[بسم الله الرحمن الرحيم]
البحث عن " يسوع التاريخ"...بين الإسلام والمسيحية
بقلم / رشيد المليكي
حرر الناقد الكبير ( أ. كريفيلويف) كتابا متوسط الحجم لمناقشة قضية " يسوع التاريخ" . والكتاب كما كان متوقعا يثير نفس الإشكالات التي أثارها النقاد والمؤرخون حول هذه الشخصية. يمثل هذا الناقد الكبير حلقة من مدرسة تاريخية تشكلت لدراسة هذا الموضوع الهام. ومن الجيد هنا أن نذكر كتبا هامة حديثة ناقشت تلك القضية وأبعادها : بروسبير ألفريك : "من الإيمان إلى العقل ، الأصول الاجتماعية للمسيحية" . و القس السابق جى فو :"الأسطورة الخرافية ليسوع المسيح ، المسيح بلا يسوع" . وكتاب القس توم هاربر المعنون : "المسيح الوثني " ، وجيرالد ماسيه: " يسوع التاريخي وأسطورة المسيح" ، و جون دومنيك كروسون : " يسوع التاريخي : قصة حياة فلاح يهودي " . أو ألبرت شفايتسر وكتاب: " البحث عن يسوع التاريخي " ، و رجل القانون الأمريكي وكتاب: " التحريف في المسيحية ".. جيرار ميسادييه وكتاب: " الرجل الذي أصبح الله " !!
تشرح الدكتورة / زينب عبد العزيز_ أستاذة الحضارة الفرنسية_ هذا الوضع بالقول: " تزايد الخلاف أو تزايدت الهاوية بين الكنيسة والعلم في النصف الثاني من القرن العشرين ، عندما أصبحت هناك ثلاث مدارس بخطوطها المتباينة حول حقيقة تاريخية السيد المسيح عليه الصلاة والسلام: مدرسة تنكر وجود يسوع تاريخيا على الإطلاق ، ومدرسة تؤمن بأنه شخصية ركّبتها الكنيسة الأم من عدة شخصيات من الواقع ومن الأساطير السائدة آنذاك ، ومدرسة ثالثة تقول أن يسوع النبي شيء والمسيح هو شيء آخر ، بمعنى : أن يسوع الإنسان قد وُجد فعلا وعاش كأحد الأنبياء يعلّم ويعظ ويقوم بالمعجزات العلاجية وغيرها ، والمسيح هو تركيبة أسطورية تجمع بين كل الأساطير السائدة في المنطقة كأوزوريس وأتيس و ميثرا، وقاموا بعمل مقارنات توضح تماما التماثل الشديد الوضوح بينهم."._ مقال بعنوان " القضاء الايطالي يدرس قضية يسوع".
لكن ما الذي دعا النقاد بمختلف انتماءاتهم وجنسياتهم إلى إثارة الموضوع بهذه القوة؟؟ بحيث يبدوا أن هناك " إجماعا " بينهم؟؟!!
تمثل الأناجيل الحالية مصدرا هاما ووحيدا ( في الفكر الغربي) لحياة المسيح (ع). ويدعي الفكر الديني المسيحي حاليا أن اثنان من محرريها كانوا " شهود عيان" لحياة المعلم . ومنذ نشوء النهضة العلمية والتي رافقتها نهضة فكرية أيضا , بدأت الصورة تتضح أكثر وأكثر أمام النقاد. كان هناك ثلاثة أسئلة ملحة تطرح بقوة:
1_ ما هي الصورة التي تعرضها الأناجيل الحالية لشخصية يسوع ؟. ( وقد أطلق عليه النقاد هنا مصطلح " يسوع الأناجيل").
2_ ما هي الصورة التي ترسمها الحقائق التاريخية للمنطقة عن يسوع؟. ( وقد أطلق النقاد على ذلك مصطلح " يسوع التاريخ").
