الفاتحة والمعوذتين في مصحف ابن مسعود...وشهادة المخطوطات
حتى يتسنى الفهم الكامل للموضوع أرجوا أن يكون القارى على دراية بتاريخ جمع القرآن الكريم, نستطيع أن نعرف تماما كيف تعامل المسلمون مع مختلف الراويات عن مصاحف الصحابة. ويمكن استعراض بحث على الرابط التالي:
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=10876
واليوم سنتعرض لأشهر تلك الروايات وهي رواية خلو مصحف ابن مسعود من (الفاتحة والمعوذتين). فكيف تعامل علماء المسلمين مع هذا الرواية:
الفريق الأول: رفض الرواية.
رفض الكثير من علماء المسلمين الأوائل والمعاصرون الرواية التي تتحدث عن عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة والمعوذتين. ومن هولاء العلماء : الإمام النووي , والإمام ابن حزم , والإمام الرازي , والإمام الباقلاني , وغيرهم .
وحججهم العلمية في رفض تلك الرواية هي:
1- الرواية جاءت عن طريق حديث الآحاد , بينما يشترط في نقل القرآن التواتر. وجميع الصحابة قبلوا هذه السور, فلم يرفضها أحد إطلاقا.
2- الصعوبة التاريخية لقبول الرواية, فكيف يمكن أن لا يعرف ابن مسعود بالفاتحة مثلا, وجميع المسلمون يصلون بها في صلاتهم وهو معهم , بل ويكون أماما لهم في بعض صلواتهم.
3- أنه قد نقلت قراءة شفهية متواترة عن طريق عبد الله ابن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتين, مما يضعف ويبطل رواية عدم كتابته لهما.
4- أن الرواية ليست من فم ابن مسعود شخصيا, بل عن من رأى مصحف ابن مسعود, فهي معلومات شخصية قابلة للنقد والرفض.
الحقيقة إن ما قدموه من حجج يتفق تماما مع المنهجية العلمية, من تقديم الشهرة المفرطة لنصوص القرآن الكريم على رواية شاذة.
الفريق الثاني: تفسير الأسباب
أما الفريق الثاني من علماء المسلمين فقد قبل الرواية مبدئيا, وان كان ذلك بهدف الإجابة عن الأسئلة المتكررة حولها, وليس بغرض تأكيد صحتها. وبالتالي فهم يقدمون أسباب منطقية محتملة لعدم كتابة ابن مسعود للفاتحة والمعوذتين في مصحفه. ومن هذه الاحتمالات :
1- أن ابن مسعود لم يتلق أمرا مباشرا من النبي بكتابتها, أي لم يدونها وقت نزول الوحي, فتوقف عن كتابتهن.
2- لم يكتبهن ابن مسعود لأن مصحف ابن مسعود لم يكن كاملا أصلا, فقد احتوى على ( بضع وسبعون سورة).
3- كان ذلك في مرحلة مبكرة من حياة ابن مسعود, لكن بعد ثبوتها لديه اثبت كل شيء, ونقلت إلينا الروايات المتواترة عنه هذه السور.
ولا يسع الباحث إلا أن يعترف بمعقولية الاحتمالات الذي طرحها هذا الفريق أيضا. وإن كانت ليست جميعها بنفس القوة.
الفريق الثالث: التفسير العلمي
لا نقصد هنا أن أبحاث الفريقين السابقين لم تكن علمية, بل على العكس تماما. فقد شاهدنا معا قوة حججهم ومنطقيتها العلمية. وإنما نقصد بهذا أسلوب دراسة هذا الفريق للموضوع, مستخدما الجمع بين الروايات, والتسلسل التاريخي الطبيعي لجمع القرآن الكريم, والأدلة الأثرية لتدعيم رؤيته. وهنا يقسم هذا الفريق الموضوع إلى قسمين:
أ_ خلو مصحف ابن مسعود من الفاتحة. ب_ خلو مصحف ابن مسعود من (المعوذتين).
