السلامُ عليكُم وَرحْمَةُ اللهِ وَبركاتُه
بدايَةً أختي الكريمَة أعْتَذِرُ - مُجدَّدا - على تأخُّري - مُجدَّدا - في الكِتابَةِ، أسألُ اللهَ تعالى أنْ يُصلِحَ أحْوالنا جَميعا.
سنبْدأ الآنَ في الانتِقالِ إلى الاستِدْلالِ العَقلِيِّ، وَلكِنَّ المَسارَ العَقليَّ يوجِبُ علينا نظرَةً أكثرَ تدقيقا في موضوعِ السؤالِ قبْلَ الانتِقالِ إلى الموضوعِ الرئيسيِّ المُتعلِّقِ باستِحالةِ الظلمِ في حَقِّ اللهِ تعالى.
فالناظِرُ المُعْمِلُ عَقلهُ في استِفسارِكِ بدايَةً يتبيَّنُ لهُ وَكأنَّكِ تضعينَ مُقدِّمَةً لا يستسيغُها العَقلُ ولا يوافِقُ عليها، وَاسمَحي لي أنْ أصيغها بدلا عَنكِ كما يلي:
* خلقُ حيواناتٍ مُشوَّهَةٍ وَأطفال مَريضةٍ ظلمٌ ===> فرْضٌ أوَّلٌ.
* عَدَمُ عِلمِنا بحِكمَةِ اللهِ في ذلِكَ دليلٌ على ثبوتِ الظلمِ في حَقِّهِ ===> فرْضٌ ثاني.
وَتَبْنين عَلى هَذينِ الفرْضينِ مُقدِّمَتَكِ للسؤالِ عَنْ الحِكمَةِ بأنَّ
عَدمَ عِلمِكِ بحِكمَةِ اللهِ تعالى مِنْ هَذا الخلقِ دليلٌ على أنَّهُ سُبحانهُ مَصْدرُ الشرورِ.
وَهذا ما سأتناوَلُ مُناقشتَهُ مَعكِ في هَذِهِ المُشارَكةِ بشئ مِنَ التفصيلِ بإذنِ الله.
فقط أُنبِّهُ أنَّ ما يَدفعُني لهذا الإسْهابِ في الإجابَةِ على هَذا السؤالِ ليسَ تَعْقيدَ السؤالِ وَلا أهميَّتَه، وَإنَّما لأنَّني أعْشقُ المَثلَ الذي يَقولُ "لا تُعطني سَمَكة وَلكِن أعْطني سِنَّارَة وَعلمني كيفَ أصطادُ" أو - حسبَ القِراءَةِ الأخرى - "أن تُعطني شبَكة صيْدٍ أفضل مِن أنْ تُعطني سِنَّارَة كلَّ يومٍ" .. فما أحاوِلُ فِعلَهُ أنَّني أعْطيكِ المَنْهَجَ الكامِلَ الذي تستطيعينَ بهِ الإجابَةَ على أيِّ سؤالٍ مِنْ هَذِهِ النوعيَّةِ، فهَذِهِ الأسئلةُ لا نِهايَةَ لها، وَلو أعْطيتني الوَقتَ الكافِي لاستطعْتُ اختراعَ مليون سؤالٍ لكِ على نفْسِ هَذا النسقِ (لماذا خلق الله هتلر .. لماذا خلق الله الشيطان .. لماذا خلق الله المرض .. لماذا خلق الله الفقر ... وهو ليه قتل القطة) إلى آخِرِه.
فبدلَ أنْ تقضي عُمرَكِ كلَّهُ في اللهاثِ خلفَ هَذا السرابِ يَجبُ تَحصينُكِ بالمَنهَجِ العامِّ الذي يَحكُمُ كلَّ هَذا النوعِ مِنَ القضايا وَيردُّها إلى قضيَّتِها الأساسيَّةِ.
فَسادُ الفرْضِ الأوَّلِ
الفرْضُ الأوَّلُ: خلقُ حيواناتٍ مُشوَّهَةٍ وَأطفال مَريضةٍ ظلمٌ.
