وذلك؛ حينما رأوا أن الحياة إنما هي نتيجة النشوء والارتقاء، وأن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله هو بمثابة إدخال عنصر خارج للطبيعة، في وضع ميكانيكي بحت.
خلاصة أفكارهم في إنكار الخالق سبحانه:
1- تقوم فكرة التطور الداروينية على أن الكائنات الحية تسير في تطورها مرتقية من أدنى الأحياء إلى الأعلى فالأعلى، وأن الإنسان قد كان قمة تطورها.
2- وبقاء بعض الأنواع وانقراض بعضها يرجع إلى ظاهرة الصراع من أجل البقاء، فالبقاء يكون للنوع المكافح الأفضل، وأما النوع الخامل الذي لا يكافح من أجل البقاء فإنه يضمر، ثم يضمحل، ثم ينقرض. وهو ما يسمى بالانتقاء الطبيعي.
3- والعضو الذي يهمل إذ لا تبقى له وظيفة عمل في النوع الواحد، يضمر شيئًا فشيئًا، حتى يضمحل، ولا يبقى منه إلا أثر يدل عليه، وقد لا يبقى له أثر.
كانت هذه هي الداروينية في عالم الأحياء، ثم عممت حتى شملت الوجود المادي كله، من الغاز السديمي الأول – كما يسمونه – حتى المجرات فالكواكب، فالمواد الصالحة لظهور الحياة، فالنبات، فالحيوان، وأمسى التطور مذهبًا.
وقد أجرى الداروينيون تنقيحات وتعديلات في آراء داروين من بعده، وحشدوا لفكرة التطور الطبيعي في الأحياء أسانيد ترجع كلها إلى العناصر الثلاثة السابقة:
1- تعتمد النظرية على أساس ما شُوهد في زمن (داروين) من الحفريات الأرضية، فقد وجدوا: أن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية، وأن الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى. فقال (داروين): إن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى.
ثم وجد الداروينية من هذه الحفريات ما يسمونه بإنسان «بلتداون» بجمجمة إنسان وفك قرد.
2- وتعتمد أيضًا على ما كان معروفًا في زمن (داروين) من تشابه جميع أجنة الحيوانات في أدوارها الأولى، فهو يوحي بأن أصل الكائنات واحد، كما أن الجنين واحد، وحدث التطور على الأرض، كما يحدث في أرحام الكائنات الحية.
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدات الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات، وليس لها الآن عمل في الإنسان، مما يوحي بأنها أثر بقي من القرود لم يتطور؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود الآن.
4- تأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض.
وقالوا في كيفية عملية التطور: أن هناك ثلاث وسائل في إكمال عملية التطور، وهي:
أ- الانتخاب الطبيعي: تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك ما يُسمى بزعمهم بقانون (البقاء للأصلح)، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذُريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو (النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور وذلك هو الارتقاء.
ب- الانتخاب الجنسي: وذلك بواسطة مَيْل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح، فتورث بهذا صفات الأصلح، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.
جـ- كلما تكونت صفة جديدة ورثت في النسل.
هذا آخر ما تخيلوا من الشبه، والتي يتشبثون بها في محاولة الإنكار للخلق المباشر، ولننظر فيما يلي مدى واقعية هذه الفكرة، ومدى صحتها لدى العلماء الغربيين أيضًا، فضلاً عن كونها من الأساطير والخرافات لدى أصحاب الملل الثلاث.
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية:
1- أمَّا استدلالهم بالحفريات:
فيقال: إن علم الحفريات لا يزال ناقصًا، فلا يدعي أحد أنه قد أكمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار فلم يجد شيئًا جديدًا ينقض المقررات السابقة.
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإن وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً، ثم الأرقى، ليس دليلاً على تطور الكائنات الأدنى، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود، وإذا كانت الحفريات في زمن داروين تقول: إن أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة، فإن الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدَّرت أن عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين.
أليس هذا أكبر دليل على أن علم الحفريات متغير لا يُبنى عليه دليل قطعي؟ وأنه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنا نأمل؟
يقول الدكتور (جمال الدين الفندي) أستاذ الفلك في كلية العلوم بجامعة القاهرة: إن من الأدلة التي تنفي نظرية داروين أن عُمْر الأرض كما قدَّره الفلكيون والطبيعيون لا يربو على ثلاثة بلايين سنة، بينما يقدر علماء الحياة أن المدة اللازمة لتطور الأحياء على الأرض على حين عصر الحياة القديمة تزيد على سبعة بلايين سنة، بمعنى أن عمر الأرض لا بد أن يكون عشرة بلايين سنة؛ أي ضعف عمْر الشمس.
ويقول أحد علماء الغرب في كتابه (الإنسان الأول): (من المؤسف أنه لا يوجد لدينا إلاَّ وثائق غير تامة من الحفريات عن أصل قرد الإنسان، ولا نعلم في أي وقت ولا في أي مكان بدأ شكل الإنسان يختلف عن شكل القرد).
فالحفريات لا تعتبر دليلاً أبدًا، حتى إن الرأي الأخير من الحفريات هو يناقض تمامًا ما قالته الداروينية، وذلك لما وجدوا من الجماجم الإنسانية التي تدل على وجود هذا النوع من مدة سحيقة موغلة أكثر مما يثبته الداروينيون لعمر الإنسان.
وأما ما قيل من أنهم عثروا على إنسان «بلتداون» بجمجمة إنسان وفك قرد، مما يدل على أن الإنسان تطور من القرد، وأن إنسان «بلتداون» صورة من صور الحلقات المفقودة في عملية التطور، فيقال في الرد عليهم:
إن التجارب الأخيرة على إنسان «بلتداون» أثبتت أنه ليس قديمًا كما تصوروا، بل إن هناك من قام بإحداث عدة تغييرات في هذه الجثة للإيهام بأنها تعود إلى أزمان غائرة جدًّا، وليس هذا فحسب، بل تبين أن الأسنان المغروسة في عظم الفك بردت بمبردة للتمويه وللإيهام بأنها تآكلت على مر الزمن، وكانت علامات البرد ظاهرة لكل عين متفحصة، وأخيرًا أعلنت النتيجة في تشرين الثاني سنة 1953م، وكانت كما يلي:
(إن (إنسان بلتداون) ليس إلاَّ قضية تزوير وخداع، تمت بمهارة ومن قِبل أُناس محترفين، فالجمجمة تعود إلى إنسان معاصر، وأما عظام الفك فهي لقرد «أورنج» بعمر عشر سنوات، والأسنان هي أسنان إنسان غُرست بشكل اصطناعي ورُكبت على عظام الفك. وظهر ذلك، إن العظام عوملت بمحلول ديكرومايت البوتاسيوم لإحداث آثار بقع للتمويه وإعطاء شكل تاريخي قديم لها).
