذي هو عمدة المتكلمين في القول بالإيجاب ونفي الاختيار عن الله عز وجل والقول بقدم العالم إلخ .
                *****
                حملوا بأسلحة المحال فخانهـم **** ذاك السلاح فما اشتفوا بطعـان
                و أتى العـدو إلـى سلاحهم **** فقاتلهم به في غيبة الفرسـان
                يا محنة الإسلام والقرآن مـن **** جهل الصديق وبغي ذي طغيان
                والله لولا الله نـاصـر دينه **** و كتابـه بالحـق و البرهـان
                لتخطفت أعداؤنا أرواحنـا **** و لقطعـت منـا عـرى الإيمان
                الشرح
                يعني أن هؤلاء الجهلة من المتكلمين الذين لا يحسنون الدفاع عن الإسلام ضد خصومه وأعدائه حملوا على هؤلاء الخصوم بأسلحة مفلولة ، والمراد بها الأدلة الباطلة المحالة فخانهم سلاحهم ولم يسعفهم ولا شفي منهم الصدور عند الطعان ، ثم جاء العدو الماكر فاستلب منهم هذا السلاح وقاتلهم به فأصماهم حيث قال لهم أنتم تمنعون قيام الحوادث بذاته تعالى ، فلماذا قلتم بحدوث العالم مع أن كل ما يحتاج إليه في الفعل موجود في الأزل من علم شامل وقدرة تامة وإرادة نافذة . فلماذا إذاً يتأخر وجود المراد مع أنه لم يحدث في ذات الرب سبحانه شيء لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا وجود آلة يستعين بها على الايجاد الخ .
                وهكذا قاتلتم العدو بنفس السلاح ، وكان ذلك في غيبة فرسان الإسلام الحقيقيين ذوي الأسلحة الماضية وهكذا كانت محنة الإسلام والقرآن في الصديق الجاهل كمحنته في العدو الظالم ، فتعاون الفريقان على هدمه وإفساده وإن كان الفريق الأول لم يقصد إلى ذلك ، ولولا أن الله ناصر دينه وكتابه بالحجة والبرهان لمزقنا الأعداء شر ممزق ولسلبونا أرواحنا من جسومنا ولقطعوا منا عرى الإيمان .
                *****
                أيكون حقاً ذا الدليل وما اهتدى **** خير القـرون لـه محـال ذان
                وفقتمو للحق إذ حرموه فـي **** أصل اليقين ومقعـد العـرفـان
                وهديتمونا للـذي لم يهتـدوا **** أبـداً به واشدة الحـرمـان
                ودخلتم للحق من باب و مـا **** دخلوه واعجبـاً لـذا الخذلان
                وسلكتم طرق الهدى والعـلم **** دون القوم واعجباً لـذا البهتـان
                وعرفتم الرحمن بالأجسـام **** والأعراض والحركـات والألـوان
                وهم فما عرفوه منها بل مـن **** الآيات وهي فغـيـر ذى برهـان
                الله أكبر انتم أو هـم عـلى **** حق وفـي غـي وفـي خسـران
                الشرح
                ينكر المؤلف على هؤلاء المتكلمين اعتمادهم في إثبات وجود الله عز وجل الذي هو أعظم المطالب في الدين على هذا الدليل المتقدم المبني على حدوث الجواهر والأعراض ، حتى ذهب بعضهم جهلاً وغلوا إلى أن من لم يؤمن بالله عن طريقه لم يصح إيمانه ، فهو يقول لهم لو كان دليلكم هذا حقاً . ويتوقف الإيمان بالله عز وجل على معرفته ، كيف لم يهتد إليه خير القرون وأفضلها ، وهم أكمل هذه الأمة علماً وإيماناً ، هذا محال ، وكيف يعقل أن توفقوا أنتم يا أذناب الفلاسفة وإخوان الزنادقة للحق في أصل اليقين وأساس الإيمان في حين يرجع هؤلاء الأفاضل الكملة بالخيبة والحرمان ، و كيف جاز أن تهتدوا أنتم إلى ما لم يهتدوا إليه أو تدخلوا إلى الحق من باب لم يعرفوه أو تسلكوا إلى العلم والهدى طريقاً لم يسلكوه ، ولكنكم لا تتورعون عن رمي القوم بالجهل وقلة المعرفة حيث قلتم أن مذهبنا أعلى وأحكم . ومذهب السلف أسلم . وزعمتم أنكم عرفتم ربكم بدليل العقل وهو يفيد القطع واليقين . أما القوم فما عرفوه إلا من طريق الآيات القرآنية وهي في زعمكم لا تفيد إلا الظن وإقناع السامعين .