هَذا الفرْضُ فاسِدٌ عَقلا لأنَّهُ يَجعَلُ الحُكمَ على الأشياءِ بظواهِرِها، بينما العَقلُ في جَميعِ أحوالِ الحياةِ يَعلمُ أنَّ الحُكمَ على الشئ لا يَكونُ بظاهِرِهِ فقط،
فأنتِ بعَقْلِكِ إذا رأيتِ إنْسانا لا تَعرفينَه مَسجونا وَلمْ تعلمي سبَبَ سجْنِهِ أو تُتابعي قضيَّتَهُ لنْ تستطيعي القولَ أنَّهُ مَظلومٌ، وَبطبيعَةِ الحالِ لنْ تستطيعي القولَ أنَّهُ غيرُ مَظلومٌ، وَما ستفعلينَهُ في هَذِهِ الحالةِ هوَ التوقُّفُ - إنْ لمْ يَكُن باستطاعتِكِ البحْثُ في أسبابِ سجْنِهِ - فتقولينَ "لا أعْلمُ إنْ كانَ مَظلوما أو غيرَ مَظلومٍ"، فجَهْلكِ بجَوهَرِ القضيَّةِ وَما وَراءها أو عِلمُكِ بذلِكَ يختلفُ على أساسِهِ حُكمُكِ على ذاتِ الفِعلِ بالظلمِ أو العَدْلِ.
فكذلِكَ لا يُمْكِنُكِ الحُكمُ على مُجرَّدِ فِعلِ خلقِ الحيوانِ المُشوَّهِ أو الطِفْلِ المَريضِ بالظلمِ أو العَدْلِ - حَتَّى وَإنْ خالفَ هَذا رأيَكِ أو اقتناعَكِ طالما أنَّ رأيَكِ أو اقتناعَكِ لا يَبنيانِ على أُسُسٍ مَوضوعيَّةٍ أو منطقيَّةٍ وَإنَّما على أسُسٍ عاطفيَّةٍ نابعَةٍ مِنَ استشعارِكِ الرأفةَ بهَذِهِ المَخلوقاتِ وَالشفقةَ عليها.
وَلو كانَ الأمْرُ بالعاطِفةِ لما كادَ مَرَضُ "شللِ الأطفالِ" أنْ يَختفي مِنْ على وَجْهِ الأرْضِ، فلِكَي يَختفي هَذا المرَضُ تألَّمَ مَلايينُ الأطفالِ أثناءَ تناولِهِم التطعيمَ ضِدَّ المَرَضِ، وَكانَت العاطِفةُ تقتضي ألا نسوقَ إلى أطفالِنا هَذا الألمَ.
وَلو كانَ الأمْرُ بالعاطِفةِ لماتَ جميعُ البشرِ جوعا وَانقرَضتْ البشريَّةُ، فالبشرُ طعامُهُم كلُّهُ مِنَ الأحياءِ سواء الأحياءُ الحيوانيَّةُ أو النباتيَّةُ، وَكانت العاطِفةُ تقتضي ألا نَهْدِمَ كلَّ هَذِهِ الحيواتِ.
وَلو كانَ الأمْرُ بالعاطِفَةِ ما حَدَثتْ الصحْوَةُ العِلميَّةُ في الطبِّ وَالهَندَسَةِ الوِراثيَّةِ وَالأبحاثِ البيئيَّةِ، فمَلياراتُ الحيواناتِ تألَّمَتْ أو ماتت في مَعامِلِ العُلماءِ وَالأطبَّاءِ بلْ وَحتَّى على مَناضِدِ الطلابِ في الجامِعاتِ، وَما كانَتْ العاطِفَة تَقتضي سوقَ العَذابِ إلى كلِّ هَذِهِ المَخلوقاتِ.
فليْسَ الأمْرُ بالعاطِفةِ
فَسادُ الفرْضِ الثاني
الفرْضُ الثاني: عَدَمُ عِلمِنا بحِكمَةِ اللهِ في ذلِكَ دليلٌ على ثبوتِ الظلمِ في حَقِّهِ.
وَهذا الفرْضُ لا يَستقيمُ في العَقلِ بوَجْهٍ مِنَ الوجوهِ، بلْ إنَّ القاعِدَةَ المَنطقيَّةَ المُستقِرَّةَ تقولُ إنَّ "عدَمَ العِلمِ لا يَعني عِلمَ العَدَمِ"، بلْ إنَّ هَذِهِ القاعِدَةَ تكادُ تَقتربُ مِنَ الكليَّاتِ المُطلقةِ، وَعلى هَذا فتطبيقاتُها لا حَصْرَ لها،
فعَدَمُ عِلمِكِ بما إنْ كنتُ تناولتُ طعامَ الغداءِ أو لا - لا يَقتضي الحُكمَ بأنَّني لمْ أتناوَلهُ،
وَعدَمُ عِلمِكِ إنْ كانتْ السماءُ عِندي مطيرةً الآنَ أمْ لا - لا يَقتضي كونَها غيرَ مَطيرَةٍ،
وَقديما كانَ النَّاسُ يَتنفَّسونَ الأكسجينَ وَهُمْ لا يَعلمونَ وجودَهُ.