2- وأما الاستدلال بتشابه أجنة الحيوانات:
فذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء نتيجة عدم تقدم الآلات المكبرة التي تبيّن التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنة المتشابهة العالم الألماني (أرنيست هيكل)، فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له: أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
ثم لما تقدمت الآلات المكبّرة في العصر الحاضر بيَّنت هذه الآلات تفاصيل دقيقة بين أجنة الحيوانات، وظهر أنه لا تشابه بين أجنة الحيوانات أبدًا، وأن أجنة الإنسان تختلف عن أجنة القردة من عدة جوانب.
3- أما الاستدلال بوجود الزائدة الدودية على نظرية التطور والنشوء الذاتي:
فيقال: إن وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعًا على تطور الإنسان من القرد، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجِد الذي كان اعتماده على النباتات، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات.
ثم القول بأن الزائدة الدودية ليست لها وظيفة حاليًّا في جسم الإنسان قول غير صحيح، فإنه أثبت الطب حديثًا: أن الزائدة الدودية ذات وظيفة في جسم الإنسان، وهي جهاز لمفاوي مناعي في البطن كغيره من أجهزة المناعة في جسم الإنسان، لذلك تُدعى باسم (لوزات البطن).
كما أن العلم قد يكشف لها حقيقة أخرى لا تزال غائبة عنا حتى اليوم، فالعلم كل يوم إلى ازدياد، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية، فإن الثدي من أمارات الأنوثة، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلاَّ ما يُشبه أمهاتها، فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان، ولم يبقَ فيما هو أدنى منه؟ مع أن داروين يزعم أن الإنسان تطور مما هو أدنى منه.
4- أما الاستدلال بتأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض على إثبات نظرية التطور :
فيقال: إن تأخر ظهور بعض الأنواع الراقية عن أنواع سابقة لها في الوجود لا يقتضي أن السابق أب أو جد لما ظهر بعده، إذ الاحتمال الأقرب للتصور أن يكون مبدع النوع الأول قد أبدع بعده النوع الأرقى، ثم أبدع بعد ذلك الأرقى فالأرقى، ثم أبدع أخيرًا الإنسان.
وهذا ما نلاحظه في سلسلة المبتكرات والمخترعات، فاللاحق كثيرًا ما يكون وليد فكر المبدع ونتاج عمله، بالاستناد إلى ملاحظته للسابق، وليس ثمرة التطوير للسابق نفسه في واقع العمل، بحذف شيء منه وإضافة شيء إليه، فالعملية تكون عملية فكرية، ويأتي التطبيق الواقعي غالبًا بناءً جديدًا.
ومهما يكن من أمر، فالاحتمالان أمران متكافئان إمكانًا، بشرط ربط كل منهما بأنه مظهر لاختيار مدبر خالق حكيم، أمَّا التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، فهو أمر مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا يُنتج الكامل في خطة ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود. وإحالة الأمر على المصادفة إحالة على أمر مستحيل علميًّا ورياضيًّا في عمليات الخلق الكبرى، كما سبق بيانه.
تفنيد شرح داروين لعملية التطور:
أما القول بالانتخاب الطبيعي: بأن هناك ناموسًا أو قانونًا يعمل على إفناء الكائنات الحية فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه فتتراكم الصفات القوية حتى تكوّن حيوانًا جديدًا.
فيقال: حقًّا هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها؛ لأن الله قدَّر الموت على كل حي، إلا أن نظامًا وناموسًا يعمل بمقابلة هذا النظام، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن؛ لأن الله قدّر الحياة فهيأ أسبابها، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية كل هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات، فالنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يُحدث خللاً في التفكير، فإذا كانت هناك سنة للهلاك فهناك سنة للحياة، ولكلٍ دور في الحياة، وإذا كانت الظروف الطبيعية: من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعة، كطمس عين أو تهديم بناء، فإنه من غير المعقول أن تقرر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تُنشئ عينًا، لمن لا يملك عينًا أو تصلح بناء فيه نقص.
ولكن للأسف، إن التطوريين يقولون بمثل هذا القول، فالانتخاب الطبيعي معبود التطوريين المحروم من الشعور، هكذا وبهذه البساطة يعتقد داروين أنه استطاع أن يشرح كيفية تحول عضو من شكل إلى آخر، أما العلم المعاصر فإنه يرفض هذا الشرح وهذا التفسير، بل يعتبره مضحكًا، فكما يصعب على الإنسان الاعتقاد بأن سيارة تسير بالبنزين قد تحولت – نتيجة سلسلة حوادث المرور – إلى سيارة تعمل بالغاز السائل، وأنها في فترة من فترات التحول كانت تسير بالبنزين والغاز معًا من باب الاحتياط!! كذلك يصعب عليه تصديق كل هذه الحكايات حول خروج الأحياء من الماء إلى اليابسة.
إذ لا مبرر هناك للاعتقاد بأن كل هذه المزاعم صحيحة من دون تحقيق وتمحيص، حتى وإن قدّمها البعض تحت لبوس العلم؛ لأن قليلاً من العلم وقليلاً من التفكير، يكفيان لرؤية كيف أن اللوحة التي تقدمها نظرية التطور في حاجة إلى عقل وشعور خارقين.
ويمثل هنا بمثال واحد، فمثلاً قبل كل شيء يحتاج جهاز التنفس لكي يتعرض لمثل هذا التبدل والتحول إلى تعيين هدف أمامه... وهذا الهدف هنا هو (الخروج من الماء إلى اليابسة)، فمن الذي يعطي هذا القرار ويعين هذا الهدف؟ أهو الكائن نفسه؟ أهي جزيئات جسمه؟ أهو الماء؟ أهو الهواء؟
ثم يجب تعيين الخطوات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف، ووضع خطة تحتوي على تفاصيل كثيرة جدًّا تشمل أجهزة الجسم كله، فمن الذي يضع هذه الخطة؟ أهو الكائن الحي؟ أهي ذرات جسمه؟ أم الهواء؟
ثم يجب الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوائق والمشاكل التي قد تظهر أثناء خطوات التقدم نحو الهدف، وأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة تجاهها، وإدراج جميع هذه التدابير في الخطة بشكل مناسب، بحيث لا تتعارض مع الخط العام للخطة. فمن الذي يرى المشاكل والعوائق والصعوبات قبل أوانها، ويفكر بالتدابير اللازمة فيؤمن التنسيق بين الأعضاء؟ أما القول بأن (الأعضاء تقوم من نفسها بتأمين نظام للتعاون والمساعدة فيما بينها) فهو قول لا يُقره أي عقل وأي منطق.
ثم تأتي مرحلة التنفيذ، والتطوريون يرون أنها تحقق نتيجة ملايين الحوادث التي تصيب شفرات الجينات. والغريب أن هذه الحوادث تكون وكأنها مرتبة ضمن خطة معينة!! ثم إن حادثة معينة تأتي لتكمل (التقدم) الذي حققته الحادثة السابقة، ولتدفع خطوة أخرى إلى الأمام، ولتقرب الكائن خطوة أخرى نحو الهدف!! وهكذا يتخلص هذا الكائن من غضبه الانتخاب الطبيعي (الذي يجول في الدنيا في كل ساعة من ليل ونهار دون أن يحس به أحد)!