                فيا عجباً لكم تخالفون طريق القوم وتزعمون أنكم على الحق والهدى . فمن أحق بذلك ، أنتم أم هم ؟ لا شك أنهم أولى وأحق بكل حق وكل هدى . وليس لمن خالفهم واتبع غير سبيلهم إلا الوقوع في الغي والضلال .
                *****
                دع ذا أليس الله قد أبدى لنا **** حق الأدلة و هي في القرآن
                متنوعات صـرفت و تظاهرت **** في كل وجه فهي ذو أفنـان
                معلومة للعقـل أو مشهـودة **** للحس أو في فطـرة الرحمن
                لسمعتم لدليـلـكم في بعضـها **** خبراً أو احسستم لـه ببيـان
                أيكون أصل الدين مـا تم الهدى **** إلا به وبـه قـوى الإيمـان
                وسواه ليس بموجب من لم يحـط **** علماً به لم ينج من كفـران
                الشرح
                ولندع مخالفتكم لطريق القوم جانباً ولنسألكم هل تعتقدون أن الله عز وجل قد بين لنا الأدلة الحقة على وجوده في القرآن وصرفها ونوعها لتتظاهر على إثبات هذا المطلوب الأعظم من كل وجه . وحتى لا يبقى فيه لبس ولا خفاء أصلاً ، فمنها ما هو معلوم للعقل ، ومنها ما هو مشهود للحس ، ومنها ما يرجع إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها فمع كل هذه الأدلة المتكاثرة التي جاء بها القرآن هل سمعتم في بعضها خبراً عن دليلكم هذا الذي جعلتموه عمدتكم في الاستدلال و أهملتم لأجله كل ما جاء بالقرآن الكريم من أنواع الأدلة بحجة أنها لا تفيد ما يفيده هذا الدليل من قطع ويقين ، فهل يعقل أن يكون دليلكم ( ولم يرد له في كتاب الله ذكر ولا وقعت إليه إشارة مع كثرة ما أورد من أدلة ) هو أصل اليقين والإيمان وسواه من الأدلة ليس بموصل لهذا المطلوب ولا محصل للإيمان وأن الواجب هو معرفة الله بهذا الدليل الفاسد ، وأن من لم يحط به علماً لم ينج من كفران ولم تحصل له حقيقة الإيمان .
                *****
                و الله ثـم رسـوله قـد بينـا **** طرق الهدى في غاية التبيـان
                فـلأى شيء أعرضا عنه ولـم **** نسمعـه في أثر و لا قـرآن
                لمن أتانا بعـد خيـر قـروننـا **** بظهور أحداث من الشيطان
                وعلى لسان الجهم جـاءوا حزبـه **** من كل صاحب بدعة حيران
                ولـذلك اشتـد النكيـر عليهـم **** من سائـر العلماء في البلدان
                صاحوا بهم من كل قطر بل رموا **** في إثـرهم بثواقب الشبهان
                عرفوا الذي يفضي إليه قولـهم **** و دليلهم بحقيقـة العـرفان
                وأخو الجهالة في خفارة جهله **** والجهل قد ينجي من الكفران
                الشرح
                يعني أن الله ورسوله قد بينا جميع الطرق المعرفة بالله غاية البيان ، فإذا كان دليل هؤلاء حقاً فلماذا لم يذكره الله ولا رسوله ، ولم نسمع عنه لا في قرآن ولا أثر ، ولكنه دليل باطل متهافت ومقدماته . على ما فيها من خفاء وبعد .
                ليست كلها صحيحة وهو دليل مبتدع متلقي من مبادىء الفلسفة اليونانية الوثنية فإن الكلام في الجسم والعرض والجوهر وغيرها لم يظهر إلا بعد ترجمة هذه الفلسفة إلى العربية في عهد المأمون ومن بعده من خلفاء العباسيين وكان أول من أحدثه هو الجهم وحزبه من المبتدعة الضلال ولهذا لما أطلع أئمة الحق على حقيقة هذا الدليل وما فيه من تناقض واضطراب أنكروا على أهله غاية الإنكار وحذروا منه غاية التحذير لعلمهم بما يفضي إليه من لوازم فاسدة فيها هدم لكل قواعد الإسلام ولسنا نعرف أحداً اختص هذا الدليل بالنقد المر اللاذع . وأبان عن تناقضه وفساده بأدلة العقل والنقل بمثل ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( العقل والنقل ) و ( منهاج السنة ) فقد أتى فيه بما يشفي ويقنع فجزاه الله عن الإيمان وأهله خير الجزاء .


