رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة الأولى: الطعن باستنكار ابن مسعود تولي زيد الجمع
وقد طعن بعض الطاعنين على كتاب الله في جمع القرآن في زمن عثمان بِما ورد عن ابن مسعودٍ من استنكار تولي زيدٍ هذا الجمع، وعدم توليه إياه، مع كونه أعلم أصحاب النَّبِيّ بكتاب الله، واستدلوا على ذلك بالأحاديث السابقة في اعتراض ابن مسعود على عثمان، ومنها:
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: } وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {،(1) ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلاَ يَعِيبُهُ.(2)
وقالوا: إن استنكار ابن مسعودٍ طعنٌ في جمع القرآن، وهو دليلٌ على أن القرآن الذي بين أيدينا ليس موثوقًا، وهو أيضًا طعنٌ في تواتر القرآن، إذ لو كان ما كتبه عثمان متواترًا لَما وسع ابن مسعود استنكاره.(3)
والجواب عن هذه الشبهة:
أولاً: أن الاستنكار المروي عن ابن مسعودٍ لم يكن طعنًا في جمع القرآن، ولا استنكارًا لفعل الصحابة، وإنَّما كان استنكارًا لاختيار من يقوم بِهذا الجمع، إذ كان يرى في نفسه أنه الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، مع كمال ثقته في زيدٍ وأهليتِه للنهوض بِما أسند إليه.
ومسألة اختيار من يقوم بجمع القرآن تقديرية، ولا شكَّ أن تقدير عثمان، ومن قبله أبو بكر وعمر أن زيدًا أكفأ من غيره للقيام بِهذا العمل -أصدق من تقدير ابن مسعودٍ له، كما مرَّ بنا قريبًا في تصويب اختيار عثمان زيدًا على غيره لجمع القرآن.(4)
وأما حداثة سِنِّ زيدٍ ، فليست مطعنًا، فكم من صغيرٍ فاق من هو أكبر منه، وقد كان في ثقة النَّبِيّ بزيد -كما مرَّ قريبًا- ما يدل على أهليته وكفايته، وقد قدَّم النَّبِيّ بعض صغار السِنِّ على من هم أكبر منهم لَمَّا رأى من كفايتهم وأهليتهم فيما قدَّمهم فيه، كما قدَّم أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه كبار المهاجرين والأنصار، وهو ابن ست عشرة سنة، رغم طعن بعض الناس في إمارته، وأنفذ هذا الجيش أبو بكر، ولم يأبه لاستنكار بعض ذوي السن من الصحابة، محتجًّا في ذلك بتقديم الرَّسُول إياه.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ.(5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.(6)
ولما طلب الناس تأمير من هو أسنُّ من أسامة بعد وفاة النَّبِيّ ، قال أبو بكر لعمر لما كلمه في ذلك: ثكلتك أمُّك يا ابن الخطاب! استعمله رَسُول اللهِ ، وتأمرني أن أنزعه.(7)
ثانيًا: أن استنكار ابن مسعود أن يترك حرفه، هو شهادة لحرفه بالصحة، لأنه أخذه عن رَسُول اللهِ ، وليس في ذلك طعنٌ على حرف زيد من حيث هو، وإنَّما غاية ما هنالك أنه لا يرى ترك حرفه لحرف أحدٍ غيره.
قال الباقلاني: ليست شهادة عبد الله لحرفه وأنه أخذه من فم رَسُول اللهِ طعنًا على حرف غيره، ولكنه عنده حجةٌ في أنه لا يَجِب عليه تركه، وتحريق مصحف هو فيه.(8)
ثالثًا: أنه على فرض كون استنكار ابن مسعودٍ طعنًا في صحة جمع القرآن وتواتره، فقد ثبت بِما لا مجال للشك معه أنه قد رجع عن ذلك -كما مرَّ قريبًا.(9)
رابعًا: أننا لو سلَّمنا أن ابن مسعود استمرَّ على استنكاره، وأن استنكاره كان طعنًا في تواتر القرآن وصحة جمعه في زمن عثمان، فإننا نجيب بأن طعن ابن مسعود في التواتر لا يقدح فيه، فإن التواتر حجة قاطعة بصحة ما روي متواترًا، وإذا كان الجماعة الذين اتفقوا على صحة جمع القرآن في زمن عثمان قد بلغوا حدَّ التواتر وأكثر، فإن إنكار الواحد أو الاثنين لا يقدح في ذلك التواتر، فإن من شهد حجةٌ على من لم يشهد.
خامسًا: أن قول ابن مسعود: وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. ليس قطعًا على أنه ليس فيهم من هو أعلم منه بكتاب الله، وإنما هو اعتقاد ابن مسعود، وهو غير معصوم في هذا الاعتقاد.(10)
-------------------------------------------
(1) سورة آل عمران، من الآية 161.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (16/16) ح 2462، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 23.
(3) مناهل العرفان (1/283).
(4) انظر مناهل العرفان (1/283).
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب بعث النَّبِيّ ? أسامة إلى الحرقات (7/590) ح 4271.
(6) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب مناقب زيد بن حارثة (7/108-109) ح 3730.
(7) تاريخ الطبري (2/246)، وانظر فتح الباري (7/759).
(8) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
(9) انظر المبحث السابق، ومناهل العرفان (1/284).