وأخيرًا بعملية تشبه عملية تحول دراجة أطفال ذات ثلاث عجلات، إلى طائرة فانتوم، إثر تعرضها لسلسلة من الحوادث العشوائية!! تظهر أمامنا المعجزة وتتكامل.
ثم إنه من الغريب جدًّا، أن لا يؤدي عبث الصدفة بشفرات الجينات إلى كوارث، ونحن نفسر عدم فهم داروين ومعاصريه هذا الأمر إلى قلة معلوماتهم، أمَّا الإصرار ممن جاء بعدهم عليه، فلا يفسر إلاَّ بالعناد والتعصب، ذلك؛ لأن مدَّ يد العبث إليها أو تدخل الصدفة، لا تؤدي إلاَّ إلى كارثة.
واليوم يحاول الذكاء الإنساني – وليست الصدفة - أن ينفذ إلى أعماق علوم الجينات بدراسات شاقة، فمن المستحيل قبول الادعاء بأن الصدفة والانتخاب الطبيعي استطاعا القيام بحل كل هذه الألغاز التي استعصى حلها على الذكاء الإنساني بالرغم من جميع الجهود المبذولة في هذا المجال. من المستحيل قَبُول هذا الادعاء وإن بذلت المحاولات لوضع قناع العلم عليه. وبالرغم من مرور قرن على وفاة داروين، فإن التطوريين لم يتعبوا بعد من محاولة جعل هذا المستحيل ممكنًا.
أما شرحه الثاني لقانون التطور بأنه يحصل (التطور) أيضًا بالانتخاب الجنسي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القوية مما سبب اندثارًا لأفراد الضعاف، وبقاء الأقوى:
فيقال: إن ذلك ليس دليلاً على حدوث تطور في النوع، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من نفس النوع، واندثار النوع الضعيف.
ثم إنه ليس بصحيح أن الصفات الحسنة في فرد من الأفراد تنقل بواسطة الوراثة، فمثلاً: هذا الحداد القوي العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته كما أن العالم الغزير العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه.
أما القول الأخير له شرحه لعملية التطور كيف تمت هي: بأنه (كلما تكونت صفة جيدة ورثت في النسل):
فيقال في الجواب عليه: إن القول بحدوث النشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ثم توريثها في النسل فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث، فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة.
وإلى جانب مخالفة علم الوراثة (لنظرية داروين)، فإن التجربة تنقضه؛ فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختِنون أبناءهم، ولكن ذلك كله لم يسبب أن ولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين، وهكذا، فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية داروين.
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد:
1- لو كانت النظرية حقًّا لشاهدنا كثيرًا من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور، لا عن طريق التناسل فقط، وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية كل سنة، أو كل عشر سنوات، أو كل مائة سنة.
2- لو سلمنا جدلاً: أن الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي، قد طورت قردًا إلى رجل – مثلاً – فإنا لن نسلم أبدًا بأن الظروف قد قررت أيضًا أن تكون امرأة لذلك الرجل ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما.
3- إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات – كالحرباء – مثلاً تتلون بحسب المكان هي مقدرة كائنة في تلك المخلوقات تُولد معها، وهي عند بعضها وافرة وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها، فالقدرة على التكيف صفة كامنة، لا صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات.
4- تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة على الطيران والانتقال السريع، وذلك دون آلة، كما أن أنف الكلب أشد حساسية من أنف الإنسان، فهل أنف الكلب أكثر رقيًّا من أنف الإنسان؟ وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب؟ فهذه النظرية يخالفها الواقع المشاهد مخالفة تامة.
النظرية تعجز عن الإجابة المقنعة لكثير من الأسئلة عن الظواهر الموجودة:
إن نظرية التطور تحسب أنها استطاعت تفسير نشوء الكائنات الحية وتكاملها، وكل شيء بـ(الانتخاب الطبيعي)، ولكن الحياة هي أشمل وأعقد من مجرد أجساد الكائنات الحية، فعلاوة على وجود الأجهزة العضوية في أجساد الكائنات، هناك علاقات متداخلة ومتشعبة ومعقدة وحساسية بين هذه الكائنات والكائنات الأخرى من جهة، وبينها وبين بيئتها، وهذا موضوع مهم لا يمكن لأية نظرية تدعي تفسير الحياة أن تُهمل إيضاحها وتفسيرها، غير أننا نرى أن الظلمات تحيط بهذا الموضوع في نظرية التطور، ولا نرى أي بصيص من نور.
فمثلاً: لا تستطيع نظرية التطور تفسير كيف أن البعوضة، ما أن تفتح عيونها على الحياة حتى تحاول الوصول إلى هدفها ورزق أبرتها – كأي ممرضة متمرسة - والقيام بامتصاص الدم؟
كما لا تستطيع هذه النظرية تفسير كيف تستطيع النحلة التجول بين الأزهار، وامتصاص رحيقها لعمل غذاء من أنقى الأغذية، وليس هناك من معلم أو مدرب لها؟ وكيف تستطيع بإشاراتها ورقصاتها الخاصة من التخاطب مع أفراد مجموعتها، ثم القيام بإنشاء خلاياها بدقة هندسية متناهية، لا نشاهد فيها خطأ مليمتر واحد؟
أم هل تستطيع هذه النظرية تفسير كيف أن الطفل، وهو جنين في بطن أمه يتدرب لاكتساب المهارة الوحيدة المطلوبة منه، وهي عملية مصِّ الثدي، وذلك بمصِّ إصبعه؟!
كيف تبني العناكب بيوتها؟ والطيور أوكارها؟ والنمل مساكنها؟ أسئلة لا تستطيع هذه النظرية الإجابة عليها.
ويمكن تعداد أمثلة أكثر وأكثر وكتابة مجلدات من الكتب حول هذا الموضوع، بل يمكن صرف العمر كله في تعداد هذه الأمثلة، أما الاكتفاء بالقول بأن (الغريزة) هي الكلمة السحرية التي تفسر وتوضح هذه المهارات المتعددة والمذهلة والمختلفة، فليس إلا إعلانًا عن جهل الإنسان وعماه.
موقف علماء الطبيعة من هذه النظرية:
لعلماء الطبيعة موقفان وراء هذه الفرضية:
الأول: المؤيدون للنظرية: وتأييدهم كان أكثر انتصار لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه، وتقاومه، وحربًا مضادة يشنها علماء الطبيعة ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين.
فالتأييد إنما هو نتيجة حرب حاقد على الأديان، لا عن علم واقتناع قلبي، فقد اعترف المؤيدون لهذه الفرضية (النظرية) أيضًا بأنها غير ثابتة وغير علمية، وفيما يلي بعض أقوالهم:
1- (إن نظرية النشوء لا زالت حتى الآن دون براهين، وستظل كذلك؛ والسبب الوحيد في أننا نؤمن به هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق).
2- (إن التغيرات الإعجازية التي نفترض أنها قاصرة على القصص الخرافية أمور عادية جدًّا في نظرية النشوء والارتقاء).