                فصل
                في خلود أهل الجنة ودوام صحتهم ونعيمهم وشبابهم
                واستحالة النوم والموت عليهم

                هذا و خاتمة النعيم خلودهم **** أبداً بدار الخلد و الرضـوان
                أو ما سمعت منادى الإيمـان **** يخبـر عـن مناديهـم بحسن بيـان
                لكم حياة ما بها موت وعافيـة **** بـلا سـقـم و لا أحــزان
                ولكم نعيم ما به بؤس ومـا **** لشبابـكم هـرم مـدى الأزمان
                كلا ولا نوم هناك يكون ذا **** نـوم ومـوت بينـنـا أخــوان
                والجهم أفنـاها وأفنـى أهلها **** تبـاً لـذاك الجــاهـل الفتـان
                طردا لنفى دوام فعل الـرب في **** الماضـي وفي مستقبـل الأزمـان
                وأبو الهذيل يقول يفنى كل مـا **** فيهـا مـن الحـركات للسكـان
                وتصير دار الخلد مع سكانهـا **** و ثمـارهـا كحجـارة الـبنيـان
                قالوا ولـولا ذاك لم يثبـت لنا **** رب لأجـل تسلسـل الأعـيـان
                فالقوم إما جاحـدون لـربهم **** أو منكـرون حقـائـق الإيمـان
                الشرح
                هذا وتمام نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها وبقاءهم أبد الآباد ولا يفنون ولا يخرجون ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة ، فإن الآيات والأحاديث في هذا الباب من الكثرة والصراحة بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً كقوله تعالى خالدين فيها أبدا   لهم فيهم نعيم مقيم   وما هم منها بمخرجين   خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ  طبتم فادخلوها خالدين  أكلها دائم وظلها  إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة .
                وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله  [ يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال فيؤمر به فيذبح ، قال ثم يقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت . ثم تلا رسول الله   وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون  .
                قال المؤلف في ( حادى الأرواح " وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً ، وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح وهذا لا يصح ، فإن الله ينشيء من الموت صورة كبش يذبح كما ينشيء من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله تعالى ينشىء من الأعراض أجساماً تكون الأعراض أعراضاً مادة لها وينشىء من الأجسام أعراضاً كما ينشىء سبحانه من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ا 0 هـ .
                وأهل الجنة كذلك في عافية دائمة لا يصيبهم الآفات ولا الأمراض ولا الآلام والأوصاب ، كما قال تعالى  لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب  ونعيمهم باق فلا يلحقهم بؤس ولا شقاء ، وشبابهم لا يفنى ولا يحول ولا تنسخه شيخوخة ولا فناء وهم كذلك لا ينامون ، فإن النوم والموت فيما بيننا أخوان .
                روى ابن مردوية من حديث سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال ، قال رسول الله  [ النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون ]
                وهذا الذي ذكرناه من دوام حياة أهل الجنة ونعيمهم وسرورهم وشبابهم و انتفاء الموت والنوم والأسقام والأحزان والتعب والنصب عنهم هو ما علم بالاضطرار من كتاب الله وسنة نبيه  .
                ولكن جهما قبحه الله قضى بفناء الجنة وأهلها محتجاً بأن كل ما له ابتداء لابد أن يكون له انتهاء , وبأن تسلسل في الحوادث كما هو ممتنع في الماضي ، فكذلك في المستقبل فلابد أن يأتي وقت لا يكون فيه إلا الله وحده تفنى الجنة والنار وأهلهما .
                قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده و هو امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث ، وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث . وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل ، فدوام الفعل عنده ممتنع على الرب تبارك وتعالى في المستقبل كما هو ممتنع عليه في الماضي . وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل ، لكن قال إن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئاً بعد شيء . فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة )
                وقال الجهم وأبو الهذيل ومن وافقهما في امتناع دوام فاعلية الرب في الماضي والمستقبل جميعاً أنه لولا القول بحدوث العالم وامتناع التسلسل لما كان لنا طريق إلى إثبات وجود الله عز وجل ، فإن إثباته إنما هو طريق حدوث العالم المحوج له إلى محدث يخرجه من العدم إلى الوجود ، فوقعوا بهذا بين أمرين أحدهما مر فهم إما جاحدون منكرون لوجود الله تعالى ، وإما منكرون لحقائق الإيمان الثابتة المعلوم ثبوتها بالضرورة .
                التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:53 م.
                أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                وينصر الله من ينصره