3_ وأخيرا ما هو مدى تقاطع أو تباعد الصورة التاريخية مع الصورة الإنجيلية ليسوع ؟؟
الجزء الأول: " يسوع الأناجيل"
هل ما تعرضه الأناجيل اليوم من صورة للمسيح أمر يدعوا للثقة ؟ وهل هو ثابت كحقيقة تاريخية؟ .. وللإجابة على هذا التساؤل علينا الرجوع إلى مادة الأناجيل نفسها لنعرف كيف تقدم لنا المسيح كشخصية وكانسان عاش فعلا. هل كان المسيح معروفا في منطقته وعصره الذي عاش فيه؟؟
بحسب الأناجيل , فالمسيح لم يكن أبدا شخصية عادية أو مغمورة على الإطلاق , فلم يكن معروفا لدى سكان فلسطين فحسب , بل ولجميع سكان الشرق الأوسط. فمن الصعب للغاية أن لا يسمع شخص أو أكثر ضمن حدود هذه المنطقة عن " يسوع " على الإطلاق (حسب الأناجيل) , النقاط التالية توضح الصورة أكثر:
1_ كان لدى اليهود استعداد نفسي تام لاستقبال المسيح الذي وردة عنه " مئات " النصوص التي تتحدث عنه في التوراة وبصفات لا تنطبق إلا عليه فقط ( حسب الادعاء المسيحي). كما أنه عاش بينهم كيهودي ملتزم ومعارض.
النتيجة : عرفه اليهود بقوة.
2_عند مولد " يسوع" ظهر نجم في السماء يرشد المجوس من المملكة الفارسية ( إيران) إلى مكانه, فقد عرفوا موعد ولادته عن طريق نبؤات كتبهم المقدسة كذلك ( متى 1:2_12).
النتيجة : عرفه الفرس.
3_ بعد ذلك سمع عنه (هيرودس) حاكم المنطقة , وجميع سكان أورشليم كلها _ ( متى 3:2).
النتيجة : عرفه الحكام وسكان القدس جميعهم.
4_ قام (هيرودس) خوفا من ولادة ( ملك لليهود) بذبح جميع أطفال مدينة " بيت لحم " وما جاورها من مدن ( متى 16:2) , ويقدر التقليد المسيحي عدد الأطفال في هذه المذبحة الرهيبة بـ (14.000) ألف طفل. بينما يقدره آخرون بـ ( 144.000 ) ألف طفل.
النتيجة : عرفه حوالي ربع مليون إنسان الذين سمعوا وشاهدوا المذبحة أو وصلهم خبرها على الأقل.
5_ ذهب إلى مصر وظل فترة هناك , وبذلك عرفه سكان مصر أيضا ( متى 13:2_15).
النتيجة : عرفه المصريون.
6_ قام " يسوع" بالعديد من الرحلات التي طاف فيها ( فلسطين ولبنان وسورية) وقام خلالها بالعديد من المواعظ الجماهيرية , حيث كان ( يعلم في المجامع _لوقا 15:4) , وغالبا ما تعلق الأناجيل في نهاية الموعظة بالقول " فآمن به كثيرون " لإظهار مدى شعبيته وقوة تأثيره . يقول كاتب إنجيل متى : ( وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية )_ متى 23:4_24.
النتيجة : عرفته كل فلسطين ولبنان وسوريا.
7_ في كثير من المواقف كان " يسوع " يقوم بمخاطبة الشعب علانية , وكانت لديه الجرأة كي يدخل الهيكل ويقلب موائد الباعة ( يوحنا 13:2_25) وكان شديدا مع رؤساء اليهود. وحتى مع الطوائف الدينية اليهودية المختلفة.
النتيجة : عرفته مختلف طبقات الشعب.
