رد جون جلكرايست على ثلاثة كتيبات لأحمد ديدات ما هي آية يونان النبي؟ - قيامة أم إنعاش؟ - من دحرج الحجر؟
في هذا الكتاب:
الجزء الأول – آية يونان النبي
مقدمة
يقول الكتاب المقدس والقرآن إن المسيح أجرى معجزات عظيمة كثيرة أثناء خدمته في فلسطين لمدة ثلاثة أعوام.
وآمن يهود كثيرون به عندما رأوا الآيات والعجائب التي قام بها. لكن رؤساء اليهود رفضوا أن يؤمنوا به. وبالرغم من أن معجزاته كانت إلا أنهم كانوا يضغطون عليه كثيراً وبشدة ليقدم آيات أكثر وليعطي آية من السماء ( متى 1:16 ). ونتيجة لهذا الضغط المتكرر قال المسيح إنه سيعطيهم آية واحدة فقط: " جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ. " ( متى 12: 40،39 ).
ويونان هذا هو أحد أنبياء إسرائيل، دعاه الرب ليبشر مدينة آشورية هي نينوى ( في العراق الآن ) بالدينونة الوشيكة الحدوث. ولكنه عصى الله، وهرب على ظهر سفينة متجهة إلى ترشيش ( في أسبانيا الآن ). لكن ريحاً شديدة كادت تكسر السفينة. وعندما طُرح يونان في البحر ابتلعه حوت. وبعد أن ظل يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام عاد حياً إلى مدينة يافا. وتحدث المسيح عن بقاء يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام على أنه " آية يونان " كما قال إنها الآية الوحيدة التي كان مستعداً لليهود غير المؤمنين.
في خلال عام 1976 نشر أحمد ديدات التابع لمركز الدعوة الإسلامية في دربان ( جنوب أفريقيا ) كتيباً عنوانه " ماذا كانت آية يونان؟ " وهذا العنوان يجعل القارئ يتوقع عرضاً مدروساً لهذا الموضوع. لكن ظهر عس ذلك! فإن ديدات لم يجب بتاتاً على السؤال الذي طرحه، ولكنه تهجم على كلمات المسيح وحاول أن يدحضها. وبنى حججه على افتراضين هما: 1- إذا كان يونان قد ظل حياً خلال بقائه في جوف الحوت، إذاً فالمسيح كان يجب أن يظل حياً في القبر بعد إنزاله من فوق الصليب. 2- إذا كان المسيح قد صُلب يوم الجمعة وقام صباح الأحد، فلا يمكن أن يكون قد بقى ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ في القبر.
وسنبحث هذين الاعتراضين بالترتيب، ثم نقوم بتحليل الموضوع بأكمله لنعرف ماذا تعني " آية يونان ".
--------------------------------------------------------------------------------
-1-
هل كان المسيح حياً أم ميتاً داخل القبر؟
يقول المفسرون المسيحيون إن يونان النبي بقى حياً في جوف الحوت بمعجزة، ولم يحدث بتاتاً طيلة هذه المحنة أن يونان مات داخل الحوت، ولكنه خرج حياً إلى الشاطئ. وقد اقتبس ديدات كلمات المسيح في متى12: 40،29 ثم قرر ما يأتي:
" بما أن يونان كان – فإن ابن الإنسان سيكون – " ويستنتج : " أن يونان ظل حياً لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فيتعيّن أن المسيح بقى حياً في القبر كما تنبأ هو بذلك!" ( ما هي آية يونان النبي ص6 ).
وبالرغم من أن المسيح قال إن الشبه بينه وبين يونان يتعلق بالفترة الزمنية التي كان على كلٍ منهما بقاؤها ( يونان في جوف حوت، والمسيح في قلب الأرض ) فإن ديدات تجاهل هذه الإشارة التشبيهية، وأدعى أن المسيح كان يجب أن يشبه يونان في كل الحالات الأخرى أيضاً، بما في ذلك بقاء يونان في جوف الحوت.
