شرح عقيدة الثليث ونقضها عقليا ونقليا للشيخ عبد الرحمن الجزيري رحمه الله

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الإدريسي اكتشف المزيد حول الإدريسي
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 2 (0 أعضاء و 2 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الإدريسي
    1- عضو جديد
    • 29 ماي, 2008
    • 70

    شرح عقيدة الثليث ونقضها عقليا ونقليا للشيخ عبد الرحمن الجزيري رحمه الله



    بسم الله الرحمن الرحيم



    دراسة تحليلية دقيقة في إبطال عقيدة التثليث عقليا، ونقض الأدلة النقلية المعتمد عليها في إثباتها .. ودفع شبهات النصارى عن وجودها في المصادر الإسلامية.


    ملاحظة: أثناء القراءة .. الذي يقصده الشيخ عبد الرحمن الجزيري رحمه الله بــ"المؤلف" في كلامه، هو القس مؤلف كتاب "ميزان الحق" الذي يهاجم فيه الإسلام.






    يقول الشيخ رحمه الله:
    قال مؤلف البراهين العقلية في صحيفة رقم 131 ما نصه:
    "والآن لنرجع إلى تعليم الثالوث الأقدس وهو موضح في عدد 3-6 من القانون الأثناسيوسي كما يلي:
    (3) الإيمان الجامع هو أن نعبد إلها واحدا في ثالوث وثالوثا في وحدانية.
    (4) لا نخلط الأقانيم ولا نفصل الجوهر.
    (5) فإن للآب أقنوما على حدة وللإبن أقنوما آخر وللروح القدس أقنوما آخر.
    (5) ولكن لاهوت الآب والإبن والروح القدس كله واحد والمجد متساو والجلال أبدي معا."اهـ.
    وقد فسر الكاتب هذا القانون فقال ما نصه:
    "والمعنى أنهم يعبدون إلها واحدا بالنسبة لجوهره في ثالوث بالنسبة لأقانيمه وثالوثا من الأقانيم في وحدانية الجوهر ولا نخلط الأقانيم لأن كلا منهم قائم بذاته ولا نفصل الجوهر لأنه كله واحد"اهـ.
    ولكن المؤلف لم يوضح الموضوع على الوجه الاكمل وإنني سأوضحه لك إيضاحا تاما بعد أن اطلعت على كثير من من آراء شراحهم المعول عليها عندهم وإليك البيان :
    يقولون أن الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا مركب من ثلاثة أقانيم كل أقنوم متميز عن الآخر بوجوده الخاص وهو ذات لا صفة وهو مع ذلك لا يقال له جوهر بل الجوهر اسم لمجموع الثلاثة .. وإذا قلت لهم إذا كان الاقنوم ذاتا لا صفة فلماذا لا يطلق عليه جوهر؟! .. اجابوا بأنهم لا يعرفون حقيقة الأقنوم فلا يمكنهم أن يعبروا عنه بعبارة ما .. وإذا قلت لهم إن عدم معرفة الاقنوم تستلزم حتما عدم معرفة الإله المركب من الثلاثة فلا يصح أن يطلق عليه جوهرا .. قالوا إن ذلك فوق العقل فلا يناقشون فيه .. ويعبر بعضهم عن الاقنوم بأنه الاصل الموجود في كل واحد من الثلاثة بطريق التساوي .. وعلى كل حال فهم مجمعون على أن كل اقنوم متميز عن صاحبه بوجوده الخاص وأن كل واحد من الاقانيم الثلاثة له اوصاف تميزه عن الآخر فأحدها يقال له الأقنوم الأول وهو اقنوم الآب ويعتبر أصل الأقانيم .. يليه الأقنوم الثاني وهو اقنوم الإبن ويقولون أن الأقنوم الثاني صدر عن الاقنوم الأول وكيفية صدوره عن الأقنوم الاول أن للأول وهو أقنوم الآب عقلا وتفكيرا ففكر الآب في لاهوته (ذاته الإلهية) وعقلها فتولد من ذلك التفكير أقنوم الإبن وذلك الأقنوم مماثل لأقنوم الآب تماما وطبيعتهما واحدة كالصورة التي تنبطح في المرآة فتكون مماثلة لأصلها من جميع الوجوه فالأقنوم الثاني هو كالاقنوم الاول من جميع الوجوه إلا أن له وجودا خاصا به ويسميه بعضهم "صورة عقل الأقنوم الأول" لأنه تولد من تفكيره فكان صورة لعقله .. كما بينت لك .. ويسمونه أيضا "كلمة الأقنوم الأول" لأن التفكير يعبر عنه بالكلام ويسمونه أيضا ابنا لأن الإبن يصدر عن الأب وفيه بعض الشبه أما هذا فإنه مثل الآب من جميع الوجوه فهو احق بتسميته ابنا من الأبناء الشرعيين .. أما الأقنوم الثالث فقد صدر عن الآب والإبن معا بفعل الإرادة والمحبة لا بفعل العقل فالإله الممتزج من الآب والإبن وهما الاقنوم الأول والثاني أحب ذاته فتولد من هيجان الحب أقنوم ثالث ويعبر عن ذلك بعضهم بالإنبثاق فيقول انبثق من هيجان الإرادة ذلك الأقنوم الثالث وهو مساو في طبيعته للآخرين ويسمونه الروح القدس .. فالإله مركب من ثلاثة اقانيم كل واحد منها كصاحبه من جميع الوجوه ومع ذلك فكل واحد منهما ممتاز عن الآخر فالكل واحد لأنه مركب من ثلاث طبائع متجانسة متحدة وكل واحد منها هو الكل فيقال لأقنوم الآب أنه إله ولما كان مساويا في طبيعته لأقنوم الإبن كان أقنوم الإبن موجودا فيه ومثل ذلك يقال في باقيها .. وإنما اختص الروح القدس بهذا الإسم مع أنهم يقولون أن الآب روح والإبن روح لأنهم يعتبرون للأقانيم ثلاث مراتب مرتبة الآب وهي العليا ويليها مرتبة الإبن ويليها مرتبة الروح القدس فسمى الأول أبا وسمى الثاني ابنا ولم يبق إلا الثالث فلم يبق له اسم يناسب مرتبته فسموه بالإسم العام ويمثلون لذلك بآدم وقابيل وحواء فإن آدم أب وقابيل ابن وليس من المناسب أن تكون حواء بنت آدم فسموها حواء .. ورغما من أنهم يطلقون على هذه الثلاثة (أقانيم) بمعنى حقائق وجودية لكل واحد منها وجود خاص تمتاز به عن صاحبتها فإنهم يسمون أقنوم الإبن بالعلم والعقل ويسمون أقنوم الروح القدس بالإرادة والمحبة فالله مركب من ثلاثة أمور متميزة وهو مع ذلك واحد .. ثم يقولون أن اقنوم الإبن قد اتحد مع دم مريم فتجسد وظهر في جسد المسيح فالمسيح من حيث كونه أقنوما روحيا إله كامل ومن حيث كونه جسدا بشريا إنسان كامل ويطلقون على الأول (لاهوتا) وعلى الثاني (ناسوتا) .. هذا هو الذي يقولونه في الإله ذكرته لك بالإيضاح التام ولا أظن أن عقلا في الوجود يرضيه هذا القول أو يعبد إلها بهذا المعنى .. ولهذا قد اضطر مؤلف ميزان الحق أن يقول في صحيفة 204 ما نصه:
    "وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأ بل هو سر عجيب ويجب أن ننتظر أسرارا كثيرة في الكتب المقدسة (خصوصا) ما يتعلق بجوهر الله إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة وهذا محال..." إلى آخر ما قال .. وهذه العبارة تناقض ما تقدم له صريحا لأنه حكم بأن الله مركب من أقانيم وحكم بأنه يشبه خلقه من حيث كونه روحا ومثل لتركيبه بتركيب الإنسان ولكنه مع ذلك يقول هنا إنه سر ينبغي أن لا تجول فيه العقول .. ومن المضحك أنه يقول في صحيفة 249:
    "إن رفض إخواننا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعدا في المعرفة عنه وعليه نجد في مصر اليوم حديثا حل محل مثل شائع كل ما خطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك فبذلك ترى الإسلام يؤول إلى العدم معرفة الله "اهـ.
    والمضحك في هذه العبارة أنه أراد أن يقول أن رفض عقيدة الثالوث رفض لوجود الإله في زعمه هو لأنه يعتقد أن الإله يجب أن يكون مركبا من ثلاثة .. أحد الثلاثة لاهوت المسيح وهو اقنوم الإبن الذي سبقت الإشارة إليه ورفض لاهوت المسيح مصيبة عنده .. فظن أن المسلمين يقعون في تلك المصيبة التي هي نكران أقنوم المسيح ولاهوته ونسي أن المسلمين يؤمنون برفض لاهوت المسيح إيمانا جازما طبعا ويشهدون أنه عبد الله ورسوله وأنه بشر كسائر المخلوقات لم يمتز عن غيره إلا بالرسالة التي ميز الله بها يعض عباده الذين اصطفاهم لرسالته .. هذه هي عقيدة المسلمين في المسيح .. على أن القسيس يريد أن يقول أن المسلمين يقررون أن معرفة ذات الإله غير ممكنة لأنها من الأسرار التي لا تحيط بها العقول فكذلك المسيحيون يقولون أن ذات الإله سر من الاسرار لكنه لم يحسن التعبير..
    وتتلخص عبارات المبشرين في هذا الموضوع في أمور ثلاثة أحدها أن الله تعالى عما يقولون مركب من ثلاثة اقانيم متميزة .. كل واحد منها مغاير لصاحبه ولكنه مساو له في معنى الألوهية ومع ذلك فهو إله واحد وكل واحد له خاصة لا يشترك معه فيها اقنوم آخر وهذه الأقانيم الثلاثة وحدة متماسكة غير قابلة للإنفصال أزلا .. ولو فرض (وهذا الفرض مستحيل) أنه انفصل احد الأقانيم لا يكون إلها بالرغم من كونه مساويا لصاحبه من جميع الوجوه فذاتهم واحدة ومجدهم واحد وصفاتهم واحدة ومشيئتهم واحدة وهكذا في كل الصفات الإلهية وكل ذلك صرح به مؤلف ميزان الحق في صحيفة 240 .. ثانيا قرروا أن هذه النظرية فوق العقل فلا يمكن إدراكها .. على أنهم يمثلون لها بأمثلة يقولون أنها أمثلة تقريبية ومن ذلك حكمة يحيى بن معاذ التي ذكرها ميزان الحق وهي من عرف نفسه عرف ربه .. فكما أن الإنسان مركب من ثلاثة أشياء جسم ونفس وروح فكذلك الإله مركب من ثلاثة اقانيم كما بيناه آنفا .. ثالثا .. ومع ذلك فإنهم يقولون أن لهذا نظيرا عند المسلمين وهو أنهم يقولون أن ذات الله لا تعرف ولا تحيط بها العقول على انه احتج أيضا في صحيفة رقم 242 بأن المسلمين يقولون بتعدد صفات الإله فالتعدد عندهم لا ينافي وحدته وكذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر ..وهذه هي المسائل الثلاث التي قررها المبشرون وعمدتهم في بيانها ميزان الحق فاستمع لردها واحدة واحدة:
    أما المسألة الأولى فقد قلنا لك آنفا إن القول بتركيب ذات الإله من ثلاثة أقانيم على الكيفية التي وردت في العقيدة المسيحية لا يرضي بها احد من خلق الله لأن وقوعها مستحيل ولا يمكن لعاقل أن يقول أن معتقدها موحد ومنزه لإلهه ومن المدهش أن عقيدة كهذه تتملك نفوس عدد عظيم من الناس تحت تأثير انها فوق العقل وما دام قد اتى بها كتاب مقدس فينبغي الإذعان لها حتى ولو كانت بديهية العقل تقتضي بطلانها مع أن الأديان ما جاءت إلا بما ينطبق على العقول السليمة فهي تبرهن جميعها للناس على وجود إله واحد وتقيم له الأدلة على تنزيهه .. ومحال أن يأتي رسول يدعو الناس إلى إله واحد ثم يقول لهم إن هذا الواحد مركب من ثلاثة حقائق متماثلة متميزة متحدة ومع ذلك هو واحد ولو جاء رسول للناس بهذه النظرية وقال لهم إن التناقض الظاهر لكم فوق عقولكم لما آمن به أحد ولفضلوا عبادة الأوثان التي لا تعقيد فيها أو عبادة آلهة متحدة على هذه العقيدة المعقدة التي تصادم الحس وتخالف بديهية العقل .. وغريب أنهم يقولون أن الثلاثة حقائق وجودية قائمة بنفس الصفات وأنها متميزة ومعدودة .. غاية ما هناك أنها متماثلة فهل رايت أو سمعت أن المثلين يمكن اتحادهما بحيث يصير أحدهما عين الآخر؟!.. مثلا زيد وعمرو التوءمان المشتركان في الإنسانية والوجود وجميع الصفات ما عدا الوجود الخاص الذي يميز أحدهما عن الآخر فهل يقبل العقل ان زيدا وعمرو قد اتحدا وصار أحدهما الآخر؟! كلا إن ذلك محال بالبداهة فإذا وجد من الناس من ينكر البديهي قيل له إنها لا يمكن اتحادهما إلا بعد زوال شخصية زيد وشخصية عمرو فإذا زالت شخصيتهما لا بد ان تحل بعد زوالها شخصية اخرى وحينئذ فلا يكونان متحدين وإذا انعدمت شخصية احدهما ولم تنعدم الأخرى لا يتاتى الإتحاد بين الموجود والمعدوم .. ولنفرض سريرين مركبين من مادة مساوية للاخرى من جميع الوجوه ولكن لكل منها وجود خاص يميزه عن الآخر بحيث يشار إلى كل منهما على حدة ثم ألصق احد السريرين بالآخر مع بقاء شخصية كل سرير على حالها فهل ذلك الإلصاق يغير شخصيتهما أو يظل كل واحد منها باق على وجوده الخاص لاشك في بقاء السريرين على حالهما فإذا أريد إعدام شخصيتهما لا بد من إزالة تركيبهما أولا وعمل سرير آخر من مجموع خشبهما وعند ذلك تحدث هيئة أخرى يتكون منها سرير جديد غير السريرين اللذين انعدمت شخصيتهما ذلك هو الذي اتفق عليه العقلاء في كل زمان ومكان .. نعم قالوا يصح أن يطلق الإتحاد على انتقال شيئ من حالة إلى حالة أخرى كانتقال المسمار والخيط من حالتهما بالتركيب والجمع بينهما إلى حالة الحصير فإن أراد الإله مركب من ثلاثة أجزاء كل جزء لا يوجد فيه الكل كالحصير المركبة من الأجزاء الثلاثة يكون ذلك القول ممكن الوقوع في الخارج وإن كانت ذات الإله تعالى وتقدس منزهة عن التركيب من اجزاء لأن الكل لا يتحقق بدون أجزائه طبعا فإن الحصير لا توجد إلا إذا وجد أولا المسمار والخيط وحينئذ يكون الكل محتاجا إلى أجزائه فالإله المركب محتاج إلى أجزائه التي يتركب منها مع أن الإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه فلو احتاج في وجوده إلى شيئ ما لكان حادثا لا يصلح أن يفيد العالم بالوجود .. وكيف يمكنه أن يعطي العالم الوجود وهو مثلهم محتاج؟! ولا يصح أن يقال أن أجزاء الشيئ عينه فاحتياجه إليها احتياج لنفسه لانه لو صح ذلك لصح إطلاق اسم الحصير على الخيط والمسمار قبل تركيبهما وذلك باطل بالبداهة وايضا لو كان الأمر مركبا من اجزاء لكان كل جزء من اجزائه مقدما عليه في الوجود بالضرورة لأن الجزء مقدم على الكل عند جميع العقلاء ولو كان الجزء مقدما لكانت مرتبته في الالوهية مقدمة فكان هو أحق بأن يكون إلها من الكل فالتركيب في ذات الإله محال قطعا على أي حال ولكن التركيب من أجزاء كل جزء منها غير الكل ممكن الوقوع في الخارج في غير ذات الإله .. أما التركيب بمعنى الإتحاد الحقيقي وهو ان يجتمع ثلاثة جواهر متميزة لكل واحد منها وجود خاص يمتاز به عن صاحبه بحيث يكون أحدهما أولا لثان وثالث وأن كل واحد منهما يصدق عليه الكل لتماثلهم في الحقيقة فذلك مستحيل الوقوع بالنسبة للإله وللمخلوقات ومن يمكنه أن يتصور أن زيدا وعمرا قد اتحدا مع بقاء شخصية كل منهما فإنه يمكنه ان يتصور اتحاد الاقانيم الثلاثة مع بقاء شخصية كل واحد منهم .. ومع هذا كله فلنسلم جدلا بانه يمكن ان يقع في الوجود اتحاد ثلاثة جواهر متماثلة اتحادا حقيقيا بحيث يصير أحدهم عين الآخر ولكننا نسأل المبشرين ما هو غرضهم من اتحاد الأقانيم في الأزل في الذات والصفات الذي ذكره ميزان الحق في صحيفة رقم 240 فإن كانوا يريدون به أنهم متساوون في الرتبة أيضا وهو الذي يظهر من كلامه فإن ظاهر نصوص الإنجيل تنافيه .. أما اولا .. فلأنه نقل في نفس تلك الصحيفة عن الكتاب المقدس ما نصه:
