بسم الله الرحمن الرحيم
( كيرلس الأول وبدائه العقل وضروراته )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
في المقال السابق ذكرنا أن إيمان كيرلس الذي نعته بالقويم مخاصم للعقل إذ بناه على معاندة بدائه العقل ونقض ضروراته ، وقلنا أنه أقرب شيء إلى الهلوسة التي لا يمكن أن تمر عبر عقل متماسك .
ولم يكن هذا من باب إرسال الكلام بغير ضبط ولا تقييد كالذي يقال على سبيل الشتم أو الثأر من أهل التعدي ، أو تعييرهم بما يستحي منه العقلاء .
وإنما كان كلاماً موزوناً محرراً ، وبيان هذا يستدعي إلى شيء من التأمل في حقيقة العقل ونظامه في التعقل .
(مكنة التمييز)
لقد سلم العلم الحديث بأنه لا علاقة بين كيميا الدماغ وبين العقل ، ولا بينه وبين المجموعة العصبية التي تنقل المعلومات إلى الدماغ ، وإنما هو مركز غير منظور لتمييز وإدراك وتقييم هذه المعلومات .
إذن فالعقل نعمة إلهية ركبها الله في الإنسان وميزه بها على سائر البهائم ليعرف ربه عز وجل .
ولقد اعتنى علماء الإسلام في صدره الأول بحقيقة العقل ووظائفه وطرق التعقل ، وأكثرهم على أنه غريزة يدرك بها الإنسان المعارف ، وعلى هذا فهو مكنة وإمكان ، ومن أشهر من قال بهذا الرأي وكتب فيه الحارث المحاسبي في كتابه " مائية العقل " ، يعني ماهية العقل .
وفي مقابلة هذا القول قول آخر بأن العقل مجموعة من المعارف الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، كالعلم بأن الواحد أقل من الاثنين ، والعلم بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين مختلفين في وقت واحد ، ومن أشهر من قال بهذا الرأي أبو بكر الباقلاني(1) ، وهو رأي قديم قد ذكره الحارث في كتابه ، ورد على قائليه بأن المعارف إنما تكون عن الغريزة .
قال الحارث : " وقد زعم قوم أن العقل معرفة نظمها الله ووضعها في عباده يزيد ويتسع بالعلم المكتسب الدال على المنافع والمضار والذي عندنا أنه غريزة والمعرفة عنه تكون .....
قال الحارث : " فمنه ـ يعني العقل ـ فعل عن طبع يوجبه كالضرة ـ يعني الضرورة ـ كمعرفة الرجل نفسه ، وأباه ، وأمه ، والسماء ، والأرض ، وجميع هذه الأشياء التي تشاهد " (2)اهـ.
إذن فعلى كلا القولين بل وباتفاق العقلاء هناك معارف ضرورية قد ركب الله في بني آدم طرق العلم بها ومكنة التمييز بينها ، وهذه المعارف وذاك التمييز هو أصل التعقل وقاعدة العقل التي ينطلق منها إلى ضبط سائر علومه ، فإذا اختلت القاعدة انهار سائر البناء ، بل إن بعض صور هذا التمييز هي الفرق بين العاقل والمجنون ؛ يقول الحارث : " فمن عرف ما ينفعه مما يضره في أمر دنياه ، عرف أن الله قد مَنَ عليه بالعقل الذي سلب أهلَ الجنون والتيه ، وسلب أكثر الحمقى الذين قلت عقولهم " (3)اهـ.
وقال : " وربما تعرض لما يضره في العواقب وذلك نافع له في العاجل ضار له في الآخرة فيسمى عاقلاً يعنون أن له غريزة التي هي ضد الحمق والجنون " (4)اهـ.
والمناسبة بين مكنة التمييز وبين معنى العقل في اللغة لائحة ظاهرة ، فأصل العقل مصدر من عَقَلت البعير بالعقال أَعْقِله عقلاً ، ويشبه هذا تمييز الأشياء في تقييدها وحجزها من أن يختلط بعضها ببعض .
