الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته

تقليص

عن الكاتب

تقليص

سيف الكلمة مسلم اكتشف المزيد حول سيف الكلمة
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته

    الفكر والفلسفات المعاصرة

    الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته

    للدكتور عبد المنعم محمد حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين


    الموضوع طويل، لذا سأحاول أن أنقله هنا على 3 دفعات



    مقدمة

    الاستشراق حركة ظهرت في العصر الحديث، وتبدو هذه الحركة علمية في ظاهرها؛ فهي تحاول دراسة التراث الشرقي، ولكنها في الحقيقة تبغي من وراء هذه الدراسة التعرّف على منابع تراثنا الشرقي، ثم تحاول صرف أهله عنه، وليجرفهم تيار الحضارة الغربية الضالّة المضلّلة.

    والمستشرقون جماعة من علماء الغرب - من مسيحيين ويهود وملحدين - درسوا اللغات الشرقية من عربية وفارسية وعبرية وسريانية وغيرها، وتوفر كثير منهم على دراسة اللغة العربية والإطلاع الواسع على علومها ومعارفها؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة للقاء كثير من المفتريات والأباطيل في محيط الإسلام للتهوين من شأن الدعوة الإسلامية والتقليل من أثرها في الحياة، وفي الارتفاع بالمستوى الإنساني، وبدورها في إنقاذ الإنسانية وتحريرها من العبودية، وإخراجها من الظلمات إلى النور.

    كما أن هذه المفتريات والأباطيل تحاول التقليل من شأن الثقافة الإسلامية، ودورها في نشر العلوم والمعارف، وفي نقل أوربا من العصور الوسطى - عصور الجهل والظلام - إلى مشارف العصر الحديث، وما ظهر فيه من علوم ومعارف يفخر بها العالم الغربي.

    ويواصل الاستشراق بذل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ لأن المستشرقين لم يستطيعوا التخلّص من نزعاتهم الموروثة وأهوائهم المعادية للإسلام، بحيث لم يعد خافيا ما يبذله المستشرقون من جهود في محاربة الإسلام بالتشكيك في مصادره وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الغرّاء، ومحاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضلّلة، ومحاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، ومساندة الدعوات المضلّلة التي قامت تحت راية الإسلام، واستغلال وسائل الإعلام في إفساد المسلمين بإبعادهم عن دينهم، والحرص على تضليل أبناء المسلمين الذين يتتلمذون عليهم.

    فينبغي أن نبين خطر الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويجب أن نكشف الأسلحة التي يستعملها في حربه السافرة والخفية، والوسائل التي نتقي بها شره، ونردّ بها كيد أعداء الإسلام في نحورهم.

    وهذا ما سأحاوله في هذا البحث وبالله التوفيق.


    أولا: نشأة الاستشراق

    يخطئ من يقول إن الاستشراق حركة علمية، لا هدف لها إلا دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه؛ لأن الاستشراق في الحقيقة والواقع خادم للاستعمار وأهدافه، وهو يتخذ من دراسة التراث الشرقي وسيلة لمحاربة الإسلام، والتشكيك في مصادره ليصرف المسلمين عن دينهم، فلا تتحقق لهم قوة ولا عزة، بل يظلون تابعين للغرب، مقلّدين كل ما في بلاده من ألوان الفساد والانحلال.

    إن الاستشراق في الحقيقة امتداد للحروب الصليبية ضدّ الإسلام وحقائقه الناصعة؛ لأن الحروب الصليبية لم تنته، وإنما اتخذت أشكالا وألوانا مختلفة، منها الاستشراق؛ فالمستشرق يجيء إلى الإسلام لابسا العلم الظاهر، ومدّعيا البحث عن الحقيقة، ولكنه في الباطن قد عقد النية على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام؛ فلا يلبث أن يرمي الإسلام بكل ما يحمل صدره من غل، وينفث قلمه من سم؛ فهو يتنكر لمنهج العلم الصحيح الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، وأن يترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة حقده، ونفثات عداوته، ودون أن يحاول تشويه هذه الحقائق بصورة من الصور.

    والمتتبع لحركة الاستشراق يجد أنه مواكب لحركة الاستعمار الغربي لبلاد الشرق والإسلام، مما يدل على أنه امتداد للحروب الصليبية، وشكل من إشكالها، وقد نشطت حركة الاستشراق وبلغت أشدها منذ قرنين من الزمان في صورة حركة تابعة لحركة الاستعمار.

    والاستشراق مصدر الفعل (استشرق) أي: اتجه إلى الشرق ولبس زى أهله، وقد اتخذ المستشرقون من دراسة لغات الشرق وسيلة للاتجاه إليه، فدرس كل منهم لغة أو أكثر من لغات الشرق كالعربية والفارسية والعبرية والسريانية وغيرها، ثم درس بهذه اللغة علوم تلك اللغة وفنونها وآدابها ومعتقدات أهلها، وكانت اللغة العربية المطلب المقصود عند الكثير من المستشرقين.

    قد أقبل المستشرقون على دراسة اللغة العربية والتخصص في علومها من نحو وصرف وأدب وبلاغة؛ ليتمكنوا من اللغة، ثم نظروا بعد ذلك في علوم الدين الإسلامي من عقيدة وشريعة؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة لتلفيق الأباطيل للتشكيك في حقائق الإسلام، وصرْف المسلمين عن دينهم الذي يهديهم إلى طريق التقدم والعزة؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار في مواصلة احتلال بلاد المسلمين.

    وأوضح دليل على صلة الاستشراق بالاستعمار أن سوق الاستشراق رائجة في أوربا وأمريكا في الدول التي لها مصالح في الدول الشرقية بعامة وفي الدول الإسلامية بخاصة، وأن هذه السوق أكثر رواجا في الدول الاستعمارية التي تحاول غزو الدول الشرقية بأية صورة من صور الغزو والمعروفة في العصر الحديث؛ سواء أكان الغزو عسكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم ثقافيا، بل لا تكاد توجد سفارة من سفارات هذه الدول الاستعمارية في دولة من دول الشرق الإسلامية لا يوجد فيها مستشرق أيّا كانت رتبته بين رجال السفارة والعاملين بها.

    إن ارتباط الاستشراق بالاستعمار وتبعته له جعلت الاستشراق يواصل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويستعمل كل الأسلحة في حربه؛ لأن هذا الدين الحنيف هو السدّ المنيع الذي يقف في وجه الاستعمار والعبودية لغير الله.

    إن المستشرقين يعلمون من دراستهم للإسلام أن العقيدة التي جاء بها ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة، بحيث لا يمكن لعقول المفكرين والفلاسفة أن ينقضوا أصلا واحدا من أصولها إذا التزموا منهج العلم الصحيح، ولذلك يحاول الاستشراق منذ نشأته التشويش على دعوة الإسلام بتلفيق الأباطيل، واتخاذ البحث العلمي ستارا يلفقون من ورائه هذه الأباطيل.

    وقد صار الاستشراق مظلة لكل أعداء الإسلام من المستعمرين والملحدين وغيرهم؛ فأصبح يستظل بها أصحاب العقائد الفاسدة الباطلة من الشيوعيين وأنصار المذاهب الإلحادية الانحلالية في العصر الحديث، فقد جمع هؤلاء بغضهم للإسلام؛ لأن أساسه التوحيد، وهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، ترتكز كلها عليه وتستند في وجودها إليه، وتبتدئ منه وتنتهي إليه؛ فكل رسول افتتح دعوته لقومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

    والدين فطرة غرزها الله في البشر، وقد كانوا أوّل الأمر متفقين على التوحيد قبل أن تزيّن لهم الشياطين عبادة الطواغيت واتخاذ الأصنام.

    والعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة بعيدة عن إغراق الوهم، وجموح الخيال، وتحكم الأهواء، وهذا ما يسعى إليه العقل في تفكيره الدائب للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها.

    من هنا كان الاستشراق هو المطية التي يركبها أعداء الإسلام لعلهم يستطيعون بهذه الوسيلة التشويش على دعوته التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

    وقد بذل الاستشراق منذ نشأته جهودا عديدة متواصلة في محاربة الإسلام، واصطنع وسائل متنوعة في حربه، واستفاد من تقصير المسلمين - أحيانا - في الدفاع عن دينهم، وانخداع بعضهم - أحيانا أخرى - بكلام بعض المستشرقين الذين يضعون السمّ في العسل.

    وسأعرض فيما يلي جهود الاستشراق المختلفة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، وأبيّن أهدافه من وراء هذه العداوة الشديدة، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.


    ثانيا: جهود الاستشراق في محاربة الإسلام بسلاح العلم

    ينبغي على المهتمين بتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة أن يكونوا على دراية تامة بالجهود التي يبذلها المستشرقون في محاربة الإسلام؛ لأنهم - في الحقيقة - ألدّ أعداء الإسلام.

    والمستشرقون يتخذون العلم وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية ويتسترون وراء البحث العلمي، وهم يلفّقون الأباطيل، ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية، ويحاولون تضليل شباب المسلمين الذين يتتلمذون عليهم، وإقناعهم بآرائهم الفاسدة الخبيثة؛ ليشركوهم معهم في الإساءة إلى الإسلام دون وعي.

    إن ما يكتبه المستشرقون عن رسالة الإسلام ورسول الإسلام يفضح الحقد الدفين الكامن في قلوبهم، ويكفي أن نذكر - على سبيل المثال - ما كتبه واحد منهم هو (جولد تسيهر)؛ لينكشف دورهم في الطعن على الإسلام، والتشويش على دعوته متخذين العلم وسيلة لما يهدفون إليه، يقول المستشرق المذكور: "فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني قومه"[1].

    وهذا قول آثم، ردّد به هذا المستشرق الحاقد زعما زعمه المشركون منذ أربعة عشر قرنا، وردّ الله تعالى عليه في حينه؛ فما إن قال المشركون هذا القول حتى فضحهم الله به، يقول الله تعالى على لسان المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، ويردّ جل جلاله عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً}، ثم يقول سبحانه على لسانهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأََوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، ثم يردّ جل وعلا عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}.

    ثم تحداهم سبحانه وتعالى بأن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا ولم يرفع أحد رأسه، يقول جلّ جلاله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.

    إن جولد تسيهر وأمثاله من المستشرقين أعداء الإسلام يردّدون ما كان يردّده مشركو قريش من قبل في موقف العناد والكبر، غير أن مشركي قريش عدلوا عن عنادهم ودخلوا في دين الله وجاهدوا في سبيل الله، وكان منهم سيوف الله على رقاب أعداء الله، أما المستشرقون فمصرّون على محاربة الإسلام والتشويش على دعوته بالتشكيك في القرآن الكريم والإيهام بأنه من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول كان يتجاوز بعض الوحي القرآني، وينسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه إليه [2].