    "لكل اقنوم وصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب الأول الآب والخالق والثاني ابن الله والفادي والثالث المقدس والمعزي "اهـ .
    وذلك ظاهر في أن الآب له مرتبة أعلى من مرتبة الإبن وهو ما يعطيه ظاهر قول المسيح أيضا ((أبي اعظم مني)) والتاويل الذي ذكره المؤلف في الصحيفة المذكورة لهذه الجملة من انه يريد أنه أعظم منه من حيث ناسوته غير ظاهر لان المراد بالناسوت هو الجسم البشري بقطع النظر عما يتعلق به من المعاني الروحية وتفضيل الإله على الجسم ليس من مقاصد العقلاء فضلا عن الأنبياء فضلا عن الآلهة لانه لا يخفى عن أحد أن الإله افضل من الاجسام فما هي الفائدة من إخبار المسيح بذلك وهل من المناسب أن يقول المرء أن الله افضل من أجسام عباده فلا بد أن يكون الغرض تفضيل أقنوم الآب على اقنوم الإبن .. وأما الثاني .. فلأنهم إذا قالوا أنه لا تفاضل بين أقنوم الآب والإبن فلايكون لتسمية أقنوم الآب ابا والثاني ابنا معنى لأن مرتبتهما واحدة فلماذا جعل الأول أبا؟! وكذلك لا يكون لتسمية "الإبن كلمة الاب" معنى وأيضا فلا يكون لتسمية "صورة عقل الآب" معنى وذلك هو أساس شرح عقيدة الثالوث عندهم فذلك دليل على أن مرتبة الآب أعلى من مرتبة الإبن .. وذلك يستدعي أن يكون الأقنوم الثاني أثرا للأقنوم الأول فيكون ممكنا والذي يطلع على كتبهم يرى أنهم يجمعون على أن الآب ينبوع الإبن وأن الإبن صادر عن تفكير الآب في ذاته فيكون أثرا له حتما فكيف يكون مركبا منه مع أن البداهة تجزم بأن المركب من الممكن ممكن؟! .. سلمنا أنهم متساوون في كل شيئ أزلا افليس أحدهما أثرا للآخر كما يحاول المؤلف ذلك في العبارة التي نقلتها عنه ولكننا نقول له إذا وجد ثلاثة حقائق قائمة بنفسها مجردة عن المادة ازلا كل واحد منهم تقتضي ذاته الوجود فلا معنى لهذا إلا وجود ثلاثة آلهة كاملة لأن الذي ذاته تقتضي الوجود يكون إلها كاملا من جميع الوجوه ومتى وجد آلهة ثلاثة كان من طبيعة كل منهم التفرد بالسلطان المطلق لأن ضعف السلطان نقص وذلك يفضي إلى التنازع حتما فيختل نظام العالم ويتنازع الآلهة (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ومن السخرية أن يقال أن الآلهة الثلاثة قد اتحدوا وصاروا إلها واحدا بل من السخرية أن يقال إن الثلاثة لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة وسلطان كل واحد منهم ازلي إذ من البديهي الذي لا يرتاب فيه احد أن الإله يجب أن يكون كاملا من جميع الوجوه فيجب ان يكون كل أقنوم من الأقانيم متصفا بصفات كاملة فينبغي ان تكون مشيئة كل واحد منهما كاملة وقدرته كاملة وسلطانه كامل ومتى ثبت أن هذه الصفات يجب تكون كاملة فإنه يستحيل اتحادهما كما يستحيل اتحاد الذوات وذلك لأن معنى الإتحاد فناء احدى الصفات في الأخرى بحيث تصير إحداهما عين الأخرى وبديهي أن التي تفنى في غيرها لا تكون كاملة فإذا فرضنا أن قدرة كل أقنوم منهم كاملة ولكن فنيت اثنتان وهما قدرة الإبن وقدرة الروح القدس في قدرة الآب فلا نشك في أن يكون الفاني ناقصا ويلزم من ذلك أن يكون نفس الأقنوم ناقصا أيضا فإن المتصف بالناقص ناقص وذلك بديهي فقوله أن لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة ...إلخ لا معنى له .. لعلك تقول أنه يريد من اتحادهم في الصفات أنهم يعملون بالإتفاق فكل منهم له قدرة كاملة مثلا ولكنهم يوجهون معا إلى الأثر الذي يريدون إيجاده أو يتفقون على أن قدرة أحدهم تعمل وحدها والجواب أن هذا واضح الفساد .. أما الأول فلأن القدرتين إذا تعلقتا معا بإيجاد شخص مثلا والمفروض أن إحداهما كافية فيه كان إيجاده بإحداهما فقط أما الأخرى فتكون ملغاة لا عمل لها ألا ترى أنك إذا وضعت قدرا فيه ماء على نار حامية حتى وصل الماء إلى نهاية درجة الغليان ثم سلطت عليه نارا أخرى مثلها فإنها لا تزيد في غليانه شيئا لأنه قد وصل إلى نهايته فكذلك القدرة التامة إذا تعلقت بشيئ كان أثرا لها وحدها فتكون الثانية ملغاة لا عمل لها فإن قلت إنها أحدثت فيه أثرا مماثلا لأثر القدرة الأخرى بأن أوجدته الأولى ثم أوجدته الثانية كان الخلل أشد ظهورا فإنه لا معنى لإيجاد الموجود وإذا قلت أن القدرتين تعاونتا على إيجاده كان معنى ذلك أن كلا منهما لا يكفي في إيجاده فتكون القدرتان في هذه الحالة ناقصتين ويكون المتصف بهما إلهين ناقصين وأما الثاني فلأنه إذا عملت قدرة أحدهما وتعطلت قدرة الثاني كان المعطل ناقصا بالبداهة والمفروض أنه كامل فالنتيجة الطبيعية لذلك أنه يستحيل اتحاد قدرة الأقانيم كما يستحيل اتحاد ذواتهم وبذلك يتضح جليا أن القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة عن المادة ممتازة عن بعضها متحدة في الذات والصفات وأن مجموع الثلاثة إله واحد قول هراء كما قال الأستاذ الأبوصيري مخاطبا لهم بقوله:
    "إن قولا أطلقتموه على الله تعالى شأنه لقول هراء"
    لعلك تقول أن بطلان عقيدة الثالوث لا تخفى على أحد من خلق الله ولهذا نقل المؤرخون أنها لم يوجد لها اثر في الأمم الماضية من لدن آدم إلى موسى عليه السلام اللهم إلا عند بعض فلاسفة الوثنية .. والمسيحيون أنفسهم يشعورون بذلك التناقض ولكنهم يعتذرون عنه بأنه فوق العقل وخارج عن دائرة البحث والتفكير وإذا كان كذلك فلسنا في حاجة إلى كل هذه الأدلة .. والجواب أنني وإن كنت أوافق حقا على أن هذه العقيدة واضحة البطلان وأنني على رأي صاحب الملل والنحل الذي يقول "لولا أننا نرى بأعيننا أناس يقررون هذه العقيدة ويدينون بها ما صدقنا أن العقول البشرية تقبل عقيدة كهذه" .. ولكنني أردت أن أتمشى مع المبشرين خاصة صاحب ميزان الحق الذي يحسبه كثير من المبشرين عمدتهم .. فإن حضرته لم يتواضع تواضه كثير منهم ولم يقف عند حد أن هذه العقيدة غير معقولة حقا ويعتذر بأنه ليس كل غير معقول يجب رفضه بل حاول ان يبرهن عليها وأن يمثل بما يقربها إلى العقول ويجعلها جارية على سنن المنطق .. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه قد فهم خطأ فيما يقوله المسلمون من أن ذات الإله لا يمكن إدراكها فأردت أن أفهمه أن المسلمين لا يقبلون إلا ما كان منطقيا على العقل وذلك نموذج من أدلة المسلمين على توحيد الإله سبحانه ..وإذ قد عرفت الرد على نظرية المؤلف .. الأولى في القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة كل واحد منها متصف بصفات الكمال ثم اتحدوا في الذات والصفات وصاروا إلها واحدا وعرفت أن ذلك مستحيل بداهة فاستمع لرد ما مثل به في إمكان ذلك وعدم استحالته .. إنه قد يأتي بمثال لا يسع من يتأمله إلا أن يضحك بملئ فيه فقد زعم أن الإنسان مخلوق على مثال الله وهو مركب من ثلاثة أشياء متميزة إلا أنه واحد فزيد مثلا مركب من جسم وروح ونفس فإذا أراد أن يتكلم عن جسمه فإنه يصح ان يقول "أنا" بمعنى أنه هو هو ومتحد معه وإذا أراد أن يتكلم عن روحه فإنه كذلك يقول "أنا" بمعنى أنه هو روحه ومتحد معها وإذا اراد أن يتكلم عن نفسه فإنه يقول "أنا" ومع ذلك فإن نفسه ممتازة عن جسمه وممتازة عن روحه ويلاحظ أن المؤلف لم يقل انها متميزة بالفعل بل قال (يكاد يتميز أحدها عن الآخر) فيصح حينئذ أن يكون كل واحد من الثلاثة هو زيد فالنفس زيد والجسم زيد والروح زيد ومع كون الثلاثة ممتازة فلم يكن فيها إلا شخص واحد وهو زيد فحينئذ يمكن أن يكون الثلاثة واحدا أو الواحد ثلاثة هكذا يقرر القسيس ويقرر مع هذا أنه إذا انفصل كل واحد عن الآخرين كانا موجودين فيه .. نظير الإله المركب من الأقانيم تماما .. ولكن هل مثل هذا القول يصدر عن تفكير صحيح وهل يؤمن المبشرون حقا بصحة هذا الكلام فلننظر .. لا ريب في أن الإنسان مركب من أجزاء مادية محسة ومتصف بصفات مشاهدة ايضا وإلى جانب هذا يتعلق به امور معنوية فأما الأمور المادية فهي الخلايا المركب منها الجسم الإنساني المكونة من العناصر المختلفة كالفوسفور والأوكسجين والأيدورجين والآزوت .. والخلية هي عبارة عن كتلة صغيرة ذات شكل معين ويمكن تمثيلها باللبنة (الطوبة) ويتركب كل عضو من اعضاء ثانوية تسمى بالأنسجة وتنقسم إلى انسجة مختلفة نسيج عظمي ونسيج غضروفي ونسيج عضلي ونسيج طلائي وهو الجلد الذي يغطي هذه الأنسجة .. كالحائط المبنية من الطوب أولا ثم تغطى بالجص والبياض كما هو مبين في موضعه .. فإذا شئت أن تقتصر قلت أن الجسم الإنساني هو ذلك المحس المشاهد المركب من اللحم والدم والعظم والعروق والأعصاب والأعضاء الباطنة والظاهرة التي يمدها المخ بواسطة النخاع الشوكي ويعمل القلب في توزيع الدم .. هذه هي الأجزاء المادية التي يتركب منها جسم الإنسان وأما غير ذلك من الأمور المعنوية فلم يقل أحد من العقلاء أنها جزء من اجزاء جسم الإنسان أو أنها هي عين جسم الإنسان إنما الذي يقول إن هناك أمورا معنوية قائمة بالإنسان كالروح المجردة عن المادة عند من يقول بها من المفكرين فإنما يقولون أنها متعلقة بالإنسان تعلقا معنويا كتعلق العاشق بمعشوقته ولم يقل أحد منهم أنها جزء من أجزاء الجسم أو أنها متحدة مع الجسم ثم أنها إذا انفصلت عن الجسم الإنساني لا يكون موجودا فيها ولا تكون موجودة فيه حتما لأنها مجردة عن المادة وهو مادي فكيف يعقل أن تكون هي عينه ومتحدة به وكيف يتحد المادي بالمجرد .. ألا ترى معي أن كبوة المبشرين في تمثيلهم أشد من كبوتهم في تقرير قاعدة الثالوث .. ويعجبني مؤلف الادلة العقلية فهو وإن كان قد مثل تمثيلا كهذا ولكن قال أن هذا التمثيل لا يفيد وهو لا يفيد حقا لأن اتحاد ثلاثة حقائق مجردة (غير مادية) ببعضها قد يكون لهم فيها شبه وجه لتماثلها في الماهية أما اتحاد متباينين مادي ومجرد فهو خارج من طوق العقل الإنساني بالمرة ولكن يظهر أن المبشرين يتكلمون كلام من لا يبالي بالمحالات العقلية فهم يجوزون اتحاد المجرد بالمادي كما سيأتي في الكلام على اتحاد أقنوم الإبن بدم مريم .. على أن هناك أمرا آخر خفي على مؤلف ميزان الحق فقد ضرب المثل وهو غافل لاه لم يتفطن إلى ما عساه أن يسال عنه وإلا فماذا يكون حاله إذا قال له قائل ليس في الوجود إلا أن الإنسان مركب من مادة وغير مادة فأما المادة فهي الجسم وأما غير المادة فهي الروح وما هي النفس الثالثة التي تكاد تتميز عن هذين الأمرين هل هي مادة اخرى أو هي مجردة عن المادة في شكل آخر أم ماذا هي؟ وبديهي أنه لا يستطيع أن يجيب عن هذا مطلقا لأن الإنسان حقا إما هو مادي صرف على رأي من يقول ليس هناك سوى الجسم الإنساني وإما هو مادة وروح مجردة على رأي من يقول بذلك من فلاسفة اليونان وبعض فلاسفة المسلمين وهذا حصر عقلي .. أما أن هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح يسمى بالنفس فلا .. لأنه لا بد أن يكون داخلا في هذين الأمرين فالنفس إما أن يكون مدلولها مجردا عن المادة وهي الروح وإما أن يكون مدلولها ماديا وهو جزء من الجسم فإنها تطلق على الدم وتطلق على مجموع الشهوة والغضب .. فما تخيله الدكتور من ان هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح خطا ظاهر يدل على أن الرجل لا قدم له في الفلسفة التي يجب على من يكتب في هذا المقام أن يكون له قدم راسخ فيها لأن الذي يزعم أنه وصل إلى ان الإله اقانيم ثلاثة مجتمعة وزعم أن هذه الأقانيم ارواح وأنها قد اتحدت لا يصح له ان يجهل الإنسان المشاهد .. لعلك تقول ان القس لم يصرح بالروح المجردة عن المادة وإنما هو يريد أن يقول أن الإنسان مركب من حقيقة طبيعية وهي الحيوانية والناطقية ويطلق على هذه الحقيقة روحا ومركب من جسم وهو ظاهر ومركب من شخصية وهي وجوده الخاص ويسميها نفسا فالإنسان مركب من هذه الثلاثة وهي وإن كانت متميزة إلا أنها موجودة في شخص واحد وكل واحد منها متحقق فيه الآخران فالجسم متحقق فيه الحيوانية والناطقية والوجود الخاص والحيوانية والناطقية متحقق فيها الجسم والوجود الخاص متحقق فيه كل منها وبذلك يسلم تمثيله من هذه المشاكل .. والجواب أن الدكتور لا يريد ذلك لأنه صرح بأن الإنسان على مثال الإله باعتبار عقله وروحه وهم لا يقولون أن روح الإله مادية فالروح عندهم هي مجردة عن المادة كالإله .. على ان الحيوانية والناطقية لم يطلق عليهما احد اسم روح وعلى فرض أنه يريد ذلك فإنه لا يكون له فيه دليل مطلقا لا حقيقي ولا تقريبي لأن الحيوانية والناطقية امورا عتبارية والشخصية صفة لأنها عبارة عن الوجود الخاص فليس هناك جواهر متماثلة تكاد تتميز عن بعضها وإنما هو الجسم المكون من الخلايا وما يتعلق به من الصفات الخاصة أو المشتركة .. ومع ذلك فلنسلم جدلا أن الإنسان مركب من جسم وروح ونفس وكل واحد من الثلاثة (يكاد يتميز عن صاحبه) ولكن كيف يمكننا ان نحكم بأن هذه الثلاثة شيئ واحد من غير أن نلاحظ أن الجسم مركب من هذه الثلاثة وأن التركيب حدثت منه هيئة هي التي نحكم عليها بأنها واحدة بقطع النظر عن الأجزاء وهل يصح أن يحكم الإنسان بأن الجسم شيئ واحد مع ملاحظة العروق والأعصاب وغيرها من أجزاء الجسم لا ريب في أننا إذا نظرنا إلى هذه الأجزاء لا يسعنا إلا ان نحكم بتعدد الجسم وذلك بديهي لا نزاع فيه .. فإذا قال أن هذه الأشياء جزئيات لا اجزاء فالنفس والروح والجسم ثلاثة اشخاص متميزة كما هو صريح كلامه كزيد وعمرو وبكر قلنا ان اتحاد هذه الثلاثة بحيث يصير أحدها عين الآخر محال وهل إذا انفصلت الروح عن الجسم يصح أن يقال ان الجسم باق فيها وأنها هي عينه؟! إن ذلك واضح البطلان .. هذا نقض ما قرروه في عقيدة الثالوث وما ضربوه لها من مثال وبقي نقض قولهم أن ذلك وإن كان في ظاهره متناقض ولكن في الحقيقة هو ليس بخطأ لأن ذلك فوق العقل وله نذير عند المسلمين .. هذا الذي يقولون جهل واضح بالكتب الكلامية التي ألفها علماء المسلمين ولو انهم كلفوا أنفسهم مؤنة البحث بل مؤنة سؤال أهل الذكر لعرفوا أن الدين الإسلامي أساسه النظر والبرهان العقلي الصحيح وأن علماء الكلام لم يتركوا شيئا من الشبه التي قد ترد على الأدلة العقلية إلا أوردوها من تلقاء أنفسهم وأجابوا عنها بما لا سبيل إلى نقضه على اي حال .. والقاعدة العامة عند المسلمين هي أن كل شيئ يمكن للعقول السليمة إدراكه على وجه صحيح فإنه يجب تطبيق قضايا الدين وأحكامه عليه وأنهم لا يكتفون في عقائدهم إلا بالأدلة العقلية والنظر الصحيح فإذا قرر كتاب الله الكريم عقيدة من العقائد في ظاهرها شيئ من الشبه ببعض خلقه فإنه يجب عدم الأخذ بظاهرها وتنزيه الله تعالى تنزيها تاما عن مماثلته للحوادث وذلك القدر متفق عليه عند علماء المسلمين .. أما ما لا يمكن للعقول البشرية السليمة جميعها أن تدركه فذلك هو الذي يقول الدين الإسلامي عنه أنه اشتغال بما يضيع الوقت ويضلل العقل بدون جدوى وذلك كالبحث عن حقائق الأشياء وماهيتها سواءا كانت مادية ام مجردة لأن الإنسان لا يمكنه إلا أن يعرف أجزاء المركبات بتحليلها إلى أجزائها كتحليل الهواء ومعرفة أجزائه فإذا انتهى إلى جزء لا يمكنه تحليله فإن العقل يقف عنده ولا يعرف حقيقته وذلك القدر تشترك فيه كل عقول البشر السليمة وإذا كان العقل الإنساني يعجز عن إدراك حقيقة المجرد عن المادة فلا يمكنه أن يدرك حقيقة ذات الإله سبحانه وماهيته على ما هي عليه من باب أولى .. أما ما وراء ذلك فإنهم مكلفون بإدراكه فعليهم أن ينظرو ويفكروا في الأدلة التي تثبت وجود خالقهم وعليهم أن يدركوا ان ذلك الخالق واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته فلم يحتج إلى غيره وأنه واحد من جميع الوجوه فليست ذاته مركبة من اجزاء لا مادية ولا مجردة وقد تقدم الدليل القاطع على بطلان تركيب ذاته وكما انه يستحيل أن تتركب ذاته من أجزاء فكذلك يستحيل ان يكون معه إله آخر لأن الإله الواجب الوجود يجب أن يكون تام القدرة والسلطان فلو وجد إلهان لكان ذلك نقصا طبيعيا فيهما سواء اتفقا ام اختلفا لأنهما إن اتفقا فإن قدرة أحدهما وسلطانه ينقصان بقدر ما اثرت فيه القدرة الاخرى وذلك نقص في الإله وإن اختلفا فقهر أحدهما صاحبه لم يكونا إلهين بل يكونا كرجلين يتناضلان فغلب أحدهما صاحبه وكذلك إن عجزا عن قهر بعضهما فإن العجز نقص في الإله فيستحيل عقلا أن يوجد إلهان .. وكذلك عليهم أن ينزهوا الله سبحانه عن كل ما لا يليق به فيجب عليهم أن يؤمنوا بأنه تعالى ليس كمثله شيئ فهو مخالف لخلقه فليس بمادة من المواد وليس له جسم ولا يحل في غيره من المواد لأن المواد محدودة .. فإذا حل فيها كحلول الماء في الكوز او حلول الماء في العود الأخضر كان محدودا .. ولا يتحد مع غيره بأن يصير أحد المثلين عين الآخر .. لأن المسلمين يؤمنون قبل كل شيئ بأن الله الواحد من جميع الوجوه هو خالق الموجودات جميعا وكل من عداه فمستمد منه الوجود فكيف يعقل ان يتحد القديم الأزلي بغيره ممن خلق بأن يصير هو هو لا شك في أن ذلك يترتب عليه أن يكون القديم حادثا وذلك بديهي البطلان .. وكذلك عليهم ان يؤمنوا بأنه تعالى متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن كل صفات النقص فهو تام القدرة والإراة فلا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء ولا يكرهه أحد على فعل شيئ من الأشياء لأن ذلك نقص ينافي عظمة الإله تعالى وكذلك تام العلم فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) وقد ظن مؤلف ميزان الحق أن قول المسلمين بتعدد صفات الله تعالى مع كونهم يوحدون الله تعالى حجة على قوله أن التثليث لا ينافي الوحدة .. فقد قال في صحيفة رقم 242 ما نصه:
    "يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث لكن الحقيقة هي (حيث أن العقيدتين معلنتين في كلام الله) لا يمكن أن يكون بينهما تناقض لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات يقال رحيم حكيم قادر عادل إلخ .. حتى وصفه المسلمون بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات ومثل ذلك تعدد الاقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي "اهـ.
    وقد كان يكفي أن نسوق هذه العبارة للدلالة على سقوط هذه النظرية سقوطا بينا بأن البداهة تقضي بالفرق بين تعدد ذوات حقيقية تتحد مع بعضها اتحادا حقيقيا مع بقاء شخصيتها وبين تعدد صفات تتعلق بذات واحدة ولكننا نؤكد للمؤلف كل التأكيد أن تعدد الجواهر المتميزة عن بعضها بخاصة من الخواص يستلزم عدم اتحادها حتما لما قدمنا من الأدلة فلم يبق له مفر عن القول بوجود آلهة ثلاثة إذا كان يريد ان يجري على سنن العقل والمنطق لانه هو الذي يقع .. ثم يجاء بالدليل على بطلانه .. أما اتحاد الذوات فلا يمكن وقوعه في الوجود اصلا فهو باطل من أول الأمر فمن قال أن هذه العقيدة تنافي التوحيد فإنه قال حقا يؤيده البرهان بلا خفاء أما تعدد الصفات فإنه لا ينافي وحدة الذات فإن الإنسان الواحد مثلا يتصف بالكرم والشجاعة والعلم والقدرة ومع ذلك هو هو لم يتغير لأن هذه الصفات أمور معنوية قائمة به وتابعة له وقد يكون متصفا بصفات مشاهدة كالبياض والسواد ونحوهما وهي إن كانت غيره حتما بحيث إذا لاحظها العقل وحدها يمكنه الحكم عليها ولكنها تابعة له في الإشارة الحسية فإذا أشير إلى الإنسان كانت الإشارة إلى صفاته المحسة تبعا على أن بعض المسلمين يقولون أن ذات الإله واحدة من جميع الجهات وأن صفاته هي عين ذاته وإنما وصف الإله سبحانه في كتابه الكريم بالصفات المتعددة من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ليرشد العقول البشرية إلى الآثار المترتبة على تلك الصفات فخلق السماوات والأرض وما فيها من عجائب هو اثر لذاته وحدها وإن كان المعروف لهم أن المقدور أثر للقدرة وكذلك المعلومات سواء كانت قريبة أو بعيدة صغيرة او كبيرة دقيقة أو جليلة فهي منكشفة لذاته بدون شيئ آخر ولكن لما كان المعلوم أثرا لصفة العلم وصف الله نفسه بالعلم وهكذا وبالجملة فكل ما تحسبه العقول البشرية السليمة كمالا لله تعالى فيجب ان يوصف الله تعالى به باعتبار الآثار المترتبة عليه بقطع النظر عن كون هذه الآثار مترتبة على أمر زائد على الذات أو مترتبة على نفس الذات .. فقول المؤلف أن تعدد الصفات عند المسلمين كتعدد الأقانيم ليس بصحيح على اي حال لأننا إذا جرينا على رأي من يقول أن ذات الله تعالى واحدة من جميع الوجوه وهي وحدها كافية في ترتب آثار الصفات عليها فالأمر ظاهر وإذا جرينا على رأي من يقول إن هناك صفات حقيقية زائدة على ذاته تعالى فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الذات قطعا .. ومن هذا يتضح لك أن المسلمين قد أطلقوا للعقل العنان في التكلم في صفات الله سبحانه وتعالى وأنهم لم يذروا شيئا من الكلام في ذات الله وصفاته إلا وقد عرضوه على محك النظر وبحثوا فيه من جميع جهاته فما أمكن للعقل أن يصل إليه من نتيجة مسلمة فهو ما يجب اعتقاده وما عجزت عنه العقول البشرية ولم تجد للغوص فيه مجالا وقفوا عنده وكلهم مجمعون على تنزيه الإله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به فإن تنزيه الإله لا يرتاب فيه العقل ولا يخفى عليه شيئ منه بل هو ضروري عند كل عاقل يعبد إلها كاملا إذ لا يليق بالعاقل أن يتخذ إلها معبودا ناقصا في أي جهة من جهاته لأن المعبود الناقص سواء كان إنسان أو حجرا أو شمسا أو قمرا أو حيوانا أو غير ذلك ليس أحق بالعبادة من الإنسان الذي يعبده في الواقع ونفس الأمر فعار عليه أن يتخذ إلها مثله أو دونه ومن يفعل ذلك فقد برهن على جهة نقص ظاهر فيه وضعف شديد مستول على نفسه .. ولما كان تنزه الإله هوالأصل الذي ترجع إليه مباحث المسلمين في ذات الله وصفاته كانت كل أدلتهم على ما ذهبوا إليه ترمي إلى هذه الغاية فإذا وصل الدليل بواحد إلى ما فيه شائبة عدم تنزيه الإله عما لا يليق بعظمته وجلاله أجمع الكل على نبذ ما دل الدليل عليه من عدم التنزيه .. ومن الغريب أن المؤلف نقل في المقدمة شيئا من بعض التنزيهات التي يذكرها المتكلمون في كتبهم بنصها تقريبا فقد ذكر في صحيفة رقم 13 ما نصه:
    "أن عقل الإنسان القاصر المحدود لا يستطيع إدراك الخالق الأزلي الذي لا يتغير أو إدراك ذاته العالية لتي لا تحدها بداءة ولا نهاية..."
    إلى ان قال:
    "لا جدال في أن الإنسان يستطيع ان يعرف بعض الأمور عن الله من غير طريق الوحي وذلك من معاينة أحوال الخلق ومشاهدة أحوال ذاته فهو يعرف أن الله موجود وأنه متعال عن جميع خليقة يديه مما على الأرض أو في السماء وأن حكمته تعالى غير مدركة على أن المرء لا يستطيع أن يعرف الله بدون وحي كما يعرف الصديق صديقه والولد أمه ..."
    أجل قد يعلم أن الله حكيم وأن رحمته فوق كل أعماله إلى آخر ما ذكره في صحيفة رقم 14 .. وهذا الكلام الذي نقله صحيح في ذاته لأن عقل الإنسان لا يستطيع ان يدرك حقيقة ذات الله التي لا يمكن للعقول البشرية أن تدركها ولكنه يستطيع ان يدرك أن الله موجود أزلي منزه عن التركيب من أجزاء مادية او مجردة ومنزه عن الإتحاد بغيره بحيث يصير أحدهما عين الآخر ومنزه عن الحلول في غيره كل ذلك داخل في دائرة المعقول الذي لا يعجز المعقول عن إدراكه فواجب عليه أن يؤمن به حقا وأن يصدقه تصديقا جازما لا شك فيه ولا ريب وإلا كان عابد الإله ناقص فهو مستو مع من يعبد الوثن ومن يعبد البشر والبقر .. فلو كان المؤلف ممن يتبع سنن المنطق في قوله لكانت مقدمته هذه احسن زاجر له عن القول بالأقانيم واتحادهم فإن العقول البشرية السليمة تذعن بأن ذلك نقص في ذات الإله لأنه يستلزم التركيب في ذاته تعالى كما يستلزم تعدد الآلهة قطعا مهما تستر بستار وحدة اللاهوت بعد اتحادهم فإن ذلك الستار شفاف لا يحجب العقل عن الإيمان بأن الشخصيات المتعددة المتميزة عن بعضها بخاصة الوجود لا يمكن أن تكون واحدة مهما اختلط بعضها ببعض.






