بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
( المسيحية الجديدة شركة مساهمة مفتوحة )
مر بنا الكلام على مستحيلات كيرلس ومعاندتها لبدائه العقل وضروراته ونقضها لقاعدته إلى جميع المعارف والعلوم ،
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33504
وقد بين القرآن هذه المعاندة للعقل وقاعدة معارفه بأتم ما يكون من البيان فقال تعالى : (( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [سورة المائدة : 75]
فأخبر أنهما كانا أهل حاجة إلى ما تقوم به أبدانهما من المطعم والمشرب كسائر بني آدم وفي الطعام أيضاً والشراب كناية عن الحدث فإن من أكل وشرب لابد له من البول والغائظ ، وفي عقول بني آدم تنزيه الخالق جل جلاله عن هذه الصفات .
ولما قدم وفد نصارى نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فناظروه في أمر عيسى عليه السلام أحالهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما استقر في عقولهم من التمييز بين صفات الخالق وصفات المخلوق فسكتوا وأقيمت الحجة عليهم .
فروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : (( ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟
قالوا بلى .
قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟
قالوا بلى .
قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟
قالوا بلى .
قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟
قالوا لا .
قال أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟
قالوا بلى .
قال فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما عُلِم ؟
قالوا لا .
قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون ذلك ؟
قالوا بلى .
قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟
قالوا بلى .
قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غُذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟
قالوا بلى .
قال فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟
فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً "(1)
( بين آريوس وأثناسيوس )
والحق أن الأنبا بيشوي هو الذي ورطنا مع كيرلس الأول الملقب بعمود الدين ونظريته في الوحدة ، وإلا فإنه لم يكن بأول من قال بتأليه المسيح ـ عليه السلام ـ ولا كان نسطور أول من نادى ببشريته ، ولكن الأنبا بيشوي جرجر الرجلين إلى ساحة " البيت بيتك " البرنامج التليفزيوني الشهير الذي يكاد يدخل كل بيت من بيوت مصر المحروسة ؛ ليُشْهِد مقدم البرنامج " محمود سعد " على أعظم جريمة وأخس خيانة يمكن أن يقوم بها إعلام دولة مسلمة ، وهي تذويب الفارق بين قول أهل الإسلام " لا إله إلا الله " وبين " تثليث النصارى " .
أما الصراع المصري المصري حول تأليه المسيح أو القول ببشريته فهو قديم أقدم من كيرلس ونسطور ، فقد كان ( آريوس ) [256-336 م] كاهن كنيسة بوكلا في الاسكندرية يقول بأن عيسى ـ عليه السلام ـ بشر مخلوق مسبوق بالعدم وليس أزلياً ، شأنه في ذلك شأن سائر المخلوقات ، وليس فيه من صفات الألوهية الذاتية شيء ، ككونه خالقاً كلي العلم والقدرة ، ويقول بأن وصفه بـ " ابن الله " مجاز عن التشريف والمبالغة في التعظيم .
قلت : يعني أن وصف المسيح بـ " ابن الله " عند آريوس جارٍ على عرف العهد القديم في وصف كل من له صلة بالله عز وجل من النبيين والصالحين وكل بار مستقيم بانه ابن الله ، وفي العهد القديم وصف كل من يعقوب ، وسليمان ، وإسرائيل ، وداود بذلك ، ولاشك أن هذا التوسع في المجاز والكناية أحد أدلة التحريف الذي طال الكتاب بعهديه القديم والجديد ، وقد رد القرآن هذا الغلو رداً صريحاً ، قال تعالى : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ )) [سورة المائدة : 18]
بل قد تعدى هذا المجاز وتلك الكناية والمبالغة فيهما في العهد القديم إلى الوصف الصريح بالألوهية ذاتها ، ففي سفر الخروج (7-1) : (فقال الرب لموسى : انظر أنا جعلتك إلهاً لفرعون ، وهارون أخوك يكون نبيك )
فانظر إلى التصريح في ( جعلتك إلهاً ) وتأكيده بلفظ ( نبيك ) ، ومع ذلك فالمقصود قطعاً هو الكناية يعني جعلتك هادياً لفرعون ومبلغاً له عن الله .
بل قد ورد التصريح بلفظ الألوهية في وصف قضاة بني إسرائيل وفي معرض توبيخهم على عدم القضاء لليتيم والأرملة ، كما في مزمور ( 82-6) : ( أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم ) .
ولاشك أن المقصود بوصف الألوهية هو المجاز والكناية ، يعني أنكم توقعون عن الله وتقضون بأحكامه فيلزمكم أن تعدلوا وتنصفوا اليتيم والأرملة والضعيف .
وكان في الطرف السكندري المقابل لآريوس يقف " اثناسيوس " بابا كنيسة الاسكندرية ، ينادي بألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ بل وهو الذي قرر قانون الإيمان النيقاوي في مجمع نيقية عام " 325م" ، وزاد في وصف عيسى بالبنوة ما ينفي عنها المجاز " المولود من الآب قبل كل الدهور " مع أن الولادة تستلزم سبق المولود بالعدم وهذا ينفي عنه الأزلية ، واقترح فيه أيضاً عبارة " مساوياً ـ أي الابن ـ ألآب في الجوهر " تحسباً لقول آريوس بعدم أزلية المسيح ، فكان هذا مع القول بالولادة أعظم في التناقض .