لكن يتضح جلياً لدى قراءة كلمات المسيح أن الشبه يتعلق بالفترة الزمنية فقط – أما ديدات فيقول: " بما أن يونان ظل في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن المسيح كان يجب أن يبقى مثل هذه المدة في قلب الأرض. وكما ظل يونان حياً في جوف الحوت، يجب أن يبقى المسيح حياً في القبر!
ولكن المسيح لم يقل هذا الكلام، ولا يمكن أن يُفهم من كلامه مثل هذا التأويل.
علاوة على ذلك فقد تكلم المسيح في مناسبة أخرى عن صلبه القادم، مستعملاً كلمات شبيهة تؤيد الفكرة على نحو وافٍ: " وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ " ( يوحنا 14:3 ). هنا يظهر الشبه جلياً في كلمة " يُرفع ". كما رفع موسى الحية فإن ابن الإنسان " يُرفع " أيضاً، الأول لشفاء اليهود والثاني لشفاء الأمم. لقد كانت الحية التي صنعها موسى حية من نحاس. فإذا طبّقنا منطق ديدات على هذه الآية يجب أن نفترض أنها تعني أن المسيح كان يجب أن يكون ميتاً قبل أن يُرفع على الصليب – أي يكون ميتاً على الصليب وميتاً عندما اُنزل عنه! وهذا الافتراض لا يناقض المنطق فقط، بل يتعارض أيضاً مع حالتي يونان والحية النحاسية. فأحدهما كان حياً طول المحنة، والثانية ميتة دائماً عندما استُعملت رمزاً على عمود.
يظهر من هذا التعارض أن المسيح كان يقدم فقط شبهاً بينه وبين يونان، وبينه وبين الحية النحاسية. وهذا الشبه خاص فقط بالمواضيع التي ذكرها بوضوح ( الثلاثة أيام والثلاث ليال، والرفع فوق العمود ). فكوْن يونان حياً أم ميتاً ليس المقصود هنا، ولا دخل لهذا مع المقارنة التي ذكرها المسيح. وعلى هذا فإنه عندما أغفل ديدات الإشارة الوصفية للمدة الزمنية في حالة يونان النبي فإنه لوى كلام المسيح وجعله يقول " بما أن يونان كان حياً فإن ابن الإنسان سيكون حياً ". ومن هذا الشبه غير المحدد يرمي ديدات إلى أن تمتد المقارنة إلى حالة النبي داخل الحوت. لكن إذا استخدمنا نفس الطريقة مع الحية النحاسية، فإننا سنصل إلى نتيجة مضادة، فيها يكون معنى قول المسيح : " بما أن الحية ميتة فإن ابن الإنسان سيكون ميتاً " وحالة الحية أنها كانت دائماً ميتة. ومن هذا يظهر جلياً أن المسيح لم يكن يريد أن يمد الشبه بينه وبين يونان إلى موضوع الحياة أو الموت، بل فقط في المقارنات التي تكلم عنها بوضوح. وهكذا نجد أن أول اعتراضات ديدات قد انهار تماماً. فالذي يفسر إعلان المسيح عن نفسه يجب أن يفهم هذا الإعلان من خلال القرينة، فلا يحمِّل كلمات المسيح ما لا تحتمل.
--------------------------------------------------------------------------------
-2-
ثلاثة أيام وثلاث ليال
من المتفق عليه عالمياً بين المسيحيين – مع بعض الاستثناءات القليلة – أن المسيح صُلب يوم الجمعة، وقام من الأموات يوم الأحد التالي له مباشرة.
وعلى هذا يدّعي ديدات أن المسيح ظل في القبر يوماً واحداً هو يوم السبت، فتكون المدة التي قضاها في القبر ليلتين فقط ( ليلتي الجمعة والسبت ). وبهذا يحاول ديدات أن يدحض آية يونان بالنسبة لعامل الزمن الذي ذكره المسيح. ويقول : " نكتشف أيضاً أنه قد أُخفق في إنجاز عامل الزمن. إن أكبر المتخصصين في الرياضيات في العالم المسيحي سيُخفقون في الحصول على النتيجة المطلوبة، أي ثلاثة أيام وثلاث ليال " ( ص 10 ).