وهذه المعارف الضرورية هي ما يعرف ببدائه العقول ، وبدائه جمع بديهة ، وهي أول ما يُفاجأُ به ، والبُداهة هي أول شيء يُفجأُ منه ، ومعنى ذلك أن بدائه العقل لا تحتاج إلى نظر أو تأمل وإنما هي من العلم الهجمي الذي يهجم على النفس ويفجأُها .
فالحاصل أن هذه المعارف الضرورية هي أصل التعقل وقاعدة العقل التي ينطلق منها إلى سائر علومه .
قال تعالى : (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )) [سورة البقرة : 164]
فأقام الله عز وجل بهذه الشواهد المحسوسة وما فيها من إتقان الصنعة الحجة على عباده فيما دعاهم إليه من توحيده في الآية السابقة بقوله تعالى : (( وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )) .
ولولا أن في العقل مكنة يمييز بها الإنسان بين السماء ، والأرض ، والليل ، والنهار ، والبحر ، والفلك ، والمطر ، والنبات ، والسحاب ، وانتظام الأشياء من فسادها . لولا ذلك لما كان في قول الله عز وجل حجة عليهم ؛ فهذه المعارف المختلفة والتمييز بينها هي القاعدة التي قامت عليها ساق الحجة .
إذن فالعقل يستند إلى مكنة التمييز بين معارفه الضرورية في طلبه لسائر العلوم وهذا يدلنا على الطريق الثاني من طرق التعقل .
(التعقل الاستدلالي)
وهو حركة العقل في المحسوسات بالتأمل وترتيب النتائج على المقدمات ، وهي مكنة ركبها الله في عباده ، وإذا عدنا إلى الآية السابقة رأينا هذه المكنة لائحة ظاهرة ، فلولا أن في العقل نور يربط به بين وجود هذه المحسوسات " الأرض ، والسماء ، ..." وبين موجدها ، ويربط بين إتقان صنعتها وبين علم الموجد وقدرته وحكمته ، ويربط بين ما فيها من المنفعة وحسن الانتظام ، وعدم الفساد ، وبين تفرد هذا الموجد بالخلق والتدبير ؛ لولا ذلك لما كان في الآية حجة وبرهان على ما دعاهم إليه من توحيده .
والعلم الحاصل عن هذا النوع من التعقل يسمى علماً نظرياً ، وإنما سمي بذلك وإن أنتج علماً قطعياً يقينياً كما في الآية سالفة الذكر ؛ لأنه ـ العلم النظري ـ موقوف على التأمل والنظر وليس علماً هجمياً يهجم على النفس بغير تأمل كالنوع الأول من المعارف التي هي بدائه العقول التي هي قاعدة العلوم ؛ فإن العلم ـ كما قال الغزالي ـ إما هجمي إما مستند إلى علم هجمي (5).
وهذا الاستدلال النظري هو الفهم ، فالعقل الفهم ، قال الحارث : " والعرب إنما سمت الفهم عقلاً لأن ما فهمته فقد قيدته بعقلك وضبطه كما البعير قد عُقل أي أنك قيدت ساقه إلى فخذيه "(6) اهـ.
والناس متفاوتون في الفهم ، ولكنهم متساوون في القدر الذي يلزم منه إقامة الحجة عليهم بوحدانية الله عز وجل ؛ فلا تجد عاقلاً يعرف ما ينفعه مما يضره في عاجل دنياه إلا وقد ركب الله فيه ما يمكنه أن يتأمل في دلائل وحدانية الله عز وجل ، وأن يهتدي إليه تعالى لو كان عنده عقل البصيرة ، وهذا يدلنا على الطريق الثالث من طرق التعقل .
(التبصر)
وهذا متعلق بالنظر في العواقب ، وإيثار ما ينفع في الآجل على شهوات النفس ومتعلقاتها العاجلة ، فبعد التمييز بين المعارف والاستدلال بها يأتي التعقل بمعنى التبصر ، ومنه قوله تعالى : (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ )) [سورة الملك : 10] .