    والحقد واضح في مقولة هذا المستشرق، بل لقد ذهب الحقد بعقله؛ إذ كيف يستسيغ عقل سليم أن يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رسول ثم يقول إن هذا الرسول بدّل رسالة ربه بأمر من ربه لظروف اضطرته إلى ذلك! هل يعقل هذا؟!.. فأي رسول يحمل رسالة الله ثم يكذب على الله ثم يظلّ رسولا بعد ذلك؟! أليس ما يقوله ذلك المستشرق اللعين هو الحقد الذي يذهب العقول ويقلب حقائق الأشياء؟!

    ألم يقرأ هذا الحاقد قول الله تعالى - ردّا على مفتريات المشركين بأن محمدا يفتري على الله الكذب -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[3]؟!

    إن عداوة المستشرقين للإسلام قد بدت من أفواههم، ومن كتاباتهم المسمومة، وما تخفي صدورهم أكبر؛ فينبغي أن نقف منهم موقف الحذر دائما، وأن نكشف زيفهم وبخاصة الذين يصطنعون الحكمة والتعقّل، ويتظاهرون بالإعجاب برسالة الإسلام ليدخلوا على العقول دخول اللص في غيبة الحارس!! ويدسّوا السمّ في العسل؛ فلتكن عقولنا حاضرة ونحن نسمع أو نقرأ لهؤلاء المستشرقين ما يكتبون عن الإسلام ولو كان حقا وصدقا؛ فقد تندس كلمة هنا وكلمة هناك فتقع موقعا قاتلا لمن لا ينتبه إليها، ولا يأخذ حذره منها؛ فما أكثر الذين خدعوا من المثقفين من المسلمين بهؤلاء المستشرقين، وأخذوا مقولاتهم على أنها أحكام قاطعة لا تقبل نقاشا؛ فاشتركوا مع المستشرقين في محاربة الإسلام والتشويش على دعوتهم، وضلّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والعياذ بالله!.

    إن المستشرقين بعامة قد حاولوا دراسة الإسلام بنية منعقدة على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام، وهم يتزيّون بزي العلم والبحث عن الحقيقة، غير أن العصبية تغلبهم عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد؛ فيكابرون ويلجون في الضلال، ويرمون الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وحتى من يقول منهم في الإسلام كلمة حق - ليبعد عن نفسه تهمة التعصب، ويلصق بنفسه صفات العالم النزيه الذي لا يدلس ولا يدجل - لا يمكن أن تسلم كتابته من بعض التعليقات المضلّلة؛ فيجب أن نحتاط ونكون على حذر ونحن نقرأ كتابات المستشرقين أو نقتبس منها؛ لأنهم لم يستطيعوا التخلّص من أهوائهم ونزعاتهم الموروثة منذ أيام الصلبيين؛ فصرفوا جهودهم في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته دعوة الحق التي يزهق أمامها كل باطل.

    إن الإسلام يواجه عداوات متربّصة من كل جانب، وإن المسلمين في مواجهة حرب من أعدائهم المستشرقين؛ ورثة الصلبيين، وهذا ما يقتضيهم أن يكونوا على وعي ويقظة، وأن يتسلح الدعاة منهم بأسلحة الثقافة الواسعة الشاملة، وأن يتعرفوا على ما عند أعدائهم من أسلحة يحاربونهم بها، حتى يلقوهم بأسلحة من دينهم ومن تراثهم؛ ليردوا كيدهم ويبطلوا تدبيرهم، وما يريدونه من سوء بالمسلمين وبدينهم، والله من ورائهم محيط.

    وسأعرض في هذا البحث بعض وسائل الاستشراق في محاربة الإسلام بتضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم، ولكن الله ردّ كيدهم في نحورهم وحرس دينه الذي ارتضاه لعباده.


    ثالثا: وسائل الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام

    للاستشراق وسائل عديدة في التشويش على دعوة الإسلام ينبغي أن يتنبّه إليها المسلمون، حتى يتقوا شرّ أعدائهم ويحبطوا خططهم، وسأعرض في هذا البحث أهمّ هذه الوسائل وأكثرها خطورة؛ والله ولي الذين آمنوا!.


    1_ التبشير الصليبي:

    إن الشيء الذي يجب أن لا يشك فيه المسلمون هو أن الحروب الصليبية لم تنته، فمنذ خرجت أوربا من ظلام القرون الوسطى تطلّعت إلى الشرق الذي كان الضعف قد دبّ فيه، الأمر الذي جعله فريسة للدول الأوربية؛ فاستعمرت أكثر دوله، وكانت أوطان المسلمين أول ما أحكمت عليه قبضتها.

    وكان الاستعمار الغربي يهدف من وراء السيطرة على أوطان المسلمين إلى استغلال هذه الأوطان أرضا وبشرا، ثم إلى محاربة العقيدة وإجلائها من قلوب المسلمين، ومحاولة ما عجزت عنه الحروب الصليبية من قبل، وذلك لما يعلمه المستعمرون - بواسطة أعوانهم المستشرقين - من خطر الإسلام على خططهم التي يرسمونها على أساس قتل المعاني الإنسانية في الأوطان المستعمرة حتى تموت مشاعر الناس هناك؛ فلا يحاول أحد أن يثور في وجه المستعمرين له المستغلين لأرضه وجهده، الأمر الذي لا يصبر عليه المسلم الذي يستظلّ براية التوحيد؛ فلا يخفض رأسه إلا لله ولا يحني قامته لغير الله، وهذا من شأنه أن يبعث في نفسه العزة والكرامة وإباء الضيم؛ ولهذا عمل المستعمرون - بواسطة المستشرقين - على محاربة الإسلام حرباً خفية بعد أن حاربوا المسلمين بالحديد والنار.

    وظهرت هذه الحرب في صورة تجنيد جيوش من المبشّرين بقيادة المستشرقين، ودفع هؤلاء المبشرين إلى بلاد المسلمين، وحمايتهم بجيوش المستعمرين، والتمكين لهم من التغلغل في المدن والقرى، وإمدادهم بالمال؛ لقيموا المستشفيات والملاجئ والمدارس ليتخذوا منها شباكا لتضليل الناس، مختفين في زي المبعوثين إليهم لإنقاذهم من المرض والفقر والجهل باسم المسيح.

    وكان مما حاوله المبشرون - بتوجيه من المستشرقين - محاربة اللغة العربية وإجلاؤها من الألسنة؛ حتى تنقطع الصلة بين المسلمين وبين كتاب الله الذي هو دستور دينهم ولسان شريعتهم، وكان من تدبيرهم لتحقيق هذه الغاية أن أشاروا على المستعمرين بأن يقربوا إليهم كل من يحسن لغتهم، وأن يمكنوا لهم من تولى المناصب العالية، الأمر الذي دعا كثيرا من المسلمين إلى تعلّم لغة المستعمر وحذقها، في الوقت الذي انصرف هؤلاء المتعلمون عن لغتهم العربية، معتقدين أن هذا لا ينتقص شيئا من دينهم، ولا يمسّ شيئا من عقيدتهم، وبهذا أصبحت دول كثيرة من الدول الإسلامية التي كان لسانها عربيا لا تكاد تنطلق بتلك اللغة، ولا تعرف من كلماتها إلا ما تؤدي به الصلاة في ركاكة عجمية، كما كان ذلك مشاهدا في البلاد الإسلامية الواقعة في شمالي أفريقية، وهذه البلاد تحاول جاهدة الآن - بعد أن جلا الاستعمار عنها - أن تسترد لسانها العربي بعد تلك الغربة الطويلة التي انقطعت فيها الأسباب بينها وبينه.

    وقد استغلّ المبشرون وضعهم في البلاد الإسلامية المستعمرة في التشويش على دعوة الإسلام، مستفيدين من غياب اللسان العربي، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الغيرة الدينية عند كثير من المسلمين، وتراخي أيديهم عن التمسك بشعائر الدين، والتأدّب بآداب الإسلام والتخلق بأخلاقه.

    وقد جهل المستعمرون وأعوانهم من المستشرقين والمبشرين أن السرّ في فشلهم في حمل المسلمين على التخلي عن دينهم هو أنهم يعملون في اتجاه مضاد لطبيعة الأشياء؛ لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فلا يمكن للفطرة أن تنفصل عنه، مهما بذل أعداء الإسلام من الجهد والمال.

    وهذا هو السرّ الذي دخل به الإسلام إلى أوطان كثيرة؛ فغزا القلوب ونفذ إلى العقول، بدون جيوش زاحفة وحملات تبشيرية غازية، وإنما كان الإسلام بذاته هو الذي يفتح أوطانا بأسرها، على يد بعض التجار الذين لم يكن من قصدهم الدعوة إلى الدين، وإنما كانت هذه الدعوة تأتي عرضا في حديث جار، فإذا هي تسري بين الناس سريان العافية في الأجسام العليلة، وإذا الناس على دين الله وعلى فطرة الله.

    هكذا دخل الإسلام كثيرا من بلاد إفريقية ومن بلاد آسيا، ودخل بلادا عديدة في أوربا، ودخله كثيرون في أمريكا، ولم يدخل أحد الإسلام في البلاد بحملات حربية أو تبشيرية، وإنما دخله طبيعيا بدعوة من الفطرة؛ لهذا فشلت حملات التبشير في بلاد الإسلام، وتكسّرت نصالهم على صخرة هذا الدين.

    لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - التشويش على الدعوة الإسلامية؛ لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين، فلما عجز المبشرون عن بلوغ أهدافهم حاول قادتهم من المستشرقين أن يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغراء، خصوصا بعد أن انتشر الإلحاد في أوربا وأمريكا، بعد أن كشف العلم الحديث للمسحيين ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح قدس.

    فخشي المبشرون الصليبيون أن يطلّ الإسلام بوجهه المُشرق على أوربا وأمريكا؛ فيجد قلوبا مهيأة له وعقولا متجاوبة معه؛ فشجع رجال الكنيسة حركة الاستشراق، وحمى المستعمرون هذه الحركة؛ فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون اتصالا مباشرا بالكنيسة ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين، فيقلّ عزمهم في محاربة الاستعمار وطرده من بلادهم؛ فتحقق بذلك أهداف الاستشراق في خدمة الصليبيين و المستعمرين، لكن الله بالغ أمره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[4].


    يتبع
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    #2
    الفكر والفلسفات المعاصرة

    الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته

    للدكتور عبد المنعم محمد حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين


    الموضوع طويل، لذا سأحاول تقسيمه إلى 3 أقسام (إن شاء الله)






    مقدمة

    الاستشراق حركة ظهرت في العصر الحديث، وتبدو هذه الحركة علمية في ظاهرها؛ فهي تحاول دراسة التراث الشرقي، ولكنها في الحقيقة تبغي من وراء هذه الدراسة التعرّف على منابع تراثنا الشرقي، ثم تحاول صرف أهله عنه، وليجرفهم تيار الحضارة الغربية الضالّة المضلّلة.