(10) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
الشبهة الأولى: الطعن باستنكار ابن مسعود تولي زيد الجمع
وقد طعن بعض الطاعنين على كتاب الله في جمع القرآن في زمن عثمان بِما ورد عن ابن مسعودٍ من استنكار تولي زيدٍ هذا الجمع، وعدم توليه إياه، مع كونه أعلم أصحاب النَّبِيّ بكتاب الله، واستدلوا على ذلك بالأحاديث السابقة في اعتراض ابن مسعود على عثمان، ومنها:
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: } وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {،(1) ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلاَ يَعِيبُهُ.(2)
وقالوا: إن استنكار ابن مسعودٍ طعنٌ في جمع القرآن، وهو دليلٌ على أن القرآن الذي بين أيدينا ليس موثوقًا، وهو أيضًا طعنٌ في تواتر القرآن، إذ لو كان ما كتبه عثمان متواترًا لَما وسع ابن مسعود استنكاره.(3)
والجواب عن هذه الشبهة:
أولاً: أن الاستنكار المروي عن ابن مسعودٍ لم يكن طعنًا في جمع القرآن، ولا استنكارًا لفعل الصحابة، وإنَّما كان استنكارًا لاختيار من يقوم بِهذا الجمع، إذ كان يرى في نفسه أنه الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، مع كمال ثقته في زيدٍ وأهليتِه للنهوض بِما أسند إليه.
ومسألة اختيار من يقوم بجمع القرآن تقديرية، ولا شكَّ أن تقدير عثمان، ومن قبله أبو بكر وعمر أن زيدًا أكفأ من غيره للقيام بِهذا العمل -أصدق من تقدير ابن مسعودٍ له، كما مرَّ بنا قريبًا في تصويب اختيار عثمان زيدًا على غيره لجمع القرآن.(4)
وأما حداثة سِنِّ زيدٍ ، فليست مطعنًا، فكم من صغيرٍ فاق من هو أكبر منه، وقد كان في ثقة النَّبِيّ بزيد -كما مرَّ قريبًا- ما يدل على أهليته وكفايته، وقد قدَّم النَّبِيّ بعض صغار السِنِّ على من هم أكبر منهم لَمَّا رأى من كفايتهم وأهليتهم فيما قدَّمهم فيه، كما قدَّم أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه كبار المهاجرين والأنصار، وهو ابن ست عشرة سنة، رغم طعن بعض الناس في إمارته، وأنفذ هذا الجيش أبو بكر، ولم يأبه لاستنكار بعض ذوي السن من الصحابة، محتجًّا في ذلك بتقديم الرَّسُول إياه.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ.(5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.(6)
ولما طلب الناس تأمير من هو أسنُّ من أسامة بعد وفاة النَّبِيّ ، قال أبو بكر لعمر لما كلمه في ذلك: ثكلتك أمُّك يا ابن الخطاب! استعمله رَسُول اللهِ ، وتأمرني أن أنزعه.(7)
ثانيًا: أن استنكار ابن مسعود أن يترك حرفه، هو شهادة لحرفه بالصحة، لأنه أخذه عن رَسُول اللهِ ، وليس في ذلك طعنٌ على حرف زيد من حيث هو، وإنَّما غاية ما هنالك أنه لا يرى ترك حرفه لحرف أحدٍ غيره.
قال الباقلاني: ليست شهادة عبد الله لحرفه وأنه أخذه من فم رَسُول اللهِ طعنًا على حرف غيره، ولكنه عنده حجةٌ في أنه لا يَجِب عليه تركه، وتحريق مصحف هو فيه.(8)
ثالثًا: أنه على فرض كون استنكار ابن مسعودٍ طعنًا في صحة جمع القرآن وتواتره، فقد ثبت بِما لا مجال للشك معه أنه قد رجع عن ذلك -كما مرَّ قريبًا.(9)
رابعًا: أننا لو سلَّمنا أن ابن مسعود استمرَّ على استنكاره، وأن استنكاره كان طعنًا في تواتر القرآن وصحة جمعه في زمن عثمان، فإننا نجيب بأن طعن ابن مسعود في التواتر لا يقدح فيه، فإن التواتر حجة قاطعة بصحة ما روي متواترًا، وإذا كان الجماعة الذين اتفقوا على صحة جمع القرآن في زمن عثمان قد بلغوا حدَّ التواتر وأكثر، فإن إنكار الواحد أو الاثنين لا يقدح في ذلك التواتر، فإن من شهد حجةٌ على من لم يشهد.
خامسًا: أن قول ابن مسعود: وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. ليس قطعًا على أنه ليس فيهم من هو أعلم منه بكتاب الله، وإنما هو اعتقاد ابن مسعود، وهو غير معصوم في هذا الاعتقاد.(10)
-------------------------------------------
(1) سورة آل عمران، من الآية 161.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (16/16) ح 2462، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 23.
(3) مناهل العرفان (1/283).
(4) انظر مناهل العرفان (1/283).
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب بعث النَّبِيّ ? أسامة إلى الحرقات (7/590) ح 4271.
(6) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب مناقب زيد بن حارثة (7/108-109) ح 3730.
(7) تاريخ الطبري (2/246)، وانظر فتح الباري (7/759).
(8) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
(9) انظر المبحث السابق، ومناهل العرفان (1/284).
(10) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
تعليق