بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
لقد كان تحول الامبراطورية الرومانية إلى مسيحية ما بعد المسيح أو مسيحية بولس بداية انحطاط ومقدمة منطقية لعصر الظلام الذي خيم على أوربا فيما بعد .
يقول وليم هارت في كتابه الخالدون المائلة (ص24) " ومن المؤكد أن تحول الامبراطورية الرومانية إلى المسيحية قد صاحبه في نفس الوقت انحطاط رهيب المستوى في التكنولوجيا والاهتمام بالعلم " اهـ.
لقد أسس بولس نظرية جديدة في تغييب العقل البشري وكسر قاعدة معارفه عبر ثلاثة محاور :
· تحقير عقل المتلقي .
· إرهاب المتلقي من عاقبة استعماله لعقله .
· استئثار رجل الدين بالحقيقة كاملة وتفسيرها .
انظر كلامي عن المؤسس الأول في مقالي (( المسيحية الحديثة شركة مساهمة مفتوحة )) .
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?p=324147
وعلى هذه النظرية في تغييب العقول قام سلطان الكنيسة على الفرد والمجتمع والدولة ، وهذا أصل صيحة ماركس فيما بعد " الدين أفيون الشعوب " .
ولقد تجلى الانحطاط السياسي بأوضح ما يكون في مفهوم الكنيسة للدولة الدينية وهو ما يعرف بنظرية " الحق الإلهي " والتي كانت تتطور بحسب قوة الكنيسة ومدى سيطرتها على الحاكم ، ففي مرحة جعلت الحاكم إنساناً مقدساً اختير من الله ليمثله على الأرض وينوب عنه ويقضي باسمه ، لذلك فالملك لا يخطئ (( the king can not wrong )) .
وفي مرحلة أخرى أشد سواداً عظمت فيها شوكة الكنيسة وسيطرتها على الملوك والأمراء ، فكانوا تابعين لسلطة البابا الذي يُحل ويُحرم، ويُدخل الجنة من شاء ويطرد عنها من شاء ، ويولي من شاء ويعزل من شاء ، وذلك كله باعتباره نائب الله في الأرض، والمعصوم الذي لا يجوز الاعتراض على حكمه .
إن هذه مسلمات في تاريخ الدولة الدينية المسيحية لا جدال فيها ، ومن هذه المسلمات ينطلق كثير من أهل الغفلة ، وكثير من الخبثاء في نقد الدولة الإسلامية باعتبارها دولة دينية هي الأخرى ، متجاهلين الفرق العظيم في مفهوم الدولة بين الإسلام والكنيسة .
إن نظرة أولية إلى خطبة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في أول عهده بخلافة المسلمين تدلنا على هذا الفرق العظيم .
يقول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : (( أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني .
الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله .
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء .
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله )) .
أخرجها ابن كثير في البداية والنهاية (6/305-306) وقال : إسناده صحيح .
إن أول ما نلحظ في خطبة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ما يلي :
أولاً : إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ في موقف جد خطير ؛ فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي ، ويلزمه الآن البيان عن الصورة التي ستتحول بها دولة الإسلام من دولة النبوة التي يحرسها الوحي الإلهي المباشر ، إلى دولة تنفصل فيها العصمة عن حكم الحاكم ورأيه .
ثانياً : إن إقرار الجميع بالحكم والتحاكم للكتاب والسنة لا يغني عن البيان عن طرق في التطبيق ومسالك التفسير .
ثالثاً : إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ قد اختار لهذا البيان مبدأ التعاقد بين الأمة والحاكم ، فوقف يتعاقد مع الأمة فيشرط لنفسه ويشترط عليها .
(( إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ))
(( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم )) .
(( الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه )) .
رابعاً : إن العقد يحمل معنى تقابل الإرادات ، وهي لا تتقابل على مجهول ، والجميع في محل التعاقد ـ الكتاب والسنة ـ سادة الفقهاء .
خامساً : أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يسقط عصمة الحاكم فقط ، بل أقر بأن الولاية لا تجعله أولى بفهم محل التعاقد من سائر أهل النظر، ( لقد وليت عليكم ولست بخيركم ) فقد يصيب وقد يخطئ ، فلابد من المراقبة والتقويم ( وإن أسأت فقوموني ) .
إذن فقد وقف أبو بكر وأصحابه ليقرروا أن النظر في أمر الأمة قسمة بين أمانة الحكم ويقظة الرعية ، فتأمل الفرق بين هذا وبين الوثنية السياسية للكنيسة في تنزيل رأي الحاكم وطبيعة حكمه منزلة النص الإلهي في العصمة ؛ ولهذا فلا سبيل إلى مجرد التشكك به ؛ لأنه نوع من الإرادة الإلهية ، تعرف أي ظلم في المقارنة بين دولة الإسلام ودولة الكنيسة بدعوى أن كلاهما دولة دينية .
والحق أن الإسلام لم يعرف هذا النوع من العصمة في سائر عهوده ، بل لما ابتدع بعض الأمويين أقل من ذلك بكثير جداً ، فزعموا أن الله عز وجل يقبل من الحاكم الحسنات ويتجاوز عن السيئات ـ تأمل فقط يتجاوز ولا يصحح كقول النصارى ـ لما ابتدعوا هذه البدعة المنكرة تصدى لها علماء الإسلام فزيفوها في الحال .
وفي تهذيب الرياسة وترتيب السياسة (ص293) أن محمد بن شهاب الزهري دخل على الخليفة الوليد بن عبد الملك ، فقال له : يا محمد ما حديث حدثنا به أهل الشام ؟
قال : وما الحديث ؟
قال حدثونا أن الله إذا استرعى عبداً رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات ؟
قال : كذبت والله يا أمير المؤمنين !.
قال : وكيف ذلك ؟
قال : آتيك بحديث من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قال الله عز وجل : (( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِع ِالْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )) [سورة ص :26] فهذا وعيد الله لنبي وهو خليفة فكيف وعيده لخليفة غير نبي ؟
قال : صدقت ، ثم نزل عن سريره ووضع خده في التراب ، وقال : يغرونا عن ديننا ثم أغرى جلسائه بابن شهاب ، فقال : عن مثل هذا يؤخذ الدين " اهـ.
كتبه
مجد الدين بن أحمد الآبار
تعليق