    والمستشرقون جماعة من علماء الغرب - من مسيحيين ويهود وملحدين - درسوا اللغات الشرقية من عربية وفارسية وعبرية وسريانية وغيرها، وتوفر كثير منهم على دراسة اللغة العربية والإطلاع الواسع على علومها ومعارفها؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة للقاء كثير من المفتريات والأباطيل في محيط الإسلام للتهوين من شأن الدعوة الإسلامية والتقليل من أثرها في الحياة، وفي الارتفاع بالمستوى الإنساني، وبدورها في إنقاذ الإنسانية وتحريرها من العبودية، وإخراجها من الظلمات إلى النور.

    كما أن هذه المفتريات والأباطيل تحاول التقليل من شأن الثقافة الإسلامية، ودورها في نشر العلوم والمعارف، وفي نقل أوربا من العصور الوسطى - عصور الجهل والظلام - إلى مشارف العصر الحديث، وما ظهر فيه من علوم ومعارف يفخر بها العالم الغربي.

    ويواصل الاستشراق بذل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ لأن المستشرقين لم يستطيعوا التخلّص من نزعاتهم الموروثة وأهوائهم المعادية للإسلام، بحيث لم يعد خافيا ما يبذله المستشرقون من جهود في محاربة الإسلام بالتشكيك في مصادره وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الغرّاء، ومحاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضلّلة، ومحاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، ومساندة الدعوات المضلّلة التي قامت تحت راية الإسلام، واستغلال وسائل الإعلام في إفساد المسلمين بإبعادهم عن دينهم، والحرص على تضليل أبناء المسلمين الذين يتتلمذون عليهم.

    فينبغي أن نبين خطر الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويجب أن نكشف الأسلحة التي يستعملها في حربه السافرة والخفية، والوسائل التي نتقي بها شره، ونردّ بها كيد أعداء الإسلام في نحورهم.

    وهذا ما سأحاوله في هذا البحث وبالله التوفيق.


    أولا: نشأة الاستشراق

    يخطئ من يقول إن الاستشراق حركة علمية، لا هدف لها إلا دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه؛ لأن الاستشراق في الحقيقة والواقع خادم للاستعمار وأهدافه، وهو يتخذ من دراسة التراث الشرقي وسيلة لمحاربة الإسلام، والتشكيك في مصادره ليصرف المسلمين عن دينهم، فلا تتحقق لهم قوة ولا عزة، بل يظلون تابعين للغرب، مقلّدين كل ما في بلاده من ألوان الفساد والانحلال.

    إن الاستشراق في الحقيقة امتداد للحروب الصليبية ضدّ الإسلام وحقائقه الناصعة؛ لأن الحروب الصليبية لم تنته، وإنما اتخذت أشكالا وألوانا مختلفة، منها الاستشراق؛ فالمستشرق يجيء إلى الإسلام لابسا العلم الظاهر، ومدّعيا البحث عن الحقيقة، ولكنه في الباطن قد عقد النية على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام؛ فلا يلبث أن يرمي الإسلام بكل ما يحمل صدره من غل، وينفث قلمه من سم؛ فهو يتنكر لمنهج العلم الصحيح الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، وأن يترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة حقده، ونفثات عداوته، ودون أن يحاول تشويه هذه الحقائق بصورة من الصور.

    والمتتبع لحركة الاستشراق يجد أنه مواكب لحركة الاستعمار الغربي لبلاد الشرق والإسلام، مما يدل على أنه امتداد للحروب الصليبية، وشكل من إشكالها، وقد نشطت حركة الاستشراق وبلغت أشدها منذ قرنين من الزمان في صورة حركة تابعة لحركة الاستعمار.

    والاستشراق مصدر الفعل (استشرق) أي: اتجه إلى الشرق ولبس زى أهله، وقد اتخذ المستشرقون من دراسة لغات الشرق وسيلة للاتجاه إليه، فدرس كل منهم لغة أو أكثر من لغات الشرق كالعربية والفارسية والعبرية والسريانية وغيرها، ثم درس بهذه اللغة علوم تلك اللغة وفنونها وآدابها ومعتقدات أهلها، وكانت اللغة العربية المطلب المقصود عند الكثير من المستشرقين.

    قد أقبل المستشرقون على دراسة اللغة العربية والتخصص في علومها من نحو وصرف وأدب وبلاغة؛ ليتمكنوا من اللغة، ثم نظروا بعد ذلك في علوم الدين الإسلامي من عقيدة وشريعة؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة لتلفيق الأباطيل للتشكيك في حقائق الإسلام، وصرْف المسلمين عن دينهم الذي يهديهم إلى طريق التقدم والعزة؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار في مواصلة احتلال بلاد المسلمين.

    وأوضح دليل على صلة الاستشراق بالاستعمار أن سوق الاستشراق رائجة في أوربا وأمريكا في الدول التي لها مصالح في الدول الشرقية بعامة وفي الدول الإسلامية بخاصة، وأن هذه السوق أكثر رواجا في الدول الاستعمارية التي تحاول غزو الدول الشرقية بأية صورة من صور الغزو والمعروفة في العصر الحديث؛ سواء أكان الغزو عسكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم ثقافيا، بل لا تكاد توجد سفارة من سفارات هذه الدول الاستعمارية في دولة من دول الشرق الإسلامية لا يوجد فيها مستشرق أيّا كانت رتبته بين رجال السفارة والعاملين بها.

    إن ارتباط الاستشراق بالاستعمار وتبعته له جعلت الاستشراق يواصل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويستعمل كل الأسلحة في حربه؛ لأن هذا الدين الحنيف هو السدّ المنيع الذي يقف في وجه الاستعمار والعبودية لغير الله.

    إن المستشرقين يعلمون من دراستهم للإسلام أن العقيدة التي جاء بها ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة، بحيث لا يمكن لعقول المفكرين والفلاسفة أن ينقضوا أصلا واحدا من أصولها إذا التزموا منهج العلم الصحيح، ولذلك يحاول الاستشراق منذ نشأته التشويش على دعوة الإسلام بتلفيق الأباطيل، واتخاذ البحث العلمي ستارا يلفقون من ورائه هذه الأباطيل.

    وقد صار الاستشراق مظلة لكل أعداء الإسلام من المستعمرين والملحدين وغيرهم؛ فأصبح يستظل بها أصحاب العقائد الفاسدة الباطلة من الشيوعيين وأنصار المذاهب الإلحادية الانحلالية في العصر الحديث، فقد جمع هؤلاء بغضهم للإسلام؛ لأن أساسه التوحيد، وهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، ترتكز كلها عليه وتستند في وجودها إليه، وتبتدئ منه وتنتهي إليه؛ فكل رسول افتتح دعوته لقومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

    والدين فطرة غرزها الله في البشر، وقد كانوا أوّل الأمر متفقين على التوحيد قبل أن تزيّن لهم الشياطين عبادة الطواغيت واتخاذ الأصنام.

    والعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة بعيدة عن إغراق الوهم، وجموح الخيال، وتحكم الأهواء، وهذا ما يسعى إليه العقل في تفكيره الدائب للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها.

    من هنا كان الاستشراق هو المطية التي يركبها أعداء الإسلام لعلهم يستطيعون بهذه الوسيلة التشويش على دعوته التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

    وقد بذل الاستشراق منذ نشأته جهودا عديدة متواصلة في محاربة الإسلام، واصطنع وسائل متنوعة في حربه، واستفاد من تقصير المسلمين - أحيانا - في الدفاع عن دينهم، وانخداع بعضهم - أحيانا أخرى - بكلام بعض المستشرقين الذين يضعون السمّ في العسل.

    وسأعرض فيما يلي جهود الاستشراق المختلفة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، وأبيّن أهدافه من وراء هذه العداوة الشديدة، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.


    ثانيا: جهود الاستشراق في محاربة الإسلام بسلاح العلم

    ينبغي على المهتمين بتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة أن يكونوا على دراية تامة بالجهود التي يبذلها المستشرقون في محاربة الإسلام؛ لأنهم - في الحقيقة - ألدّ أعداء الإسلام.

    والمستشرقون يتخذون العلم وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية ويتسترون وراء البحث العلمي، وهم يلفّقون الأباطيل، ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية، ويحاولون تضليل شباب المسلمين الذين يتتلمذون عليهم، وإقناعهم بآرائهم الفاسدة الخبيثة؛ ليشركوهم معهم في الإساءة إلى الإسلام دون وعي.

    إن ما يكتبه المستشرقون عن رسالة الإسلام ورسول الإسلام يفضح الحقد الدفين الكامن في قلوبهم، ويكفي أن نذكر - على سبيل المثال - ما كتبه واحد منهم هو (جولد تسيهر)؛ لينكشف دورهم في الطعن على الإسلام، والتشويش على دعوته متخذين العلم وسيلة لما يهدفون إليه، يقول المستشرق المذكور: "فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني قومه"[1].

    وهذا قول آثم، ردّد به هذا المستشرق الحاقد زعما زعمه المشركون منذ أربعة عشر قرنا، وردّ الله تعالى عليه في حينه؛ فما إن قال المشركون هذا القول حتى فضحهم الله به، يقول الله تعالى على لسان المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، ويردّ جل جلاله عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً}، ثم يقول سبحانه على لسانهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأََوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، ثم يردّ جل وعلا عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}.

    ثم تحداهم سبحانه وتعالى بأن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا ولم يرفع أحد رأسه، يقول جلّ جلاله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.

    إن جولد تسيهر وأمثاله من المستشرقين أعداء الإسلام يردّدون ما كان يردّده مشركو قريش من قبل في موقف العناد والكبر، غير أن مشركي قريش عدلوا عن عنادهم ودخلوا في دين الله وجاهدوا في سبيل الله، وكان منهم سيوف الله على رقاب أعداء الله، أما المستشرقون فمصرّون على محاربة الإسلام والتشويش على دعوته بالتشكيك في القرآن الكريم والإيهام بأنه من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول كان يتجاوز بعض الوحي القرآني، وينسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه إليه [2].

    والحقد واضح في مقولة هذا المستشرق، بل لقد ذهب الحقد بعقله؛ إذ كيف يستسيغ عقل سليم أن يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رسول ثم يقول إن هذا الرسول بدّل رسالة ربه بأمر من ربه لظروف اضطرته إلى ذلك! هل يعقل هذا؟!.. فأي رسول يحمل رسالة الله ثم يكذب على الله ثم يظلّ رسولا بعد ذلك؟! أليس ما يقوله ذلك المستشرق اللعين هو الحقد الذي يذهب العقول ويقلب حقائق الأشياء؟!