8_ إضافة إلى شهرة يسوع في المنطقة بسبب تعاليمه ورحلاته , فقد قام بالعديد من المعجزات الجماهيرية . ويسرد الدكتور/ وليم كامبل من الصفحات (302 - 319) في كتابه (القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم) حوالي (40) معجزة جماهيرية ليسوع . منها على سبيل المثال:
a- شفاء مريض لمدة 38 سنة (يوحنا 5:5_9)..................المشاهدون:200 شخص.
b- شفاء عشر مرضى بالبرص ( لوقا 12:17_14) ............المشاهدون:1.000 شخص.
c- إطعام أربعة الآف شخص ( مرقص 1:8_9)...............المشاهدون:4.000 شخص.
d- شفاء كثيرين ( مرقص 32:1_34)..........................المشاهدون:4.000 شخص.
e- إطعام 5.000 بسمكتين وخبز قليل( يوحنا 1:7_14).....المشاهدون:5.000 شخص.
f- شفاء كثيرين في صور وصيدا ( مرقص 7:3_11) .........المشاهدون: 20.000 شخص.
g- شفاء كثيرين شرق بحر الجليل ( متى 29:15_31).......المشاهدون: 20.000 شخص.
h- كل من لمس يسوع يشفى ( مرقص 53:6_56)...........المشاهدون: 40.000 شخص.
i - يرسل72 شخصا فيجرون معجزات باسمه (لوقا 1:10_17).المشاهدون: 72.000 شخص.
j - شفاء رجل مسكون بروح نجس ( مرقص 2:5_15)....المشاهدون: المنطقة كلها.
ثم يصل الدكتور / وليم كامبل إلى استنتاج هام قائلا: " فلو أن سكان فلسطين زمن المسيح كانوا مليوني نفس يكون 5% منهم ( يعني 100,000 شخص ) رأوا إحدى المعجزات أو سمعوا بحدوثها "_ نفس المرجع ( ص 319).
ولو استخدمنا لغة العصر الحديث , لقلنا أن المسيح يعرض في الأناجيل كـ " مستشفى متنقل " لعلاج جميع المرضى والمصابين. فمن الطبيعي جدا أن يلفت جميع الأنظار إليه حتى أبعد الحدود , خاصة في ذلك الزمان الذي لا يعرف الطب الحديث.
فإذا عرفنا بعد ذلك أن كاتب إنجيل يوحنا ( 25:21) يقول: " وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ".
فهذا يعني أنه من المستحيل أن شخصا لم يسمع عن يسوع بكل تأكيد.
9_ تم اتخاذ قرار ( صلب يسوع) عن طريق حاكم السلطات الرومانية في المنطقة . وبذلك فان السلطات الرسمية عرفت اسم " يسوع " أيضا.
النتيجة : عرفته السلطات الرسمية.
10_ تم صلب " يسوع" أما العديد من الجماهير الغفيرة , في الساحات العامة .
النتيجة : عرفته المنطقة كلها.
11_ بعد الصلب حدث كسوف عالمي للشمس , وزلزال عظيم. (متى 51:27+ لوقا 44:23).
النتيجة : سمعت به مناطق كثيرة جدا.
12_ بعد الصلب قام الموتى من القبور ودخلوا المدينة وكلموا الكثير من الناس ( متى52:27_53)
النتيجة : سمعت به مناطق كثيرة.
*الخلاصة:
كان " يسوع الأناجيل" في القرن الأول شخصية مشهورة جدا, و ذو " شعبية فائقة" بلغت الآفاق , وهزت بقوة أرجاء فلسطين ولبنان وسوريا , بل وربما أبعد من ذلك بكثير.
الجزء الثاني: " يسوع التاريخ".
عرفنا في الجزء الأول أن المسيح (حسب تصوير الأناجيل الحالية) شخصية ذات " شعبية جماهيرية " فائقة هزّت أرجاء كل فلسطين ولبنان وسوريا في القرن الأول.أدهش الناس وتبعه الآلاف.فمن الطبيعي إذا أن يرد ذكره مئات المرات في أغلب أدبيات تلك المناطق وما جاورها , بل ولو قلنا الآف المرات فنحن لا نبالغ. لكن الذهول الكبير الذي أصاب الجميع اليوم أنه لم يرد ذكر" يسوع" هذا ولو مرة واحدة بشكل مؤكد في أي مرجع تاريخي في القرن الأول. وهو الشيء الذي أطلق عليه النقاد الكبار( صمت القرن). لدينا العديد من الآثار التاريخية للعديد من المؤرخين والأدباء في القرن الأول , عاشوا في فلسطين أو قريبا منها أو كانوا على اتصال ثقافي وأدبي معها :-
1_ بلينوس الكبير (23-79م) : أو " كايوس بلين" المؤرخ اللاتيني العظيم وعالم الطبيعة . أمضى خمس سنوات في فلسطين (65-70م) مشهود له بالدقة في كل ما يكتب , كتب عن طائفة " الأسانيين " التي عاشت في قمران. وما كتبه عن تلك الجماعة يطابق تماما ما تم اكتشافه حديثا في مخطوطات قمران " البحر الميت ", على بعد أميال قليلة من المناطق التي بشر فيها " يسوع الأناجيل" واجترح معجزاته الجماهيرية فيها . وكعالم طبيعة كان لابد أن يلفت نظره الزلزال العظيم والكسوف الذي أصاب المنطقة وقت الصلب, وكان لا بد أن يسمع مئات القصص عن " يسوع ومعجزاته" خلال زيارته. لكنه لم يذكر شيئا أبدا .