القسم الأول: سورة الفاتحة
رأينا في دراستنا لكتابة مصاحف الصحابة, إن النبي العظيم لم يحدد مصحفا خاصا من بين مصاحف أصحابه كمرجع معتمد للناس بعده. مما حدا بالصحابة للاختلاف بينهم في معاييرهم الخاصة لكتابة نص في مصاحفهم, وخاصة الذين نقلوا من الآخرين.فقد تساهل البعض فكتبوا كل ما هو مهم من قرآن وحديث ودعاء وشرح. بينما تشدد البعض ورفض الكتابة إلا ما سمعه من فم النبي الكريم مباشرة. وطبعا بين هذان الفريقان درجات أخرى من التشدد والمرونة عند بقية الصحابة. فمن أي فريق كان ابن مسعود يا ترى؟ . لنقرأ هذه الرواية :
(روى الأعمش عن إبراهيم قال قيل لابن مسعود لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة. قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة) _تفسير القرآن العظيم _ ابن كثير.
وطبعا لا يخفى على أحد أن هناك حالة واحدة فقط يقرأ فيها المسلمون الفاتحة في بداية كل سورة, عندما يكونون في الصلاة. فلا تصح الصلاة إلا بها. فإذا يتضح الآن تماما أن ابن مسعود كان يرى أن ( الفاتحة) هي " فاتحة لكل سور القرآن", تماما كما يحدث في الصلاة , وعليه إذا أراد كتابتها في مصحفه أن يكتبها قبل كل سورة, وهو الشيء المرهق الذي يسبب المشقة, فترك كتابتها في مصحفه واكتفى بحفظها. لقد توصل إلى هذا الحكم الفقهي الورع بمعاييره الخاصة, بينما لم يشاركه بقية الصحابة هذه الرؤية الفقهية المتشددة. هذا بالنسبة لمصحفه, ولكن طبعا ابن مسعود نقلها قرآنا شفهيا إلى الأجيال التي بعده كما تشهد بذلك القراءات المتواترة التي وصلت عبر طرق مشهورة ومتصلة تعود إلى ابن مسعود شخصيا.
القسم الثاني: المعوذتان
أما رواية خلو مصحف ابن مسعود من المعوذتين فهي كالتالي ( مسند الإمام أحمد): (عن عبد الرحمن بن يزيد قال كان عبد الله " يحك المعوذتين " من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله ).
الحقيقة تثير جملة ( يحك المعوذتين ) وجملة ( من مصاحفه) أسئلة نقدية عديدة. فهل كان لأبن مسعود ( مصاحف) عديدة حتى يقال (مصاحفه). لم يثبت ذلك تأريخيا أن يكون لصحابي أكثر من مصحف وقت تدوين الوحي. لكن إن كان ذلك حدث متأخرا, فهذا محتمل.
كما أن قول الراوي ( يحك المعوذتين ) غريب, فلماذا يكتبهما أصلا ثم يحكهما؟. ولماذا ( الحك) ؟ الذي يوحي بإزالة نص صغير وبسيط باستعمال الظفر!!.؟ . ثم لماذا هذا السكوت الغريب من بقية الصحابة على موقفه هذا؟.بل ويظهر من الرواية انه فعل ذلك بدافع من الورع والتقوى؟
لنقرأ معا الروايات التالية فقد توضح لنا أكثر:
أولا : ( رأى إبراهيم النخعى " فاتحة سورة كذا " فأمر بمحوها وقال : قال ابن مسعود :لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه)_فضائل القرآن لابن كثير.
ثانيا : (وحكى أبو عمرو الدانى عن ابن مسعود أنه كره التعشير ( وضع علامة عند كل عشر آيات ) في المصحف وكان يحكه)_ نفس المرجع.