3- (إن علماء الحيوان يؤمنون بالنشوء، لا نتيجة للملاحظة، أو الاختبار، أو الاستدلال المنطقي؛ ولكن لأن فكرة الخلق المباشرة بعيدة عن التصور).
4- (إننا بالرغم من إيماننا بالنشوء فإننا لا نعلم كيف حدث).
5- (إن نظرية النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها، حتى ولو أصبحت مجرد عمل من أعمال الاعتقاد).
6- (كلما تعمقنا في دراسة أنتوبيولوجيا كلما اكتشفنا أن نظرية النشوء ترتكز على الاعتقاد).
هكذا يصبح واضحًا، أن هذه النظرية ليس لها أي مستند صحيح، وقد اعترف بتهافتها وعدم ثبوتها علميًّا حتى مؤيدوها، وهو مدين بوجوده فقط لذلك الرفض العنيد للإيمان بوجود الخالق.
الثاني: المعارضون: لقد سبق معنا آراء المؤيدين لهذه النظرية بأنهم ما أيدوها على أنها حقيقة علمية، وإنما على أنها أفضل بدليل للإيمان بالله جلَّ شأنه، فما بال العلماء الغربيين المتنورين بالعلم والحرية لا يُعارضونها؟ لقد عارضها كثير من علماء الغرب الجيولوجيون والطبيعيون بالأدلة والبراهين، والمقام لا يتسع لذكر آرائهم ها هنا.
ولكن ما موقف بعض من تأثر بهذه النظرية من المسلمين؟ لقد تأثر بهذه النظرية كثير ممن يدعي العلم في العصر الحاضر من المسلمين، كما قد قال ببعض هذه النظرية علماء مشهورون من هذه الأمة.
فممن تأثر بهذه النظرية من المعاصرين «موريس بوكاي»، حيث استدل في كتابه (ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة) على صحة هذه النظرية بقوله تعالى: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } .
ويمكن أن يرد على هذا القول بأنه لم يفسر به أحد من المفسرين لا بالمأثور، ولا بالرأي، ولم يقل به أحد من السلف، بل تفسير الآية على حسب ما رُوي عن السلف هو أنَّ المراد بالأطوار: كونه (نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا).
وممن قال ببعض هذه النظرية من العلماء القدامى المشهورين: ابن خُلْدُون، حيث فسَّر قوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}. على أنه من القردة إلى الإنسان، كما يُنسب هذا القول إلى كل من الدميري، والبلخي، والفخر الرازي، والفارابي، وغيرهم.
ويُجاب عن شبهتهم هذه: بأن تفسير هذه الآيات القرآنية لا يكون إلاَّ على ضوء ما فهمه سلفنا الصالح أو على ما يوافق الآيات القرآنية الأُخر أو الأحاديث النبوية، وإذا ما وجدت يمكن أن يُفسّر على مقتضى طبيعة اللغة العربية وعلى فهم مَن أُنزل إليهم، لا إلى الأهواء والمفاهيم السيئة، وإلا سيصبح الدين كله لعبة، كلٌّ يفسر الآيات القرآنية كما يهواه، كما هو حال أهل البدع والزنادقة.
فالآيات المذكورة قد فُسرت على تفسيرين:
الأول: هو الذي عليه أكثر المفسرين؛ منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس- -، ومجاهد وعكرمة والشعبي، والحسن وأبو العالية والضحاك والسدي وابن زيد، واختاره ابن جرير: أن المراد بالآية: (ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقًا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب).
الثاني: ما رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن معنى الآية: (ننقله من حالٍ إلى حالٍ إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا)، وبه قال قتادة، والضحاك في رواية.
فترى أن التفسير الذي ذكروه ليس له أي سلف، فلا يقبل مثل هذه التأويلات الباطنية للآيات القرآنية.
ولما كان هناك من المسلمين مَن تأثر بهذه النظرية – أو الفرضية على الصحيح – واستدل بعض هؤلاء بالآيات القرآنية ، فإننا سوف نُورد حديث القرآن عن أصل الإنسان وخلقه بآيات صريحة وواضحة في الدلالة لا لَبْس فيها ولا غموض، حتى لا يستطيع إنكاره إلاَّ من أعمى الله بصره وجعل على قلبه غشاوة، وأضله عن سواء الصراط. ففيما يلي هذا البيان من القرآن الكريم والسنّة النبوية:
حديث القرآن والسنة عن أصل الإنسان وكيفية خلقه:
إن حديثنا الآن مع الذين يؤمنون بالله ربًّا، فنحن نسألهم هل تؤمنون بأن الله يعلم ما خلق، ومم خلق؟ وسيكون الجواب حتمًا بنعم، وإلا يكونوا قد كفروا بالله، وإذا كانت الإجابة بنعم، فإننا نقول لهم: إن الذي خلق الخلق لا شك هو أعلم بالمخلوق، قال تعالى: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }.
فإذا كان هو أعلم بالخلق وكيفية خلقه، فقد حكى بنفسه في القرآن وبيَّنه الرسول في السنّة قصة خلق الإنسان ببيان ظاهر وواضح.
فالله يخبرنا أنه خلق الإنسان خلقًا مستقلاً مكتملاً، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }.
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها، فقد خلقه من ماء وتراب (طين)، قال تعالى: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } .
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبيَّن ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب».
والماء عنصر في خلق الإنسان، حيث قال: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} ، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ}، فهو إذن من ماء وتراب.
وقد شكّله الله بيديه، حيث قال: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، ثم هذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار { خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }.
وقد خلقه مجوفًا منذ البداية، ففي الحديث عن أنس بن مالك قال: «لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به وينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك».
هذا الطين نَفَخَ اللهُ فيه من روحه فدبت فيه الحياة، فأصبح سميعًا بصيرًا عاقلاً واعيًا، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح وتدب فيه الحياة: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
وأخبرنا بالمكان الذي خلق فيه وهو الجنة: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، وبمجرد أن تمَّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يُقال له، ففي القرآن: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } .
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة – إلى ملأ منهم جلوس – فقل: السلام عليكم. قالوا: عليك السلام ورحمة الله..».
هذا هو الإنسان الأول؛ هو آدم عليه السلام، وهو أبو الناس كافة، بل إن المرأة خُلقت منه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }.
ولم يكن خلق الإنسان ناقصًا ثم اكتمل، كما يقول أصحاب نظرية التطور، بل كان كاملاً ثم أخذ يتناقص الخلق، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خلق الله آدم عليه السلام، وطوله ستون ذراعًا).
ولذلك، فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم.
هذه لمحة مما حكاه القرآن وبيَّنه عن خلق الإنسان الأول، لم أستقص النصوص من الكتاب والسنة في ذلك، وإلاّ فالقول في ذلك واسع طويل. وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها أي غموض، وهذا الذي بيَّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالنسبة إليه، أما ذلك الإنسان الذي يُصوره «داروين» – ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور – فإنه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 757-778) .