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
2_ فيلون السكندري(10 ق.م- 50م):الفيلسوف اليهودي الشهير الذي عاش في الإسكندرية, اهتم بأخبار اليهود في فلسطين , وتحدث عن " بيلاطس" الوالي فيها. كان كاتبا ذو ثقافة كبيرة , اشتهر بحديثه عن (االلوغس= الكلمة) فقد ذكرها أكثر من (1,200) مرة قبل أن يذكرها كاتب الإنجيل الرابع. فسر الكثير من كتب الشريعة. وكتب عن فرقة " الأسانيين" بدقة. لكنه لم يذكر كلمة واحدة عن " يسوع الأناجيل".
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
3_ الروائي سينكا (4 ق.م- 65م): أو " لوسيوس أنايوس" الأديب والفيلسوف الروماني. تشمل أعماله الموجودة 12 مقالة فلسفية، و124 رسالة ومقالة في علم الأرصاد الجوية، ورواية ساخرة، وتسع روايات مأساوية. كان مشهورًا في الأوساط السياسية والأدبية في روما، ثم صار معلمًا ومستشار الإمبراطور نيرون. له كتاب " مسائل الطبيعة" حلل فيه الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والعواصف . لكنه لم يذكر كلمة واحدة عن " يسوع الأناجيل". حاول المسيحيون جعله من " آباء الكنيسة" , واخترعوا له مراسلات مع (بولس) ومديح متبادل, لكن ظهر فيما بعد أنها مزيفة تماما. تقول دائرة المعارف الكتابية :-
" رسائل بولس لسنيكا : وهي رسائل باللاتينية ، ست منها من بولس ، وثمان من سنيكا . ويقول ليتفوت عن هذه الرسائل : الأرجح أن هذه الرسائل قد زيفت في القرن الرابع ، إما لتزكية سنيكا عند القراء المسيحيين ، أو لتزكية المسيحية عند تلاميذ سنيكا . وكانت واسعة الانتشار في العصور الوسطى ."_ مادة " أبوكريفا".
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
4_ المؤرخ يوست (القرن الثاني): مؤرخ من منطقة طبرية التي تقع في شمال فلسطين قرب "كفر ناحوم" التي زارها المسيح.. له كتاب " تاريخ الملوك اليهود" حتى منتصف القرن الأول. لم يبقى من مؤلفاته شيء, وعرفناها عن طريق" فوتيوس" بطريك القسطنطينية في القرن التاسع. الذي أورد نبذه لـ " 280" كتابا قراها " ببليوتيكا" , ومنها " تاريخ الملوك اليهود". وقد لاحظ البطريرك أن المؤرخ الكبير قد أحاط " يسوع" بصمت مطبق , مما أثار سخطه .
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
5_ سويتون ( 69-140م): "جايوس ترانكيلوس" كاتب سيرة روماني. تمكن من الاطلاع على السجلات الرومانية بحكم منصبه كسكرتير للإمبراطور الروماني هادريان حتى عام 122م. له كتاب " حياة 12 قيصرا" , وكتاب " أشهر الرجال". تحدث عن ثورة اليهود في روما بقيادة " crestos " فظن المسيحيون أنه " يسوع". لكن ظهر أن الكلمة لاتينية بمعني ( الطيب أو الحسن), وكان قائدا للثوار في ( 39 - 40 م) أيام كاليجولا، وهى الثورة التي أخمدها كلاوديوس حينما أصبح إمبراطورا سنة 41 م. أما المسيح فلم يعش مطلقا في روما كما هو معروف للجميع.