    ألم يقرأ هذا الحاقد قول الله تعالى - ردّا على مفتريات المشركين بأن محمدا يفتري على الله الكذب -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[3]؟!

    إن عداوة المستشرقين للإسلام قد بدت من أفواههم، ومن كتاباتهم المسمومة، وما تخفي صدورهم أكبر؛ فينبغي أن نقف منهم موقف الحذر دائما، وأن نكشف زيفهم وبخاصة الذين يصطنعون الحكمة والتعقّل، ويتظاهرون بالإعجاب برسالة الإسلام ليدخلوا على العقول دخول اللص في غيبة الحارس!! ويدسّوا السمّ في العسل؛ فلتكن عقولنا حاضرة ونحن نسمع أو نقرأ لهؤلاء المستشرقين ما يكتبون عن الإسلام ولو كان حقا وصدقا؛ فقد تندس كلمة هنا وكلمة هناك فتقع موقعا قاتلا لمن لا ينتبه إليها، ولا يأخذ حذره منها؛ فما أكثر الذين خدعوا من المثقفين من المسلمين بهؤلاء المستشرقين، وأخذوا مقولاتهم على أنها أحكام قاطعة لا تقبل نقاشا؛ فاشتركوا مع المستشرقين في محاربة الإسلام والتشويش على دعوتهم، وضلّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والعياذ بالله!.

    إن المستشرقين بعامة قد حاولوا دراسة الإسلام بنية منعقدة على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام، وهم يتزيّون بزي العلم والبحث عن الحقيقة، غير أن العصبية تغلبهم عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد؛ فيكابرون ويلجون في الضلال، ويرمون الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وحتى من يقول منهم في الإسلام كلمة حق - ليبعد عن نفسه تهمة التعصب، ويلصق بنفسه صفات العالم النزيه الذي لا يدلس ولا يدجل - لا يمكن أن تسلم كتابته من بعض التعليقات المضلّلة؛ فيجب أن نحتاط ونكون على حذر ونحن نقرأ كتابات المستشرقين أو نقتبس منها؛ لأنهم لم يستطيعوا التخلّص من أهوائهم ونزعاتهم الموروثة منذ أيام الصلبيين؛ فصرفوا جهودهم في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته دعوة الحق التي يزهق أمامها كل باطل.

    إن الإسلام يواجه عداوات متربّصة من كل جانب، وإن المسلمين في مواجهة حرب من أعدائهم المستشرقين؛ ورثة الصلبيين، وهذا ما يقتضيهم أن يكونوا على وعي ويقظة، وأن يتسلح الدعاة منهم بأسلحة الثقافة الواسعة الشاملة، وأن يتعرفوا على ما عند أعدائهم من أسلحة يحاربونهم بها، حتى يلقوهم بأسلحة من دينهم ومن تراثهم؛ ليردوا كيدهم ويبطلوا تدبيرهم، وما يريدونه من سوء بالمسلمين وبدينهم، والله من ورائهم محيط.

    وسأعرض في هذا البحث بعض وسائل الاستشراق في محاربة الإسلام بتضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم، ولكن الله ردّ كيدهم في نحورهم وحرس دينه الذي ارتضاه لعباده.


    ثالثا: وسائل الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام

    للاستشراق وسائل عديدة في التشويش على دعوة الإسلام ينبغي أن يتنبّه إليها المسلمون، حتى يتقوا شرّ أعدائهم ويحبطوا خططهم، وسأعرض في هذا البحث أهمّ هذه الوسائل وأكثرها خطورة؛ والله ولي الذين آمنوا!.


    1_ التبشير الصليبي:

    إن الشيء الذي يجب أن لا يشك فيه المسلمون هو أن الحروب الصليبية لم تنته، فمنذ خرجت أوربا من ظلام القرون الوسطى تطلّعت إلى الشرق الذي كان الضعف قد دبّ فيه، الأمر الذي جعله فريسة للدول الأوربية؛ فاستعمرت أكثر دوله، وكانت أوطان المسلمين أول ما أحكمت عليه قبضتها.

    وكان الاستعمار الغربي يهدف من وراء السيطرة على أوطان المسلمين إلى استغلال هذه الأوطان أرضا وبشرا، ثم إلى محاربة العقيدة وإجلائها من قلوب المسلمين، ومحاولة ما عجزت عنه الحروب الصليبية من قبل، وذلك لما يعلمه المستعمرون - بواسطة أعوانهم المستشرقين - من خطر الإسلام على خططهم التي يرسمونها على أساس قتل المعاني الإنسانية في الأوطان المستعمرة حتى تموت مشاعر الناس هناك؛ فلا يحاول أحد أن يثور في وجه المستعمرين له المستغلين لأرضه وجهده، الأمر الذي لا يصبر عليه المسلم الذي يستظلّ براية التوحيد؛ فلا يخفض رأسه إلا لله ولا يحني قامته لغير الله، وهذا من شأنه أن يبعث في نفسه العزة والكرامة وإباء الضيم؛ ولهذا عمل المستعمرون - بواسطة المستشرقين - على محاربة الإسلام حرباً خفية بعد أن حاربوا المسلمين بالحديد والنار.

    وظهرت هذه الحرب في صورة تجنيد جيوش من المبشّرين بقيادة المستشرقين، ودفع هؤلاء المبشرين إلى بلاد المسلمين، وحمايتهم بجيوش المستعمرين، والتمكين لهم من التغلغل في المدن والقرى، وإمدادهم بالمال؛ لقيموا المستشفيات والملاجئ والمدارس ليتخذوا منها شباكا لتضليل الناس، مختفين في زي المبعوثين إليهم لإنقاذهم من المرض والفقر والجهل باسم المسيح.

    وكان مما حاوله المبشرون - بتوجيه من المستشرقين - محاربة اللغة العربية وإجلاؤها من الألسنة؛ حتى تنقطع الصلة بين المسلمين وبين كتاب الله الذي هو دستور دينهم ولسان شريعتهم، وكان من تدبيرهم لتحقيق هذه الغاية أن أشاروا على المستعمرين بأن يقربوا إليهم كل من يحسن لغتهم، وأن يمكنوا لهم من تولى المناصب العالية، الأمر الذي دعا كثيرا من المسلمين إلى تعلّم لغة المستعمر وحذقها، في الوقت الذي انصرف هؤلاء المتعلمون عن لغتهم العربية، معتقدين أن هذا لا ينتقص شيئا من دينهم، ولا يمسّ شيئا من عقيدتهم، وبهذا أصبحت دول كثيرة من الدول الإسلامية التي كان لسانها عربيا لا تكاد تنطلق بتلك اللغة، ولا تعرف من كلماتها إلا ما تؤدي به الصلاة في ركاكة عجمية، كما كان ذلك مشاهدا في البلاد الإسلامية الواقعة في شمالي أفريقية، وهذه البلاد تحاول جاهدة الآن - بعد أن جلا الاستعمار عنها - أن تسترد لسانها العربي بعد تلك الغربة الطويلة التي انقطعت فيها الأسباب بينها وبينه.

    وقد استغلّ المبشرون وضعهم في البلاد الإسلامية المستعمرة في التشويش على دعوة الإسلام، مستفيدين من غياب اللسان العربي، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الغيرة الدينية عند كثير من المسلمين، وتراخي أيديهم عن التمسك بشعائر الدين، والتأدّب بآداب الإسلام والتخلق بأخلاقه.

    وقد جهل المستعمرون وأعوانهم من المستشرقين والمبشرين أن السرّ في فشلهم في حمل المسلمين على التخلي عن دينهم هو أنهم يعملون في اتجاه مضاد لطبيعة الأشياء؛ لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فلا يمكن للفطرة أن تنفصل عنه، مهما بذل أعداء الإسلام من الجهد والمال.

    وهذا هو السرّ الذي دخل به الإسلام إلى أوطان كثيرة؛ فغزا القلوب ونفذ إلى العقول، بدون جيوش زاحفة وحملات تبشيرية غازية، وإنما كان الإسلام بذاته هو الذي يفتح أوطانا بأسرها، على يد بعض التجار الذين لم يكن من قصدهم الدعوة إلى الدين، وإنما كانت هذه الدعوة تأتي عرضا في حديث جار، فإذا هي تسري بين الناس سريان العافية في الأجسام العليلة، وإذا الناس على دين الله وعلى فطرة الله.

    هكذا دخل الإسلام كثيرا من بلاد إفريقية ومن بلاد آسيا، ودخل بلادا عديدة في أوربا، ودخله كثيرون في أمريكا، ولم يدخل أحد الإسلام في البلاد بحملات حربية أو تبشيرية، وإنما دخله طبيعيا بدعوة من الفطرة؛ لهذا فشلت حملات التبشير في بلاد الإسلام، وتكسّرت نصالهم على صخرة هذا الدين.

    لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - التشويش على الدعوة الإسلامية؛ لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين، فلما عجز المبشرون عن بلوغ أهدافهم حاول قادتهم من المستشرقين أن يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغراء، خصوصا بعد أن انتشر الإلحاد في أوربا وأمريكا، بعد أن كشف العلم الحديث للمسحيين ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح قدس.

    فخشي المبشرون الصليبيون أن يطلّ الإسلام بوجهه المُشرق على أوربا وأمريكا؛ فيجد قلوبا مهيأة له وعقولا متجاوبة معه؛ فشجع رجال الكنيسة حركة الاستشراق، وحمى المستعمرون هذه الحركة؛ فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون اتصالا مباشرا بالكنيسة ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين، فيقلّ عزمهم في محاربة الاستعمار وطرده من بلادهم؛ فتحقق بذلك أهداف الاستشراق في خدمة الصليبيين و المستعمرين، لكن الله بالغ أمره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[4].

    يتبع
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره

    تعليق

    • سيف الكلمة
      إدارة المنتدى

      • 13 يون, 2006
      • 6036
      • مسلم

      #3
      2_ محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة:

      ومن الوسائل التي يستعملها الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة، وتصدير هذه التيارات إلى أقطار المسلمين؛ لتضليل الشباب وصرفهم عن دينهم، والتشويش على دعوة الإسلام التي تتفق مع فطرة الله التي فطرهم عليها، وأهم هذه التيارات الفكرية المضللة ما يلي:


      أ- المادية:

      يتّسم العصر الحديث بتحكم المادية في تفكير الناس وفي سلوكهم، والمادية تنكر المشاعر الإنسانية التي يعمل الدين على غرسها وتنميتها في النفوس؛ من الرحمة والمودة والعطف والإيثار، وكل ما يشيع في كيان الإنسان من عواطف إنسانية نحو أهله وقرابته ومجتمعه والإنسانية كلها.