ومع أن اثناسيوس هذا قد احتمى بسيف الامبراطور قسطنطين الذي فرض بسطوته قانون الإيمان النيقاوي على الامبراطورية الرومانية ، إلا أن الظهور الفعلي كان لآريوس وتعاليمه ، إذ رفض المصريون قانون الإيمان النيقاوي ، وتعلقوا بتعاليم آريوس المفهومة الواضحة ، بل وتعدت تعاليم آريوس الاسكندرية عبر مينائها إلى سائر أرجاء الامبراطورية الرومانية حتى اضطرت الدولة إلى اتخاذ مذهب آريوس مذهباً رسمياً للدولة عام (359) .
وإذا كان كيرلس قد تمكن من نسطور في مجمع أفسس عام (431م) حتى حرمه ونفاه ، فإن انتصار آريوس على اثناسيوس كان حاسماً ، حتى أنه عاش أكثر عمره خائفاً هارباً من أتباع آريوس ، واختبأ في آخر عمره في قبر أبيه ، وقد حرمه مجمع صور " 335 " ونفاه .
وإذا كانت جمل كيرلس يخاصم بعضها بعضاً ، فإن الخصام على أشده بين كلمات أثناسيوس لا جمله ، ولقد قرأت عدداً من رسائله فرأيت تحفة سيريلية في كيفية إعدام معاني الكلمات المفردة ، فهذه حقيقة جمل اثناسيوس ، فكل كلمة تعدم معنى الكلمة التي قبلها وهكذا .
وقد فتشت كثيراً في كلامه لأجد بعض جمل مفيدة تعبر عن مذهبه ، وأحسب أني سأتحفك بأرجى جمله عند العقلاء ، إذ يقول في رده على الآريوسية : " إن تجسد الكلمة أبطل عضة الحية إذ صارت بلا مفعول، وبتقديم الجسد وضع الكلمة حداً للموت ومبدأ للحياة ، فبنتيجة التجسد صار للإنسان نصيباً في الطبيعة الإلهية ؛ لأن الكلمة لم يكن إنساناً وصار إلهاً بل إلهاً وصار إنساناً ليصيرنا آلهة ، وباتحاد الإنسان بجسد الكلمة صار الإنسان هيكلاً لله وبالتالي ابناً له بالتبني ؛ ولأنه لم يكن مستطاعاً للإنسان أن يتحد إلا بما هو بشري فقد اختار الكلمة أن يأخذ جسداً بشرياً ليقدس ويؤله الإنسان "(2) اهـ.
واي واي ، زاطت ـ كما يقول العامة ـ أصبحنا كلنا آلهة " ليصيرنا آلهة " ، " ويؤله الإنسان " وكلنا أصبحنا هياكل لله ، لا شك أن هذه اللغة السيريالية في التعبير عن هذه المستحيلات كانت أكبر عوناً لآريوس وأصحابه الذين صاغوا عقيدتهم في عبارات مستقيمة وألفاظ واضحة ، لكننا نلحظ هنا بوضوح دليل أثناسيوس على ألوهية المسيح ، وأنه الفداء لأجل الخلاص ، فلو كان المسيح بشراً لما تم الفداء للخلاص، وعن اثناسيوس توارث بابوات الاسكندرية هذا الاستدلال ، يقول شنودة في كتابه لاهوت المسيح تحت عنوان " أهمية الوحدة للكفارة والفداء " : " إن الإيمان بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد، هو أمر لازم وجوهري وأساسي للفداء. فالفداء يتطلب كفارة غير محدودة، تكفى لمغفرة خطايا غير محدودة، لجميع الناس في جميع العصور ؛ ولم يكن هناك سوى تجسد الله الكلمة ليجعل بلاهوته الكفارة غير محدودة " (3)اهـ.
( لا عقل ولا نقل )
ومع أن هذا التجسد المزعوم لأجل الفداء هو جوهر المسيحية الجديدة بنحلها المختلفة التي اتفقت وقامت على تأليه المسيح ، إلا أننا لا نجد له أدنى ذكر في كتابهم ـ العهد الجديد ـ الذي بين أيديهم ، هذا مع ما طاله من التحريف ، ومع أن تدوينه تأخر كثيراً عن ظهور وتأصيل فكرة التجسد !.
وفي مناظرة حديثة بين الفاضل الشيخ وسام عبد الله ، وبين القمص عبد المسيح بسيط ـ أستاذ الدفاع اللاهوتي ـ طالبه الشيخ وفي مقام التحدي وبلفظه " اتحداك أن تأتي بلفظ " التجسد " من الكتاب المقدس " فعجز القمص ، فأتي الشيخ من مؤلف للقمص باعتراف منه صريح بأنه لم يأت للتجسد ذكر في الكتاب المقدس !.
وقد قلنا من قبل وبينا أن التجسد هذا ممتنع في بداهة العقول ، وأنه يناقض قاعدة العقل إلى جميع معارفه ، فلا يصح مع القول به في العقول شيء ، إذن فهذه المسيحية الجديدة بلا عقل ولا نقل ولو محرفاً .