                تعليق

                • سيف الكلمة
                  إدارة المنتدى

                  • 13 يون, 2006
                  • 6036
                  • مسلم

                  #9
                  الخاتمة :

                  بعد أن وصلنا إلى نهاية المطاف في هذا البحث نختم الكلام عليه بما يلي :

                  1- إن هذه المسألة هي من المباحث العويصة والصعبة حتى قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (1/299) وذلك بعد الكلام على مسألة قدم العالم وتسلسل الحوادث قال : ويدخل في ذلك الكلام في حدوث العالم والكلام في كلام الله وأفعاله ، والكلام في هذين الأصلين من محارات العقول .
                  وقال في المنهاج (1/212) : فلا نبسطه في هذا الموضع إذ لا حاجة بنا إليه وهو من الكلام المذموم ا0هـ .
                  وقال في موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/275) :
                  فمن تدبر هذه الحقائق ، وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس : تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ا 0هـ .
                  وإنما خاض شيخ الإسلام في ذلك ليبين خطأ وضلال المخالفين للرسل ولأئمة المسلمين ولهذا يقول ابن القيم في النونية :

                  هذى نهايات لإقدام الورى **** في ذا المقام الضيـق الأعطـان
                  فمن الذي يأتي بفتح بيـن **** ينجي الورى من غمـرة الحيرانِ
                  فالله يجزيه الذي هو أهله **** من جنة المأوى مـع الرضوان
                  أي أن آراء الفلاسفة والمتكلمين في هذه المسألة هي غاية ما وصلت إليه عقول الورى في هذا المقام الذي هو مزلة الأقدام ومضلة الأفهام فمن ذا يستطيع أن يأتي فيه بحكم بين وقول فصل ينجي به الناس من هذه الحيرة الغامرة ويكون له عند الله ما هو له أهل من جنة ورضوان ا0هـ من شرح الهراس .
                  وقد صدق الإمام ابن القيم بوصف هذا المقام بأنه مقام عطن وإذا كان العطن ضيقاً لزم الضيق والتعب .
                  2- أن البحث في هذه المسألة من فضول العلم فلو مات الإنسان من غير بحث فيه لما كان آثماً إلا إذا خشي من عدم المعرفة أن يعتقد في الله نقصاً فإنه يجب عليه أن يحقق كما قال الشيخ العثيمين رحمه الله لكن إذا أثيرت الشبهة وجب الدفاع بالعلم والعدل كما هو الحال الآن فهي مثارة مقدرة في كثير من المناهج الدراسية فضلاً عن غيرها .
                  3- يجب الاعتقاد قطعاً بأن كل ما سوى الله حادث مخلوق وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده كما صرح شيخ الإسلام بذلك .