      وأخطر ما في المادية أنها تتملّق شهوات الناس، وتأتي إليهم من الجانب الضعيف فيهم، حيث تميل النفوس دائما إلى العاجل من كل محبوب ومرغوب عندها، وقد بيّن الله جل وعلا طبيعة النفس البشرية في كتابه الكريم فقال تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[5] وقال جلّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}[6].

      وقد حاول أعداء الإسلام أن يستغلوا هذا الميل إلى المادية في تضليل شباب المسلمين عن حقيقة دينهم، واستفاد الاستشراق في التشويش على الدعوة الإسلامية من أقوال الصوفية الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ فالصوفية يروّجون أن الزهد في متاع الدنيا دليل الاتباع الصحيح للدين، وهذا زعم باطل، ولكن المستشرقين استفادوا منه في إغراق شباب المسلمين بتيار المادية ليشوشوا على الدعوة الإسلامية ويشككوا في مقررات الإسلام.

      إن المادية تنكر على الدين الدعوة إلى الإيمان بما وراء الحسّ؛ من الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر والحساب والجنة والنار، وكل ما لا يقع في مجال المدركات الحسية التي هي عمدة العقل المادي في الحكم على الأشياء وقبولها أو رفضها، أي أن المادية تغرق الناس في الشهوات ليتخذوا من حبّها دينا وينصرفوا عن دين الحق.

      فينبغي على الدعاة الذين يتصدَّون لردّ هذه الدعوة المضلّلة أن يبينوا للشباب - بخاصة - أن الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالحياة الآخرة لا يحرمهم شيئا من طيبات الحياة الدنيا، بل إنه يطلق كل قوى الخير فيهم؛ ليعملوا جادين في كل ميدان من ميادين الحياة وليقطفوا كل طيب من ثمرات عملهم وجهدهم.

      إن الإسلام لم يحرم على الناس شيئا من طيبات الحياة الدنيا؛ فالله جلّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[7]، كما يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[8]، ويقول عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[9]، ويقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[10].

      إن الله دعا الناس إلى العمل الطيب، ووعدهم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة؛ ولذلك أطلق الإسلام كل قوة من قوى الإنسان الخيرة، ولم يقف حائلا دون أية رغبة من رغبات الإنسان الشريفة؛ فإذا رسم الإسلام للإنسان حدودا لا يتعداها، وإذا وضع على طريق مسيرته في الحياة معالم لا يخرج عنها فما ذلك إلا لضمان سلامة الإنسان في تلك المسيرة، ووقايته من شهوات نفسه التي تقوده إلى الهلاك، أو تلبسه الشقاء الدائم في حياته قبل آخرته، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن أخذهم بأدب هذه الشريعة الغرّاء، وأنْ حرم عليهم الخبائث التي تفسد عقولهم وقلوبهم، وتغتال معالم الإنسانية فيهم، وتنزلهم إلى عالم الحيوان الذي تريد المادية إنزالهم إليه.


      ب- الوجودية:

      تقوم الوجودية على دعوة خادعة، وهي أن يجرد الإنسان نفسه بالتحلل من كل ما يربطه بالمجتمع من نظم وقواعد وعادات وتقاليد، وأن يطلق نفسه على هواها تهيم في كل واد، وترعى كل ما يصادفها على طريقها من غير وعي أو تفكير أو تقدير لما يأخذ أو يدع من أمور، ومن غير تقيّد بشيء ما؛ فلا دين ولا بيت ولا زوجة ولا وطن.

      إن الوجودية - في الواقع - آخر تيار فكري أوجدته المادية الحديثة؛ فهي دعوة إلى عزل الإنسان عن عالمه الروحي، وجعله جسدا حيوانيا، ولا يجد في كيانه شيئا من العواطف والمشاعر الإنسانية، يقول بول سارتر زعيم الوجودية المعاصرة: "إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي هو توديع ما يسميه الجبناء وجدانا وضميرا، والاستجابة إلى داعي الحيوانية وتلبية كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان"[11].

      إن الوجودية تفسد طبيعة الإنسان وتدمّر عقله وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل ولا قلب ولا روح؛ فهي دعوة خبيثة انتشرت في ربوع أوربا وأمريكا نتيجة لموجة الانحلال عن المسيحية التي انتابت هذه البلاد، وقد حرّكت أصابع الصهيونية تلك الدعوة، وأخذ اليهود يروّجونها لإشاعة الانحلال والفوضى في المجتمعات الأوربية والأمريكية، ثم حاولوا تصديرها إلى بلاد المسلمين بواسطة شباب المسلمين الذين يذهبون إلى بلاد الغرب طلبا للعلم، وهم يوهمون شبابنا بأنها دعوة إلى التحرّر، ويلعب المستشرقون دورا كبيرا في تضليل شباب المسلمين بهذه الدعوة؛ ليتحرروا من الدين ومن العقل ومن الإنسانية، وليصيروا كالأنعام؛ فلا يخشى خطرهم على الاستعمار في أي شكل من أشكاله؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار والاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته.

      فيجب أن نحذر شباب المسلمين من هذه الدعوة الخطيرة، ونزوّدهم دائما بزاد كاف من العلم بأمور دينهم؛ ليعصمهم هذا الزاد من الزلل والتأثر بما يروجه أعداء الإسلام من دعوات ضالة مضللة، يتخذونها وسيلة لمحاربة الإسلام ودعوته التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتجعل الإنسان أفضل المخلوقات.


      ج- العلمانية:

      ومن الوسائل التي يشوّش بها الاستشراق على الدعوة الإسلامية إفهام بعض أدعياء العلم من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأنه يجب الفصل بين العلم والدين، وهو ما يسمونه (العلمانية)، وهي دعوة من الدعوات الخادعة المضللة لأنها مشتقة من العلم.

      والحقيقة أن العلمانية التي يدعو إليها المستشرقون - ويعنون بها العلم المنعزل عن الدين - حركة ظهرت في أوربا نتيجة للصراع العنيف الذي نشب بين رجال العلم والكنيسة التي كانت بسلطانها القوي في القرون الوسطى متحكّمة في العقل الأوربي؛ فلا يقبل فكر أو رأي لا يكون مصدره الكنيسة ورجال الدين فيها، وكان من السلطان الديني للكنيسة أنها تملك حقّ الغفران للعصاة ومرتكبي الكبائر من المسيحيين، كما أن لها في أتباعها حقّ الحرمان والطرد من ملكوت الله ومن ساحة رحمته.

      وقد انتهى هذا الصراع بين العلم والكنيسة بانفصال كل منهما عن الآخر؛ فالعلم له رجاله، ولهم في مجال العلم أن يقولوا ما يشاءون دون أن يكون للكنيسة حق مؤاخذتهم، وللكنيسة رجالها الذين يقولون ما يشاءون في أمور الدين دون أن يكون للعلم وعلمائه موقف معهم.

      وإذا قام هذا الصراع بين العلم والدين في المسيحية - لأن الكنيسة صادرت كل كلمة يقولها العلم، وعزلت الدين عن الدنيا، فأخذ العلم وجهة غير وجهة الدين - فإنه لا مجال أبدا لأن يقوم مثل هذا الصراع بين العلم والدين في رحاب الإسلام؛ لأن الإسلام يؤاخي بين العلم والدين، ويجعل الدين علما، والعلم رائدا هاديا إلى الدين، وكلمة العلم وما يشتق منها من أكثر الكلمات دورانا في القرآن الكريم؛ فقد ورد ذكر العلم ومشتقاته أكثر من ثمانمائة وعشرين مرّة في الكتاب الكريم.

      فالعلم هو رسالة الإسلام، وبالعلم يَعرف الإنسان ربه وخالقه، وما يجب عليه من ولاء لله واستقامة على أوامره واجتناب لنواهيه، حيث لا يكون عمل إلا عن علم، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى طلب العلم، وإلى الاجتهاد الدائب في طلبه، يقول الله جل جلاله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[12]، ويقول سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[13]، ويقول عزّ وجل لنبيّه الكريم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[14].

      فالدعوة إلى العلم دعوة كريمة مستحبة من كل ذي عقل؛ لأن العلم سبيل الإنسان إلى الكمال العقلي والسمو الروحي، حيث يميز به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والنافع من الضار.

      أما العلمانية التي يروّج لها المستشرقون فتدعو إلى العلم الذي ينعزل عن الدين؛ فلا مجال لها في الإسلام، ولا ينبغي أن تظهر في المجتمع الإسلامي؛ لأن الإسلام جامعة العلم والمعرفة، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم معه جفوة بين العلم والدين أبدا؛ فلا ينبغي أن يقبل مسلم دعوة إلى الفصل بين العلم والدين؛ لأن من يقبل هذه الدعوة يكون جاهلا بحقائق الإسلام؛ فلا يكون مسلما ولا عالما.

      فينبغي أن نحذر المثقفين من شباب المسلمين من الانقياد الأعمى لمثل هذه الدعوات الضالة المضللة، ومن الغرق في التيارات الفكرية التي يحاول الاستشراق إغراق المسلمين بها؛ للتشويش على عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم الذي به صلاحهم وعزتهم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[15].


      3 - محاربة اللغة العربية:

      من الوسائل التي يحارب الاستشراق بها، ويشوش بها على دعوته محاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وقد لجأ المستشرقون إلى هذه الوسيلة بعد عجزهم عن النيل من القرآن الكريم؛ فأخذوا يروّجون بين المثقفين من المسلمين من تلاميذهم أن اللغة العربية في حاجة إلى تطوّر وتجديد، وهم يهدفون من وراء دعوتهم هذه إلى إضعاف اللغة العربية؛ لينصرف المسلمون عنها؛ فتنقطع الصلة بينهم وبين كتاب الله وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.

      إن المستشرقين يتهمون اللغة العربية بالعجز عن مسايرة ركب الحضارة الحديثة، ويزعمون أن اللغة العربية تعجز بقاموسها اللغوي عن حمل العلوم والفنون التي جاء بها العصر الحديث، وأن التخلّف الذي أصاب المجتمع الإسلامي سببه قصور اللغة العربية وعجزها عن نقل ما جاءت به العقول والقرائح عند الأمم الغربية، ولهذا يجب على أهل العربية - في زعمهم - أن يتركوا هذه اللغة ويبحثوا عن لغة أخرى حتى يلحقوا بركب الحضارة، ويعيشوا مع أهل العصر.