    يتبع
  • الإدريسي
    1- عضو جديد
    • 29 ماي, 2008
    • 70

    #2



    ثم يتابع الشيخ رحمه الله بعرض أدلة النصارى على عقيدة التثليت ونقضها واحدا واحدا:







    الدليل الأول:

    الإنجيل .. وهو المعول عليه عند المؤلف .. فقد قال في صحيفة رقم 243:
    "الدليل على صحة التثليث كما قلنا مرارا الكتاب المقدس وكفى به دليلا لأنه صادر من الله وهو يعرف نفسه أكثر مما نعرفه وغاية ما نقصده من سرد الأمثلة أن ندفع الشبه التي يعترض بها على هذا الموضوع ونبرهن على أنها صادرة عن سوء فهم"

    وقال في صحيفة رقم 241 :
    "فهل من الصواب والحكمة أن نرفض كتاب الله لاشتماله على مسائل تفوق عقولنا ونستبدلها بآرائنا الخصوصية فاحكموا أنتم"

    فلننظر في هذا الدليل الذي هو في الواقع أصل الأدلة الأخرى فهل حقيقة ورد في الإنجيل (سواء كان محرفا أو صحيحا) نص يدل على عقيدة الثالوث على الوجه الذي بيناه لك وأقره المؤلف في كتابه هذا؟ .. إن أردت الجواب فاستمع لمايقوله المؤلف .. قال في صحيفة رقم 241:
    "كل مطلع خبير بالكتاب المقدس يعلم أن الثالوث مأخوذة منه بدلابة آيات كثيرة في غاية الصراحة وهي التي منها صاغ المسيحيون نصها (مع اختلاف قليل في اللفظ)"