فهؤلاء قد سمعوا البيان ولم يكن بهم آفة تمنعهم من عقله ، بمعنى فهمه ، ولكنهم لم يعقلوا عن الله بمعنى التبصر بإرادة ما يحب ويرضى ، وإيثار طاعته ، ومدافعة الكبر والبطر والإعجاب بالرأي ، وتقليد الآباء والأجداد .
إذن فالعقل هو النور الذي ركبه الله في بني آدم ، وهذا العقل له نظام وقانون في التعقل مفرداته : التمييز ، والاستدلال ، والتبصر ، وقاعدته هي المعارف الضرورية التي تعرف ببدائه العقل ، التي تهجم على النفس بغير تأمل .
وبهذا العقل لا بغيره وبطرقه في التعقل عن الله عز وجل سواء بالنظر في دلائل الكون أو فيما بعث به رسله ، أمر الله عز وجل عباده أن يعرفوه .
( نظام العقل ودلائل القرآن )
خلق الله الكون وكل ما فيه يدل على وحدانية الله عز وجل ، وهذه الدلالة هي نور الكون لولاها لما كان للكون قيمة ، وخلق الله الإنسان وركب فيه مكنة النظر في هذه الدلائل ، فهذا نور العقل ، فانسجم نور العقل مع نور الكون في الدلالة على الواحد القهار .
وأنزل الله القرآن الكريم بحججه القاطعة في النظر والاستدلال على وحدانية الله عز وجل ، فهذا نور القرآن ، ولم يكن في قانون العقل ونظامه في تلقي العلوم ما يتعارض مع بيان القرآن وبناء دلائله ، بل كان العقل منسجماً متوافقاً معه ؛ فاتفق نور العقل ونور القرآن في الدلالة على الواحد القهار ، فسلم العقل للقرآن بأنه من عند الله عز وجل ، وعنه تلقى ما خفي عليه من العلم بالله عز وجل وعلم ما كان وما سيكون ، وفي عرض كل ذلك كان القرآن هادياً ومعلماً يفتح أمام نظام العقل في تلقي العلوم آفاقاً رحبة ، فكان في العقل نور يشهد للقرآن ، وفي القرآن نور يفيض على العقل ، فانظر على سبيل المثال كيف رتب القرآن حجة الله على عباده بقدرته تعالى على البعث في هذه الآيات .
قال تعالى : (( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلّ ِ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) )) [سورة الرعد : 1-5]
وقد يتصور البعض أن دعوة غير المسلمين ينبغي أن تكون بغير القرآن لأنهم لا يؤمنون به ، وهذا غير دقيق ، فإن في بيان القرآن انسجام تام مع قانون العقل ونظامه في تلقي العلوم .
والحق أن قارئ القرآن المؤمن به قد سَلِم عقله من المتابعة المذمومة للآباء والأجداد ، إذ القرآن يحركه وينبهه بصورة دائمة إلى النظر والتأمل ، فانظر على سبيل المثال قوة التنبيه في هذه الآيات مع قصرها.
قال تعالى : (( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ )) [سورة الطارق : 5-14] .
وقال تعالى : (( أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ )) [سورة الغاشية : 17-20] .
والقرآن أيضاً يعلمنا ويدعونا إلى التبصر في العواقب وهي قضية كبرى في مسألة الإيمان ، فانظر على سبيل المثال إلى قوله تعالى : (( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ )) [سورة النمل : 69] .
ومن ذلك قوله تعالى : (( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )) [سورة الروم : 9]
سمعت القمص عبد المسيح بسيط المعني بما يسمى باللاهوت الدفاعي وهو يعرف بنفسه ووظيفته يقول : " إن كل إنسان ينبغي عليه أن يدافع عن دينه ، فوقع في خاطري أن الرجل يعتذر عن دفاعه عن المستحيلات التي يدين بها " .
