لا زلت أسمع همس صوتها وهي تتلو الفاتحة في صلاتها
أذكر جلستها وهيئتها
أذكْرُ ملامحها
أذكْرُ ابتسامتها الحنون
يا الله كم اشتقت لها
افتقدك جداً يا جدتي الحبيبة
في الواقع كانت هي أمي، رأيت منها من الحنان والحب ما لم أره من أحد حتى من أمي
حينما جاءني أخي بخبر وفاتها لم أصدقه.
كررت سؤالي عليه عدة مرات حتى أتأكد
وددت لو أنه يمزح.
سِرتُ إلى غرفتي وجلست على الكرسي وأنا أردد ماتت جدتي؟
مــاتت؟
معقول؟
جدتي ماتت؟
شعرت أن عقلي لم يستوعب هذا الخبر بعد
تفكرتُ في الكلمة ماتت
ماتت
يعني لم يعد لها وجود بين عالم الأحياء
يعني لن أراها مرة أخرى
يعني سأعيش بدون جدتي
أصبحت جدتي في عداد الأموات
حينها فهمت الكلمة
فوقفت ولكن لم تحملني قدماي فارتميت على الأرض وأخذت أبكي بقوة وسرعان ما انتبهت لحالي فحمدت الله واسترجعت. ولكني لم أستطع أن أكفكف دموعي.
يا إلهي كم كنت أحبها
أحبها كثيراً
تذكرت لحظاتنا سوياً وتذكرت أيامي معها
عشت معها لعدة سنوات لظروف الدراسة
في هذا المكان كنا نأكل
وهناك كانت تجلس
وفي هذا الموضع كنا نصلي سويةً
وهذا الفراش الذي لزمته شهور مرضها
نقلوها إلى المنزل بعد وفاتها بالمستشفى وجاء أخي ليأخذني إلى هناك
ارتديت عباءتي على عجل ونزلنا لنذهب إلى هناك
وحينما دخلنا الشارع عاودني البكاء مرة أخرى ولكني حاولت أن أتماسك
مشيت إلى المنزل وحينما وصلت الباب خنقتني العبرات وجدت خالتي الكبرى تجلس على كرسي وما أن رأيتها حتى هرعت إليها أبكي بين ذراعيها حتى هيجتها ببكائي
وهي تحاول أن تهدئ من روعي بكلماتها
وقالت لي هل تريدين رؤيتها؟
لا أدري لما تعجبت من السؤال ولم أدر جواباً
فقالت لي ادخلي -تقصد غرفة جدتي-
مسكت بمقبض الباب بتردد كبير
وهي تشجعني ادخلي
ولكني لم استطع ورجعت أبكي
فجاءت وأدخلتني
ورأيتها
مسجاة على فراشها
مغطاة
لا تتحرك
ميتة
ورأيت خالاتي وأمي وأختي حولها
الكل متماسك ولكن آثار البكاء على الوجوه
رفعت لي الغطاء عن وجهها
ورأيت وجهها كما لم أره من قبل
كانت المرة الأولى التي أرى فيها شخص ميت
وكانت جدتي
كان الكل هادئ ولكني لم أتمكن من منع نفسي من البكاء
لأنها جدتي حبيبتي
وحينما جاءت المغسلات
وبدأن في تغسيلها.. كانت بلا حراك
يقلبنها كيفما شئن
تأملت في حالها وفي حال البشر
وفي هذه الحياة
نصارع ونماطل ونتشاجر ونغضب ونصيح
وهناك من يظلِم ومن يتجبر ومن يأكل حقوق الناس ويتعالى ويتكبر
ثم ماذا؟
ثم يمــــوت
يموت وتنتهي حياته في لحظة
ويترك كل ما يملك ويتجرد من كل شيء
ويقلبه آخرون ليغسلوه ويكفنوه
وهو بلا حراك
سبحان الله
نعلم ونوقن أن الحياة زائلة وأننا مفارقوها لا محالة
ولكننا نتشبث فيها ونحاول التعلق فيها بكل قوة.
" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" القصص 88
وعندما جاء الوقت ليحملوها للصلاة عليها ثم دفنها
تخيلت موقف دفنها وأنها اللحظات الأخيرة لها على وجه الأرض
وتخيلتهم وهو يحثون التراب عليها وعلى قبرها
فتذكرت قول فاطمة رضي الله عنها
"أطابت أنفسكم أن تحثو التراب على وجه النبي؟"
وكم أبكتني العبارة حينما تخيلتهم يحثون التراب على جدتي
ياله من موقف
ولكني على يقين أن الله أرحم بها منّا.
أسأل الله أن يرحمها ويغفر لها وموتى المسلمين
لا أستطيع أن أنسى ذاك الموقف في المستشفى وهي بين إغماءة وأخرى
وقد جلست بجانبها ومسكت كفها بكلتا يديّ وقد نزلت دموعي في هدوء على وجهي
وكانت خالتي تحاول أن تحدثها وتداعبها وتخفف عنها
فقالت لها : عاجبك؟ شوفي كيف فلانة زعلانة وفلانة تبكي-تقصدني-
أدارت وجهها حتى نظرت إليّ ورأتني أبكي بصمت فجاهدت نفسها وقالت لي "لا"
تريدني ألا أبكي
فما زادتني إلا بكاءً
سبحان الله.. لازمت الفراش لعدة شهور لمرض في العظام ثم ماتت مبطونة
كم كان يؤلمني أن أراها تتألم وأشعر أني عاجزة عن فعل أي شيء حتى أخفف عنها آلامها.
كان لسانها يلهج دائماً بالذكر حتى في أشد لحظات مرضها.
مازلت أذكر سعادتها حينما كنت أزورها
كانت تحبني.... وكنت أحبها كثيراً.
كان قرار التزامي في بيتها
وكانت أسعد الناس بهذا القرار وكم شجعتني
كانت تحب أن تسمع آرائي
كانت تستشيرني أحياناً
كــانت.
أما الآن... فالوضع مختلف.
نسمع كل يومٍ عن أن فلاناً قد مات
ونتجاهل أننا في يوم سنكون مكان هذا الميت.
فلنتذكر هذا اليوم والذي سنلاقيه جميعاً
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57
{وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المنافقون11
أسأل الله أن يحسن خواتيمنا وإياكم.
وأن يجعل مثوانا جنات النعيم خالدين فيها أبداً
أسألكم الدعاء لجدتي.
أذكر جلستها وهيئتها
أذكْرُ ملامحها
أذكْرُ ابتسامتها الحنون
يا الله كم اشتقت لها
افتقدك جداً يا جدتي الحبيبة
في الواقع كانت هي أمي، رأيت منها من الحنان والحب ما لم أره من أحد حتى من أمي
حينما جاءني أخي بخبر وفاتها لم أصدقه.
كررت سؤالي عليه عدة مرات حتى أتأكد
وددت لو أنه يمزح.
سِرتُ إلى غرفتي وجلست على الكرسي وأنا أردد ماتت جدتي؟
مــاتت؟
معقول؟
جدتي ماتت؟
شعرت أن عقلي لم يستوعب هذا الخبر بعد
تفكرتُ في الكلمة ماتت
ماتت
يعني لم يعد لها وجود بين عالم الأحياء
يعني لن أراها مرة أخرى
يعني سأعيش بدون جدتي
أصبحت جدتي في عداد الأموات
حينها فهمت الكلمة
فوقفت ولكن لم تحملني قدماي فارتميت على الأرض وأخذت أبكي بقوة وسرعان ما انتبهت لحالي فحمدت الله واسترجعت. ولكني لم أستطع أن أكفكف دموعي.