( الشريك المساهم الجديد )
إننا حين نقول المسيحية الجديدة نعني بها مسيحية ما بعد المسيح ـ عليه السلام ـ وهذه المسيحية أشبه ما تكون بشركة مساهمة ، المشكلة أن الشركة لازالت تقبل الاكتتاب ، فبين الحين والحين تعديل جديد سواء بالحذف أو الإضافة ، وإن أحدث المكتتبين هو الأنبا بيشوي نفسه سبب هذه المقالات ، إذ اقترح أن يقيد قوله تعالى : (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )) [سورة المائدة : 17] بـ كلمة " الآن " وقال بأنه نفسه يكفر من يقول إن الله هو المسيح ابن مريم الآن .
قلت : وهذا الكلام أشبه بنكت الحشاشيين منه بنكت الحمقى والمغفلين ، بل ربما رجحت به كفته كفة البلبوصي سيد القمني(*) وإلا فليتفضل نيافة الأنبا ويبين لنا لماذا صار إله الأمس بشراً اليوم !؟.
والعجيب أنه قال ما قال مراعاة لرغبة شنودة في تهدئة مشاعر المسلمين ، فإذا به يشعل النار في قلوب النصارى فكان حاله معهم أشبه بالمثل العامي السائر " جه يكحلها عماها " وأظن أن إرساله إلى الدير كان بسبب هذه المساهمة الكنسية الفعالة .
( الشريك المؤسس الأول)
ولا يختلف اثنان أن أعظم الشركاًء أثراً على المسيحية هو بولس الرسول (3ـ 62م) المؤسس الأول لمسيحية ما بعد المسيح حتى أن الكثير يصفها بأنها " مسيحية بولس " .
ويجدر هنا التنبيه على أن وصف بولس بـ " الرسول " فيه تجوز من وجهين :
الأول : اعترافه الصريح بأنه لا يتكلم عن وحي الذي هو سمة النبوة والرسالة .
ففي رسالته الأولى إلى كورنثوس ( 11: 16-17 ) يقول : " أقول مرة أخرى لا يظن أحد أني غبي ، وإلا فاقبلوني ولو كغبي . كي أفتخر أنا قليلاً .
الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة " foolishness " في جسارة الافتخار هذه " .
فقوله " لست أتكلم به بحسب الرب " صريح بأنه لا يتكلم عن وحي كسائر الأنبياء والرسل . وقد وصف بولس كلامه بالعامية ففي كورنثوس الأولى ( 11/6) : " لأني أحسب أني لم أنقص شيئاً عن فائقي الرسل وإن كنت عامياً في الكلام .." .
وقوله " لأني أحسب أني لا أنقص شيئاً عن فائقي الرسل " صريح بأنه ليس منهم .
الثاني : أن بولس هو الذي لقب نفسه بالرسول ففي رسالة بولس إلى أهل رومية (1: 1) : " بولس عبد ليسوع المدعو رسولا الْمُفْرِز لإنجيل الله "
وفي نسخة الملك جيمس الانجليزية "apostle " ومعناها حواري وليس نبياً .
والحق أن بولس ليس حوارياً فهو لم يلق عيسى عليه السلام أبداً، وليس بينه وبين عيسى ـ عليه السلام ـ أدنى صلة إلا من خلال تلك الرؤيا التي ادعها بعد ما رفع الله عز وجل عيسى إليه ، ودعواهم بأنه صُلب ، فبولس هذا هو نفسه شاؤول اليهودي الطرسوسي الذي ولد في السنة الثالثة بعد الميلاد .
" أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكة " ( أعمال الرسل 22: 3) .
وهو فريسي متعصب ضد المسيح ودعوته وكان في غاية القسوة مع أتباع المسيح وتلاميذه ، ويصف في أعمال الرسل كيف كان يحرس راضياً أمتعة الذين رجموا سمعان أحد أتباع المسيح عليه السلام .
" وأخرجوه خارج المدينة ورجموه . والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاؤول " ( أعمال الرسل : 7 : 58 ) .
" وكان شاؤول راضياً بقتله " ( أعمال الرسل : 8 : 1)
ويقول في أحد رسائله " فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً في الديانة اليهودية أني كنت اضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها " ( غلاطية 1-13 )
وقد تزعم شاؤول مطاردة أتباع المسيح ، حتى أنه طلب من رئيس الكهنة تكليفاً بملاحقة الفارين إلى دمشق وإعادتهم مرة أخرى إلى أورشليم .
" أما شاؤول فلم يزل ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساً في الطريق رجالاً ونساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم " ( أعمال الرسل : 9: 2) .
ويزعم بولس أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد تجلى له وهو في طريقه إلى دمشق وقال له : أنا الرب يسوع .
" وفي ذهابه حدث أنه اقترب من دمشق فبغتة أبرق نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له : شاؤول لماذا تضطهدني .
فقال له : من أنت يا سيد ؟
فقال : أنا الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده ، صعب عليك أن ترفس مناخس " (أعمال الرسل 9: 5 ) .
وهنا وقبل أي شيء نجد بولس يؤسس للخطاب السوقي المبتذل عن الله عز وجل ، فالرب يشكو الاضطهاد " لماذا تضطدني " " أنا الرب يسوع الذي أنت تضطهده " ، والرب أيضاً ـ بحسب شاؤول ـ يستخدم ألفاظاً مبتذلة " صعب عليك أن ترفس مناخس " .