    ولكنه لم يذكر لنا من هذه الآيات شيئا حتى نعرف مقدار ذلك الإختلاف والواقع أنك ستعرف قريبا أن الأناجيل لا شيئ فيها ومع ذلك فقد ذكر في صحيفة رقم 239 نصين الأول نقله من التوراة وهو ((اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد)) وهذه العبارة مذكورة في الإصحاح السادس من سفر التثنية وهي الفقرة 4 وبعد هذه الجملة ما نصه ((فتحب الرب إلهك من كل قلبك ونفسك ومن كل قوتك ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك)) وهو في الإصحاح الثامن والعشرين وبعد هذه الجملة التي نقلها من إنجيل متى ما نصه ((وعلموهم جميع ما أوصيتكم به)) .. هذان النصان هما اللذان استدل بهما المؤلف على الوحدة والثالوث .. فالتوراة نصت على أن الله واحد والإنجيل نص على أنه آب وإبن وروح قدس فتكون ثلاثة وهذا تناقض لا بد من دفعه فليدفع بأن الثلاثة اتحدوا في الأزل اتحادا حقيقيا وصاروا واحدا فلا تناقض وهل من الضروري العمل بفقرة التوراة ما دام الإنجيل يخالفها؟! فلماذا لم يأخذ بفقرة الإنجيل ويقطع النظر عن فقرة التوراة كما قطع النظر عن كل ما فيها من أحكام؟!.. والجواب أن العمل بها عندهم ضروري لأن الإنجيل أخذ بها بنصها ولهذا قال المؤلف إن المسيح قد أخذ بهذه الفقرة كما في إنجيل مرقس ولم يذكر النص ونحن نذكره لك بنصه وهو ((فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول كل شيئ فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد...)) .. ولا ريب في أن كل قارئ منصف للتوراة والإنجيل في هذا الموضوع لا يسعه إلا أن يدهش من الذين يأخذون منهما عقيدة الثالوث فإن التوراة قد نصت صريحا على الوحدة المطلقة وكذلك إنجيل مرقس فإنه عمل بفقرة التوراة من جميع الوجوه وجعلها أول الوصايا فلم يبقى إلا ما ورد في إنجيل متى وهو ((عمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس)) على أنه قال بعد هذه الكلمة ((وعلموهم جميع ما أوصيتكم به)) ومن أول وصاياه التوحيد .. اليس من الواجب في مثل هذه الحالة أن نفهم هذه الفقرة فهما يتناسب مع التوحيد الذي صرح به في التوراة والإنجيل تصريحا قاطعا؟ نعم الواجب هو ذلك عند كل عاقل مفكر يعرف عظمة الألوهية ويقدر تنزيه خالقه حق قدره .. ولكن من الأسف الشديد أن جمهور المسيحيين سواء كانوا كاثوليك أو بروستانت أو غيرهم يعتقدون أن ذات الإله مركبة من الأقانيم الثلاثة على الوجه الذي بيناه .. على أن الجملة الواردة في إنجيل متى لا تفيد مطلقا معنى الثالوث ولا تفيد أن الإبن حقيقة مماثلة لحقيقة الله ولا الروح القدس كذلك بل المعنى المتبادر منها أنه يقول لهم عمدوهم باسم الله وباسم رسوله وباسم الروح القدس الذي يحمل الوحي إلى الرسول وهذا المعنى حسن لا مانع منه وليس في العبارة ما ينافيه بل هو المتبادر لأن الذي يجعل التوحيد المطلق من أول وصاياه لا يصح أن يقول للناس أن الإله ثلاثة أقانيم متميزة متحدة لأن ذلك تناقض ظاهر لا يصحبه ذلك التأويل الفاسد الذي لا يقره عقل ولا نقل .. أما التعبير عن الرسول بالإبن فإنه مألوف في التوراة والإنجيل وهو كناية عن القرب من الله تعالى فالرسول ابن الله بمعنى أنه مقرب منه ومحبب لديه ومن ذلك إطلاق خليل الرحمن على سيدنا إبراهيم عليه السلام على أن التوراة والإنجيل قد توسعت في هذا فأطلقت ابن الله على غير المسيح في غير موضع ففي الإصحاح الخامس من إنجيل متى ((طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون)) وفي الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ما نصه ((أنتم تعملون أعمال أبيكم فقولوا أننا لم نولد من زنا لنا اب واحد وهو الله)) وغير ذلك من العبارات الدالة على أن إطلاق ابن الله على الناس أمر شائع في أناجيلهم وقد أطلق ابن الله في التوراة أيضا على الناس فقد ورد في الإصحاح الثالث والستين من كتاب أشعيا ما نصه ((فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا إبراهيم ولم يدرنا إسرائيل أنت يا رب أبونا ولينا منذ الأبد اسمك)) وهذا ذكر في الفقرة 16 .. فالإبن بمعنى الحبيب أو المقرب شائع مستعمل في التوراة والإنجيل في الفقرات التي ذكرناها لك وفي غيرها .. وقد حكى الله عنهم ذلك في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى ((وقالت اليهود والنصاى نحن أبناء الله وأحباؤه)) وبديهي أنهم لا يريدون من إطلاق البنوة على غير المسيح ذلك .. ذلك الذي يريدونه من نبوة المسيح بل لا بد أن تكون أبوة الله المذكورة في مثل هذه الفقرات لا معنى لها سوى رحمته بهؤلاء الناس ورأفته بهم فلماذا اختصوا المسيح بتلك البنوة التي هدموا بها التوحيد من أساسه وهم لا يشعرون؟ وما هو السبب الذي جعلهم يتشبثون بتلك العقيدة المعقدة التي لا أساس لها في دين من الأديان ولا في كتاب من الكتب المنزلة .. وقد اجاب المؤلف عن ذلك السؤال بشبه أوهن من بيت العنكبوت ظن أنها أدلة قاطعة وإليك بيانها:
    أولا قال في صحيفة 242:
    "إن المسيحيين فهموا عقيدة الثالوث ((وهي أن لذات الله القدوسة ثلاثة أقانيم في جوهر واحد الآب والإبن والروح القدس)) من مؤلفات المسيحيين الأولين الذين بقيت كتابتهم إلى عصرنا الحاضر مما يدل على أنهم فهموا الكتاب من هذه الحيثية كما فهمناه "اهـ.

    وهذه العبارة تدل دلالة واضحة على أن عقيدة الثالوث لم تصرح بها أناجيلهم وإنما هم مقلدون اسلافهم في فهمها .. وإن شئت قلت أنهم مقلدون القانون الأثناسيوسي وكفى بذلك التصريح دليلا على ضعف هذه العقيدة وعدم ارتكازها على دليل صحيح فإن العقائد لا تثبت إلا بالبراهين القاطعة التي تذعن لها العقول ويجب أن يكون طالب العقيدة حرا في تفكيره لا يتقيد بآراء من الغير حتى يطمئن إلى صدق ما يعتقده ويذعن له إذعانا صحيحا أما أنه يقلد غيره في فهم عقيدة من العقائد التي ينبني عليها أساس الدين فذلك يقال لا له مؤمن حقا نعم يصح له أن يقلد ما يثبت عنده أنه من عند الله بدون بحث إذا كان صريحا في المطلوب ولم يكن فيه نقص في ذات الله تعالى وإلا وجب تأويله كما ذكرنا لك آنفا ولذلك خرج عن عقيدة الثالوث هذه كثير من مفكريهم .. قال البستاني في دائرة المعارف تحت عنوان (ثالوث) ما ملخصه أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ولكن قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء فقرات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ولكن لم تكن هذه الفقرات كبرهان قاطع على الثالوث لأنها قابلة لتفاسير مختلفة ولكن يؤتى بها كرموز إلى الوحي الواضح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد .. هذه عبارة البستاني وهي مثل عبارة المؤلف تقريبا إلا أن فيها نصا صريحا على أنه لم توجد لفظة ثالوث في الكتاب المقدس عندهم ولا يمكن أن يؤتى فقرة من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث وأن الفقرات التي اقتبسها المؤلفون المسيحيون لا تصلح دليلا .. على أنه أراد أن يستر ذلك التصريح بستار في الجملة فقال أنهم يأتون بها كرموز إلى الوحي الواضح الصريح .. وليت شعري إذا كان الوحي واضحا وصريحا فكيف لا يكون في دليل على المطلب .. على أنه قال وقد ابتدأ الجدال في اللاهوت في العصر الرسولي وقد نشأ عن الأكثر عن تعليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين وأول من استعمل كلمة الثالوث ترتليانوس...إلخ.
    ولا ريب في أن هذه العبارة تدل صريحا على أنه لم تكن تلك العقيدة موجودة في عهد المسيح ولا أثر لها في الوحي الإلهي مطلقا وغريب أنهم يسلموا بأن المسيح لم يقل لهم إني أنا إله وابن إله ولم يبين لهم هذه العقيدة ثم يجيبوا عن هذا بأن تعاليم المسيح لم ينشرها كلها حال حياته بل أخبر تلامذته بأنه سيكملها لهم بعد وفاته .. لأن هذا إن صح في الأمور الفرعية فإنه لا يصح أن يكون في أول الوصايا فإن معنى كون التوحيد من أول الوصايا أن ما جاءهم به المسيح هو معنى توحيد الإله وإذا كان كذلك فمن الواجب المحتم أن يبين لهم حقيقة التوحيد وأظن ذلك ظاهر لا ريب فيه ومن أجل ذلك قال البستاني أن كثيرا من المسيحيين خرجوا على هذه العقيدة فالابيونيون كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض والسابليون كانوا يعتقدون أن الآب والإبن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس والأريوسيون كانوا يعتقدون أن الإبن ليس أزليا كالآب بل هو مخلوق منه قبل العالم ولذلك هو دون الآب وخاضع له والمكدونيون أنكروا كون الروح القدس أقنوما على أنه قال أن هذه الآراء اعتبرتها الكنيسة إلحادية .. وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الإبن والروح القدس مساويان للآب في وحدة اللاهوت وأن الإبن قد ولد من الأزل من الآب وأن الروح القدس منبثق من الآب وجاء مجمع طيطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الإبن أيضا على خلاف في ذلك .. ومن ذلك يتضح أن المسألة ليست مسألة كتاب مقدس أنزله الله على رسوله وإنما هي مسألة جماعة يقررون ما يشاؤون ويحكمون بما يريدون .. وهل مسائل الوحي الذي من عند الله تعالى تفصل في أمرها المجتمعات كما تفصل في الأمور السياسية إن ذلك لمن أوضح الادلة على أن هذه العقيدة الفاسدة هي من وضع البشر بلا نزاع .. على أنني لاحظت في بيان عقيدة الثالوث الذي ذكرته فيما مضى رأي مجتمعاتهم وما عليه العمل في كنائسهم ومن أجل ذلك قدمت لك الشرح كاملا لتعرف الأدلة عليه كاملة وها أنت ذا قد عرفت أن الدليل الأول هو الذي عليه المعول فاسد من اساسه لا حجة لهم فيه ولا فائدة لهم منه لأن الكتاب المقدس عندهم لا يستطيعون أن يأتوا منه بدليل أو شبه دليل على ما يزعمون ولقد صدق الأستاذ الأبوسيري حيث قال:
    خبرونا اهل الكتابين من أيــ ـن أتاكم تثليثكـــــــم والبداء
    ما أتى بالعقيدتين كتــــــــــاب واعتقاد لا نص فيه ادعاء
    والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعيـــــــــــاء






    الدليل الثاني:

    وهو في الحقيقة بيان لوجه دلالة العبارة الواردة في إنجيل متى وهي ((عمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس)) وهو من فلسفة مؤلف كتاب ميزان الحق وحده لأنني لم أره لغيره في كتب المسيحيين الذين تكلموا في بيان عقيدة الثالوث وإنما جعلته دليلا على حدة كي لا يطول الكلام على القارئ فيسأم خصوصا أن هذا الدليل هو في الواقع محض خيال وإن شئت قلت أنه كلام مركب غير مفيد فهو اشبه شيئ بالأصوات المهملة ولكنني لا أستطيع إغفاله فليعذرني القارئ في تضييع الوقت سدى بنقل مثل هذا الكلام والرد عليه وإليك نص عبارته في صحيفة رقم 239 قال:
    "يدل هذا القول وهو عمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس على حقيقة التوحيد كما يدل على تثليث الأقانيم لأنه قال باسم بصيغة المفرد لا الجمع مع أنه ذكر الأقانيم كلا على حدته ومن هذه العبارة تفهم أنه لا يمكن أن يكون الإبن والروح القدس مخلوقين بدليل أنهما مقرونين باسم الآب كشيئ واحد بخلاف عدم ملائمة الإسم نفسه لما يكون مخلوقا فإن كلمة ابن الله والروح القدس لا يصلح أن يسمى بها الشيئ المخلوق هذه حقيقة ظاهرة لمن يتأمل"اهـ.