      وهذه دعوى باطلة من أساسها؛ فاللغة العربية أوسع اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ الجديدة، والدليل على هذا أنها حين خرجت إلى ما وراء موطنها العربي إلى دولتي الفرس والروم استوعبت بألفاظها - من مفردات وتراكيب - كل ما وجدته من حضارات، ثم إنها مدّت ذراعها إلى حضارتي اليونان والرومان القديمتين، فترجمت كل ما أنتجته عقول حكمائها وعلمائها، وكان للتراث العلمي المشرق الذي أنتجته العربية أثره البعيد في تنوير أوربا، وإخراجها من ظلام القرون الوسطى وإدخالها إلى هذا العصر الحديث الذي تفخر به؛ فلا يعقل - بعد هذا - أن تعجز اللغة العربية عن نقل العلوم والفنون التي جاء بها العصر.

      وقد لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من المسلمين الدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ بحجة أن عملية الطباعة بالحروف العربية شاقة بطيئة؛ لأن لكل حرف صورا عديدة بحسب موقع الحرف في الكلمة، أما كتابة الكلمات العربية بالحروف اللاتينية فإنها لا تحتاج إلى جهد ووقت؛ لأن الحروف تكتب متفرقة على صورة واحدة مهما اختلف موقع الحرف في الكلمة.

      وهذه دعوة خبيثة تهدف إلى قطع الصلة بيننا وبين تراثنا القديم إذا طال الزمن وأصبحت الكتابة الإفرنجية هي التي تعلمتها الأجيال المتعاقبة، وصارت هي طريقها إلى القراءة والكتابة؛ فإذا رجع واحد من أبنائنا إلى كتاب مكتوب بالحروف العربية لا يحسن قراءته، وبذلك تطوى صفحة مكتبتنا العربية التي تضمّ موروثنا من العلوم والمعارف في الدين واللغة وفنون العلم المختلفة.

      كما أن في اللغة العربية حروفا لا مثيل لها في الحروف اللاتينية، مثل الثاء والحاء والطاء والعين والقاف، وهذه الحروف لا يتيسر النطق بها نطقا سليما بالحروف اللاتينية.

      فالدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية تهدف في الحقيقة إلى إضعاف العربية لغة القرآن، ومحاربة الإسلام بهذه الوسيلة.

      كما لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى استعمال اللغة العامية بدل الفصحى؛ بحجة أن الفصحى لا تستعمل في الحياة العامة حتى بين المثقفين أنفسهم؛ فهي في واد والحياة في واد آخر.

      وهي دعوة ظاهرة البطلان؛ لأن اللغة الفصحى هي التي يفهمها من يتكلمون العربية جميعا من مثقفين وغير مثقفين؛ فالعامة حين يستمعون إلى آيات القرآن يفهمون دلالتها وما تحمل من أوامر وزواجر وقصص ومواعظ، أما اللغة العربية العامية فلا تفهم إلا في نطاق ضيق بين المتحدثين بها في إقليم بعينه، وليس عجيبا أن تختلف العامية في بلد عنها في بلد آخر من بلاد اللغة الواحدة، فالإنجليزية تختلف عاميتها في إنجلترا عنها في أمريكا وهكذا..

      وهذه الدعوة لا تهدف في الحقيقة إلا إلى محاربة الإسلام؛ لأن اللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن الكريم، كتاب هذا الدين الذي يربط بين أتباعه برباط متين، كما أنها اللغة الوحيدة التي يتلقى عنها أهل العربية في جميع أقطارهم في مجال العلوم والآداب والفنون، وفي أخذهم من تراثهم الرائع في فروع المعرفة المختلفة.

      وقد لقّن المستشرقون أيضا بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات العربية تسكينا لازما في جميع الأحوال، شأنها في ذلك شأن اللغات الأوربية، بحجة أن هذا الأمر ييسر تعلّمها، ويجعل متعلمها في مأمن من الخطأ.

      وهذا دعاء باطل يراد به هدم اللغة من أساسها، ومحاربة الإسلام؛ إذ كيف يقرأ كتاب الله جلّ جلاله وتقرأ أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟!

      إن الإعراب في اللغة العربية هو أعظم مميزاتها عن اللغات الأخرى، ويكفي اللغة العربيةشرفا أنها حملت المعجزة التي عجز الإنس والجن عن تحديها، وبهذا استحقت هذا الوصف الكريم من الله تعالى في قوله جل شأنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[16].

      فليس هناك شكّ في أن محاربة الاستشراق للغة العربية، ومحاولاته العديدة للقضاء عليها أو إضعافها إنما هي محاربة للإسلام وتشويش على دعوته.

      وينبغي على الدعاة أن يدافعوا عن دينهم، وعن اللغة التي يتعلمون بها أمور هذا الدين الحنيف، حتى يردوا سهام المستشرقين إلى نحورهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[17].


      رابعا: العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام

      يستفيد الاستشراق - في محاربته للإسلام وتشويشه على دعوته - من مختلف الأسلحة والوسائل التي تمكنه من بلوغ أهدافه التي أهمها صرف المسلمين عن دينهم حتى لا تقوم لهم قائمة، ويستغل الاستشراق ما يجده في المسلمين من عوامل الضعف؛ فيستفيد من هذه العوامل ويتخذ منها أسلحة يحارب الإسلام بها، ويشنّع بها على دعوته، وسأحاول هنا - بعون الله - أن أبين أهمّ تلك العوامل الموجودة في الأمة الإسلامية الآن، والتي تشبه الثغرات في صفوف المسلمين بحيث يستطيع المستشرقون - أعداء المسلمين وورثة الصلبيين - أن ينفذوا منها، ويستفيدوا منها في التشويش على الدعوة الإسلامية.


      1- الدعوات المضللة التي قامت تحت راية الإسلام

      يستغلّ المستشرقون ما يبدو من قول أو فعل من بعض الدعوات المضللة التي تنتسب إلى الإسلام في الإساءة إلى الإسلام والتشويش على دعوته، ومن هذه الدعوات المارقة المضللة التي قامت تحت راية الإسلام، وأساء أتباعها بمقولاتهم وسلوكهم إليه: الصوفية، والبهائية، والقاديانية.

      أما الصوفية فقد زعموا أنهم يريدون سلوك الطريق إلى الله عز وجل، ولكنهم بدل أن يسلكوا طريق الكتاب والسنة - الذي لا طريق غيره - راحوا يشرّعون لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويصنعون لأنفسهم قواعد للسلوك تقوم على الزهد والحرمان ورياضة النفس ومجاهدة الشهوات، ولما وجدوا أن المنهج الإسلامي القائم على الاعتدال والتكامل، ومحاربة الغلوّ والتطرف لا يشبع نزعاتهم السلبية الغالية، اقتبسوا من الديانات والمذاهب الأخرى وادّعوا لأنفسهم أحوالا وواردات ومواجد وأذواقا لا يعرفها الدين، وما زال الشيطان بهم يصوّر لهم من الخيالات ما لا حقيقة له حتى أوقعهم في القول بالحلول ووحدة الوجود، وأفضى بهم إلى القول بالجبر وبطلان التكليف والتسوية بين الطاعات والمعاصي، والإيمان والكفر، بدعوى شهود الربوبية في كل موجود[18].

      أما البهائية فقد ظهرت في إيران في القرن الماضي نابعة من الفكر الشيعي؛ فقد بشر الشيرازي الملقب بالباب بقرب ظهور الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي ينتظر الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ظهوره، ثم ظهر كذب الباب عند الشيعة حينما قال إن الإمام الغائب سيظهر في تبريز بآذربيجان، والشيعة يعتقدون أنه سيظهر في مشرق إيران عند جبل يسمى (كوه خدا) أي (جبل الله)؛ فقبضت السلطة على الباب وحوكم وأعدم، وأعلن قبل إعدامه أن الإمام الذي يقصده هو تلميذه (حسين صبح أزل) الملقب ببهاء الله؛ فسميت الدعوة البهائية نسبة إلى بهاء الله هذا الذي خرج هاربا من إيران، وزعم أنه نبي أرسل بدين جديد مجدد للإسلام، كما زعم أن كتابا نزل عليه، وأخذ يدعو لهذه الدعوة المارقة المضلّلة حتى مات ودفن في فلسطين وقبره في الجزء المحتل منها.

      ودعوة البهائية شبيهة بالشيوعية؛ فهي تدعو إلى التحلّل من الدين وترك الحرية للمرأة تفعل ما تشاء، وتقسم السنة إلى تسعة عشر شهرا؛ فهي في الحقيقة انسلاخ عن الإسلام وطمس لمعالمه.

      وقد ساند الاستعمار وأعوانه من المستشرقين هذه الدعوة؛ ليستعينوا بها في تزييف حقائق الإسلام؛ فألفوا كتبا بلغات مختلفة لشرح عقيدة البهائية[19]. وأما القاديانية فهي دعوة مارقة مضلّلة ظهرت في بلاد الهند في أواخر القرن الماضي، وهي تقوم تحت راية الإسلام، وقد دعا إليها ميرزا غلام أحمد، وكان مركزها الهند، وأتباعها من مسلمي الهند، ثم امتدت إلى خارج الهند؛ فظهرت في بعض الدول الآسيوية والإفريقية، وساندها الاستعمار والاستشراق.

      وقد ظهرت هذه الحركة في وسط جوّ فكري وسياسي عاصف اجتاح بلاد الهند في أعقاب ثورتها على الاستعمار الانجليزي في سنة 1857م، فقد أصابت المسلمين بعد إخفاق هذه الثورة وحشة الفتح ونكبة الهزيمة، وعانوا وطأة الاستعمار السياسي ووطأة الاستعمار الثقافي، وقامت الدولة الانجليزية المنتصرة بنشر ثقافتها وحضارتها في محاولة لزعزعة العقيدة الإسلامية وإضعاف الثقة بأسس العقيدة ومصادر الشريعة[20]؛ لأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد في الهند الذي كان يدعو إلى الجهاد في سبيل الدفاع عن الدين والوطن والعرض والمال.

      وقد استغل الاستعمار أيضا المحترفين للتصوّف في نشر شطحاتهم وخرافاتهم؛ فاستولى على مسلمي الهند اليأس والقلق، ثم استسلموا للأوضاع الفاسدة، وأخذوا يتطلعون إلى منقذ ينقذهم من الحيرة واليأس ولو بالخرافات والأباطيل.

      وفي وسط هذا الجوّ الفكري العاصف دعا ميرزا غلام أحمد إلى القاديانية، وكان غلام أحمد هذا من إمارة البنجاب، وكان والده من أصحاب الإقطاعات، ومن ذوي النفوذ في قومه، كما كان من صنائع الانجليز ومن أخلص الدعاة لهم.

      وقد عرف عن غلام أحمد أنه كان في مطلع شبابه متصوّفا، ثم ترك العزلة ودخل في معترك الحياة، ونصب نفسه للمناظرات والمجادلات في أمور الدين؛ فلفت الأنظار إليه فاجتمع كثير من العامة عليه، واكتسب شهرة وصيتا ذائعا في أوساط المسلمين؛ فسولت له نفسه أنه ملهم من الله؛ فأخذ يتحدث للناس بما زعم أنه ينزل عليه من إلهامات، ويذكر لهم آيات قرآنية وأخرى محرفة، يحسبها من لا يحفظ القرآن قرآنا، وفي هذا تلبيس وتدليس وكيد عظيم لتحريف القرآن الكريم.