وديدات هنا مع الأسف يتغاضى عن الفرق الكبير بين الحديث باللغة العبرية في القرن الأول والطريقة الإنجليزية للحديث في القرن العشرين. ولقد اكتشفنا أنه يميل دائماً إلى تكرار هذا الخطأ عندما يتعرض لتحليل المواضيع الكتابية. وقد فشل ديدات في التعرُّف على ما كان يحدث منذ حوالي ألفي عام، فإن اليهود كانوا وقتئذ ( عند الحديث عن فترات زمنية متتابعة ) يحسبون أي جزء من اليوم كأنه يوم كامل. وبما أن المسيح دُفن يوم الجمة، فإنه بقى في القبر طيلة يوم السبت، وقام في وقت ما قبل شروق يوم الأحد. ( طبقاً للتقويم اليهودي كان يوم الأحد قد بدأ رسمياً عند غروب يوم السبت ). فلا شك إذاً أنه ظل داخل القبر ثلاثة أيام. إن جهل ديدات بطريقة اليهود في احتساب فترات النهار والليل، وطريقة الحديث المعاصرة للمسيح، تجعله يقع في خطأ خطير في تفسير قول المسيح. ويستمر في الوقوع في الخطأ عينه بالنسبة لنبوة المسيح أيضاً فيما يختص ببقائه في القبر ثلاث ليال.
ولا يستعمل متكلمو اللغة الإنجليزية في القرن العشرين تعبير " ثلاثة أيام وثلاث ليال " وبناءً على ذلك يجب أن نبحث عن معنى هذا التعبير كما كان يستعمل في اللغة العبري في القرن الأول الميلادي.
إن الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية في القرن العشرين لا يتكلمون بتاتاً بطريقة " النهار والليل ". فإذا أراد شخص أن يتغيب أسبوعين مثلاً فإنه يقول " أسبوعين أو أربعة عشر يوماً ". ولم أسمع أي شخص يتكلم الإنجليزية يقول إنه سيتغيب " أربعة عشر يوماً وأربع عشر ليلة ". ولكن هذا كان أسلوب الحديث باللغة العبرية وقتها. وبناءً على ذلك يجب أن نكون على حذر من البداية. فإذا كنا لا نستعمل هذا الأسلوب من التعبير، فلا يمكن أن نستنتج أن المعنى في الزمن الغابر يكون هو نفس المعنى الذي نقصده اليوم. يجب إذاً أن نبحث عن معنى نبوّة المسيح في ظل العصر الذي قيلت النبوّة فيه. ويجب أن نشير أيضاً إلى أن أسلوب التعبير كما كان مستعملاً في اللغة العبرية زمن المسيح. فقد كان عدد الأيام عندهم يساوي عدد الليالي. فمثلاً يقول: " وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً " ( خروج 18:24 ). ويقول: " فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ." ( يونان 17:1 ) ويقول: " وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ " ( أيوب 13:2 ).
يتضح من ذلك أنه لم يوجد أي يهودي يقول: " سبعة أيام و ستة ليال " أو " ثلاثة أيام وليلتين " حتى إذا كانت الفترة الزمنية هي كذلك. إن اللغة العبرية تشير دائما إلى عدد متساوٍ من الأيام والليالي. وإذا أراد أحد اليهود في العصر السالف أن يذكر فترة زمنية قدرها " ثلاثة أيام وليلتين " فقط كان لابد أن يقول: " ثلاثة أيام وثلاث ليال ". ولدينا مثال جميل عن ذلك في سفر أستير عندما قالت أستير " صُومُوا مِنْ جِهَتِي وَلاَ تَأْكُلُوا وَلاَ تَشْرَبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَيْلاً وَنَهَاراً " ( أستير 16:4 ). وفي اليوم الثالث ( بعد انتهاء الصوم وانقضاء ليلتين ) وقفت أستير في دار بيت الملك.