المصدر
د/عبدالرحمن السحيم
إعداد موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/
تنسيق موقع صيد الفوائد
خلاصة أفكارهم في إنكار الخالق سبحانه:
1- تقوم فكرة التطور الداروينية على أن الكائنات الحية تسير في تطورها مرتقية من أدنى الأحياء إلى الأعلى فالأعلى، وأن الإنسان قد كان قمة تطورها.
2- وبقاء بعض الأنواع وانقراض بعضها يرجع إلى ظاهرة الصراع من أجل البقاء، فالبقاء يكون للنوع المكافح الأفضل، وأما النوع الخامل الذي لا يكافح من أجل البقاء فإنه يضمر، ثم يضمحل، ثم ينقرض. وهو ما يسمى بالانتقاء الطبيعي.
3- والعضو الذي يهمل إذ لا تبقى له وظيفة عمل في النوع الواحد، يضمر شيئًا فشيئًا، حتى يضمحل، ولا يبقى منه إلا أثر يدل عليه، وقد لا يبقى له أثر.
كانت هذه هي الداروينية في عالم الأحياء، ثم عممت حتى شملت الوجود المادي كله، من الغاز السديمي الأول – كما يسمونه – حتى المجرات فالكواكب، فالمواد الصالحة لظهور الحياة، فالنبات، فالحيوان، وأمسى التطور مذهبًا.
وقد أجرى الداروينيون تنقيحات وتعديلات في آراء داروين من بعده، وحشدوا لفكرة التطور الطبيعي في الأحياء أسانيد ترجع كلها إلى العناصر الثلاثة السابقة:
1- تعتمد النظرية على أساس ما شُوهد في زمن (داروين) من الحفريات الأرضية، فقد وجدوا: أن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية، وأن الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى. فقال (داروين): إن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى.
ثم وجد الداروينية من هذه الحفريات ما يسمونه بإنسان «بلتداون» بجمجمة إنسان وفك قرد.
2- وتعتمد أيضًا على ما كان معروفًا في زمن (داروين) من تشابه جميع أجنة الحيوانات في أدوارها الأولى، فهو يوحي بأن أصل الكائنات واحد، كما أن الجنين واحد، وحدث التطور على الأرض، كما يحدث في أرحام الكائنات الحية.
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدات الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات، وليس لها الآن عمل في الإنسان، مما يوحي بأنها أثر بقي من القرود لم يتطور؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود الآن.
4- تأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض.
وقالوا في كيفية عملية التطور: أن هناك ثلاث وسائل في إكمال عملية التطور، وهي:
أ- الانتخاب الطبيعي: تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك ما يُسمى بزعمهم بقانون (البقاء للأصلح)، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذُريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو (النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور وذلك هو الارتقاء.
ب- الانتخاب الجنسي: وذلك بواسطة مَيْل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح، فتورث بهذا صفات الأصلح، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.
جـ- كلما تكونت صفة جديدة ورثت في النسل.
هذا آخر ما تخيلوا من الشبه، والتي يتشبثون بها في محاولة الإنكار للخلق المباشر، ولننظر فيما يلي مدى واقعية هذه الفكرة، ومدى صحتها لدى العلماء الغربيين أيضًا، فضلاً عن كونها من الأساطير والخرافات لدى أصحاب الملل الثلاث.
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية:
1- أمَّا استدلالهم بالحفريات:
فيقال: إن علم الحفريات لا يزال ناقصًا، فلا يدعي أحد أنه قد أكمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار فلم يجد شيئًا جديدًا ينقض المقررات السابقة.
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإن وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً، ثم الأرقى، ليس دليلاً على تطور الكائنات الأدنى، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود، وإذا كانت الحفريات في زمن داروين تقول: إن أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة، فإن الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدَّرت أن عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين.
أليس هذا أكبر دليل على أن علم الحفريات متغير لا يُبنى عليه دليل قطعي؟ وأنه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنا نأمل؟
يقول الدكتور (جمال الدين الفندي) أستاذ الفلك في كلية العلوم بجامعة القاهرة: إن من الأدلة التي تنفي نظرية داروين أن عُمْر الأرض كما قدَّره الفلكيون والطبيعيون لا يربو على ثلاثة بلايين سنة، بينما يقدر علماء الحياة أن المدة اللازمة لتطور الأحياء على الأرض على حين عصر الحياة القديمة تزيد على سبعة بلايين سنة، بمعنى أن عمر الأرض لا بد أن يكون عشرة بلايين سنة؛ أي ضعف عمْر الشمس.
ويقول أحد علماء الغرب في كتابه (الإنسان الأول): (من المؤسف أنه لا يوجد لدينا إلاَّ وثائق غير تامة من الحفريات عن أصل قرد الإنسان، ولا نعلم في أي وقت ولا في أي مكان بدأ شكل الإنسان يختلف عن شكل القرد).
فالحفريات لا تعتبر دليلاً أبدًا، حتى إن الرأي الأخير من الحفريات هو يناقض تمامًا ما قالته الداروينية، وذلك لما وجدوا من الجماجم الإنسانية التي تدل على وجود هذا النوع من مدة سحيقة موغلة أكثر مما يثبته الداروينيون لعمر الإنسان.
وأما ما قيل من أنهم عثروا على إنسان «بلتداون» بجمجمة إنسان وفك قرد، مما يدل على أن الإنسان تطور من القرد، وأن إنسان «بلتداون» صورة من صور الحلقات المفقودة في عملية التطور، فيقال في الرد عليهم:
إن التجارب الأخيرة على إنسان «بلتداون» أثبتت أنه ليس قديمًا كما تصوروا، بل إن هناك من قام بإحداث عدة تغييرات في هذه الجثة للإيهام بأنها تعود إلى أزمان غائرة جدًّا، وليس هذا فحسب، بل تبين أن الأسنان المغروسة في عظم الفك بردت بمبردة للتمويه وللإيهام بأنها تآكلت على مر الزمن، وكانت علامات البرد ظاهرة لكل عين متفحصة، وأخيرًا أعلنت النتيجة في تشرين الثاني سنة 1953م، وكانت كما يلي:
(إن (إنسان بلتداون) ليس إلاَّ قضية تزوير وخداع، تمت بمهارة ومن قِبل أُناس محترفين، فالجمجمة تعود إلى إنسان معاصر، وأما عظام الفك فهي لقرد «أورنج» بعمر عشر سنوات، والأسنان هي أسنان إنسان غُرست بشكل اصطناعي ورُكبت على عظام الفك. وظهر ذلك، إن العظام عوملت بمحلول ديكرومايت البوتاسيوم لإحداث آثار بقع للتمويه وإعطاء شكل تاريخي قديم لها).
2- وأما الاستدلال بتشابه أجنة الحيوانات:
فذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء نتيجة عدم تقدم الآلات المكبرة التي تبيّن التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنة المتشابهة العالم الألماني (أرنيست هيكل)، فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له: أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
ثم لما تقدمت الآلات المكبّرة في العصر الحاضر بيَّنت هذه الآلات تفاصيل دقيقة بين أجنة الحيوانات، وظهر أنه لا تشابه بين أجنة الحيوانات أبدًا، وأن أجنة الإنسان تختلف عن أجنة القردة من عدة جوانب.
