بقلم الدكتور محمد عمارة
نشرت فى جريدة الأسرة العربية - عددى 2817 و 2818
منقول بتصرف بسيط
لماذا دخلت الكنائس المحلية
في وطن العروبة وعالم الإسلام,
ميدان العمل علي تنصير المسلمين..
بعد أن كانت شديدة الحذر من دخول هذا الميدان علي امتداد تاريخها مع الإسلام والمسلمين?
.. لقد عاشت الكنائس النصرانية في الشرق الإسلامي قرونًا طويلة وهي تدرك أن الإسلام هو الذي أنقذها وأنقذ نصرانيتها من الإبادة الرومانية التي امتدت منذ ظهور المسيحية وحتي الفتوحات الإسلامية -ففي تلك القرون الستة عاشت النصرانية الشرقية- تحت نير الاستعمار الروماني -ديانة سرية مضطهدة ومطاردة ومتهمة بالهرطقة, حتي لقد اغتصب الرومان كنائسها وأديرتها- بعد تدينهم بالنصرانية.. منذ الانشقاق الذي حدث في «مجمع خلقدونية» سنة 451م, وتكون «المذهب الملكاني» الروماني, المعادي للنصرانية الشرقية.. فتواصل الاضطهاد الروماني للنصرانية الشرقية بعد اعتناق روما للنصرانية, كما كان الحال في عصر وثنية الرومان!..
ولقد استمر هذا الاضطهاد, الذي هربت منه قيادات النصرانية الشرقية إلي الصحاري والجبال والمغارات.. والذي تؤرخ الكنائس الشرقية حتي الآن بمجازره ضد أنصارها, فتسميه «عصر الشهداء»!..
عاشت النصرانية الشرقية هذا التاريخ, حتي جاء الفتح الإسلامي فحرر أوطانها من القهر السياسي والحضاري والثقافي والاقتصادي.. وحرر ضمير رعاياها من القهر الديني.
وظلت هذه النصرانية الشرقية وكنائسها واعية بذكريات هذا التاريخ الدموي.. وعارفة ومعلنة عن فضل الإسلام وفتوحاته التحريرية في إنقاذها من الهلاك والانقراض.
. فشاهد العيان علي الفتح الإسلامي لمصر, الأسقف «يوحنا النقيوسي» هو القائل:
«إن الله الذي يصون الحق, لم يهمل العالم, وحكم علي الظالمين, ولم يرحمهم لتجرئهم عليه, وردهم إلي يد الإسماعيليين [العرب المسلمين], ثم نهض المسلمون وحازوا كل مصر.. وكان هرقل [610- 641م] حزينًا.. وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مصر, وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكامهم.. مرض هرقل ومات.. وكان عمرو بن العاص [50ق هـ- 43هـ 574- 664م] يقوي كل يوم في عمله, ويأخذ الضرائب التي حددها, ولم يأخذ شيئًا من مال الكنائس, ولم يرتكب شيئًا ما, سلبًا ونهبًا, وحافظ علي الكنائس طوال الأيام»(1).
. كما تحدث هذا الأسقف عن الأمان الذي أعطاه عمرو بن العاص للبطرك «بنيامين» [39هـ- 659م] بطرك المصريين -الذي كان هاربًا من مطاردة الرومان ثلاثة عشر عامًا- وعن عودته إلي رعيته.. واستقبال عمرو بن العاص له.. وزيارة البطرك للكنائس التي حررها له الإسلام.. والسعادة التي عبر عنها وأعلنها بما صنع الفتح الإسلامي للنصرانية المصرية.. فقال الأسقف يوحنا النقيوسي:
«ودخل الأنبا «بنيامين» بطريرك المصريين, مدينة الإسكندرية, بعد هربه من الروم ثلاثة عشر عامًا.. وسار إلي كنائسه, وزارها كلها, وكان كل الناس يقولون: هذا النفي, وانتصار الإسلام, كان بسبب ظلم هرقل الملك, وبسبب اضطهاد الأرثوذكسيين.. وهلك الروم لهذا السبب, وساد المسلمون مصر.. وخطب الأنبا «بنيامين» -في دير «مقاريوس»- فقال: لقد وجدتُ في الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما, بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون»(2).