وفي معجم ألفاظ الكتاب المقدس في معنى مناخس : " قطعة من حديد ، دقيقة الرأس ، يستعملها الناس في نخس حيواناتهم لتسرع في السير " اهـ.
لكن الذي لم يقله المعجم أن هذا النخس إنما يكون ـ غالباً ـ في أدبار هذه الحيوانات . والمعنى في الترجمة الانجليزية للإنجيل أكثر ابتذالاً :
"it's hard for thee to kick Against the pricks " (Acts 9: 5)
وكلمة " thee" يستعملها المثقفون الانجليز بمعنى كلمةyou" " يعني أنت ، و " to kick Against the pricks " يعني ترفس ضد الغرزات ، فالرب ـ بحسب شاؤول ـ يغرز وشاؤول يرفس . ده كلام !؟
إننا لا نقارن أبداً ولا نطالب ببلاغة القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة في ضرب المثل واستعماله في البيان ، هذا محال ولم يخطر بالبال أصلاً ؛ فهذا وحي وتلك غباوة " foolishness " كما قال عنها صاحبها ، ولكننا فقط نطالب صاحب هذه الغباوة وتلك الجهالات بالكف عن الألفاظ البذيئة والمعاني السوقية في الحديث عن الإله .
ويستمر بولس في حكاية قصة هدايته ، وفي أعمال الرسل : " وللوقت جعل يكرز [يبشر] في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله " (أعمال الرسل : 9 : 20) .
إن بولس لم يأت بشاهد على هذه القصة ، ولم يأت ببينة بأنه مرسل من قبل المسيح كشأن سائر الرسل من قبل الله عز وجل .
والملفت أيضاً قضية خلافه الشديد مع تلاميذ المسيح الذين دخلوا معه في صراع مرير وأنكروا تعاليمه وحذروا منها ، أما هو فقد هاجمهم بقسوة بالغة ورماهم بالنفاق والرياء ، حتى استطاع أن ينفرد دونهم بالكرازة " التبشير " بالإنجيل ، وهذا ما ادعاه لنفسه . يقول بولس : " أظهر كلمته في أوقاتها الخاصة بالكرازة التي أُوتمنت أنا عليها بحسب أمر مخلصنا الله" ( تيطس : 1/3) .
لاحظ هنا تصريحه بأن المسيح المخلص هو الله ذاته .
والمقصود أن هذا الخلاف والصراع الشديد بين بولس وتلاميذ المسيح يؤكد بأن الرجل لم يكن مؤيداً ببينة من المسيح ، وإلا لسلموا له وقبلوه بينهم .
لماذا لا يكون بولس هذا جاسوساً يهودياً أراد أن يدمر المسيحية من داخلها !؟
إن تاريخ بولس كيهودي متعصب نذر نفسه لمحاربة المسيح وأتباعه يرشحه لهذا الدور بامتياز .
وأخلاقه أيضاً والتي وصفها بنفسه تقوي هذا الاحتمال جداً .
فبولس يدين بالكذب لنصرة ما يعتقده . ففي رسالته إلى أهل رومية يقول : " إذا كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أن بعد كخطاطئ " (3: 7) .
ورسل الله لا يكذبون أبداً بحال وإلا طرأ الشك على الوحي وسقطت حجة الله على عباده .
وبولس أيضاً يجيد التلون ، وقد ذهب فيه إلى حد يصح معه وصفه بالنفاق ،ففي رسالته الأولى إلى كورنثوس : " فإني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين .
(20) فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود . وللذين تحت الناموس ( الشريعة ) كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس .
(21) وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس . مع أني لست بلا ناموس الله بل تحت ناموس للمسيح لأربح الذين بلا ناموس .
(22) صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء . صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً .
(23) وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه " (9: 19-23) .
فإذا عرفت أن الذين بلا ناموس هم الوثنيون ، عرفت إلى أي حد بلغ تلون الرجل لتحقيق الهدف الذي صرح به هو الشراكة في الإنجيل ، وقد حقق فوق ما يصبو إليه ؛ إذ صار مهيمناً على سائر الأناجيل ، بل وصار تفسيره للمسيحية حكماً عليها قبولاً ورداً .
فلماذا لا تكون قصة هدايته هذه حيلة منه لنقض المسيحية من داخلها ، وإفسادها ووصمها بما يحط من قدرها ورتبتها في مقابلة الديانة اليهودية !؟
وهب أنك طالبت لاهوتياً منصفاً أن يأتي بدليل واحد يسلم له العقل على نفي هذا الاحتمال فماذا عساه يقول !؟
( نظرية بولس في التلقي )
ومع بولس وهدايته المزعومة ولدت نظرية الخطيئة الأصلية ، والفداء لأجل الخلاص ، وضرورة تأليه المسيح لأجل أن يتم الفداء ، وهذه مع الغباوة " foolishness " هي أصول المسيحية الحديثة ، مسيحية ما بعد المسيح ـ عليه السلام ـ ، فكيف مرر بولس هذه المعاندة لضرورة الفطرة وبدائه العقل !؟
لقد عمد بولس إلى الحقائق نفسها فقلبها ، فكان أشبه ما يكون بالساحر الذي يرهب الناس ليسحر أعينهم حتى يروا الأشياء على غير حقيقتها ، كذا فعل بولس ، فقد رهب الناس من إعمال العقل ومن عاقبة الفهم ، ثم قلب عليهم الأمور فصار الفهم والحكمة جهالة ، وصارت الجهالة والغباوة هي عين الحكمة ، وبهذا كسر قاعدة العقل في التمييز بين الأشياء كسراً لا جابر له .