يا إلهي كم كنت أحبها
أحبها كثيراً
تذكرت لحظاتنا سوياً وتذكرت أيامي معها
عشت معها لعدة سنوات لظروف الدراسة
في هذا المكان كنا نأكل
وهناك كانت تجلس
وفي هذا الموضع كنا نصلي سويةً
وهذا الفراش الذي لزمته شهور مرضها
نقلوها إلى المنزل بعد وفاتها بالمستشفى وجاء أخي ليأخذني إلى هناك
ارتديت عباءتي على عجل ونزلنا لنذهب إلى هناك
وحينما دخلنا الشارع عاودني البكاء مرة أخرى ولكني حاولت أن أتماسك
مشيت إلى المنزل وحينما وصلت الباب خنقتني العبرات وجدت خالتي الكبرى تجلس على كرسي وما أن رأيتها حتى هرعت إليها أبكي بين ذراعيها حتى هيجتها ببكائي
وهي تحاول أن تهدئ من روعي بكلماتها
وقالت لي هل تريدين رؤيتها؟
لا أدري لما تعجبت من السؤال ولم أدر جواباً
فقالت لي ادخلي -تقصد غرفة جدتي-
مسكت بمقبض الباب بتردد كبير
وهي تشجعني ادخلي
ولكني لم استطع ورجعت أبكي
فجاءت وأدخلتني
ورأيتها
مسجاة على فراشها
مغطاة
لا تتحرك
ميتة
ورأيت خالاتي وأمي وأختي حولها
الكل متماسك ولكن آثار البكاء على الوجوه
رفعت لي الغطاء عن وجهها
ورأيت وجهها كما لم أره من قبل
كانت المرة الأولى التي أرى فيها شخص ميت
وكانت جدتي
كان الكل هادئ ولكني لم أتمكن من منع نفسي من البكاء
لأنها جدتي حبيبتي
وحينما جاءت المغسلات
وبدأن في تغسيلها.. كانت بلا حراك
يقلبنها كيفما شئن
تأملت في حالها وفي حال البشر
وفي هذه الحياة
نصارع ونماطل ونتشاجر ونغضب ونصيح
وهناك من يظلِم ومن يتجبر ومن يأكل حقوق الناس ويتعالى ويتكبر
ثم ماذا؟
ثم يمــــوت
يموت وتنتهي حياته في لحظة
ويترك كل ما يملك ويتجرد من كل شيء
ويقلبه آخرون ليغسلوه ويكفنوه
وهو بلا حراك
سبحان الله
نعلم ونوقن أن الحياة زائلة وأننا مفارقوها لا محالة
ولكننا نتشبث فيها ونحاول التعلق فيها بكل قوة.
" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" القصص 88
وعندما جاء الوقت ليحملوها للصلاة عليها ثم دفنها
تخيلت موقف دفنها وأنها اللحظات الأخيرة لها على وجه الأرض
وتخيلتهم وهو يحثون التراب عليها وعلى قبرها
فتذكرت قول فاطمة رضي الله عنها
"أطابت أنفسكم أن تحثو التراب على وجه النبي؟"
وكم أبكتني العبارة حينما تخيلتهم يحثون التراب على جدتي
ياله من موقف
ولكني على يقين أن الله أرحم بها منّا.
أسأل الله أن يرحمها ويغفر لها وموتى المسلمين
لا أستطيع أن أنسى ذاك الموقف في المستشفى وهي بين إغماءة وأخرى
وقد جلست بجانبها ومسكت كفها بكلتا يديّ وقد نزلت دموعي في هدوء على وجهي
وكانت خالتي تحاول أن تحدثها وتداعبها وتخفف عنها
فقالت لها : عاجبك؟ شوفي كيف فلانة زعلانة وفلانة تبكي-تقصدني-
أدارت وجهها حتى نظرت إليّ ورأتني أبكي بصمت فجاهدت نفسها وقالت لي "لا"
تريدني ألا أبكي
فما زادتني إلا بكاءً
سبحان الله.. لازمت الفراش لعدة شهور لمرض في العظام ثم ماتت مبطونة
كم كان يؤلمني أن أراها تتألم وأشعر أني عاجزة عن فعل أي شيء حتى أخفف عنها آلامها.
كان لسانها يلهج دائماً بالذكر حتى في أشد لحظات مرضها.
مازلت أذكر سعادتها حينما كنت أزورها
كانت تحبني.... وكنت أحبها كثيراً.
كان قرار التزامي في بيتها
وكانت أسعد الناس بهذا القرار وكم شجعتني
كانت تحب أن تسمع آرائي
كانت تستشيرني أحياناً
كــانت.
أما الآن... فالوضع مختلف.
نسمع كل يومٍ عن أن فلاناً قد مات
ونتجاهل أننا في يوم سنكون مكان هذا الميت.
فلنتذكر هذا اليوم والذي سنلاقيه جميعاً
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57
{وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المنافقون11
أسأل الله أن يحسن خواتيمنا وإياكم.
وأن يجعل مثوانا جنات النعيم خالدين فيها أبداً
أسألكم الدعاء لجدتي.
تعليق