                  وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،





                  المراجع

                  م اسم المرجع
                  1. أسام التقديس للإمام فخر الدين محمد بن عبد عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606هـ – تحقيق دكتور أحمد حجازي السقا - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية حسين محمد امبابي وأخوه - القاهرة
                  2. إبطال التأويلات لأخبار الصفات للقاضي أبى يعلى محمد بن الحسين ابن محمد بن الفداء - المتوفى 458هـ – تحقيق أبي عبدالله محمد بن حمد الحمدود النجدى – مكتب دار الإمام الذهبي للنشر بيان حولى - الطبعة الأولى .
                  3. الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية للدكتور عبدالقادر محمد عطا صوفي - مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة - الطبعة الأولى
                  4. ابن تيمية السلفي نقده لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الالمعيات لمحمد خليل هراس - دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولى
                  5. ابن تيمية المفترى عليه -تأليف سليم الهلالي - المكتبة الإسلامية عمان الأردن - الطبعة الأولى
                  6. الآمدى وآداؤه الكلامية للدكتور حسن الشافعي - دار السلام للطباعة والنشر - القاهرة - الطبعة الأولى
                  7. الأسماء والصفات للإمام أبي بكر أحمد بن حسين البيهقي المتوفى سنة 458هـ – الطبعة الأولى مع تحقيق وتخريج عبدالله بن محمد الحاشدي - مكتبة الوادي للتوزيع - جده
                  8. الأربعين في أصول الدين للإمام فخر الدين الرازي المتوفى 606هـ – تحقيق دكتور أحمد حجازي السقا - مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة - الطبعة الأولى .
                  9. تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى
                  10. تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفى - اعداد خالد فوزي عبدالحميد حمزة - دار التربية والتراث - مكة المكرمة - مكتبة الضياء جدة - الطبعة الأولى
                  11. تهافت التهافت لابن رشد - تقديم وضبط وتعليق د 0 محمد العريبي - دار الفكر اللبناني - بيروت - الطبعة الأولى