3- أما الاستدلال بوجود الزائدة الدودية على نظرية التطور والنشوء الذاتي:
فيقال: إن وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعًا على تطور الإنسان من القرد، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجِد الذي كان اعتماده على النباتات، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات.
ثم القول بأن الزائدة الدودية ليست لها وظيفة حاليًّا في جسم الإنسان قول غير صحيح، فإنه أثبت الطب حديثًا: أن الزائدة الدودية ذات وظيفة في جسم الإنسان، وهي جهاز لمفاوي مناعي في البطن كغيره من أجهزة المناعة في جسم الإنسان، لذلك تُدعى باسم (لوزات البطن).
كما أن العلم قد يكشف لها حقيقة أخرى لا تزال غائبة عنا حتى اليوم، فالعلم كل يوم إلى ازدياد، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية، فإن الثدي من أمارات الأنوثة، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلاَّ ما يُشبه أمهاتها، فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان، ولم يبقَ فيما هو أدنى منه؟ مع أن داروين يزعم أن الإنسان تطور مما هو أدنى منه.
4- أما الاستدلال بتأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض على إثبات نظرية التطور :
فيقال: إن تأخر ظهور بعض الأنواع الراقية عن أنواع سابقة لها في الوجود لا يقتضي أن السابق أب أو جد لما ظهر بعده، إذ الاحتمال الأقرب للتصور أن يكون مبدع النوع الأول قد أبدع بعده النوع الأرقى، ثم أبدع بعد ذلك الأرقى فالأرقى، ثم أبدع أخيرًا الإنسان.
وهذا ما نلاحظه في سلسلة المبتكرات والمخترعات، فاللاحق كثيرًا ما يكون وليد فكر المبدع ونتاج عمله، بالاستناد إلى ملاحظته للسابق، وليس ثمرة التطوير للسابق نفسه في واقع العمل، بحذف شيء منه وإضافة شيء إليه، فالعملية تكون عملية فكرية، ويأتي التطبيق الواقعي غالبًا بناءً جديدًا.
ومهما يكن من أمر، فالاحتمالان أمران متكافئان إمكانًا، بشرط ربط كل منهما بأنه مظهر لاختيار مدبر خالق حكيم، أمَّا التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، فهو أمر مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا يُنتج الكامل في خطة ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود. وإحالة الأمر على المصادفة إحالة على أمر مستحيل علميًّا ورياضيًّا في عمليات الخلق الكبرى، كما سبق بيانه.
تفنيد شرح داروين لعملية التطور:
أما القول بالانتخاب الطبيعي: بأن هناك ناموسًا أو قانونًا يعمل على إفناء الكائنات الحية فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه فتتراكم الصفات القوية حتى تكوّن حيوانًا جديدًا.
فيقال: حقًّا هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها؛ لأن الله قدَّر الموت على كل حي، إلا أن نظامًا وناموسًا يعمل بمقابلة هذا النظام، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن؛ لأن الله قدّر الحياة فهيأ أسبابها، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية كل هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات، فالنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يُحدث خللاً في التفكير، فإذا كانت هناك سنة للهلاك فهناك سنة للحياة، ولكلٍ دور في الحياة، وإذا كانت الظروف الطبيعية: من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعة، كطمس عين أو تهديم بناء، فإنه من غير المعقول أن تقرر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تُنشئ عينًا، لمن لا يملك عينًا أو تصلح بناء فيه نقص.
ولكن للأسف، إن التطوريين يقولون بمثل هذا القول، فالانتخاب الطبيعي معبود التطوريين المحروم من الشعور، هكذا وبهذه البساطة يعتقد داروين أنه استطاع أن يشرح كيفية تحول عضو من شكل إلى آخر، أما العلم المعاصر فإنه يرفض هذا الشرح وهذا التفسير، بل يعتبره مضحكًا، فكما يصعب على الإنسان الاعتقاد بأن سيارة تسير بالبنزين قد تحولت – نتيجة سلسلة حوادث المرور – إلى سيارة تعمل بالغاز السائل، وأنها في فترة من فترات التحول كانت تسير بالبنزين والغاز معًا من باب الاحتياط!! كذلك يصعب عليه تصديق كل هذه الحكايات حول خروج الأحياء من الماء إلى اليابسة.
إذ لا مبرر هناك للاعتقاد بأن كل هذه المزاعم صحيحة من دون تحقيق وتمحيص، حتى وإن قدّمها البعض تحت لبوس العلم؛ لأن قليلاً من العلم وقليلاً من التفكير، يكفيان لرؤية كيف أن اللوحة التي تقدمها نظرية التطور في حاجة إلى عقل وشعور خارقين.
ويمثل هنا بمثال واحد، فمثلاً قبل كل شيء يحتاج جهاز التنفس لكي يتعرض لمثل هذا التبدل والتحول إلى تعيين هدف أمامه... وهذا الهدف هنا هو (الخروج من الماء إلى اليابسة)، فمن الذي يعطي هذا القرار ويعين هذا الهدف؟ أهو الكائن نفسه؟ أهي جزيئات جسمه؟ أهو الماء؟ أهو الهواء؟
ثم يجب تعيين الخطوات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف، ووضع خطة تحتوي على تفاصيل كثيرة جدًّا تشمل أجهزة الجسم كله، فمن الذي يضع هذه الخطة؟ أهو الكائن الحي؟ أهي ذرات جسمه؟ أم الهواء؟
ثم يجب الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوائق والمشاكل التي قد تظهر أثناء خطوات التقدم نحو الهدف، وأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة تجاهها، وإدراج جميع هذه التدابير في الخطة بشكل مناسب، بحيث لا تتعارض مع الخط العام للخطة. فمن الذي يرى المشاكل والعوائق والصعوبات قبل أوانها، ويفكر بالتدابير اللازمة فيؤمن التنسيق بين الأعضاء؟ أما القول بأن (الأعضاء تقوم من نفسها بتأمين نظام للتعاون والمساعدة فيما بينها) فهو قول لا يُقره أي عقل وأي منطق.
ثم تأتي مرحلة التنفيذ، والتطوريون يرون أنها تحقق نتيجة ملايين الحوادث التي تصيب شفرات الجينات. والغريب أن هذه الحوادث تكون وكأنها مرتبة ضمن خطة معينة!! ثم إن حادثة معينة تأتي لتكمل (التقدم) الذي حققته الحادثة السابقة، ولتدفع خطوة أخرى إلى الأمام، ولتقرب الكائن خطوة أخرى نحو الهدف!! وهكذا يتخلص هذا الكائن من غضبه الانتخاب الطبيعي (الذي يجول في الدنيا في كل ساعة من ليل ونهار دون أن يحس به أحد)!