ولقد وصف الدكتور مهندس محمد الحسيني نظرية بولس في التلقي في مقال له فنحن ننقل كلامه كما هو ، قال الفاضل : " ويلخص لنا بولس الرسول أن : ” فكرة الفداء والصلب “ ـ أي محور الديانة المسيحية ـ لا يمكن أن تسود إلا في غياب العقل والحكمة .. وغياب الفهم .. بل وتصلح مع الجهلة فقط ..
[ (18) فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله . (19) لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء . (20) أين الحكيم . أين الكاتب . أين مباحث هذا الدهر . ألم يجهّل الله حكمة هذا العالم . ]
( الكتاب المقدس : رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1 : 18 – 20 )
ويبين لنا ” بولس ” .. أن ” إله المسيحية ” يرى طريق الجهل والحماقة .. هو الطريق الأمثل لمعرفته ..
[ (21) لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة (أي بحماقة البشارة : by the foolishness of preaching)]
( الكتاب المقدس : رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1 : 21 )
أي أن الخالق قد استحسن أن يكون الطريق إليه .. هو ” طريق الجهل والحماقة “ ..!!! ولهذا يقدس بولس الجهل .. ويرفعه فوق الحكمة ..
[ (18) لا يخدعنّ أحد نفسه . إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما . (19) لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله لأنه مكتوب الآخذ الحكماء بمكرهم . (20) وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة . ]
( الكتاب المقدس : رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 3 : 18 – 20 )
فهذا هو فكر ” إله المسيحية ” عن الحكمة والحكماء .. فهو يرى أن أفكار الحكماء باطلة ..!!!
وماذا في المقابل .. في الوحي الإلهي الصادق ( العهد الحديث ) .. يأتي ذكر ” الحكمة ” مقترنة بمفهوم العلم والوحي .. كما في قوله تعالى ..
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) }
( القرآن المجيد : البقرة {2} : 151 )
وتقترن الحكمة ـ دائما ـ في الفكر الإسلامي .. بالخير ( وبكل الخير ) للإنسان .. وأنها هبة وعطاء من الله ( سبحانه وتعالى ) ..
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّر ُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) }
( القرآن المجيد : البقرة {2} : 269 )
[ أولوا الألباب : أصحاب العقول ]
وهذا ذكره ( سبحانه وتعالى ) .. عن عيسى ابن مريم ( عليه السلام ) .. ورسالته ..
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (سورة آل عمران : 48) } انتهى كلام الأخ الفاضل الكريم .
إننا نستطيع أن نقول بأن بولس قد أسس نظرية جديدة في تغييب العقل وكسر قاعدة معارفه عبر ثلاثة أمور :
· تحقير عقل المتلقي .
· إرهاب المتلقي من عاقبة استعماله لعقله .
· استئثار رجل الدين بالحقيقة كاملة وتفسيرها .
وعلى هذه النظرية في تغييب العقول قام سلطان الكنيسة على الفرد والمجتمع والدولة ، وهذا أصل صيحة ماركس فيما بعد " الدين أفيون الشعوب " .
( بين القمص عبد المسيح بسيط وهارت )
في كتاب للقمص عبد المسيح بسيط يقارن فيه بين المسيح والأنبياء باعتبار الأفضلية ، تعرض لمايكل هارت وكتابه " ( المائة : تقويم لأعظم الناس أثراً في التاريخ ) واصفاً إياه بالامريكي الكاثوليكي ـ والعهدة على عبد المسيح في ذلك ـ غير المتخصص في اللاهوت .
لكن لماذا هو غير متخصص ؟
يقول عبد المسيح بسيط متوجعاً : " وقد وضع فيها الربّ يسوع المسيح رقم ثلاثة في الترتيب "اهـ.
ومما ضاعف أوجاع عبد المسيح أن هارت قد زين أعلى قائمته بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يكتف هارت في مراغمة عبد المسيح بذلك حتى قال كثيراً مما يكره مما سنذكره في ثنايا كلامنا عن حصة كل من المسيح وبولس من المسيحية الجديدة مسيحية القمص عبد المسيح .
لكن المضحك هنا ـ وشر البلية ما يضحك ـ أن عبد المسيح هذا قد اندفع في فورة غضبه وحقده فأخذ يقارن بين إلهه المسيح وبين سائر الأنبياء، ونسي أن الله عز وجل لا يُقارن ولا ينبغي أن يُقارن بخلقه، فهتك ستر نفسه وأنه في باطنه غير مقتنع بحقيقة هذا الدين ـ ألوهية المسيح ـ الذي يتولى الدفاع عنه .
( هارت وقسمة الحصص بين المسيح وبولس )
يقول مايكل هارت في كتابه السالف الذكر في معرض تبريره تقديم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على المسيح ـ عليه السلام ـ في الترتيب مع أن أتباع المسيحية أكثر من ضعف المسلمين : " فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد ، وإنما أقامها اثنان : المسيح عليه السلام ، والقديس بولس ، لذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان ، فالمسيح ـ عليه السلام ـ قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية ، وكذلك نظرتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني ، أما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس ، فالمسيح هو صاحب الرسالة الروحية ولكن القديس بولس أضاف إليها عبادة المسيح ، كما أن القديس بولس هو الذي ألف جانباً كبيراً من العهد الجديد ، وكان المبشر الأول للمسيحية في القرن الأول للميلاد "(4)اهـ .