وبناءً على ذلك نرى بوضوح أن " ثلاثة أيام وثلاث ليال " بلغة الحديث العبرية لم تكن تعني فترة زمنية كاملة ( ثلاثة أيام كاملة وثلاث ليال كاملة ) بل كانت تعني أي جزء من اليومين الأول والثالث. الشيء الهام الذي يجب تسجيله هو أن عدد الأيام كان دائماً مساوياً لعدد الليالي كلما جاء الحديث عن هذا الموضوع، ولو كان عدد الليالي الفعلي يقل بليلة واحدة عن عدد الأيام. وبما أننا لا نستعمل طريقة الحديث التي كانت مستعملة طريقة الحديث التي كانت مستعملة في سالف الأزمنة، فيجب ألاّ نحكم سريعاً على معناها. ويوجد دليل قاطع في الكتاب المقدس، وذلك عندما قال يسوع لليهود إنه سوف يظل في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، فقد عرفوا أنه من المتوقع أن تتم النبوّة بعد ليلتين فقط. ففي اليوم اللاحق لصلب المسيح ( أي بعد ليلة واحدة فقط ). ذهبوا إلى بيلاطس وقالوا: " يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ " ( متى 27: 64،63 ).
من الجائز أن نفهم أن كلمات " بعد ثلاث أيام " تعني أي وقت في اليوم الرابع، ولكن طبقاً للغة اليهودية في ذلك العصر كانوا يعنون اليوم " الثالث " ولم يكن محور اهتمامهم محصوراً على حراسة القبر طيلة ثلاث ليالٍ كاملة. لكن كان يعني ذلك حتى اليوم الثالث ( أي بعد ليلتين اثنتين فقط ).
وبناءً على ذلك فإن عبارة " بعد ثلاث أيام وثلاث ليال " لم تكن تعني مدة اثنتين وسبعين ساعة ( كما نفهمهما اليوم ) بل تعني أي مدة زمنية تغطي فترة ثلاث أيام. ففي تلك الأيام إذا قال شخص ما لشخص آخر ( مثلاً في يوم الجمعة مساءً ) إنه سيعود بعد ثلاث أيام، فلا شك أن الشخص لن يتوقع عودة الآخر قبل الثلاثاء التالي. ونظراً أن زعماء اليهود كانوا قلقين، وراغبين في تفادي أي تحقيق لنبوة المسيح ( سواء حقيقية أو مدبرة ) فإن كل اهتمامهم كان منصباً على حراسة القبر حتى " اليوم الثالث " ( أي يوم الأحد ) لأنهم أدركوا أن معني" بعد ثلاث أيام " أو " ثلاث أيام وثلاث ليال " ليس المفهوم الحرفي.
والسؤال الهام هو ليس كيف نقرأ تلك اللغة القديمة غير الموجودة في حياتنا الحالية، لكن كيف كان اليهود يقرأونها طبقاً لأسلوب عصرهم؟ ومن الأهمية بمكانٍ أن نسجل أنه عندما صرح التلاميذ بشجاعة أن المسيح قام من الأموات في اليوم الثالث ( أي يوم الأحد ) بعد انقضاء ليلتين فقط ( أعمال 40:10 ) لم يحاول أي شخص أن يعترض على هذه الشهادة، كما يفعل ديدات وهو يدعي أن ثلاث ليال كان يجب أن تنقضي قبل أن تتحقق نبوة المسيح! لكن يهود ذلك العصر كانوا يعرفون لغتهم جيداً. ولما كان ديدات يجهل أسلوبهم في الحديث، فإنه يهاجم افتراضياً النبوة التي ذكرها المسيح لأنه لم يبق في القبر فعلياً ثلاثة أيام وثلاث ليال، أي اثنتين وسبعين ساعة. ( هذا يعني أيضاً أن إقامة يونان في جوف الحوت كانت تغطي فقط جزءاً من فترة الثلاث أيام، ولم تكن بالضرورة ثلاثة أيام وثلاث ليال حرفياً).