وأخيرًا بعملية تشبه عملية تحول دراجة أطفال ذات ثلاث عجلات، إلى طائرة فانتوم، إثر تعرضها لسلسلة من الحوادث العشوائية!! تظهر أمامنا المعجزة وتتكامل.
ثم إنه من الغريب جدًّا، أن لا يؤدي عبث الصدفة بشفرات الجينات إلى كوارث، ونحن نفسر عدم فهم داروين ومعاصريه هذا الأمر إلى قلة معلوماتهم، أمَّا الإصرار ممن جاء بعدهم عليه، فلا يفسر إلاَّ بالعناد والتعصب، ذلك؛ لأن مدَّ يد العبث إليها أو تدخل الصدفة، لا تؤدي إلاَّ إلى كارثة.
واليوم يحاول الذكاء الإنساني – وليست الصدفة - أن ينفذ إلى أعماق علوم الجينات بدراسات شاقة، فمن المستحيل قبول الادعاء بأن الصدفة والانتخاب الطبيعي استطاعا القيام بحل كل هذه الألغاز التي استعصى حلها على الذكاء الإنساني بالرغم من جميع الجهود المبذولة في هذا المجال. من المستحيل قَبُول هذا الادعاء وإن بذلت المحاولات لوضع قناع العلم عليه. وبالرغم من مرور قرن على وفاة داروين، فإن التطوريين لم يتعبوا بعد من محاولة جعل هذا المستحيل ممكنًا.
أما شرحه الثاني لقانون التطور بأنه يحصل (التطور) أيضًا بالانتخاب الجنسي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القوية مما سبب اندثارًا لأفراد الضعاف، وبقاء الأقوى:
فيقال: إن ذلك ليس دليلاً على حدوث تطور في النوع، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من نفس النوع، واندثار النوع الضعيف.
ثم إنه ليس بصحيح أن الصفات الحسنة في فرد من الأفراد تنقل بواسطة الوراثة، فمثلاً: هذا الحداد القوي العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته كما أن العالم الغزير العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه.
أما القول الأخير له شرحه لعملية التطور كيف تمت هي: بأنه (كلما تكونت صفة جيدة ورثت في النسل):
فيقال في الجواب عليه: إن القول بحدوث النشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ثم توريثها في النسل فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث، فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة.
وإلى جانب مخالفة علم الوراثة (لنظرية داروين)، فإن التجربة تنقضه؛ فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختِنون أبناءهم، ولكن ذلك كله لم يسبب أن ولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين، وهكذا، فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية داروين.
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد:
1- لو كانت النظرية حقًّا لشاهدنا كثيرًا من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور، لا عن طريق التناسل فقط، وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية كل سنة، أو كل عشر سنوات، أو كل مائة سنة.
2- لو سلمنا جدلاً: أن الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي، قد طورت قردًا إلى رجل – مثلاً – فإنا لن نسلم أبدًا بأن الظروف قد قررت أيضًا أن تكون امرأة لذلك الرجل ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما.
3- إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات – كالحرباء – مثلاً تتلون بحسب المكان هي مقدرة كائنة في تلك المخلوقات تُولد معها، وهي عند بعضها وافرة وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها، فالقدرة على التكيف صفة كامنة، لا صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات.
4- تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة على الطيران والانتقال السريع، وذلك دون آلة، كما أن أنف الكلب أشد حساسية من أنف الإنسان، فهل أنف الكلب أكثر رقيًّا من أنف الإنسان؟ وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب؟ فهذه النظرية يخالفها الواقع المشاهد مخالفة تامة.
النظرية تعجز عن الإجابة المقنعة لكثير من الأسئلة عن الظواهر الموجودة:
إن نظرية التطور تحسب أنها استطاعت تفسير نشوء الكائنات الحية وتكاملها، وكل شيء بـ(الانتخاب الطبيعي)، ولكن الحياة هي أشمل وأعقد من مجرد أجساد الكائنات الحية، فعلاوة على وجود الأجهزة العضوية في أجساد الكائنات، هناك علاقات متداخلة ومتشعبة ومعقدة وحساسية بين هذه الكائنات والكائنات الأخرى من جهة، وبينها وبين بيئتها، وهذا موضوع مهم لا يمكن لأية نظرية تدعي تفسير الحياة أن تُهمل إيضاحها وتفسيرها، غير أننا نرى أن الظلمات تحيط بهذا الموضوع في نظرية التطور، ولا نرى أي بصيص من نور.
فمثلاً: لا تستطيع نظرية التطور تفسير كيف أن البعوضة، ما أن تفتح عيونها على الحياة حتى تحاول الوصول إلى هدفها ورزق أبرتها – كأي ممرضة متمرسة - والقيام بامتصاص الدم؟
كما لا تستطيع هذه النظرية تفسير كيف تستطيع النحلة التجول بين الأزهار، وامتصاص رحيقها لعمل غذاء من أنقى الأغذية، وليس هناك من معلم أو مدرب لها؟ وكيف تستطيع بإشاراتها ورقصاتها الخاصة من التخاطب مع أفراد مجموعتها، ثم القيام بإنشاء خلاياها بدقة هندسية متناهية، لا نشاهد فيها خطأ مليمتر واحد؟
أم هل تستطيع هذه النظرية تفسير كيف أن الطفل، وهو جنين في بطن أمه يتدرب لاكتساب المهارة الوحيدة المطلوبة منه، وهي عملية مصِّ الثدي، وذلك بمصِّ إصبعه؟!
كيف تبني العناكب بيوتها؟ والطيور أوكارها؟ والنمل مساكنها؟ أسئلة لا تستطيع هذه النظرية الإجابة عليها.
ويمكن تعداد أمثلة أكثر وأكثر وكتابة مجلدات من الكتب حول هذا الموضوع، بل يمكن صرف العمر كله في تعداد هذه الأمثلة، أما الاكتفاء بالقول بأن (الغريزة) هي الكلمة السحرية التي تفسر وتوضح هذه المهارات المتعددة والمذهلة والمختلفة، فليس إلا إعلانًا عن جهل الإنسان وعماه.
موقف علماء الطبيعة من هذه النظرية:
لعلماء الطبيعة موقفان وراء هذه الفرضية:
الأول: المؤيدون للنظرية: وتأييدهم كان أكثر انتصار لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه، وتقاومه، وحربًا مضادة يشنها علماء الطبيعة ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين.
فالتأييد إنما هو نتيجة حرب حاقد على الأديان، لا عن علم واقتناع قلبي، فقد اعترف المؤيدون لهذه الفرضية (النظرية) أيضًا بأنها غير ثابتة وغير علمية، وفيما يلي بعض أقوالهم:
1- (إن نظرية النشوء لا زالت حتى الآن دون براهين، وستظل كذلك؛ والسبب الوحيد في أننا نؤمن به هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق).
2- (إن التغيرات الإعجازية التي نفترض أنها قاصرة على القصص الخرافية أمور عادية جدًّا في نظرية النشوء والارتقاء).