قلت : الحق أن وصف المسيح عليه السلام بما يوميء إلى الشراكة في هذه المسيحية الجديدة فيه قدر كبير من التجوز ، إذ أن حصته الفعلية لا تتعدى التسمية والاشتقاق اللغوي ، أما مبادئ الأخلاق التي دعى إليها المسيح ـ عليه السلام ـ فقد عاد هارت نفسه ليؤكد كسادها في سوق المسيحيين ، فيقول: " "الحقيقة أنها ـ مبادئ الأخلاق ـ لم تلق رواجاً واسعاً بين الناس ولا حتي هي مقبولة عند الناس ؛ فأكثر المسيحيين يرون أن الدعوة لأن ( نحب أعدائنا ) إسراف في المثالية لا يمكن تطبيقه إلا في عالم خيالي، ونحن عادة لا نطبق هذا المبدأ ولا نتوقع من الآخرين أن يفعلوا ذلك, ولا حتي ننصح أطفالنا أن يمشوا علي هداه "(5)اهـ.
هذا إذن نصيب المسيح ـ عليه السلام ـ من المسيحية الحديثة وأهلها في نظر هارت فلنرى رأيه في حصة بولس؛ يقول هارت : " وترجع عظمة بولس إلى تبشيره بالديانة المسيحية ، وإلى ما كتبه عنها ، وإلى تطويره لأصول الشريعة المسيحية ، فمن بين السبعة وعشرين سفراً من كتاب العهد الجديد ، نجد أن القديس بولس قد ألف أربعة عشر سفراً (6)، ومن أهم أفكاره[فكر وليس وحياً] أن يسوع لم يكن فقط نبياً بشراً وإنما كان إلهاً حقاً ، وأنه مات من أجل التكفير عن خطايا البشر ، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق الخلاص من الخطأ بالإيمان بالكتب المقدسة فقط ، وإنما بالإيمان بيسوع ، وأن الإنسان إذا آمن بيسوع فسوف تغفر خطاياه ، وهو أيضاً الذي أوضح الخطيئة الأولى " (7) اهـ.
لاشك أن تطوير بولس لأصول المسيحية على هذا النحو يفسر لنا لفظ هارت " من صنع " في قوله " أما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس " . فالرجل كما ترى اخترع ديانة جديدة انشئها إنشاء .
ويقول هارت: " وبولس هو المسؤول الأول عن تحويل الديانة المسيحية من مجرد طائفة يهودية إلى ديانة كبرى ، وهو المسؤول الأول عن تأليه المسيح ، بل أن بعض فلاسفة المسيحية يرون أنه هو الذي أقام المسيحية وليس المسيح ، ولكن ما كان يمكن أن يكون بولس الرسول هذا لولا المسيح نفسه "(8) اهـ.
إن هارت الذي وضع المسيح عليه السلام في المرتبة الثالثة من حيث التأثير ووضع بولس في المرتبة السادسة ، مع إقراره بأن بولس أعظم أثراً من المسيح ، يعتذر عن هذا الترتيب المعكوس الذي لا يتفق مع شرطه في الكتاب ؛ بأنه لولا المسيح لما كان بولس ، وقوله هذا في سياق ما ذكر يطابق القول بأنه لولا اسم المسيح لما كان بولس ، وفي مجمل ما سبق من كلامه ما يدل على أنه ليس بين المسيحية الحديثة والمسيح عليه السلام أكثر من الاشتقاق اللغوي ، ثم لم يلبث هارت أن صرح بهذا في بقوله : " ولهذه الأسباب فإن عدداً من الباحثين يرون أن مؤسس الديانة المسيحية هو القديس بولس ، وليس السيد المسيح ، وهذا يؤدي إلى أن نضع القديس بولس قبل السيد المسيح في هذه القائمة ، وليس واضحاً ما كان سيؤول إليه أمر المسيحية لولا القديس بولس ،ولكن من المؤكد أنه لا مسيحية بغير المسيح .
وليس من المنطقي في شيء أن يكون السيد المسيح مسؤولاً عن الذي أضافته الكنيسة ورجالها إلى الديانة المسيحية ، فكثيراً مما أضافوه يتنافى مع تعاليم السيد المسيح نفسه ..." اهـ.
وفي معرض تبرير هارت تقديمه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المسيح ـ عليه السلام ـ أشار إلى قضية عدم مسؤولية المسيح عن إضافات بولس ومن بعده من رجال الكنيسة ، يقول هارت : " ولكن لذلك أسباب:من بينها إن الرسول محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسي عليه السلام في الديانة المسيحية . وعلي الرغم من إن عيسي ـ عليه السلام ـ هو المسؤول عن مبادىء الأخلاق في المسيحية, غير إن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية, وهو أيضأ المسئول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب (العهد الجديد)
أما الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ فهو المسئول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعي والأخلاقي وأصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية والدنيوية ، كما أن القران الكريم نزل عليه وحده .