      ولم يقف غلام أحمد عند هذا الحد بل ادعى أنه نبي يوحى إليه، وأخذ ينشر مفترياته[21]، متخذا الدين مدخلا يدخل به إلى قلوب أتباعه؛ ليخدم بذلك أغراضا سياسية، وينفذ خططا رسمها له المستعمرون؛ فإلى جانب ما تتركه هذه الدعوة المجرمة من إفساد للعقيدة الإسلامية في عقول من يصيبهم شررها فإنها حملت في ثناياها دعوة إلى إبطال الجهاد الذي هو فرض على المسلمين حين تدعو دواعيه وتقوم أسبابه، وبهذا مكّن للاستعمار، ودفع عنه كل ما كان يتهدده من ثورة المسلمين في الهند على وجوده.

      يقول غلام أحمد في كتاب نشره على الناس تحت عنوان (ترياق القلوب): لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الانجليزية ونصرتها، ولقد ألّفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر (الانجليز) من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائما أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة الانجليزية، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد، وتفسد قلوب الحمقى.

      وهذا يدل على أن غلام أحمد كان يتخذ دعوة القاديانية وسيلة لتثبيط عزائم المسلمين في الهند حتى لا يثوروا على المستعمرين، وحتى يرضوا بالذل والعبودية، أي أن القاديانية منذ نشأتها صنيعة للاستعمار وأعوانه، وهذا هو سرّ بقائها بعد وفاة غلام أحمد في عام 1908؛ فما زال خلفاء غلام أحمد ينشرون دعوتهم بين المسلمين في حركة نشيطة يغذيها أعداء الإسلام بالمال والأفكار، ويفتحون لها الفروع في أوربا وآسيا وإفريقية على أنها داخل إطار الدعوة الإسلامية، ويتعاون في نشرها الاستعمار والاستشراق والصهيونية.

      إن القاديانية وهي تنتسب زورا إلى الإسلام، وهي أخطر سلاح يوجه إلى صدر الإسلام، حيث يتخذ منها أعداء الإسلام دعاة لهم، يضعون على أفواههم ما يريدون وما يدبرون من كيد للإسلام والمسلمين بالتشويش على دعوة الإسلام، والله من ورائهم محيط.


      2- وسائل الإعلام تشارك الاستعمار في محاربة الإسلام:

      إن وسائل الإعلام بصورتها الحالية في الأقطار الإسلامية تتعاون مع الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ فقد أصبح المجتمع الإسلامي يواجه غزوا رهيبا محملا بعوامل الإفساد للمسلمين، من وسائل الإعلام من جرائد ومجلات وإذاعة مسموعة ومرئية وأفلام سينمائية ومسرحيات وغيرها.

      وخطورة هذا الغزو أنه يدخل إلى العقول والقلوب دون أن يلتفت الكثير من المسلمين إلى ما قد دخل عليه من أفكار قد يكون بعضها مسموما مما يروجه المستشرقون أعوان الاستعمار ضد الإسلام، محاربة له وتشويشا على دعوته.

      إن وسائل الإعلام عدو خفي يحارب المسلمين بالكلمة والصورة والفكرة، وهي أسلحة أشد خطورة من الجيوش الزاحفة، والمدافع المنطلقة، التي يعرف المسلمون منها وجه العدو الذي يغزوهم.

      والشيء المؤسف حقا أن المسلمين في سائر أقطارهم لا ينتبهون إلى خطورة وسائل الإعلام، كما أن الدعاة لا ينبّهون إلى خطورتها تنبيها كافيا لتحويلها إلى أدوات بناء للمجتمع الإسلامي بدلا من كونها أدوات هدم وتدمير.

      إن وسائل الإعلام تنشر كثيرا من ألوان الفساد والانحلال والإلحاد بما تنقله من صورة الحياة في الأقطار الأوربية والأمريكية التي انتشر فيها الإلحاد في العصر الحديث؛ نتيجة لاستخفاف الناس بالدين، بعد أن كشف من متناقضات في المسيحية وفي اليهودية، لا يقبلها عقل مستنير، ولا يستريح إليها ضمير حيّ، في حين أن الإسلام ليس فيه متناقضات؛ فمن نظر فيه بعقله وجاء إليه بجميع وسائل العلم وجد أنه الحق الذي يلتقي مع العقل التقاء مؤاخيا، وهو يدعو المؤمنين به إلى العزة والجهاد دفاعا عن دينهم وأوطانهم وأموالهم وأعراضهم، الأمر الذي يشكل خطرا على الاستعمار وخططه ضد العالم الإسلامي، ويجعله يستغل وسائل الإعلام في تصدير عوامل الإفساد للأقطار الإسلامية لصرف المسلمين عن دينهم، والتشويش على الدعوة الإسلامية.
      أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
      والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
      وينصر الله من ينصره

      تعليق

      • سيف الكلمة
        إدارة المنتدى

        • 13 يون, 2006
        • 6036
        • مسلم

        #4
        3- الحطّ من شأن العرب الجاهليين:

        ومن العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته أن كثيرا من المثقفين من المسلمين أصبحوا يسايرون المستشرقين في الحطّ من شأن العرب الجاهليين، ظنا منهم أن في هذا خدمة للإسلام، وهم مخطئون كل الخطأ؛ فلقد رمى المستشرقون العرب بتهم مماثلة، فصوروا حياتهم في الجاهلية وكأنهم وحوش ضارية تعيش في أرض قفر ومكان جديب، فكانت قلوبهم أقفر من أرضهم، ومشاعرهم أكثر جدبا منها.. هكذا يتحدث المستشرقون عن الأمة العربية في جاهليتها؛ ليخلصوا إلى القول بأن الإسلام دين بداوة لا يصلح في أحكامه وتشريعاته إلا في تلك المناطق المتبدية المتوحشة المقفرة، فهو - كما يزعمون - ليس الدين العالمي الذي يصلح عليه أمر الناس في البدو والحضر، وفي الحاضر والمستقبل.

        وقد خدع بهذا القول كثير من المسلمين الذين تصدَّوا للرد على هؤلاء المستشرقين؛ فسلّموا لهم بما قالوه في العرب الجاهليين، وفي أن الأمة العربية لم تكن شيئا قبل الإسلام، وهذا القول فيه حق، ولكن فيه باطل أيضا؛ أما الحق فيه فهو أن الإسلام قد ارتقى بالعرب إلى درجات عالية في عالم الفضائل والكمالات، وجعلهم في سنوات قليلة قادة الأمم وأساتذة الشعوب، وبناة الحضارة في كل موقع نزلوا فيه.

        وأما الباطل في ذلك القول فهو أن الأمة العربية لم تكن خلوا من الفضائل؛ فقد كانت تحمل في كيانها أسلم القلوب، ويكفيها فخرا أن الله تخيرها كما تخير موطنها، وكما تخير بنيها لتكون هذه الأمة مطلع شمس دين الإسلام، وأفُقَه الذي يشعّ منه نوره على هذا العالم.

        وقد وجد الإسلام في الأمة العربية كثيرا من الفضائل التي زكاها، وأبقى عليها مثل حماية الجار وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإكرام الضيف والغيرة على الحرمات من أموال وديار وأعراض؛ فكان ذلك ركيزة للأخلاق الفاضلة التي بنى الإسلام عليها دولته.

        فوصْف الأمة العربية بالسوء، وتجريدها من كل فضيلة لا يتّفق مع الحق، وهو تقليد لما يقوله المستشرقون ليتخذوا منه سلاحا يحاربون به الإسلام، ويشوشون به على دعوته، وينبغي أن ينتبه المسلمون إلى هذا جيدا، وأن يحذروا التقليد والانخداع بأقوال المستشرقين أعداء الإسلام.

        ومن الحق أن نقرّر هنا أن الثقافة الإسلامية هي في صميمها ثقافة عربية برسولها العربي، وعربية بلسانها الذي نزل به القرآن دستور شريعتها، وعربية بعروبة من استقبلوا دعوتها ورفعوا رايتها، وأذنوا بشريعتها في العالمين، وعربية بالوطن العربي الذي طلعت فيه شمسها، وتجلت فيه آياتها، وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[22].

        ومن فضل الله على العرب أن جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين - عربيا، وجعل رسالة الإسلام خاتمة الرسالات، وجعل أهلها الأمة العربية؛ فكانت أكمل رسالة في يد أكمل الرسل في خير الأمم، فكل محاولة للتهوين من شأن العرب، والحط من قدر العرب الجاهليين مجاراة للمستشرقين في محاربة الإسلام بكل وسيلة.

        فينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يسدوا الثغرات التي تمزّق صفوفهم، وتمكن المستشرقين من اتخاذها وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية.

        وأختم هذا البحث ببيان الوسائل التي نحارب الاستشراق بها؛ حتى نفسد خططهم ونردّ كيدهم في نحورهم، ونردّهم على أعقابهم خائبين خاسرين، وبالله التوفيق.


        خامسا: الوسائل التي نحارب بها الاستشراق:

        إن ما يقوم به الاستشراق من حرب سافرة وخفية ضد الإسلام لصرف المسلمين عن دينهم يجب أن يقابل بوسائل قادرة على دحر أعداء الإسلام، وكشف زيفهم وأباطيلهم وفضحهم بها؛ ولهذا كان من مهمة الدعوة الإسلامية اليوم أن يعمل دعاتها في ميدانين في وقت واحد، أحدهما دفاعي والآخر تبليغي.


        أما الميدان الدفاعي:

        ففيه يردّ الدعاة على حملات المستشرقين على الإسلام لمحاولة تشويه حقائقه، وإلقاء ظلال مزيفة من التهم عليه والتشكيك فيه، حتى ينصرف المسلمون عن دينهم، وحتى يتوقف الذين يبحثون عن الإسلام لاتخاذه دينا يملأ الفراغ الديني التي خلت نفوسهم منه.

        ويحتاج هذا الميدان إلى أجهزة متخصصة، ودعاة متخصصين ذوي كفاءات عالية في العلم، ومنازل كريمة في الخلق والسلوك، دعاة ينذرون أنفسهم للدفاع عن دين الله مهما كلفهم هذا الدفاع من تضحيات، وإن أولي العزم والإيمان هم وحدهم الذين يقفون هذه الوقفة لله.