وبعد الأسقف «يوحنا النقيوسي» بعدة قرون, يشهد الأسقف «ميخائيل السرياني» علي ذات الحقيقة, فيقول عن تحرير الإسلام للنصرانية المصرية والشرقية, وعن سماحة الإسلام مع نصاري مصر:
«لم يسمح الإمبراطور الروماني لكنيستنا المونوفيزتية [القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح] بالظهور, ولم يصغ إلي شكاوي الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت, ولهذا, فقد انتقم الرب منه.
لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة, واتهمونا دون شفقة, ولهذا جاء إلينا, أبناء إسماعيل من الجنوب لينقذونا من أيدي الرومان, وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية, وعشنا في سلام»(3).
ولما حرر عمرو بن العاص كنائس مصر وأديرتها من الاغتصاب الروماني, وردها إلي أهلها «خرج للقائه من أديرة وادي النطرون سبعون ألف راهب, بيد كل واحد عكاز, فسلموا عليه وكتب لهم كتابًا [بالأمان] هو عندهم»(4) -في أديرتهم.
وحتي القرن العشرين, ظل المؤرخون النصاري الوطنيون يشهدون علي هذه الحقيقة -حقيقة إنقاذ الإسلام للنصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية- فكتب صاحب كتاب [تاريخ الأمة القبطية] -يعقوب نخلة روفيله- [1847- 1905م] يقول:
«ولما ثبت قدم العرب في مصر, شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين واستمالة قلوبهم إليه, واكتساب ثقتهم به, وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه, وإجابة طلباتهم.
وأول شيء فعله من هذا القبيل: استدعاء «بنيامين» البطريرك, الذي اختفي من أيام هرقل ملك الروم, فكتب أمانا أرسله إلي جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور, ولا خوف عليه ولا تثريب, ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره علي هذا الصنيع, أكرمه وأظهر له الولاء, وأقسم له بالأمان علي نفسه وعلي رعيته, وعزل البطريرك الذي كان أقامه هرقل, ورد «بنيامين» إلي مركزه الأصلي معززًا مكرمًا.. وكان «بنيامين» موصوفًا بالعقل والمعرفة والحكمة, حتي سمّاه بعضهم «بالحكيم».. وقيل: إن عمرًا لما تحقق ذلك منه, قربه إليه, وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها, وقد حسب الأقباط هذا الالتفات منَّة عظيمة وفضلاً جزيلاً لعمرو.
واستعان عمرو في تنظيم البلاد بفضلاء القبط وعقلائهم علي تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي, فقسم البلاد إلي أقسام يرأس كلا منها حاكم قبطي ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم, ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة, وعيّن نوابًا من القبط ومنحهم حق التداخل في القضايا المختصة بالأقباط والحكم فيها بمقتضي شرائعهم الدينية والأهلية, وكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني, وهي ميزة كانوا قد جردوا منها في أيام الدولة الرومانية.
وضرب عمرو بن العاص الخراج علي البلاد بطريقة عادلة.. وجعله علي أقساط, في آجال معينة, حتي لا يتضابق أهل البلاد.
وبالجملة, فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها من أزمان»(5).
***
نعم.. ظلت الكنائس المحلية في الشرق الإسلامي طوال قرون عيشها المشترك مع الإسلام, واعية بهذه الحقائق, وذاكرة لها, ومتذكرة لآثارها.. ولذلك, انخرطت مع رعيتها -طوال هذه القرون- فاندمجت في الأمة الواحدة, وأسهمت في بناء الحضارة الإسلامية الواحدة.. وانتمت إلي مكونات الهوية الواحدة التي جمعت بين الجميع -هوية: اللغة.. والتاريخ.. ومنظومة القيم والأخلاق- مع التنوع والتمايز في عقائد الدين.