بعد تفنيد جدل ديدات الضعيف ضد آية المسيح التي ذكرها لليهود، ننتقل الآن لموضوع آخر لنعرف بالضبط ماذا كانت تعني آية يونان فعلاً.
--------------------------------------------------------------------------------
انتهي الجزء الاول
في هذا الكتاب:
الجزء الأول – آية يونان النبي
مقدمة
يقول الكتاب المقدس والقرآن إن المسيح أجرى معجزات عظيمة كثيرة أثناء خدمته في فلسطين لمدة ثلاثة أعوام.
وآمن يهود كثيرون به عندما رأوا الآيات والعجائب التي قام بها. لكن رؤساء اليهود رفضوا أن يؤمنوا به. وبالرغم من أن معجزاته كانت إلا أنهم كانوا يضغطون عليه كثيراً وبشدة ليقدم آيات أكثر وليعطي آية من السماء ( متى 1:16 ). ونتيجة لهذا الضغط المتكرر قال المسيح إنه سيعطيهم آية واحدة فقط: " جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ. " ( متى 12: 40،39 ).
ويونان هذا هو أحد أنبياء إسرائيل، دعاه الرب ليبشر مدينة آشورية هي نينوى ( في العراق الآن ) بالدينونة الوشيكة الحدوث. ولكنه عصى الله، وهرب على ظهر سفينة متجهة إلى ترشيش ( في أسبانيا الآن ). لكن ريحاً شديدة كادت تكسر السفينة. وعندما طُرح يونان في البحر ابتلعه حوت. وبعد أن ظل يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام عاد حياً إلى مدينة يافا. وتحدث المسيح عن بقاء يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام على أنه " آية يونان " كما قال إنها الآية الوحيدة التي كان مستعداً لليهود غير المؤمنين.
في خلال عام 1976 نشر أحمد ديدات التابع لمركز الدعوة الإسلامية في دربان ( جنوب أفريقيا ) كتيباً عنوانه " ماذا كانت آية يونان؟ " وهذا العنوان يجعل القارئ يتوقع عرضاً مدروساً لهذا الموضوع. لكن ظهر عس ذلك! فإن ديدات لم يجب بتاتاً على السؤال الذي طرحه، ولكنه تهجم على كلمات المسيح وحاول أن يدحضها. وبنى حججه على افتراضين هما: 1- إذا كان يونان قد ظل حياً خلال بقائه في جوف الحوت، إذاً فالمسيح كان يجب أن يظل حياً في القبر بعد إنزاله من فوق الصليب. 2- إذا كان المسيح قد صُلب يوم الجمعة وقام صباح الأحد، فلا يمكن أن يكون قد بقى ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ في القبر.
وسنبحث هذين الاعتراضين بالترتيب، ثم نقوم بتحليل الموضوع بأكمله لنعرف ماذا تعني " آية يونان ".
--------------------------------------------------------------------------------
-1-
هل كان المسيح حياً أم ميتاً داخل القبر؟
يقول المفسرون المسيحيون إن يونان النبي بقى حياً في جوف الحوت بمعجزة، ولم يحدث بتاتاً طيلة هذه المحنة أن يونان مات داخل الحوت، ولكنه خرج حياً إلى الشاطئ. وقد اقتبس ديدات كلمات المسيح في متى12: 40،29 ثم قرر ما يأتي:
" بما أن يونان كان – فإن ابن الإنسان سيكون – " ويستنتج : " أن يونان ظل حياً لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فيتعيّن أن المسيح بقى حياً في القبر كما تنبأ هو بذلك!" ( ما هي آية يونان النبي ص6 ).