فكذلِكِ عَدمُ عِلمِكِ بحِكْمَةِ اللهِ تعالى مِنْ خلقِ هَذا الخلقِ لا يَقتضي عدَمَ وجودِ حِكمَةٍ على وَجْهِ الحَقيقةِ،
وَلا سبيلَلإثباتِ الظلمِ في حَقِّ اللهِ تعالى إلا إثبات عدَمِ وجودِ حِكمَةٍ على الإطلاقِ،
وَطالما جَهلُ الحِكمَةِ لا يُثبتُ عَدَمَها تبقى قضيَّةُ الظلمِ غيرَ مَعلومَةٍ وَلا يُمْكِنُ القولُ بها.
فَسادُ المُقدِّمَةِ برُمَّتِها
لتِبيانِ فَسادِ المُقدِّمَةِ برُمَّتِها سأفترِضُ مَعَكِ أنَّنا لا نعْلمُ حِكمَةَ اللهِ تعالى مِنْ خلقِ هَذا الخلقِ ..
وَسأضعُ جوابا مُباشِرا وَدقيقا على سؤالِكِ الأوَّلِ ..
تسألينَ: لِماذا يَخلقُ اللهُ مَخلوقاتٍ مُشوَّهَة وأطفالا مَريضة ؟
أُجيبُ: لا أعْلمُ.
تقولينَ: إذا اللهُ سبَبُ الشرورِ وَالآلامِ.
أقول: لا ..
فالفرْضُ الأوَّلُ فاسِدٌ وَلا يُمكِنُكِ القولُ أنَّ خَلقَ هَذا الخلقِ ظلمٌ لمُجرَّدِ العاطِفةِ ..
وَالفَرْضُ الثاني فاسِدٌ وَلا يُمكِنُكِ نَفيُ الحِكمَةِ وَإثباتُ الظلمِ في حَقِّ اللهِ لجَهْلِكِ بها ..
فإذا كُنتِ لا تَستطيعينَ القولَ أنَّ هَذا الخلقَ ظلمٌ ولا تستطيعينَ نسبَةَ الظلمِ إلى اللهِ تعالى بسببهِ - فإنَّ مُقدِّمَتكِ التي تقولُ أنَّ اللهَ تعالى سببُ الشرورِ مُقدِّمَةٌ فاسِدَةٌ هِيَ الأخرى.
وَهذا هوَ المَنهجُ - العَقليُّ - الذي لا مَحيدَ عَنهُ في تناولِ جميعِ القضايا مِنْ هَذهِ النوعيَّةِ.
فما بالُكِ لو كانَ ثابتا لدينا بالوَحي الإلهِيِّ المَقطوعِ بنسبَتِهِ إلى اللهِ تعالى أنَّهُ سُبحانهُ لمْ يَخلقْ خلقا مِنْ خلقِهِ عَبثا بلْ كلُّ خلقِهِ مَخلوقٌ بتقديرٍ مُحْكَمٍ دقيقٍ، بلْ وَأنَّهُ سبْحانَهُ لا يَظلمُ مِثقالَ ذرَّةٍ ؟
وَما بالُكِ لو كانَ ثابتا لدينا بالتسلسُلِ العَقليِّ المَنطقِيِّ - كما سنرى بعدُ بإذنِ اللهِ - وجوبُ كمالِ الحِكمَةِ الإلهيَّةِ، وَامْتِناعُ الظلمِ في حَقِّ اللهِ ؟
أيُهدَمُ كلُّ هَذا البناءِ الشامِخِ مِنَ البراهينِ العُليا وَما نَعْرِفهُ عَنْ ربِّنا وَبارينا بمِثلِ هَذا المِعوَلِ الصدأ ظاهِرِ الفسادِ ؟
أجيبيني على هَذا السؤالِ الأخيرِ رجاءا أختي الكريمَةِ، وَأخبريني ما الذي استفدتيهِ مِنْ هَذا الحِوارِ حتَّى الآن.
وَفَّقكُم اللهُ تعالى وَهداكم.
تعليق