وفي القران الكريم وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وأخرتهم ،
والقران الكريم نزل علي الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ كاملاً ، وسجلت آياته وهو ما يزال حياً، وكان تسجيلاً في منتهي الدقة, فلم يتغير منه حرف واحد..وليس في المسيحية شيء مثلذلك . فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية بشبة القران الكريم . وكان اثر القران الكريم علي الناس بالغ العمق ؛ ولذلك كان اثر محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي الإسلام أكثر وأعمق من الذي تركة عيسي عليه السلام علي الديانة المسيحية "(10)اهـ.
لاشك أنك قد وقفت ـ بعد قراءة هذه المقاطع من كتاب هارت ـ على أسباب وجيهة لأوجاع القمص عبد المسيح ، وسبب وصفه لمايكل هارت بأنه غير متخصص في اللاهوت !.
( الشريك المؤسس الثاني )
يقول شنودة رأس الكنيسة في تعليقه على أحداث كنيسة العمرانية مشجعاً الشباب القبطي في تحديه لسلطة الدولة الأم العجوز : " إن الله الذي صُلب من أجلهم سيغضب على من يضطهدهم ، وأن نهاية الدولة المصرية سيكون نفس نهاية الدولة الرومانية التي اضطهدتهم ومنعت عباداتهم وكنائسهم ، وفي النهاية اعتنقت المسيحية بمرسوم رسمي "(11) اهـ.
ولسنا بصدد أحداث العمرانية ودلائلها وآثرها لكننا نريد أن نقف هنا قليلاً أمام هذا الأمل وما في باطنه من الاعتراف ، الأمل أن تتحول مصر إلى دولة مسيحية بمرسوم رسمي كما تحولت الدولة الرومانية ؛ فهل يمكن هذا !؟ وهل يأتي اليوم الذي تخرج منه الكتائب من مصر تحت لواء الصليب إلى دول الإسلام لتغيبها في ظلمات الشرك ، بعد أن حمل المسلمون إلى مصر الهدى والنور !؟
الله وحده يعلم ، ولكن المسلمين الآن ليسوا بأسعد حالاً مما كانوا عليه في الأندلس أيام سقطت بين أنياب النصارى !.
لكن في جوف أمل شنودة اعترافاً صريحاً بأن أصل وسبب تحول المسيحية إلى ديانة عالمية هو مرسوم رسمي من الامبراطور الوثني قسطنطين ، أصدره لاسباب سياسية وعسكرية مع بقائه هو ذاته على وثنيته إذ كان يسمي نفسه بـ " كبير حراس الآلهة " وهل كان لهذه الأغاليط عن الإله والكون والإنسان أن تنشئ أمة أو حتى دويلة صغيرة في جزيرة نائية في أطراف الأرض !؟ وأنى ذلك وأصحاب هذه الأغاليط لا يملكون التعبير عنها بعبارات مستقيمة واضحة !؟.
ولم يكن للديانة المسيحية على وجه العموم أن تكون ديانة عالمية أبداً، وأنى ذلك وأهلها متشاكسون مختلفون على الأصل الأول لأي عقيدة .... المعبود ! من هو !؟ وما هي صفاته !؟.
إن هذا يدلنا على طبيعة الدور الذي لعبه الأمبراطور الوثني قسطنطين في صناعة المسيحية الجديدة ، حتى إن النصارى يسمونه بـ " حامي المسيحية " وهذا قليل عليه ، فالرجل صنع المسيحية الحديثة ؛ ودوره في تأسيسها لا يقل عن دور المؤسس الأول شاؤول اليهودي الذي تسمى بـ " بولس الرسول " ، بل ربما يربو عليه ؛ إذ ظل الناس إلى ثلاثمائة عام بعد ميلاد المسيح ـ عليه السلام ـ ينظرون إلى أتباع هذه الأغاليط بتأفف وريبة ، فظلوا أوزاعاً مستخفين ببدعتهم ، مشردين في الأرض .
وفي عام ( 321م ) وبينما الصراع العسكري والسياسي على أشده بين الأمبراطور الوثني قسطنطين وخصمه الوثني " ماكسنيوس " فاجأ قسطنطين خصمه بمناورة بارعة إذ رفع راية المسيح ، مما حرم خصمه من ولاء بعض قواده ، لقد فعل قسطنطين ذلك مع بقائه على وثنيته ، وانتصر قسطنطين وقتل خصمه وأباد جيشه في مذبحة عظيمة ، كانت هي جواز المرور للمسيحية إلى أرجاء الأمبراطورية الرومانية .
وفي عام 324م سمح ببناء أول كنيسة ، فكانت هذه نواة السلطة الكنسية التي ستتمدد بعد ذلك لتخضع لها سلطة الامبراطورية كلها ، وتذل الأباطرة كما تجلى ذلك بأوضح ما يكون في عهد البابا جريجوري السابع .
لقد وضع هارت الامبراطور قسطنطين في قائمته تحت رقم (26) يقول هارت في ترجمته : " أول امبراطور روماني مسيحي وبسبب اعتناقه المسيحية وتشجيعه لها انتشرت فكان صاحب أعظم دور في تحويل المسيحية من مجرد عقيدة تلقى الاضطهاد إلى دين رسمي مسيطر على الملايين ..." .