3- (إن علماء الحيوان يؤمنون بالنشوء، لا نتيجة للملاحظة، أو الاختبار، أو الاستدلال المنطقي؛ ولكن لأن فكرة الخلق المباشرة بعيدة عن التصور).
4- (إننا بالرغم من إيماننا بالنشوء فإننا لا نعلم كيف حدث).
5- (إن نظرية النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها، حتى ولو أصبحت مجرد عمل من أعمال الاعتقاد).
6- (كلما تعمقنا في دراسة أنتوبيولوجيا كلما اكتشفنا أن نظرية النشوء ترتكز على الاعتقاد).
هكذا يصبح واضحًا، أن هذه النظرية ليس لها أي مستند صحيح، وقد اعترف بتهافتها وعدم ثبوتها علميًّا حتى مؤيدوها، وهو مدين بوجوده فقط لذلك الرفض العنيد للإيمان بوجود الخالق.
الثاني: المعارضون: لقد سبق معنا آراء المؤيدين لهذه النظرية بأنهم ما أيدوها على أنها حقيقة علمية، وإنما على أنها أفضل بدليل للإيمان بالله جلَّ شأنه، فما بال العلماء الغربيين المتنورين بالعلم والحرية لا يُعارضونها؟ لقد عارضها كثير من علماء الغرب الجيولوجيون والطبيعيون بالأدلة والبراهين، والمقام لا يتسع لذكر آرائهم ها هنا.
ولكن ما موقف بعض من تأثر بهذه النظرية من المسلمين؟ لقد تأثر بهذه النظرية كثير ممن يدعي العلم في العصر الحاضر من المسلمين، كما قد قال ببعض هذه النظرية علماء مشهورون من هذه الأمة.
فممن تأثر بهذه النظرية من المعاصرين «موريس بوكاي»، حيث استدل في كتابه (ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة) على صحة هذه النظرية بقوله تعالى: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } .
ويمكن أن يرد على هذا القول بأنه لم يفسر به أحد من المفسرين لا بالمأثور، ولا بالرأي، ولم يقل به أحد من السلف، بل تفسير الآية على حسب ما رُوي عن السلف هو أنَّ المراد بالأطوار: كونه (نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا).
وممن قال ببعض هذه النظرية من العلماء القدامى المشهورين: ابن خُلْدُون، حيث فسَّر قوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}. على أنه من القردة إلى الإنسان، كما يُنسب هذا القول إلى كل من الدميري، والبلخي، والفخر الرازي، والفارابي، وغيرهم.
ويُجاب عن شبهتهم هذه: بأن تفسير هذه الآيات القرآنية لا يكون إلاَّ على ضوء ما فهمه سلفنا الصالح أو على ما يوافق الآيات القرآنية الأُخر أو الأحاديث النبوية، وإذا ما وجدت يمكن أن يُفسّر على مقتضى طبيعة اللغة العربية وعلى فهم مَن أُنزل إليهم، لا إلى الأهواء والمفاهيم السيئة، وإلا سيصبح الدين كله لعبة، كلٌّ يفسر الآيات القرآنية كما يهواه، كما هو حال أهل البدع والزنادقة.
فالآيات المذكورة قد فُسرت على تفسيرين:
الأول: هو الذي عليه أكثر المفسرين؛ منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس- -، ومجاهد وعكرمة والشعبي، والحسن وأبو العالية والضحاك والسدي وابن زيد، واختاره ابن جرير: أن المراد بالآية: (ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقًا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب).
الثاني: ما رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن معنى الآية: (ننقله من حالٍ إلى حالٍ إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا)، وبه قال قتادة، والضحاك في رواية.
فترى أن التفسير الذي ذكروه ليس له أي سلف، فلا يقبل مثل هذه التأويلات الباطنية للآيات القرآنية.
ولما كان هناك من المسلمين مَن تأثر بهذه النظرية – أو الفرضية على الصحيح – واستدل بعض هؤلاء بالآيات القرآنية ، فإننا سوف نُورد حديث القرآن عن أصل الإنسان وخلقه بآيات صريحة وواضحة في الدلالة لا لَبْس فيها ولا غموض، حتى لا يستطيع إنكاره إلاَّ من أعمى الله بصره وجعل على قلبه غشاوة، وأضله عن سواء الصراط. ففيما يلي هذا البيان من القرآن الكريم والسنّة النبوية:
حديث القرآن والسنة عن أصل الإنسان وكيفية خلقه:
إن حديثنا الآن مع الذين يؤمنون بالله ربًّا، فنحن نسألهم هل تؤمنون بأن الله يعلم ما خلق، ومم خلق؟ وسيكون الجواب حتمًا بنعم، وإلا يكونوا قد كفروا بالله، وإذا كانت الإجابة بنعم، فإننا نقول لهم: إن الذي خلق الخلق لا شك هو أعلم بالمخلوق، قال تعالى: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }.
فإذا كان هو أعلم بالخلق وكيفية خلقه، فقد حكى بنفسه في القرآن وبيَّنه الرسول في السنّة قصة خلق الإنسان ببيان ظاهر وواضح.
فالله يخبرنا أنه خلق الإنسان خلقًا مستقلاً مكتملاً، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }.
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها، فقد خلقه من ماء وتراب (طين)، قال تعالى: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } .
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبيَّن ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب».
والماء عنصر في خلق الإنسان، حيث قال: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} ، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ}، فهو إذن من ماء وتراب.
وقد شكّله الله بيديه، حيث قال: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، ثم هذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار { خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }.
وقد خلقه مجوفًا منذ البداية، ففي الحديث عن أنس بن مالك قال: «لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به وينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك».
هذا الطين نَفَخَ اللهُ فيه من روحه فدبت فيه الحياة، فأصبح سميعًا بصيرًا عاقلاً واعيًا، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح وتدب فيه الحياة: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
وأخبرنا بالمكان الذي خلق فيه وهو الجنة: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، وبمجرد أن تمَّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يُقال له، ففي القرآن: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } .
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة – إلى ملأ منهم جلوس – فقل: السلام عليكم. قالوا: عليك السلام ورحمة الله..».
هذا هو الإنسان الأول؛ هو آدم عليه السلام، وهو أبو الناس كافة، بل إن المرأة خُلقت منه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }.
ولم يكن خلق الإنسان ناقصًا ثم اكتمل، كما يقول أصحاب نظرية التطور، بل كان كاملاً ثم أخذ يتناقص الخلق، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خلق الله آدم عليه السلام، وطوله ستون ذراعًا).
ولذلك، فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم.
هذه لمحة مما حكاه القرآن وبيَّنه عن خلق الإنسان الأول، لم أستقص النصوص من الكتاب والسنة في ذلك، وإلاّ فالقول في ذلك واسع طويل. وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها أي غموض، وهذا الذي بيَّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالنسبة إليه، أما ذلك الإنسان الذي يُصوره «داروين» – ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور – فإنه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 757-778) .
المصدر
د/عبدالرحمن السحيم
إعداد موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/
تنسيق موقع صيد الفوائد
تعليق