                  م اسم المرجع
                  12. توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى - تحقيق زهير الشاويش - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثالثة .
                  13. التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد - ويليه حكم المصافحة والمس - تأليف حسن بن على السقاف القرشي - دار الإمام النووي - عمان الأردن - طبعة ثانية .
                  14. حاشية الباجوري على متن السنوسية في العقيدة للعلامة الشيخ إبراهيم الباجوري عنى به عبد السلام شنّار - دار البيروتي - الطبعة الأولى
                  15. حاشية على شرح الخريدة لسيدى أحمد الصاوى - مع شرح الخريدة البهية للدردير - مكتبة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
                  16. حاشية على أم البراهين لسيدى محمد بن يوسف السنوسي- مطبعة مصطفى البوبى الحلبي وأولاده بمصر
                  17. حاشية الشيخ عبدالله بن حجازي الشرقاوي على شرح الإمام محمد بن منصور الهدهدي - على أم البراهين - مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الرابعة .
                  18. حاشية محمد بن محمد الأمير على شرح عبدالسلام بن إبراهيم المالكي لجوهرة التوحيد - مكتبة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
                  19. دفع للشبه التشبيه بألف التنزيه للإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ – تحقيق حسن السقاف - دار الإمام النووي - عمان الأردن - الطبعة الثانية
                  20. دفع الشبه الغوية عن شيخ الاسلام ابن تيمية تأليف مراد شكرى - الطبعة الأولى
                  21. (أ‌) درءاه تعارض العقل والنقل لابن تيمية - تحقيق دكتور محمد رشاد سالم - طبع على نفقة جامعة الإمام محمد بن السعود الإسلام - الطبعة الأولى
                  (ب‌) ضبطه وصححه عبد اللطيف عبدالرحمن - دار الكتب العلمية بيروت .
                  22. السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي - تأليف دكتور محمد سعيد رمضان البوطى - دار الفكر دمشق - الطبعة الأولى .
                  23. السيف الصقيل في الرد على ابن نفيل للإمام الحجة أبي الحسن تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756هـ – ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم – بقلم محمد زاهد بن الحسن الكوثري – مكتبة زهران – شارع الشيخ محمد عبده – الأزهر القاهرة
                  م اسم المرجع
                  24. الشامل في أصول الدين لإمام الحرمين الجويني - المتوفى سنة 478هـ – حققه وعلق عليه هلموت كلو بفر دار العرب للبستاني - شارع الفجالة - القاهرة 0
                  25. شرح القصيدة النونية للإمام ابن القيم - للدكتور محمد خليل هراس - مكتبة ابن تيمية - القاهرة
                  26. شرح السنوسية الكبرى المسمى عمدة أهل التوفيق والتسديد للإمام أبي عبدالله السنوسي - الدكتور عبدالفتاح عبدالله البركة - دار القلم الكويت - الطبعة الأولى 0
                  27. شرح العقيدة الطحاوية للإمام على بن محمد أبي العز الحنفي المتوفى سنة 722هـ - تحقيق دكتور عبدالله بن عبد المحسن التركي - شعيب الأرناؤوط - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الأولى
                  28. شرح الخريدة في علم التوحيد للإمام أبي البركات سيدى أحمد الدردير - تصحيح وتعليق حسين عبدالرحيم مكي - دار ومكتبة الهلال للطباعة - بيروت
                  29. شرح الصدر في السؤال عن أول هذا الأمر تأليف منصور بن عبدالعزيز السمارى - دار العاصمة - الرياض - الطبعة الأولى .
                  30. الشفار الألمعيات - لابن سينا - تحقيق محمد يوسف موسى - سليمان دينا - سعيد زايد - الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية - القاهرة - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - الأقليم الجنوبي .
                  31. شرح المواقف للقاضي عضد الدين عبدالرحمن الايجى المتوفى سنة 756هـ – للمحقق السيد شريف على بن محمد الجرجاني - ويليه حاشيتى السالكوتى والجلبى إشارات شريف الرضى
                  32. شرح الصاوي على جوهرة التوحيد للعلامة الشيخ أحمد بن محمد الصاوي - توزيع دار الإخاء
                  33. الصفات الإلهية في الكتاب والسنة - تأليف محمد أمان الجامي - الطبعة الثانية
                  34. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة - تأليف علوى بن عبدالقادر السقاف - دار الهجرة للنشر - الرياض - الطبعة الأولى
                  35. العقيدة الإسلامية أصولها وتاويلها – دكتور محمد عبد الستار نصّار – الطبعة الأولى – دار الهدى للطباعة مكتبة الدراسات العقدية