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
6_ جُوزيفَسْ، فلافيوس (38-100م): " يوسيفوس فلافيوس "مؤرخ يهودي، ولد في القدس وكان حاكمًا على الجليل عندما نشبت الحرب بين اليهود والرومان عام 66م. وبعد سقوط القدس عام 70م رحل إلى روما.كتب عشرون مجلدًا تاريخيًا عن تاريخ اليهود حتى نهاية عهد نيرون. وبلغت مجمل أعماله خمسون كتابا. و لم يذكر " يسوع الأناجيل" على الإطلاق. لكن المسيحيون أضافوا فيما بعد إلى كتبه فقرات تتحدث عن " المسيح" يظهر فيها المؤلف وكأنه مسيحيا , بل ويطلق عليه لقب " المسيح" , من الواضح أن النقاد يجمعون على أنها مزيفة تماما, فالمؤرخ كان يهوديا بشكل كامل , وبصورة لا تدعوا للشك فيه أبدا . كما أن الفقرات المضافة محشورة بين جملتين متصلة في المعنى. مما جعل كل ناقد اليوم يعترف بتزويرها.
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
7_ بلوترخس ( 48- 125م): كاتب سير وعالم أخلاق يوناني . درس البلاغة والرياضيات في أثينة وسافر إلى روما ومصر. دوّن الكتب العديدة فبقي لنا منها اثنان. نجد فيهما مقالات أخلاقية ودينية وسياسيّة وتربويّة, عالج التاريخ والأدب على الطريقة الأفلاطونية. آمن بحضور النفس والعرافة وعدالة العناية الإلهية. في تقليد فكر ديني آخذ في الانحطاط، جمع العناصر التي تفعل فعلها في الضمير. وكان همّه الخلقيّة العمليّة : التقوى، الاعتدال، حسن الذوق.
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
8_ مخطوطات قمران (القرن الأول) : أو مخطوطات البحر الميت. في عام 1947م تم اكتشاف الآف المخطوطات والكتب والقصاصات الدينية لطائفة " الأسانيين" التي عاشت في فلسطين خلال القرن الأول. أي أنها كانت معاصرة ليسوع الأناجيل, في قلب فلسطين , وفي نفس الوقت الذي عاش فيه . لكنها لم تذكر "يسوع الأناجيل" ولا حتى بكلمة واحدة. ولم تشر إليه إطلاقا.
( ماذا قالت عن يسوع؟ ): لا شيء.
9_ سترابون( 58ق.م-25م): عالم وجغرافي يوناني. درس أصل الشعوب وهجرتها.وتأسيس الممالك. وعلاقة الإنسان بالطبيعة. كذلك هو أيضا لم يشر إلى " يسوع الأناجيل" على الإطلاق.
( ماذا قال عن يسوع؟ ): لا شيء.
10_ جوفينال ( 45-130م) و لوكانوس (39-65م) : أديبان رومانيان شهيران , لهما بعض المآثر الأدبية.
( ماذا قالا عن يسوع؟ ): لا شيء.
بقي أن نشير إلى بعض الإشارات الضعيفة وكلمات قليلة جدا ذكرت اسم " يسوع". فبلينوس الصغير(61-124م) أورد جملة واحدة عن قصائد يرددها المسيحيون في القرن الثاني لمسيحهم؟! . وتاسيتوس (55-120م) كتب بضعة اسطر عن شائعات تتحدث عن حريق روما زمن نيرون, وعن طائفة تعرف بالمسيحيين, اشتقوا اسمهم من المسيح.و سياق حديثه يدل على انه يتحدث عن شائعات في روما. وعن المسيحيين في القرن الثاني , لا عن المسيح كشخصية عاشت فعلا.