وسمعت رجل الأعمال القبطي ساويرس وهو يقول لعامة المسلمين : محدش اختار دينه ، ولا أدري هل هذا اعتذار عن نفسه أو عنا ، فإن كان عن نفسه فاعتقاد ما يحيله العقل ليس له عذر ، وإن كان عنا فلسنا ولله الحمد بحاجة إلى الاعتذار ، فالقرآن في كل آية من آياته علمنا كيف نختار ، واعتقنا من رق التقليد المذموم .
( مستحيلات كيرلس )
والآن تعال إلى كيرلس ، وإيمانه القويم ، الذي صدم به العقل صداماً مباشراً ففجعه في قاعدة معارفه الضرورية وخلطها عليه ، فهب أننا تنازلنا لكيرلس في ألفاظه الشركية بأن الله يقال له الآب .
فعلى البداهة أنه إذا كان الابن من الآب ، وكان غيره ، ولم يكن جزئه أنهما اثنان وليس واحداً هو الآب نفسه .
وقوله هذا من جنس القول بأن الفوق تحت والتحت فوق ، والسماء هي الأرض والأرض هي السماء إلى غير ذلك من الهذر الذي لا يصح معه في العقول شيء .
إنه أشد معاندة للبداهة من معاندة رجل إذا قيل له هات أباك أخرج لك ابنه ، وكلما قيل له دلنا على ابنك أخرج أباه ، فهذا وإن كان يخلط فإنه مقر بأن هناك اثنين .
ومن العلم الهجمي أن المرأة لا تلد خالقها .
ومن العلم الهجمي أن النجاسة غير القداسة ، فالطفل الذي يخرج محاطاً بالدم ليس هو ذو الجلال والإكرام .
ومن العلم الهجمي أن الطفل الذي يلف في القُمط ، ويبول ويتغوط ويحتاج إلى من ينظفه، وإلى من يطعمه اللبن ليحيا ليس هو سيد الخليقة وباريها .
ومن العلم الهجمي أن الميت لا يتصرف في حزمة بقل فضلاً عن تدبير كوناً بأكمله .
فعلى وجه الضرورة أن القدرة على كل شيء والعجر عن أي شيء لا يجتمعان في ذات واحدة في وقت واحد .
ومن العلم الضروري أن التوالد بين الذوات التي تُرى ليس كالتوالد بين المعاني كولادة الفكر من العقل .
ومن العلم الضروري أن التوالد بين الذوات لابد فيه من صاحبة ، فالصاحبة شرط عقلي فيه لا يتخلف ، ومنه قوله تعالى : (( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) [سورة الأنعام : 101]
إلى غير ذلك من مستحيلات كثيرة فجع بها كيرلس العقل في معارفه الضرورية ، تلك المستحيلات التي لا ترقى بحال إلى وصف " الشيء " حتى تقع عليها قدرة ، وإنما هي من الخيال الفاسد " هلوسة " التي ركب الله في عقول بني آدم بطلانها وامتناعها ، وأنها من تخييل الشيطان وتلاعبه ببني آدم .
وهذا كما قلنا ليست من جنس ما أخبرت به الرسل من صفة الملائكة والجنة والنار وغير ذلك مما يحار العقل فيه ، إذ ليس في هذه الأخبار ما يعلم العقل امتناعه ، بل وفي العقل دليل جملي على إمكانه ، وهو قدرته تعالى على كل شيء ، وفرق بين ما لا يقدر العقل على الإحاطة به مع إمكان وجوده ، وبين ما يعلم العقل بطلانه وامتناع وجوده .
ولاشك أن كيرلس ضرب بمستحيلاته هذه حجاباً كثيفاً من الظلمات بين العقل وبين الباري عز وجل ، قال تعالى : (( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِه ِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )) [سورة النور: 40]
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى 2/328 .
(2) مائية العقل ص 206.
(3) المصدر السابق ص 202.
(4) المصدر السابق ص 203.
(5) المنخول (1/120) .
(6) مائية العقل (ص209) .
تعليق