                  36. فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - لأبي الوليد ابن رشد المتوفى سنة 595هـ دراسة وتحقيق د 0 محمد عمارة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت - الطبعة الثالثة
                  م اسم المرجع
                  37. فلسفة الكلام عند إمام الحرمين الجويني الدكتور أشرف حرفوش - دار الحكمة - دمشق - الطبعة الأولى
                  38. فتح المجيد شرح الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد للشيخ محمد نووي ابن عمر الجاوى وبالهامش الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد للشيخ أحمد بن السيد عبدالرحمن النحراوى - مكتبة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الأخيرة - 1954 -1373هـ
                  39. الكوثري وتعليقاته بقلم علامة الشام محمد عبده بهجة البيطار - دار الفاروق الطائف - الطبعة الثانية
                  40. كتاب الإرشاد إلى قواقع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين عبدالملك الجويني المتوفى سنة 478هـ - تحقيق أسعد تميم - مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - الطبعة الأولى
                  41. لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة لإمام الحرمين عبدالملك الحويني سنة478 هـ – تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود – راجع التحقيق المرحوم الدكتور محمود الخضيري – عالم الكتب بيروت - الطبعة الأولى
                  42. مذكرة التوحيد للصف الأول من المرحلة الثانوية بالمعاهد الأزهرية - تأليف حسن السيد متولى - مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة
                  43. المحيط بالتكليف للقاضي عبدالجبار سنة 415 تحقيق عمر السيد عزمي مراجعة دكتور أحمد فؤاد الأهواني المؤسسة العامة المصرية للتأليف والأنباء والنشر
                  44. المدخل إلى فلسفة دكتور فتح الله خليف - دار الجامعات المصرية - الإسكندرية .
                  45. مجموع فتاوى ابن تيمية جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النجدي - مكتبة ابن تيمية القاهرة - المجلد الثامن عشر .
                  46. المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة جمع وتحقيق عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي - دار طيبة الرياض - الطبعة الأولى
                  47. المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات للإمام فخر الدين الرازي - المتوفى سنة 606هـ - تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى .
                  48. المطالب العالية من العلم الإلهي للإمام فخر الدين الرازي - المتوفى سنة 606هـ – تحقيق دكتور أحمد حجازي السقا - دار الكتاب العربي بيروت - الطبعة الأولى .
                  م اسم المرجع
                  49. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة - تأليف الاستاذ محمد تقى مصباح اليزدى - ترجمة محمد عبدالمنعم الخافاني - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - الطبعة الأولى
                  50. منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية - وبهامشة بيان موافقة صريح العقول لصحيح المنقول لابن تيمية - دار الكتب العلمية - بيروت
                  51. المواقف في علم الكلام - تأليف عضد الله والدين القاضي عبدالرحمن بن أحمد الإيجى عالم الكتب بيروت
                  52. موقف ابن تيمية من فلسفة ابن رشد في العقيدة وعلم الكلام والفلسفة - تأليف دكتور الطبلاوى محمود سعد - مطبعة الأمانة مصر الطبعة الأولى .
                  53. موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف الدكتور عبدالرحمن بن صالح بن صالح المحمود - مكتبة الرشد - الرياض - الطبعة الثانية .
                  54. موافقة صحيح المنقول لصريح العقول لابن تيمية - دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولى .
                  55. نشر الطوالع للعلامة المدعشى الشهير بساجقلى زاده - مكتبة العلوم العصرية ومطبعتها بمصر - الطبعة الأولى - 1342هـ .
                  56. كفاية الأقدام في علم الكلام – للإمام عبدالكريم الشهرستاني – حرره وصححه –الفرد جيوم – مكتبة الثقافة الدينية - شارع بورسعيد الظاهر .
                  التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:53 م.
                  أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                  والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                  وينصر الله من ينصره

                  تعليق

                  • سيف الكلمة
                    إدارة المنتدى

                    • 13 يون, 2006
                    • 6036
                    • مسلم

                    #10
                    للرفــــــــــــــــــــــــــــع
                    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 7 أكت, 2020, 04:53 م.
                    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                    وينصر الله من ينصره

                    تعليق

                    مواضيع ذات صلة

                    تقليص

                    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                    ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, منذ 2 أسابيع
                    ردود 0
                    9 مشاهدات
                    0 معجبون
                    آخر مشاركة الراجى رضا الله
                    ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, 10 أكت, 2024, 01:41 ص
                    رد 1
                    9 مشاهدات
                    0 معجبون
                    آخر مشاركة الراجى رضا الله
                    ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, 10 أكت, 2024, 01:28 ص
                    رد 1
                    12 مشاهدات
                    0 معجبون
                    آخر مشاركة الراجى رضا الله
                    ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, 10 أكت, 2024, 01:16 ص
                    رد 1
                    11 مشاهدات
                    0 معجبون
                    آخر مشاركة الراجى رضا الله
                    ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, 10 أكت, 2024, 01:09 ص
                    رد 1
                    7 مشاهدات
                    0 معجبون
                    آخر مشاركة الراجى رضا الله
                    يعمل...