وبالرغم من أن المسيح قال إن الشبه بينه وبين يونان يتعلق بالفترة الزمنية التي كان على كلٍ منهما بقاؤها ( يونان في جوف حوت، والمسيح في قلب الأرض ) فإن ديدات تجاهل هذه الإشارة التشبيهية، وأدعى أن المسيح كان يجب أن يشبه يونان في كل الحالات الأخرى أيضاً، بما في ذلك بقاء يونان في جوف الحوت.
لكن يتضح جلياً لدى قراءة كلمات المسيح أن الشبه يتعلق بالفترة الزمنية فقط – أما ديدات فيقول: " بما أن يونان ظل في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن المسيح كان يجب أن يبقى مثل هذه المدة في قلب الأرض. وكما ظل يونان حياً في جوف الحوت، يجب أن يبقى المسيح حياً في القبر!
ولكن المسيح لم يقل هذا الكلام، ولا يمكن أن يُفهم من كلامه مثل هذا التأويل.
علاوة على ذلك فقد تكلم المسيح في مناسبة أخرى عن صلبه القادم، مستعملاً كلمات شبيهة تؤيد الفكرة على نحو وافٍ: " وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ " ( يوحنا 14:3 ). هنا يظهر الشبه جلياً في كلمة " يُرفع ". كما رفع موسى الحية فإن ابن الإنسان " يُرفع " أيضاً، الأول لشفاء اليهود والثاني لشفاء الأمم. لقد كانت الحية التي صنعها موسى حية من نحاس. فإذا طبّقنا منطق ديدات على هذه الآية يجب أن نفترض أنها تعني أن المسيح كان يجب أن يكون ميتاً قبل أن يُرفع على الصليب – أي يكون ميتاً على الصليب وميتاً عندما اُنزل عنه! وهذا الافتراض لا يناقض المنطق فقط، بل يتعارض أيضاً مع حالتي يونان والحية النحاسية. فأحدهما كان حياً طول المحنة، والثانية ميتة دائماً عندما استُعملت رمزاً على عمود.
يظهر من هذا التعارض أن المسيح كان يقدم فقط شبهاً بينه وبين يونان، وبينه وبين الحية النحاسية. وهذا الشبه خاص فقط بالمواضيع التي ذكرها بوضوح ( الثلاثة أيام والثلاث ليال، والرفع فوق العمود ). فكوْن يونان حياً أم ميتاً ليس المقصود هنا، ولا دخل لهذا مع المقارنة التي ذكرها المسيح. وعلى هذا فإنه عندما أغفل ديدات الإشارة الوصفية للمدة الزمنية في حالة يونان النبي فإنه لوى كلام المسيح وجعله يقول " بما أن يونان كان حياً فإن ابن الإنسان سيكون حياً ". ومن هذا الشبه غير المحدد يرمي ديدات إلى أن تمتد المقارنة إلى حالة النبي داخل الحوت. لكن إذا استخدمنا نفس الطريقة مع الحية النحاسية، فإننا سنصل إلى نتيجة مضادة، فيها يكون معنى قول المسيح : " بما أن الحية ميتة فإن ابن الإنسان سيكون ميتاً " وحالة الحية أنها كانت دائماً ميتة. ومن هذا يظهر جلياً أن المسيح لم يكن يريد أن يمد الشبه بينه وبين يونان إلى موضوع الحياة أو الموت، بل فقط في المقارنات التي تكلم عنها بوضوح. وهكذا نجد أن أول اعتراضات ديدات قد انهار تماماً. فالذي يفسر إعلان المسيح عن نفسه يجب أن يفهم هذا الإعلان من خلال القرينة، فلا يحمِّل كلمات المسيح ما لا تحتمل.
--------------------------------------------------------------------------------
-2-
ثلاثة أيام وثلاث ليال
من المتفق عليه عالمياً بين المسيحيين – مع بعض الاستثناءات القليلة – أن المسيح صُلب يوم الجمعة، وقام من الأموات يوم الأحد التالي له مباشرة.