الخلاصة
إن مقارنة الحقائق السابقة , تقودنا إلى نتيجة جوهرية واحدة , " يسوع الأناجيل " صورة مختلفة تماما عن " يسوع التاريخ" . لا مجال على الإطلاق لتعزيز الروايات الإنجيلية ليسوع تاريخيا , بل بالأحرى تولد الشك فيها.
ليس من المعقول أن يجمع المؤرخون من مختلف المناطق والأديان والأعراق على إغفال ذكر شخصية بحجم " يسوع " كما تصوره الأناجيل؟؟؟!!. ( نظرية المؤامرة).
أين الآف الأتباع و الجماهير الذين شفاهم المسيح ووعظهم وأحبوه وألهب حناجرهم؟؟. أين تلك الخطب الرنانة والمواعظ في المجامع العلنية؟؟. أين تلك الأحداث المرعبة التي رافقت ولادة أو موت يسوع , وهزت أرجاء الكون؟؟.
أين ذهب الجميع؟؟
التاريخ يقول كلمته في هذا الموضوع : لا شيء , لا شيء عن " يسوع الأناجيل".
ويحق لنا نحن المسلمين أن نسأل : ما الذي فعلته الأناجيل بسيرة السيد المسيح عليه السلام؟؟ كم من المبالغات أضافت إلى هذه الشخصية الكريمة؟؟ كيف كانت لتبدوا الصورة بدون مبالغات ؟؟؟
الجزء الثالث: " يسوع الإســــــــــلام " .
تتخذ شخصيات الأنبياء مكانة مميزة في الإسلام. ليس بحجة أنهم من دون أخطاء بشرية , بل بسبب دورهم الأساسي في تعريفنا بالحقيقة . لذلك فمن الطبيعي أن يكون للمسيح (ع) نفس مكانة الأنبياء والمرسلين.
1_ حسب القرآن الكريم فان المسيح ولد بطريقة عجائبية (سورة مريم) , لكن اليهود رفضوا تلك المعجزة لاحقا , واتهموا مريم بالفاحشة ( النساء : 156) . ترد قصة المسيح (ع) في القرآن الكريم بدون أبعاد أسطورية وخيالية. ولا حديث عن زيارات مكوكية قام بها كهنة مجوس للمنطقة.
2_ في الإسلام أن المسيح _كلقب_ والذي بشرت به كتب اليهود هو ( محمد) وليس عيسى_عليهما السلام ( الأعراف : 157). ولا حديث عن شهرة إقليمية لعيسى ابن مريم. فيبدوا تماما أنه أحد أنبياء بني إسرائيل فقط. كذلك لا حديث عن ذهابه إلى مصر ( وهو الأمر المشكوك بصحته تاريخيا).
3_ بالنسبة لمعجزات المسيح (ع) تبدوا الصورة في الإسلام منطقية بشكل يدعوا للثقة :
أ_ معجزات المسيح (ع) كانت مميزة , لكنها لم تكن فريدة و جديدة فقد سبقه العديد من الأنبياء بفعلها.
ب_ معجزات المسيح (ع) خالية تماما من البعد الجماهيري الذي يصل إلى حد عبوره حدود السكان في فلسطين وسورية.
ج_ معجزات المسيح (ع) لم تكن " شيكا مفتوحا" للمسيح , بل كانت أشياء محددة فقط يستطيع القيام بها , نشير هنا إلى الآية الكريمة التي تحدد هذه المعجزات : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }_ آل عمران : 49.
د_ جميع المعجزات لم تكن تحدث إلا بإذن الله (تعالى) , وهي بالتالي محدودة إلهيا.
4_ موضوع( صلب المسيح) يرفضه الإسلام بشكل واضح . صحيح أنه يذكر أن محاولة يهودية قد جرت لقتل المسيح ابن مريم , وفي الوقت نفسه يعلن فشل تلك المحاولة بحفظ الله _سبحانه_ لنبيه الكريم (النساء:157) .
5_ لا مجال في الإسلام للحديث حول تلك القصص الخيالية عن زلزال للأرض وكسوف عالمي للشمس , ربما حدثت هذه الأمور فعلا, لكن كظواهر طبيعية ليس إلا , فالمسيح لم يصلب أصلا.