وفي ضوء هذه الحقائق التاريخية -التي شهد عليها وبها الأساقفة والمؤرخون- والتي أثمرت قدرًا من الاندماج القومي والحضاري والثقافي, ونماذج من العيش والتعايش المشترك, صار مضربًا للأمثال ونموذجًا للاحتذاء.. في ضوء ذلك يأتي السؤال -الذي يحيّر البعض- عن السر الذي جعل قطاعات عديدة.. ومتنفذة.. وأحيانًا قائدة -في هذه الكنائس, تتحول عن حذرها التاريخي من العمل علي تنصير المسلمين, لتنخرط في عملية التنصير.. وبالاشتراك مع من?.. مع الغربيين, أحفاد الذين اضطهدوا الأسلاف!.. وضد من?.. ضد المسلمين, أحفاد الأسلاف الذين حرروا أولئك الأسلاف?!.
***
لقد بدأ التنصير -الذي يسمونه تبشيرًا- كجزء من الغزوة الاستعمارية الغربية للشرق, مارسته مذاهب النصرانية الغربية -البروتستانت والكاثوليك- وكانت سهام هذا التنصير -في مراحله الأولي- موجهة ضد أبناء الكنائس الشرقية, لأنهم الأقرب في الاستجابة لمذاهب نصرانية بينها وبينهم وجوه شبه كثيرة.. ولما كانت عليه كنائسهم الشرقية من جمود وتخلف وجهل وتقليد.. ولما كان في موالاة مذاهب المستعمرين من امتيازات.
وبعد أن اكتسب هذا التنصير الغربي لمذاهبه الغربية مواطئ أقدام بين النصرانية الشرقية, بدأ يتوجه نحو تنصير المسلمين.. لكنه -رغم طول الزمن.. وكثرة الإنفاق.. ومشقة الجهود- لم يحصد إلا خيبة الأمل في ميادين التنصير للمسلمين!!..
ولهذه الحقيقة, تداعت الكنائس الغربية -والأمريكية المشيخية منها علي وجه الخصوص- لدراسة تاريخ التنصير.. وتجاربه.. وأساليبه.. والدروس المستفادة من هذا الإخفاق.. ولدراسة الأساليب الجديدة لتنصير المسلمين.. فكان المؤتمر التاريخي الذي عقد في منتصف مايو 1978م -في «كولورادو»- بولاية «كاليفورنيا» -بالولايات المتحدة الأمريكية- والذي ناقش المؤتمرون فيه أربعين بحثًا.. ثم نشرت وثائقه -إلا ما له حساسية شديدة!- باللغة الإنجليزية سنة 1978م.. ثم ترجمت إلي العربية, تحت عنوان: [التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي] -فيما يقرب من ألف صفحة.
ففي وثائق هذا المؤتمر ومداولاته -التي تمثل «بروتوكولات قساوسة التنصير»- نجد الإجابة علي هذا السؤال:
لماذا خرجت الكنائس الشرقية -أو بعضها علي الأقل- عن هذا «الحذر التاريخي» فانخرطت في ميدان تنصير المسلمين, بعد أن كانت تبتعد عن ذلك طوال تاريخ تعايشها وعيشها المشترك مع الإسلام والمسلمين?!
***
إن هذا التحول التاريخي في الموقف الكنسي الشرقي من هذه القضية, هو -بإيجاز شديد- جزء من النجاح الغربي في توظيف الكنائس الشرقية بعملية تنصير المسلمين, التي هي جزء من الحملة الغربية ضد الصحوة الإسلامية المعاصرة والبعث الإسلامي الحديث.
لقد جاء حين من الدهر -في ظل الاستعمار الغربي الحديث للشرق الإسلامي- ظن فيه الغرب الاستعماري -وظنت فيه الكنائس الشرقية- أن «العلمانية» -التي جاءت إلي بلادنا في ركاب المستعمرين الغربيين- قد أزاحت الإسلام عن مكانته في السياسة والدولة والاجتماع والقانون.. وأنه لم يبق من هذا الإسلام إلا العقائد والشعائر والعبادات.. وأن التصنيع الحديث والعلوم الطبيعية وتقنياتها ونظرياتها قد صنعت بالإسلام ما صنعته بالنصرانية الغربية, عندما همّشتها, وعزلتها عن التأثير في مختلف ميادين الحياة.