    هذه هي عبارته نقلتها لك بنصها على ما فيها من لحن وخلل لا أريد أن ابحث فيه الآن إنما الذي يدهشي بحق هو ان يعتقد شخص (يريد أن يبين للناس ما يجب عليهم اعتقاده في ذات الله تعالى بالبرهان القاطع) أن ما ذكره في هذه العبارة هو ذلك البرهان الذي يثبت به أول عقيدة دينية وأكبرها لأننا مهما حللنا عبارته هذه ومهما توسعنا في فهمها فما الذي يؤخذ منها كدليل أو شبه دليل على ما يسميه ثالوثا؟ .. أظن انه لا يمكن لعاقل ما ان يخطر على باله أن فيها شيئ من ذلك .. ومع هذا فلنلتمش معه كما يحب: إنه يريد أن يقول أن هذه العبارة تدل على الثالوث والوحدة من وجهين .. الوجه الأول أنه قال باسم الآب والإبن والروح القدس فقد قرن الثلاثة ببعضهم وسلط الإسم على الآب فقط وهذا يدل على التماثل التام والتساوي في الجوهر والقدم وفي كل شيئ فالإبن والروح القدس كالآب في القدم ولا يصح أن يكونا مخلوقين ولو كان الإبن والروح القدس مخلوقين لقال بأسماء الآب والإبن والروح القدس لأن تعدد الأسماء يفيد تغاير المسميات .. الوجه الثاني أن اسم ابن الله والروح القدس لا يصح إطلاقهما على المخلوقات إذ لا يلائمان المخلوقات فلا يصح ان يقال زيدا ابن الله ولا الروح القدس وإنما يقال ذلك للقديم فقط .. هذا شرح عبارته بإيضاح فهل يستطيع مفكر ان ينقض هذا البيان العجيب الذي جاء به مؤلف كتاب ميزان الحق؟ لا بد أن يكون الجواب سلبا لأن نقض المنقوض بطيعته محال ولكن ما الحيلة وقد سماه المؤلف حقيقة ظاهرة لمن اراد ان يتأمل فنحن لا يسعنا إلا أن نرد عليه ولو كنا كارهين.
    أما الوجه الأول من كلامه فإننا نؤكد للقس أن اللغة التي يتكلم بها الآن في كتابه لا تدل على شيئ مما يقول مطلقا لأن العطف بالواو يقتضي أن المعطوف مشارك للمعطوف عليه في الحكم فقط لفظا ومعنى فإذا قلت جاء محمد وعلي وموسى كان معنى ذلك أن عليا وموسى اشتركا مع محمد في المجيئ حقيقة فكل منهما جاء ومعلوم أن العطف يقتضي المغايرة ايضا فلا بد أن يكون علي غير موسى فلنطبق هذه القاعدة على ما هنا لنعلم ان الإبن والروح القدس يشتركان مع الآب في طلب التعميد باسمهما وأن الروح القدس والابن غير الآب ولا فرق في الإشتراك بين أن يذكر الإسم مفردا أو جمعا مضافا إلى احدهم فقط أو إلى كل واحد منهم ولا دلالة في العطف على الإشتراك في الماهية أو اتحاد المعطوف بالمعطوف عليه وصيرورتهما شيئا واحدا ومن ذا الذي يفهم من قول أستعين باسم الله والملك والأمير أن الملك والأمير متحدان مع الله في ذاته ومساويان له في جوهره وأن الثلاثة شيئ واحد .. أظن أن الذي يفهم ذلك من هذه العبارة يدلل على أنه لا يتكلم إلا مع نفسه وأنه لا يخاطب احدا من العقلاء وربما اساء به الظن بعض سامعيه فأخذ به إلى طبيب يعالج له قواه العقلية على أننا إذا قطعنا النظر عن كل ما تقتضيه اللغة وقلنا أن اقتران المعطوفات يقتضي التماثل التام فإنه لا يمكننا أن نقول أن العطف لا يقتضي المغايرة فلا بد أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه فإذا قلنا جاء زيد وعمرو وبكر فلا بد أن يكون كل واحد منهم مغايرا لصاحبه مهما قلنا بتماثلهم زإذا كان كذلك فمن أين تاتي الدلالة على اتحاد الآب والإبن والروح القدس ببعضهم.
    وأما الوجه الثاني فقد عرفت الرد عليه آنفا وهو أن التوراة والإنجيل قد سميا المخلوق ابن الله وذلك المخلوق غير رسول فالرسول اولى بهذه التسمية وإذا ثبت أن الإبن يطلق على المخلوق بدون حرج فإطلاق روح القدس على المخلوق أقل حرجا منه بلا ريب لأن مرتبة الإبن لا خلاف فيها عندهم بخلاف الروح القدس فإن فيها اختلافا كبيرا لأن المجمع النيقاوي قرر أنه منبثق من الآب فقط ومجمع طيطلة قرر أنه منبثق من الآب والإبن معا ومع ذلك اختلفت الكنائس فبعضهم يقول يجب العمل بما قرره المجمع النيقاوي وبعضهم يوجب العمل ايضا بما قرره مجمع طيطلة كما ذكره البستاني في دائرة المعارف وذلك الخلاف وحده يوجب الشك فيه على الأقل فتكون مرتبته أضعف من مرتبة الإبن .. على ان المؤلف نفسه قرر أن الإنسان مماثل لله من جهة عقله وروحه ومن يقرر هذا لا يستنكف أن يطلق روح القدس على الإنسان .. وبذلك تعلم أن لا دليل من الإنجيل على الثالوث مطلقا وإنما هو من أوضاع الفلسفة الإلحادية التي تحاول أن تدخل على العقول أنه لا تناقض بين الوحدة والتعدد كما أنها تحاول أن تزخرف للعقول نظرية اتحاد المجرد بالمادي لترجع بكثير من ضعاف التفكير إلى العقائد الوثنية من حيث لا يشعرون وقد أبان الأستاذ محمد أفندي طاهر البيروتي في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية شيئا كثيرا من ذلك فقد قارن بين ما يقول المسيحيون من اتحاد المسيح بدم مريم بما قاله الهنود الوثنيون في كرشنا وبوذا فقد نقل عنهم أنهم يقولون أن كرشنا هو المخلص والفادي والمعزي وابن الله والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (الاب والابن والروح القدس) وولد من العذراء ديفاكي التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها...إلخ وقد قارن بين النص الذي يقوله الوثنيون بين النص الذي ذكر في الإنجيل وجد أنهما متطابقان حرفا بحرف ومثل ذلك بوذا فإنهم قالوا أنه تجسد بواسطة الروح القدس على العذراء مايا وأنه ابن الله...إلأخ ومن أراد ان يعرف أكثر من ذلك فليرجع إلى هذا الكتاب المفيد.






    الدليل الثالث:

    وأرجو من القارئ الكريم أن لا يسخر مني في نقل هذا الدليل أيضا فإني مضطر لأن اشرح للناس كل أدلتهم حتى لا تقوم لهم حجة بأنني تركت لهم شيئا وإليك نص عبارة ميزان الحق التي ذكرها في صحيفة رقم 244 ..قال:
    "ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله في أن أمثلة ذلك أقل بكثير في التوراة عما في القرآن ومما ورد في التوراة هذه المواضع (تك1: 26 و 3: 22 و 11: 7) وفي القرآن ما ورد في سورة العلق وهي عند المسلمين أول ما نزل من الوحي على محمد فقد ورد في عدد 8 لفظ الرب اسما للجلالة وعدد 13 لفظ الله وكلا من اللفظين في صيغة المفرد ولكن في عدد 18 ورد ضمير الجلالة بصيغة الجمع حيث يقول سندع الزبانية وحيث إن الكتاب المقدس والقرآن يتفقان على هذا الأسلوب من التعبير عن ذات الجلالة بضمير الجمع .. فلا يخلو ذلك من قصد أما اليهود فيعللون عنه بكون الله كان يتكلم مع الملائكة إلا ان هذا التعليل لا يلائم نصوص التوراة وأما القرآن ويعلل عنه المسلمون بالتعظيم وهو تعليل سخيف لا يشفي غليل الباحث النبيه وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن إنما أوردنا ذلك إشعارا باننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن كما مر بيانه" اهـ.

    هذه عبارته بنصها وقد أوردناها كما هي على مافيها من تعقيد في العبارة وضعف في الأسلوب وخطأ بعض التراكيب كقوله (يعللون عنه) لنبين للقارئ أن هذا الرجل الذي يكاد يكون أعجميا في عبارته ويكاد يكون جاهلا جهلا تاما بأبسط قواعد اللغة العربية هو ذلك الرجل الذي ستحمله الجرأة والتعصب لعقيدته إلى الحكم على بلاغة القرآن وفصاحته فيتحقق صدق ما وصفناه به في المقدمة .. أما الذي يريده من هذه العبارة الطويلة فهو أن التوراة والإنجيل والقرآن العظيم تارة يعبر فيها عن ذات الله تعالى بالإسم المفرد كلفظ الله ولفظ رب وتارة يعبر عنها بضمير الجماعة ولكن التعبير بلفظ الجماعة في التوراة أقل من التعبير به في القرآن ثم اشار إلى ما ورد بنون العظمة في التوراة بالمواضع التي رمز لها بهذه الرموز ولنبينها بنصها لإيضاح عبارته وكلها في سفر التكوين ففي الإصحاح الأول عدد 26 ما نصه ((وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا)) فقد أعاد ضمير الجماعة وهو "نا" على الله وفي الإصحاح الثالث عدد 22 ((وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر -يريد آدم-)) فقد قال "منا" وهو ضمير الجماعة وفي الإصحاح الحادي عشر عدد 7 ((هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم)) فقال ننزل ونبلبل بنون الجماعة أما في القرآن فالأمر ظاهر وقد استدل حضرته بسورة اقرا فإن الله سبحانه وتعالى عبر عن نفسه فيها بالمفرد تارة فقد قال باسم ربك وعبر بنون الجماعة فقال فليدع ناديه سندع الزبانية .. وحيث إن القرآن والتوراة والإنجيل اتفقت في التعبير عن ذات الإله مرة باللفظ المفرد ومرة بنون الجماعة فليس لذلك معنى عند المؤلف إلا أنه يدل على أن الإله ثلاثة في واحد .. أي نعم! يا له من دليل تضرب من أجله أكباد الإبل وإن شئت قلت يا للعار فإنه لا يصح لرجل يريد أن يثبت ذلك الخيال الذي لا حقيقة له إلا في مخيلة صاحبه .. وهل يظن حضرته أن الدليل هو عبارة عن كل كلام يخطر ببال المستدل سواءا كان محتملا لمعنى يخالف ما يقول أم لا إن كان يظن ذلك فهو هازل حقا ومع ذلك فلنسر معه حيث يريد ان يعظم نفسه كقمت وقعدت ونحو ذلك ومنه ما هو موضوع للمفرد المعظم نفسه كنحن وقمنا وقعدنا إذا كان المتكلم واحدا ومثل هذا يستعمل في المتكلم الذي معه غيره فاللغة العربية قد وضعت ضمير المتكلم للمعظم نفسه .. ومن ذا الذي أحق باستعمال ضمير العظمة من الخالق سبحانه وتعالى؟ فإذا قال الله تعالى خلقنا السموات أو سندع الزبانية فإن ذلك نون العظمة من غير نزاع وهو معنى لغوي لا يحتاج أحد في فهمه إلى كبير عناء ومع ذلك فلنفترض أن ذلك الضمير للجماعة بخصوصها فإنما يدل على جماعة متعددة متباينة كما إذا قال شخص قمنا أو قعدنا وكان معه غيره فإنه لا يفهم منه لغة إلا أن المتكلم معه زيد وعمرو وهما غيره فمن أين يأتي هذا الإتحاد وذلك التركيب المزجي .. فإذا قال الإله نحن وكان معه مثله كانوا ثلاثة آلهة غير متحدين وإذا قال أنا كان المتكلم واحد منهم .. وهل الأوضاع اللغوية يمكن أن يؤخذ منها أن الثلاثة صاروا واحدا فتارة يعود الضمير عليها باعتبار كونها ثلاثة وتارة يعود عليها باعتبار كونها واحدا كلا وعجيب أن هذا البرهان أخذ به كثير من المفسرين وأعجب من هذا أن يقول مؤلف ميزان الحق أن تعليل المسلمين ذلك بالتعظيم سخيف لا يشفي غليل الباحث فليعذرني إذا قلت أنه أسخف قول سمعته ذلك القول الذي يستدل به صاحبه على أن معنى نون العظمة هو الثالوث وما كنت أتصور مخلوقا ينحط به التفكير إلى هذا الحد.