1- إن ابن مسعود عاش حتى آخر فترة الخليفة الرشد عثمان ابن عفان, وقد عاصر بداية نسخ المصاحف وانتشارها. فقد توفي رضي الله عنه في عام 32هـ, أي بعد اثنان وعشرون عاما من موت النبي العظيم. وعندما بدأ المسلمون في نسخ المصاحف, بدأ التطور في كتابتها, فبدأ الناس مثلا يضعون في بداية كل سورة اسما لها . لقد كان ابن مسعود من الجيل الأول الذي لم يعرف هذه الإضافات إلى مصاحفهم. فكيف يمكن أن يقبل أن يكتب شيء غير " النص القرآني " في المصحف, وهو المعروف باتخاذه أقصى المعايير تشددا. ولذلك ما كان من ابن مسعود رضي الله عنه ألا أن اعترض بقوة على هذه البدعة الجديدة. فالمصحف في نظره أصلا ما سمعه من فم النبي شخصيا فقط. لقد قام فورا ( بحك أسماء) تلك السور من المصحف, وكان يقول: " لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه". رفض ابن مسعود فكرة أن يكتب (المعوذتين) في المصحف للدلالة على اسم السورتين.
إذا يتضح الآن تماما وباطمئنان كامل معنى القول: (يحك المعوذتين من مصاحفه) فابن مسعود لم يكن مع بدعة كتابة اسم للسورة.
2- ولماذا يكتبهما ثم يحكهما؟ الظاهر أن هناك نسّاخا قاموا بذلك, فقام بحكها .ثم أن هذا الاعتراض على كل المصاحف وليس عن مصحفه فقط.
3- ولكن لماذا لم يعترض على بقية أسماء السور؟ لماذا فقط (المعوذتين)؟. الحقيقة أن المعوذتين تأتيان في بداية المصحف كما هو معروف, فكان من الطبيعي أن يفتح عليهما أولا ويضرب بهما المثل فيفهم الجميع وجهة نظره.ولذلك كان يعمم ويقول ( لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه).
4- أن المخطوطات تؤيد هذه الواقع تماما , فإذا نظرنا إلى مصحف نادر يعود إلى القرن الأول الهجري , والذي تحتفظ به وزارة الأوقاف الإسلامية المصرية (المكتبة المركزية للمخطوطات) وجاء في تعريفها له في نسخته الالكترونية: (هذا المصحف نسخة من المصاحف الستة التي نسخت بأمر عثمان ابن عفان_رضي الله عنه_ , ثم أرسل أربعا منها إلى الأمصار , وبقي اثنان بالمدينة......ومكتوب بمداد بني داكن , وبخط مكي يناسب القرن الهجري الأول). فإذا شاهدنا حجمه نستطيع أن نجزم بصحة معنى حك ابن مسعود لأسماء السور , وليس للسورتين بأكملهما:
لاحظ الحجم الكبير للمصحف
ولاحظ أيضا حجم ظفر
الرجل الواقف نسبة إلى
حجم ورقة المخطوطة
فأخذت المعوذتين ورقتين كاملتين
مخطوطة المصحف العثماني في القاهرة مخطوطة طشقند (سمرقند)
صورة من سورتي الفلق والناس ( المعوذتين) من مخطوطة القاهرة وحجم الورقة كبير جدا 57*68(سم)
ملاحظات على الصورة :
1- لاحظ حجم المصحف الكبير وهو من مصاحف القرن الأول. وكذلك حجم السورتين أيضا ( المعوذتين).
2- لاحظ الوضوح في الخط , وسلامة المخطوطة برغم قدمها الكبير, وذلك لأنها حفظت في وعاء خاص.
3- جميع نصوص هذه المخطوطة النادرة في القاهرة مطابقة تماما لمصحف اليوم, ويمكن تحميلها من موقع الوزارة.
فإذا فمن الصعب قبول التصديق أن ابن مسعود كان يحك ( بظفره فقط ) المعوذتين كسورتين كاملتين من مصحفه , الحقيقة كان الأحرى به لو أراد حذفهما أن يمزق الورقة , بالكامل وليس أن يحكها بظفره. كما أن حجم المساحة التي أخذته السورتين كبير بما لا يدع مجالا للشك في قبول أدنى تفسير آخر. وبهذا تتضافر شهادة المخطوطات مع الروايات في إظهار حقيقة المعنى الخاطئ المنسوب لابن مسعود بخصوص رفضه للفاتحة والمعوذتين .
{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }
الإسراء:9
تعليق