        إن العاملين في ميدان الدفاع عن دين الله يجب أن يكونوا على درجة عالية من الفقه في دينهم، وعلى جانب كبير من العلم والإحاطة بما كتبه أعداء الإسلام من المستشرقين وأشباههم، ولا تتيسر لهم هذه الإحاطة إلا إذا كانوا على قدر كبير من الإلمام باللغات الأجنبية كالانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية؛ فيجب أن يتكوّن العاملون في ميدان الدفاع عن دين الله من جماعات، تتقن كل جماعة منها لغة أجنبية، إلى جانب درجتها العالية من الفقه في الدين، وبهذا يستطيع المدافعون عن دين الله أن يصرعوا أعداء الإسلام، وأن يفضحوا أكاذيبهم ومفترياتهم وما لفقوا ويلفقون من أباطيل للتشويش على الدعوة الإسلامية.


        أما الميدان التبليغي:

        ففيه يقوم الدعاة بالدعوة إلى دين الله في المواطن التي خلت من الدين، وفي المواطن التي خف ميزان الدين فيها؛ فالناس في هذه المواطن في ربوع العالم المختلفة يبحثون عن دين يجدون فيه الحق الذي يلتقي مع الفطرة الكامنة في كل نفس، ومع العقل المتشوق إلى الحق، الباحث عن الحقيقة.

        ويحتاج هذا الميدان إلى دعاة يفقهون أمور دينهم بدرجة كبيرة، ويكونون على جانب كبير من الفطنة والذكاء، ويتكونون من جماعات تتقن كل جماعة منها لغة أو أكثر من اللغات الرائجة في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقية، كالانجليزية والفرنسية والفارسية والأردية، حتى يحقق العاملون في هذا الميدان الغاية المرجوة ويصلوا إلى الهدف المنشود.

        إن العلم والفقه في الدين والذكاء والفطنة وسائل لا غنى عنها في التصدي للاستشراق، ومواجهة أعداء الإسلام أيا كانت أسماؤهم وصورهم وأشكالهم؛ لأن الذي يعرض حقائق الإسلام إن لم يكن على مستوى عال من العلم والفقه والذكاء والفطنة كان ضرره أكثر من نفعه في هذا المقام.

        فيجب أن نعدّ الدعاة الذين يفون بالمطلوب لدعوة الإسلام اليوم في ميدانها الدفاعي والتبليغي، وهنا نتساءل: هل أدّى المسلمون حق دينهم عليهم، وهم يعلمون أنه الحق من ربهم؟ الحق أن المسلمين مقصّرون متهاونون في أداء هذا الواجب الذي يفرضه الدين عليهم، إن الدين دعوة، ولابدّ لهذه الدعوة من دعاة يبلغونها إلى الناس، ويكشفون لهم عن وجه الحقائق فيها، وهذه هي الحكمة من إرسال رسل الله إلى الناس مع ما يحملون إليهم من رسالات الله، وإلا لوقف الرسول بمهمته عند وضع الرسالة بين أيدي الناس دون أن يقطع عمره كله واقفا عليها، مناعا عنها، متحملا الأذى والضر في سبيلها، ثم كيف يكون هذا موقفنا والله قد أناط بنا حمل أمانة الدعوة إلى دينه؟ فقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[23].

        والدعوة إلى دين الله أمر مطلوب من كل مسلم، وذلك بسيرته المحمودة في الناس، وبخلقه الكريم، وسلوكه الطيب الذي يراه غير المسلمين عنه، في أقواله وأفعاله؛ فإن الدين بأهله، والناس إنما ينظرون إلى الدين فيما يرون من آثاره في المتدينين به، قبل أن ينظروا إليه في حقائقه،؛ فينبغي على أولي الأمر في الأقطار الإسلامية أن يحسنوا اختيار المبعوثين إلى أوربا وأمريكا من الطلاب وغيرهم؛ لأنه كثيرا ما يسيء هؤلاء المبعوثين إلى الإسلام بسوء سلوكهم، ويصيرون أخطر على الإسلام من أعدائه.

        أما الدعاة المتخصّصون العاملون في الميدانين الدفاعي والتبليغي فيجب عليهم أن يبينوا للناس حقائق الإسلام؛ لأن بيان هذه الحقائق كاف لإخماد أصوات أعداء الإسلام مهما كانت مرتفعة، كما أنه كاف لإحباط خطط هؤلاء الأعداء الذين يقف المستشرقون في مقدمتهم.

        وينبغي أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام دين الفطرة، وأنه هو المثل الأعلى للإنسانية؛ لأنه حرّر العقل وأطلقه من عقاله إطلاقا يعود على الإنسانية بكل خير، ودفع العقل دفعا ليتفكر في الكون ليسمو الجانب الروحي، وليفكر في تسخير الأشياء للإنسان ليرتقي الجانب المادي.

        ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام حرّر الإنسانية من ظلم البشرية وتناقضاتها، ووحّد القوى الإنسانية التي تقود العالمين إلى السعادة القصوى؛ ولذلك ختم الله به الديانات السماوية، وجعل نبي الإسلام صلوات الله عليه آخر لبنة في بيت النبوة العتيد؛ فتم بها بناؤه، وكمل بها رواؤه.

        وينبغي على الدعاة أن يبينوا للناس أن الإسلام هو النظام الإلهي الكامل الذي لا يمكن للإنسانية - في سعيها المتصل لبلوغ الكمال الإنساني - أن تجد أرقى منه في جميع مجالات الرقي؛ عقليا ونفسيا وخلقيا وعاطفيا وروحيا وماديا وفرديا واجتماعيا.

        ويجب أن يبين الدعاة أن الدين كله لله؛ فهو الذي يتعبد عباده بما يشاء، ويشرع لهم من الأحكام والحدود والفرائض والآداب ما اقتضته حكمته مما يعلم أن فيه صلاحهم وسعادتهم؛ فلا يجوز لأحد أن يزيد في دين الله ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه، وأنّ دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وأنّ الأنبياء كلهم إخوة؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنّ الواجب الإيمان بهم وما أنزل إليهم جميعا، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[24].

        ينبغي أن يبين الدعاة للناس أن العقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالله إلها واحدا لا تنبغي الإلهية إلا له، وعلى الإيمان بأن له وحده الأسماء الحسنى والصفات العليا.

        ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإيمان باليوم الآخر وبالبعث والجزاء مما يقتضيه العقل تحقيقا لقاعدة العدل؛ إذ ليس في المعقول ولا في الحكمة أن تكون هذه الحياة القصيرة هي الغاية من خلق هذا العالم الكبير، وأن تكون نهاية المؤمن والكافر سواء، ونهاية الظالم والمظلوم سواء، ونهاية البَرّ والفاجر سواء، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[25]، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[26].

        فإذا علم كل إنسان أنه مسئول عما قدم، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[27]، سلك في حياته سبيل الجادة وحاسب نفسه بنفسه؛ فلا يمكن أن يصبر على ذنب ارتكبه، ولا أن يقصر في أداء ما وجب عليه، وبهذا تستقيم الأمور في هذه الحياة.

        فإذا بيّن الدعاة أن العقيدة الإسلامية ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة، والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة لم يستطع عدوّ للإسلام من المستشرقين وأشباههم أن يقف في وجهه، أو يشوش على دعوته.

        وهذه هي الوسائل التي يستطيع المسلمون أن يواجهوا بها أساليب الاستشراق، ويحبطوا بها جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويحولوا بينه وبين الوصول إلى أهدافه التي أهمّها إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.


        خاتمـة

        إن كشف الجهود التي يبذلها الاستشراق في محاربة الإسلام بكل سلاح وبأية وسيلة أمر لازم لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة.

        وإذا كان الإسلام قد واجه في جميع أزمانه - منذ مطلع الدعوة حتى اليوم - كثيرا من القوى المعادية له، حتى دخل معارك ضارية متصلة باللسان مرة وبالسنان مرة أخرى، فإن ما يواجهه الإسلام في العصر الحديث من القوى المعادية له أشدّ ضراوة، وأبلغ كيدا مما واجهه من قبل، ويعدّ الاستشراق أخطر القوى التي تحارب الإسلام وتشوش على دعوته؛ لأنه يستعين بالعلم في محاربته للإسلام؛ فيستعمل أسلحة كثيرة متنوعة، ويستفيد من كل وسيلة يمكن أن تصل به إلى أهدافه، وتمكنه من إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.

        لهذا ينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يحاربوا الاستشراق بالعلم والخلق، وأن يحسنوا إعداد الدعاة الذين يتصدون للدعوة في ميدانيها الدفاعي والتبليغي؛ حتى يتمكنوا من إخراس ألسنة أعداء الإسلام الحاقدة بتوضيح حقائق دينهم القويم للناس أجمعين، وبذلك يندحر المستشرقون الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله رب العالمين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[28].

        والله يقول الحق ويهدي السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

        -*-*-/*-*-*-*-*-*-*-*-*-

        المراجع حسب الأرقام أعلاه:


        [1] جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى وزميله، ص 15.

        [2] جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ص 41.

        [3] سورة الحاقة: آية 44-47.

        [4] سورة الصف: آية 8.

        [5] سورة القيامة آية 20-21.

        [6] سورة الإنسان آية 27.

        [7] البقرة آية 132.

        [8] المائدة آية 87.

        [9] الأعراف آية 32.

        [10] النحل آية 97.

        [11] وليم جيمس: إرادة الاعتقاد ص 121 ترجمة الدكتور محمود حب الله.

        [12] سورة الزمر آية 9.

        [13] سورة المجادلة آية 11.

        [14] سورة طه آية 114.

        [15] سورة المنافقون آية 8.

        [16] سورة الشعراء: آية 193-195.

        [17] سورة يوسف: آية 21.

        [18] يمكن الرجوع إلى كتاب فصوص الحكم لابن عربي - وهو من القائلين بوحدة الوجود - لتتبين ما انتهى إليه أمر الصوفية من الضلال والإلحاد.

        [19] أبو الحسن الندوي: القادياني والقاديانية ص 19 وما بعدها.

        [20] توجد كتب في شرح البهائية بالانجليزية والفرنسية والفارسية والعربية.

        [21] من يريد مزيدا من المعلومات فليرجع إلى كتاب الندوي المذكور.

        [22] سورة الأنعام: آية 24.

        [23] سورة آل عمران: آية 105.

        [24] سورة البقرة: آية 285.

        [25] سورة ص: آية 27-28.

        [26] سورة الجاثية: آية 21.

        [27] سورة الزلزلة: آية 7-8.

        [28] سورة التوبة: آية 32-33.

        المنتدى العربى الموحد
        http://www.4uarab.com/vb/showthread.php?t=48039
        أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
        والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
        وينصر الله من ينصره

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ يوم مضى
        رد 1
        7 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ يوم مضى
        رد 1
        7 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ يوم مضى
        ردود 0
        8 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ يوم مضى
        رد 1
        8 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ يوم مضى
        ردود 2
        7 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        يعمل...