    الدليل الرابع:

    قال في صحيفة رقم 245:
    "إن من أسماء الله الحسنى عند المسلمين كونه ودودا أي محبا وهذا يوافق ما جاء في التوراة والإنجيل وبما أنه غير متغير فهو ودود من الأزل ويلزم من ذلك أن يكون له مودود أي محبوب من الأزل قبل خلق العالم فمن عساه أن يكون ذلك المحبوب الموجود من الأزل عند الله ففي عقيدة التثليث الجواب الصريح والوحيد لهذا السؤال فنقول أن أقنوم الآب هو الودود وأقنوم الإبن هو المودود وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى خطابا لأبيه أحببتني قبل إنشاء العالم وعليه لا يمكن الإعتقاد بوجود صفة المحبة في الله من الأزل ما لم نعتقد بتعدد الأقانيم ومع وحدة الجوهر وإلا كان الله متغيرا ابتداء أن (يحب) من الوقت الذي خلق له محبوبا من الملائكة أو البشر وهذا باطل لأنه قال (أنا الرب لا أتغير)"اهـ.

    وهذا أيضا يصح أن يكون موضع دهشة الناظرين لأنه إذا صح قوله هذا فلا يصح وصف الأقانيم بالألوهية إلا إذا كان العالم كله موجودا معهم للأن معنى الإله الغالب ويجب على نظريته أن يكون غالبا بالفعل لا غالبا بالقوة لأن الغلبة بالقوة نقص في الإله ولا يصح على رأيه أن يكون غالبا بالقوة تارة وغالبا بالفعل تارة أخرى لأن ذالك يوجب تغير ذاته والإله لا يتغير فيلزم أن يكون المؤلف موجودا مع الإله أزلا أليس كذلك؟ .. والواقع أن هذه النظرية لفلاسفة اليونان الذين يقولون العالم قديم بمواده وعقوله ولكنهم يسمون ذلك بالقدم الزماني ويفرقون بين القدم الزماني والقدم الذاتي بأن القديم لذاته هو الذي لا يحتاج لغيره في شيئ ما ويخصون بذلك الله وحده فهو الذي تقتضي ذاته الوجود ولا يحتاج لغيره على أي حال وأما القدم الزماني فهو أن يكون الشيئ صادرا عن القديم لذاته بطريق التعليل بمعنى أن الله علة في وجوده والعلة تؤثر في معلولها ولكن لا تنفك عنه طرفة عين فلم يفصل بينهما زمان وهذا هو معنى القدم الزماني .. مثال ذلك أنهم يقولون أن أول ما صدر عن الإله جوهر مجرد عن المادة يسمونه بالعقل الأول وهو لا ينفك في الوجود عن الإله طرفة عين ولكن الإله هو الذي أثر فيه .. الوجود فهو ممكن لذاته قديم لكون الإله علة فيه ولكنهم يستدلون على نظريتهم هذه بكلام يصح أن يكون محل نظر بخلاف دكتورنا الذي يجازف في القول بدون حساب .. وحاصل ما يستدلون به هو أن الإله معناه الغالب والغالب لا بد له من معلوب ولا يصح ان يكون غالبا في المستقبل فقط لأن ذلك نقص في الإله فيجب أن لا ينفك عنه المغلوب طرفة عين وقد مثل لوجود الغالب والمغلوب معا في الخارج بحركة الإصبع الذي فيه خاتم فإنه إذا تحركت الإصبع يتحرك الخاتم تبعا له والحركتان موجودتان في الخارج معا ولكن حركة الإصبع هي المؤثرة وهي المتقدمة عقلا لا زمانا .. ويظهر أن المؤلف اطلع على هذه النظرية ولم يفهمها فقال أن الودود يقتضي مودودا في الأزل وإلا لزم التغيير في ذات الله تعالى وذلك خطأ واضح لأن الله تعالى متصف بصفات أزلية باتفاق ومع ذلك تتعلق بالممكنات التي تستوجب أزمنة مختلفة ولم يخطر على بال أحد من العقلاء أن التغير في تعلق الصفة يوجب التغير في الصفة أو في الذات وإلا لو كان هذا صحيحا لاستحال أن يوجد الله تعالى شيئا من الممكنات في المستقبل .. على أن الذي ذكره الفلاسفة إنما يريدون به تنزيه الله وقد قرروا أن كل ما عداه يستمد الوجود منه فالكل ممكن وهو وحده الواجب ولكنهم قالوا بقدم بعض الممكنات بالزمان ليكون الله غالبا بالفعل ولكن قد فاتهم أن ذلك يوجب كون الله علة في الممكنات والمعلول يصدر عن العلة بغير اختيارها ورغم إرادتها وذلك نقص في الإله .. ومن ذلك يتضح لك أن الدكتور لم يفقه ما قاله هؤلاء الفلاسفة وأراد أن ينسج على منواله فوقع في الخطأ الصريح .. على اننا إذا سلمنا له أن الودود يقتضي مودودا بالفعل فإن ذلك لا ينفعه شيئا لأنه لا يلزم من ذلك أن يكون المودود مساويا للودود في القدم الذاتي بل كل ما يلزم هو أن يكون الودود والمودود مقترنين في الوجود الخارجي بمعنى أن يكون الودود علة مؤثرة والمودود أثرا فهو قديم بالزمان كما يقول الفلاسفة فمن أين يأتي أن أقنوم الإبن مساويا لأقنوم الآب في القدم الذاتي .. وبالجملة فقول الرجل أن صفة الود أو المحبة في الله في الأزل لا توجد إلا ذاتا قلنا بتعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر وإلا كان الله متغيرا قول هراء لأن الله يتصف بالصفات الأزلية باعترافه في كتابه وهي تتعلق بالممكنات في أزمنة متعددة ولا يلزم من تغير التعلق تغير الصفة أو الذات وعلى فرض أن الصفة تقتضي شيئا تتعلق به في الأزل فإن ذلك الشيئ يكون ممكنا في ذاته أما كونه أقنوما مساويا لله فذلك من اسخف ما سمعته ورأيته ومن الغريب أن العبارة التي نقلتها من إنجيل يوحنا وهي أن المسيح قال لأبيه ((أحببتني قبل إنشاء العالم )) تقتضي إلها ومألوها وتستلزم ربا ومربوبا وأن المسيح رسول وإني أذكر لك نصها وهو ((وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم أيها الاب البار إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني)) .. فأي عاقل عنده مثقال ذرة من التفكير يفهم من هذا الكلام أن المسيح يمثل أقنوم الإبن المتحد مع الله تعالى وأن ذلك الأقنوم مساوي لأقنوم الله في الجوهر وأي عاقل لا يفهم من هذا الكلام أكثر من أن المسيح رسول الله كما هو صريح عبارته فإنه يخاطب الله تعالى ربه بكلمة الاب التي معناها الرحمة والرأفة ولكم ما العمل وقد طغت عقيدة الثالوث على كل منطق وعلى كل بيان وعلى كل تفكير فأصبح معتنقها يلتمس المحال ليدلل به على صحتها .





    الدليل الخامس:

    إن الله تعالى لا يصح أن يكون واحدا محضا من جميع الوجوه لأنه وصف نفسه بكونه صمدا وكونه متكلما وكونه غنيا ودودا كما تقدم وهذه الصفات إضافات لا تتحقق إلا بوجود شيئ تتعلق به فالكافي لا يوجد إلا إذا كان معه من يكفيه والمتكلم لا يتحقق إلا إذا وجد من يتكلم معه والوديود لا يتحقق إلا إذا وجد المودود والصمد هو الذي يقصده الغير في حاجته فإذا لم يوجد الغير لا يتحقق معنى الصمد وهكذا فدل ذلك على أن الله تعالى متعدد في الأزل وهذا الدليل ذكره المؤلف في صحيفة رقم 246 بعد الدليل المتقدم ونص ما ذكره:
    "فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد لجملة أسباب جديرة بالنظر منها حل المعضلات الكثيرة التي يعترض بها على الوحدانية المحضة مثل كيف يكون الله هو الكافي والصمد والمتكلم والغني والودود من قبل أن يكون كائن سواه لأن هذه الصفات وما شاكلها لا يمكن التعليل عنها إلا بتعدد الأقانيم الإلهية مع توحيد الذات كما مر بيانه في كلامنا عن وصف الله بالودود "اهـ.

    ليعذرني القراء إذا قلت أن مؤلف هذا الكتاب لا يفرق بين ما هو دليل له وبين ما هو دليل عليه لأنني إذا سلمت له أن هذه الصفات تستدعي وجود ما تتعلق به أزلا فإن ذلك المتعلق لا يعقل إلا إذا كان ممكنا وأن الله مؤثر فيه الإيجاد حتما لأن الصمد معناه الذي يقصده المحتاج فإذا سلمنا له وجود أقنوم الإبن فإنما نسلم بأن ذلك الأقنوم محتاج إلى الآب حتما فيكون ممكنا وإذا سلمنا بأن الكافي يستدعي وجود من يكفيه شؤنه وذلك هو الأقنوم الثاني كان محتاجا إليه أيضا فكيف يستدل بهذه الصفات على وجود أقانيم متساوية أزلا على انك قد عرفت أن الله تعالى متصف بهذه الصفات أزلا ثم تتعلق بالموجودات في المستقبل حسبما يشاء الله ولا يترتب على هذا تغير في صفات الله تعالى ولا في ذاته .. ألا ترى أنه يعلم أن فلانا سيولد في يوم كذا فتتعلق قدرته بإيجاده في ذلك اليوم ثم يموت في يوم كذا فتتعلق قدرته بإعدامهفي ذلك اليوم وقدرة الله هي هي لم تتغير وإنما الذي تغير هو تعلقها حسب علمه تعالى القديم.

    (ملحوظة) تشعر عبارة المؤلف من أولها أن التثليث ينافي الوحدانية الحقة لأنه قال فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد.







    الدليل السادس:

    إن عقيدة الثالوث تمهد السبيل لتصديق دعوى المسيح أنه كلمة الله المثبوتة في الإنجيل والقرآن لأن الكلمة أو القول هو ما يعبر عنه المتكلم عن فكره والمتكلم هنا الله وحيث أنه دعا المسيح كلمته فيكون هو المعبر الوحيد الكامل عن فكر الله فهو الواسطة الوحيدة لإعلان الله وإذا كان الواسطة الوحيدة لإعلان الله فيجب أن يعرفه حق المعرفة ولا يمكن للمخلوق أن يعرف ربه حق المعرفة ألا ترى أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث له ما عرفناك حق معرفتك .. أما المسيح فإنه قال ((أما أنا فأعرفه))((الآب يعرفني وأنا أعرف الآب)) وإذا ثبت أن المسيح كلمته التي يعبر بها عن فكره وأنه يعرفه ثبت أنه غير مخلوق إذ لا يعرف الله إلا الله فعقيدة الثالوث تزيل كل صعوبة في قبول دعوى المسيح بأنه كلمة الله (ذلك ملخص ما قاله في صحيفة رقم 247 ورقم 248) وقد أشفقت على القارئ من نقل عبارته المرتبكة التي يتعذر فهمها ابتداء ويمتازهذا الدليل بأنه مقصود على إثبات أقنوم الإبن أما أقنوم الروح القدس فهو من باب زيادة نغمة في الطنبور أو من باب زيادة الطين بلة ويقولون في الأمثال العامية (أن زياة الخير خير) فحيث أن معنى كلمة الله جوهر مساو لله في الأزل من جميع الوجوه وتعدد الجوهر فيه فوائد فما المانع من زيادة جوهر ثالث مثل الإله من جميع الوجوه إن ذلك ليس بغريب بل الغريب أن يقتصر على ثلاثة فقط .. ألا يضحك العقلاء من مثل ذلك الكلام هل يظن عاقل (أن معنى كلمة الله) أقنوم مساو لله تعالى في جوهره من جميع الوجوه ولا يمتاز عنه إلا بوجوده الخاص وأن ذلك الأقنوم قد اتحد معه أزلا .. وهل ذلك معنى للكلمة لغة أو عقلا أو يؤخذ منها أي وجه أو أي ناحية قريبة أو بعيدة .. إن العقلاء مجمعون على أن الكلمة أو الكلام صفة من الصفات ولم يفهم أحد مطلقا أنها ذات فيكون معنى كون المسيح كلمة الله أنه أثر لكلمة الله تعالى كما هو الشأن في كل الممكنات بلا فرق ما وتلك الكلمة هي أمره تعالى المشار إليه بقوله تعالى إنما قولنا لشيئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فهو قوله سبحانه في القرآن لهؤلاء المخلوقات الذين افتتنوا بالمسيح لأنه ولد من غير أب أن ذلك هين علينا لأننا إذا قلنا لشيئ كن فإنه يكون فالمسيح أثر لنا كغيره من سائر المخلوقات ولا شك في أن الذي يوجد السموات والأرض وما بينهما وما فيهما لا يعجزه أن يوجد ابنا بدون أب وكم لله من مخلوقات لا عداد لها كلها عجائب قد لا تخطر لأحد على بال إلا عند رؤيتها فلا يصح بالعقلاء أن يفتتنوا بالمسيح الذي جاءهم برسالة من عند الله وأمرهم بتوحيد الله إلى هذا الحد الشائن ولقد صدق من قال:
    وإذا أراد الله فتنة معشر * وأضلهم رأوا القبيح جميلا