أما موضوع قيامة الموتى وحديثهم للناس في المدينة بعد الصلب المفترض, فلا يعدوا كونه قصة خرافية بأرفع ما للكلمة من معنى.
إننا لا نتهجم على المسيحية , بل هذا ما يقرره جميع النقاد , حتى المسيحيون منهم. البعد الفلكلوري الشعبي تفاعل مع البعد الديني , فنتجت قصة إنجيلية. لم يكن الهدف كتابة سيرة صحيحة تاريخيا , لقد كان الهدف إيصال رسالة دينية صاخبة ومؤثرة للأتباع الضعفاء:-
( ولم يكن اهتمام كتبة العهد الجديد، بصليب المسيح ينصب - أساساً- على الناحية التاريخية، بل على الناحية المعنوية الكفارية الأبدية لموت الرب يسوع المسيح ابن الله)_ دائرة المعارف الكتابية _مادة "صلب-صليب".
6_ في الإسلام لا يحتاج المسلم لأدلة تاريخية تؤكد وجود عيسى ابن مريم(ع) , لسبب وجيه جدا, فالمسيح في الإسلام مجرد نبي عادي , لا أكثر ولا أقل. أنبياء كثير لم يحتاج الإيمان بهم لأدلة تاريخية , مثل زكريا ويحيى وغيرهم. ذلك أن الإسلام يعرضهم كشخصيات بشرية عادية , أدت دورها النبوي فقط. لا حديث في الإسلام عن حدوث ظواهر طبيعية وقت ولادة المسيح أو في وقت محاولة الصلب الفاشلة. ولا حديث أيضا عن معجزات جماهيرية عمت فلسطين ولبنان وسوريا. أو مذابح جماعية للأطفال ارتكبها الحكام. الصورة في الإسلام منطقية أكثر.
فالإسلام يرى أن كل ذلك هو مبالغات دينية , هدفها الوحيد (المزيد من إظهار عظمة أكبر للمسيح ). ففي حديث شهير للنبي محمد يحذر فيه أتباعه من الوقوع في نفس الإشكالية :
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. ولكن قولوا عبد الله ورسوله " .
7_ علينا أن نلاحظ بدقة أن محور رسالة المسيح (ع) كانت مثل كل الأنبياء وهي الدعوة إلى التوبة وتجديد العلاقة مع الله على أساس التقوى. لكن الذي حدث بعد صعوده هو أن أصبحت " شخصية المسيح " نفسها هي محور الرسالة المسيحية الجديدة. ولذلك تسابق الناس إلى تمجيدها وتعظيمها.
المبالغة حول شخصية المسيح (ع) لم تقتصر على الجانب الديني , بل تعدت لمختلف الجوانب التاريخية والحياتية . كانت الفكرة هي : ( بما أن شخصية المسيح هي " محور المسيحية الجديدة " فمن الواجب أن يلقى كل المديح والحب والعظمة) .
فإذا انطلقت الأمور من منظور ( عاطفة دينية قوية تجاه شخصية محورية واحدة). لقد مثل رفض اليهود للإيمان بالمسيح , وهو الذي جاء خصيصا لهم ( جاء إلى خاصته , وخاصته رفضته) صدمة نفسية لأتباعه المؤمنين به. فحشدوا كل الأدلة الممكنة لإقناعهم أن " يسوع " هو مسيح حقيقي . تمثلت هذه الأدلة بعدة صور ( نبؤات كتابية , معجزات عظيمة , تأثير جماهيري عظيم , علاقة خاصة مع السماء , كمال إنساني فريد ). وكأنهم يقولون لهم( هذا يسوع الذي رفضتموه , قد انتصر عليكم وصار أيضا ربا والها) .في خضم هذا الحشد وهذا الصراع فان الجانب العقلي كان ضعيفا للغاية.
إن الفكرة الرواقية القائلة " إن المصيبة تنتج عندما تحطم العاطفةُ العقلَ " تمثل وصفا دقيقا للحدث .
تعليق