لكن.. وفجأة.. فوجئ الغرب -السياسي والديني- بأن الإسلام لم يتزحزح عن أي من قواعده الراسخة في ميادين الدولة والسياسة والاجتماع والقانون.. وأنه لم تتم أي علمنة حقيقية في عالم الإسلام.. ولقد نشرت مجلة [شئون دولية] -الصادرة في «كمبردج» بانجلترا- عدد يناير سنة 1991م -دراسة عن موقف الإسلام هذا.. فقالت:
«إن النظرية التي يعتنقها علماء الاجتماع, والتي تقول: إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يقوّض الإيمان الديني -مقولة العلمنة- صالحة علي العموم.. فالتأثير السياسي والسيكولوجي للدين قد تناقص عمليًا في كل المجتمعات, وبدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة.. لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جدًا من هذا.. فلم تتم أي علمنة في عالم الإسلام. إن سيطرة الإسلام علي المؤمنين به هي سيطرة قوية, وهي بطريقة ما أقوي الآن عما كانت من 100 (مائة) سنة مضت. إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل كل النظم السياسية -الراديكالية.. والتقليدية- والتي تقف بين بين- وإن وجود تقاليد محلية للإسلام, قد جعل عملية الإصلاح الذاتي, استجابة لدواعي الحداثة, تتم باسم الإيمان المحلي.. الأمر الذي مكن العالم الإسلامي من الإفلات من المعضلة التي أرقت المجتمعات الأخري.. معضلة إخفاء الطابع المثالي علي الغرب, ومحاكاته -الباعثة علي الإذلال!- وهذا هو التفسير الأساسي لمقاومة الإسلام المرموقة لاتجاه العلمنة».
ولهذا الاستعصاء الإسلامي علي العلمنة والتهميش والتواري.. قرر الغرب السياسي: اتخاذ الإسلام عدوًا, وإعلان ذلك صراحة, في ذات اللحظات التي تهاوي فيها الخطر الشيوعي داخل الحضارة الغربية.. وعن هذه الحقيقة تتحدث مجلة [شئون دولية] فتقول:
«لقد شعر الكثيرون بالحاجة إلي اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفيتي.. وبالنسبة إلي هذا الغرض فإن الإسلام جاهز في المتناول.. فالإسلام من بين الثقافات الموجودة في الجنوب هو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة ليس لسبب سوي أنه الثقافة الوحيدة القادرة علي توجيه تحد فعلي وحقيقي لمجتمعات يسودها مذهب اللاأدرية وفتورالهمة واللامبالاة, وهي آفات من شأنها أن تؤدي إلي هلاك تلك المجتمعات ماديًا, فضلاً عن هلاكها المعنوي».
إذًا.. ها هو الغرب السياسي قد أعلن الحرب علي الإسلام.. واتخذه عدوًا أحلّه محل الخطر الشيوعي -الذي انهار- وذلك لاستعصاء الإسلام علي العلمنة والتهميش.. وبقائه منهاجًا شاملاً للدين والدولة.. والدنيا والآخرة.. والسياسة والقانون والعمران.. وفشل المحاولات الغربية لحصره في المحاريب والشعائر والطقوس والعبادات, وترك دنيا المسلمين وثروات أوطانهم «للقيصر الغربي»!.
لقد اتخذوه عدوًا, وأعلنوا عليه الحرب, لصموده ممثلاً ومزكيًا لثقافة المقاومة وروح الجهاد لتحرير أمة الإسلام وعالمه وحضارته من الهيمنة الغربية, وفق نموذج ذاتي للتجدد والتجديد, متميز عن النموذج الغربي في الحداثة والتقدم والنهوض.
الهوامش(1) [تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الإسلامي] ص 201, 220. ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبد الجليل طبعة القاهرة -دار عين- سنة 2000م.
(2) المصدر السابق. ص 220.
(3) د. صبري أبو الخير سليم [تاريخ مصر في العصر البيزنطي] ص 62. طبعة القاهرة -دار عين- سنة 2001م.
(4) المرجع السابق. ص 194.
(5) يعقوب نخلة روفيلة [تاريخ الأمة القبطية] ص 54- 57- تقديم: د. جورت جبرة. الطبعة الثانية -القاهرة- مؤسسة مار مرقس لدراسة التاريخ سنة 2000م.
تابع ..........
تعليق