    ومن المدهش حقا أن يقول أن ذات الإله لا يمكن أن يعرفها مخلوق حق معرفتها فلا بد من وجود جوهر آخر لا يكون مخلوقا ليعرفها على ذلك الوجه لأن كل من عنده أدنى تمييز يمكنه أنيقول له وأي ضرورة لمعرفة حقيقة ذات الإله حتى يترتب عليها ذلك التعدد المنافي للألوهية وإذا كان لا بد من معرفة حقيقة الذات وأنه لا يعرفها إلا القديم المساوي لله فيصح الإكتفاء بالله في ذلك فليعرف ذاته وحده إذ لا حاجة للمخلوقات في معرفة حقيقة الذات بل هم محتاجون إلى معرفة الآثار المترتبة عليها .. أما قوله أن محمد صلى الله عليه وسلم قال ما عرفناك حق معرفتك فهو كذب على رسول الله وسيأتي الكلام عليه في القسم الثالث.






    الدليل السابع:

    زعم أن الشرقيين والهنود يعتقدون بالقضاء والقدر وهذه العقيدة قد أخرتهم وأضرت بهم فلو أنهم اعتقدوا أن الإله يحبهم أنه مات بالجسد من أجلهم فلم يضمر لهم سوءا لما بقي عندهم محل للشك في حسن مراد الله من جهتهم إلى آخر ما ذكر في صحيفة رقم 248 ولا بد أن يكون المؤلف قد بنى نظريته هذه على أن صلب جسد المسيح (وهو الذي حل فيه أقنوم الإبن) لا يتحقق إلا باعتقاد الثالوث حتى يصح أن يقال أن الإله قد صلب فداء للعالم وإلا فلا وجه لارتباط عقيدة القضاء والقدر بعقيدة الثالوث مطلقا لأن من يعتقد أن الله هو الفعال لا يبني عقيدته هذه على أن ذات الإله بسيطة أو مركبة من أجزاء نعم قد بناها بعضهم على أن الله واحد في أفعاله لا بمعنى أن افعاله متعددة بل بمعنى أن ليس لأحد معه فعل .. ويمكننا أن نصرح ههنا بأن المسلمين مجمعون على ان للإنسان عملا يثاب عليه ويعاقب ويمدح به ويذم وأن كل واحد منهم ذكر أو أنثى مكلف بعمل الصالحات وترك السيئات ومطالب بأداء واجبات دنيوية يعاقب على تركها أشد العقاب كالعمل لتحصيل قوت عياله والنفقة على زوجه وتحصيل ما يكون به عضوا عاملا في هذه الحياة ومكلف بأن يتقن كل ما يستطيع من عمل يرقى به في هذه الحياة الدنيا وان يزاحم غيره في الحياة ويفرض الدين على الأمة الإسلامية أن تكون من أقوى أمم العالم حتى أن الواحد منهم يجب أن يثبت أمام اثنين من أعدائه وقد كانوا كذلك أيام كانوا متمسكين بدينهم حقا فقد أخضعوا لسلطانهم الفرس والرومان وقت أن كانوا أقوى دول العالم على أنهم مكلفون بأن يستمسكوا بالوسائل المشروعة التي لا يترتب عليها ظلم لأحد في ماله أو نفسه او عرضه هذه هي قواعد الإسلام على ان عقيدة القضاء والقدر عندهم من وسائل الإقدام على العمل لأن من يؤمن بأن الله الذي كلفه بالعمل هو الذي يرجع إليه نجاح المطلوب فإنه يقدم عليه وقلبه مؤمن بالله تعالى الذي يسخر له من الوسائل ما ينجحه فإذا فشل بعد ذلك لا يجد في نفسه غضاضة من ذلك الفشل ولا تتاثر نفسه بالحزن والاسى لأنه من اول أمره يعتقد أن الله هو المرجع الحقيقي لكل الأمور .. وقد كان المسلمون في صدر الإسلام من أشد الناس إقداما على أعمال البر فكانوا لا يبالون بالموت في سبيل الإنتصار ولعقائدهم ولا يحجمون عن اقتحام المخاطر خوفا من الفشل فمن أجل ذلك كتب الله لهم النصر على أعدائهم الأقوياء واصبحوا سادة الدنيا من أولها إلى آخرها وكان رائدهم في أمورهم قوله تعالى: ((قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللهلنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) فهل كانت عقيدة القضاء والقدر حجر عثرة في سبيل رقي المسلمين كما فهم المبشر كلا وإنما عاجلت القراء بهذه الكلمة ليفهم أنصار هذا المؤلف بأن المسلمين لا يرتبون على عقيدة القضاء والقدر إلا الإقدام على العمل وهم مع ذلك موقنون بأن الأعمال الصالحة لها عند الله أحسن الجزاء والأعمال السيئة لها أسوأ الجزاء وسيأتي للكلام بقية في القسم الثالث .. وبعد فلننتقل إلى ما سميناه دليلا للمؤلف فهل حقيقة يصح ان يكون دليلا ولو في الجملة كلا إنه على فرض أن الكلام في صلب الإله تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا وأن صلبه دليل على محبته لعباده فهل يكون معنى ذلك أنهم يعملون ويجدون أو بالعكس لا شك في أن المنطق يقتضي أن تكون النظرية معكوسة لأن الذي يعتقد ان الإله صلب من اجل أن يكفر خطيئته وأن الإله القادر يحبه إلى هذا الحد فإنه لا يعمل الصالحات بعد ذلك .. وإذا كان الإله قد صلب وضحى بنفسه ليخلص عباده من الموبقات فاي ضرر على الإنسان بعد ذلك وأي خوف عليه من ارتكاب الموبقات .. ثم إن القادر الذي يقتل نفسه رحمة بي أفلا يكون من المعقول أن أتوكل عليه في أن يرسل لي كل ما أشتهيه بعد ذلك وأنا نائم في منزلي إن ذلك لا يخفى على من له ادنى إلمام بالمنطق فما بال المبشر عكس الحقائق إلى هذا الحد وما باله يخبط خبط عشواء فلا يفرق بين ما هو له وما هو عليه .. ومن ذلك كله يتضح لك جليا أن أول العقائد المسيحية وأكبر وصية يقرها التوراة والإنجيل وهي وحدانية الله تعالى قد رفضها جمهور المسيحيين وأحلوا محلها عقيدة لم يسبقهم إليها أحد من الأمم ولم تعرفها شريعة من الشرائع ولم تؤخذ من الكتب وهي أن الله ثلاثة أقانيم متماثلة من جميع الوجوه ولكن لكل واحد منها خاصة تميزه عن الآخرين وهؤلاء الثلاثة قد اتحدوا ببعضهم فصاروا إلها واحدا غير متعدد لأن كل واحد منهم صار عين الآخر وهذا الذي قالوه قد عبر عنه القرآن الكريم بعبارات مختلفة تنطبق عليه تمام الانطباق فمرة قال لقد كفر الذين قالوا لان الله هو المسيح ابن مريم ومرة قال لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة .. وإذا كنت على ذكر ما بيناه لك في معنى الثالوث عندهم فإنك تعلم أنهم يقولون أن المسيح ابن مريم هو الله لأنه هو أقنوم الإبن قد تجسد وكل أقنوم من الأقانيم مساو للآخر في الماهية الإلهية فكل واحد منهم إله تام فالمسيح بن مريم من حيث كونه أقنوما إله تام ولا ينافي ذلك كونه بشرا من حيث تجسده .. وكذلك الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة فإنهم هم الذين قالوا ان الله هو المسيح إذ لا فرق بين الفريقين .. وهذه العقيدة فاسدة فسادا واضحا لا دليل عليها مطلقا لا عقلا ولا نقلا أما العقل فهم أنفسهم يقولون أن هذه العقيدة فوق العقل وأما النقل فلم يستطيعوا أن ياتوا عليها ببرهان من الإنجيل المحرف فضلا عن الإنجيل الصحيح .. وبعد هذا فليقارن أولوا الألباب بين ما يعتقده المسيحيون في توحيد الإله سبحانه وبين ما يعتقده المسلمون الذين يقولون ان الله سبحانه منزه عن التركيب في ذاته وصفاته ومنزه عن أن يكون له شريك يماثله ومنزه عن كل نقيصة وكل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه فهم يشهدون أن لا إله إلا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يتصف بصفات الحوادث ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله ميزه الله بالرسالة إلى عباده فضلا منه وكرما وهو بالنسبة لمقام الألوهية عبد خاضع مبلغ عن ربه ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي انما الهكم إله واحد)) ((قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ان أنا الا نذير وبشير لقوم بؤمنون)) ((قل انما اتبع ما يوحى الي من ربي)) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على توحيد الله تعالى وتفرده بالعظمة التامة وان كل ما عداه محتاج إليه لا فرق بين عيسى وغير من سائر المخلوقات .. فهل يصح بعد ذلك لعاقل يمكنه أن يميز الحق من الباطل ويعرف الصحيح من الفاسد أن يترك دينا يدعو إلى إله واحد منزه عن كل نقص ومتصف بكل كمال وأنه ليس كمثله شيئ من خلقه ويتبع دينا يقول للناس أن إلهكم مركب من ثلاثة أقانيم معدودة مميزة عن بعضها وأن كل أقنوم إله كامل في ذاته ما دام متحدا مع الآخرين ثم إذا انفصل لا يكون إلها لأن اتحاد تلك الأقانيم أزلي وأن أحد الأقانيم اتحد بدم مريم فصار جسدا وهو المسيح فأصبح المسيح إلها وبشرا من جهتين مختلفين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ومن يضلل الله فما له من هاد.


    --------------------------

    من كتاب "أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين" للشيخ عبد الرحمن الجزيري.

    تعليق

    • د . عمر الشهاوى
      أستاذ الحديث بكلية
      أصول الدين الأزهر الشريف

      • 8 أبر, 2008
      • 51
      • مسلم

      #3
      ماشاء الله تبارك الله اخى الفاضل
      للتواصل عبر البريد الكترونى e_mail : [email protected]
      راية الاسلام ما زالت خفاقة ونحن ورائكم بالمرصاد

      تعليق

      مواضيع ذات صلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ أسبوع واحد
      ردود 0
      11 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة *اسلامي عزي*
      بواسطة *اسلامي عزي*
      ابتدأ بواسطة Mohamed Karm, منذ 3 أسابيع
      رد 1
      52 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة Mohamed Karm
      بواسطة Mohamed Karm
      ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 سبت, 2024, 12:45 ص
      ردود 2
      35 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة *اسلامي عزي*
      بواسطة *اسلامي عزي*
      ابتدأ بواسطة fares_273, 14 يول, 2024, 06:53 م
      ردود 0
      108 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة fares_273
      بواسطة fares_273
      ابتدأ بواسطة fares_273, 14 يول, 2024, 06:52 م
      ردود 0
      65 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة fares_273
      بواسطة fares_273
      يعمل...