ويقول هارت : " أصبح التحول إلى المسيحية سبباً كافياً للترقية في الوظائف الحكومية ولذلك اكتسبت الكنيسة في عصره سلطات هائلة ، وأصبحت لها حصانة أيضاً ، وفي عصره بنيت أشهر كنائس العالم ، كنيسة المهد ، وكنيسة بيت لحم ، وكنيسة القيامة في القدس .." (12).
ولم يقتصر دور قسطنطين في إنشاء المسيحية الحديثة على مدها بأسباب الرواج وتحويلها من هرطقة يستخفي أصحابها إلى ديانة علنية ، بل تعداه إلى إقرار مسيحية بولس وقتل وحرق كل من يخالفها ، فهو الذي تدخل في الخلاف بين آريوس ـ الأمل الباقي في العودة إلى المسيحية الحق ـ وبين اثناسيوس فحسمه لصالح هذا الأخير ، يصف هارت أثر هذا التدخل السافر على الديانة الارثوذكسية فيقول : " وقد لعب الامبراطور قسطنطين الأول دوراً هاماً في تاريخ الكنيسة فهو قد تدخل في الخلاف الديني الرهيب بين اتباع اثنين من رجال الكنيسة هما : آريوس ، واثناسيوس ، فعقد لذلك مجلساً سنة 325م ، ويعتبر أول مجمع كنسي في التاريخ ، وفي هذا المجلس كان للامبراطور دور عظيم وحسم الخلاف بين الطرفين ، وكان قراره هو الاساس للمسيحية الارثوذكسية "(13) اهـ.
لاشك أن الامبراطور قسطنيطين الأول هو الشريك الثاني الأعظم في إقرار المسيحية الحديثة ، وأنك لتحار بينه وبين بولس أيهما أعظم أثراً على هذه الديانة المخترعة ، ولو كان لنا أن نصيغ المسيحية الحديثة في معادلة لكانت كالآتي :
فكر شاؤول ( بولس الرسول ) + سيف الامبراطور قسطنطين = المسيحية العالمية الحديثة .
( امبراطورية النصارى ودولة الإسلام )
إننا نشير فقط إلى أصل النشأة والأثر ، ولن نقارن أبداً بين أشياء لا تقبل المقارنة أصلاً وكيف لنا أن نقارن بين دولة صنعها الوحي ، وأغاليط ورثت امبراطورية ، فلقد ورثت المسيحية الحديثة امبراطورية مترامية الأطراف ، أكبر امبراطورية في التاريخ؛ ورثتها بمرسوم كما يقر شنودة بابا الكنيسة ، بينما صنع الإسلام دولته انشئها إنشاء؛ إذ لم يعرف العرب قبل الإسلام مفهوم الدولة، ولم تتعد صورة المجتمع المدني عند العرب قبل الإسلام نظام القبيلة، وكان بين هذه القبائل الصغيرة المتجاورة أقبح تراث من التعدي ، والبغض ، والثأر ، وبين هذه الثلاث دارت حياة العرب في حلقة مفرغة من الظلم والظلام .
ثم جاء الإسلام فلم يمض قرناً من الزمان حتى سادت دولة الإسلام الأمم ، وإذ بالأمة المتخلفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قد شادت مجداً وحضارة وقامت من البشرية مقام الأستاذية فاستظلت البشرية بظلال حضارتها الوارفة ، وإذا كانت الامبراطورية الرومانية هي أكبر امبراطورية في التاريخ فإن دولة الإسلام كانت أعظم دولة في التاريخ بما أسدته للبشرية من قيم عقدية ضبطت تصور الناس عن الإله والكون والإنسان، وقيم حقوقية سياسية كانت أو اجتماعية أو سلوكية ضبطت دنيا الناس على الأرض، أما عسكرية الإسلام فكانت مفخرة للبشرية بأسرها ، فمع ما تمتع به سيف الإسلام من حسم لم يسبق إليه ، كان في غاية التعفف عن الضعفاء وغير المقاتلة . إنه السيف العاقل الرحيم والتاريخ يشهد وبأقلام الأعداء ، والحكم ما شهدت به الأعداء .
وفي المقابل كان ظهور المسيحية الحديثة في الامبراطورية الرومانية بداية لزوال حضارتها ومقدمة منطقية لعصور الظلام التي سادت أوربا فيما بعد .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري (3/163) .
(2) مقالة بعنوان " التجسد عند القديس أثناسيوس " للخورية سمير عوض مالكي .
(3) طبيعة المسيح ص 19.
(*) انظر المقالة الثالثة ( الامبراطور القادم ) .
(4) المائة : تقويم لأعظم الناس أثراً في التاريخ ص24 .
(5) المصدر نفسه ص 26.
(6) هذا على القول بأن بولس هو كاتب الرسالة إلى العبرانيين [الذين تركوا اليهودية ودخلوا في المسيحية] ، وقد اختلف في ذلك فالبعض ينسبها له ، والبعض ينسبها إلى برنابا ، والبعض ينسبها إلى لوقا .
(7) كتاب هارت ص 36.
(8) المصدر السابق ص37 .
(9) المصدر السابق ص 26.
(10) المصدر السابق ص 17.
(11) نقلاً عن الكاتب فراج إسماعيل بجريدة المصريين 26/11/2010.
(12) المصدر السابق ص 107-108.
(13) المصدر السابق ص 109.
تعليق