وعلى هذا يدّعي ديدات أن المسيح ظل في القبر يوماً واحداً هو يوم السبت، فتكون المدة التي قضاها في القبر ليلتين فقط ( ليلتي الجمعة والسبت ). وبهذا يحاول ديدات أن يدحض آية يونان بالنسبة لعامل الزمن الذي ذكره المسيح. ويقول : " نكتشف أيضاً أنه قد أُخفق في إنجاز عامل الزمن. إن أكبر المتخصصين في الرياضيات في العالم المسيحي سيُخفقون في الحصول على النتيجة المطلوبة، أي ثلاثة أيام وثلاث ليال " ( ص 10 ).
وديدات هنا مع الأسف يتغاضى عن الفرق الكبير بين الحديث باللغة العبرية في القرن الأول والطريقة الإنجليزية للحديث في القرن العشرين. ولقد اكتشفنا أنه يميل دائماً إلى تكرار هذا الخطأ عندما يتعرض لتحليل المواضيع الكتابية. وقد فشل ديدات في التعرُّف على ما كان يحدث منذ حوالي ألفي عام، فإن اليهود كانوا وقتئذ ( عند الحديث عن فترات زمنية متتابعة ) يحسبون أي جزء من اليوم كأنه يوم كامل. وبما أن المسيح دُفن يوم الجمة، فإنه بقى في القبر طيلة يوم السبت، وقام في وقت ما قبل شروق يوم الأحد. ( طبقاً للتقويم اليهودي كان يوم الأحد قد بدأ رسمياً عند غروب يوم السبت ). فلا شك إذاً أنه ظل داخل القبر ثلاثة أيام. إن جهل ديدات بطريقة اليهود في احتساب فترات النهار والليل، وطريقة الحديث المعاصرة للمسيح، تجعله يقع في خطأ خطير في تفسير قول المسيح. ويستمر في الوقوع في الخطأ عينه بالنسبة لنبوة المسيح أيضاً فيما يختص ببقائه في القبر ثلاث ليال.
ولا يستعمل متكلمو اللغة الإنجليزية في القرن العشرين تعبير " ثلاثة أيام وثلاث ليال " وبناءً على ذلك يجب أن نبحث عن معنى هذا التعبير كما كان يستعمل في اللغة العبري في القرن الأول الميلادي.
إن الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية في القرن العشرين لا يتكلمون بتاتاً بطريقة " النهار والليل ". فإذا أراد شخص أن يتغيب أسبوعين مثلاً فإنه يقول " أسبوعين أو أربعة عشر يوماً ". ولم أسمع أي شخص يتكلم الإنجليزية يقول إنه سيتغيب " أربعة عشر يوماً وأربع عشر ليلة ". ولكن هذا كان أسلوب الحديث باللغة العبرية وقتها. وبناءً على ذلك يجب أن نكون على حذر من البداية. فإذا كنا لا نستعمل هذا الأسلوب من التعبير، فلا يمكن أن نستنتج أن المعنى في الزمن الغابر يكون هو نفس المعنى الذي نقصده اليوم. يجب إذاً أن نبحث عن معنى نبوّة المسيح في ظل العصر الذي قيلت النبوّة فيه. ويجب أن نشير أيضاً إلى أن أسلوب التعبير كما كان مستعملاً في اللغة العبرية زمن المسيح. فقد كان عدد الأيام عندهم يساوي عدد الليالي. فمثلاً يقول: " وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً " ( خروج 18:24 ). ويقول: " فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ." ( يونان 17:1 ) ويقول: " وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ " ( أيوب 13:2 ).
يتضح من ذلك أنه لم يوجد أي يهودي يقول: " سبعة أيام و ستة ليال " أو " ثلاثة أيام وليلتين " حتى إذا كانت الفترة الزمنية هي كذلك. إن اللغة العبرية تشير دائما إلى عدد متساوٍ من الأيام والليالي. وإذا أراد أحد اليهود في العصر السالف أن يذكر فترة زمنية قدرها " ثلاثة أيام وليلتين " فقط كان لابد أن يقول: " ثلاثة أيام وثلاث ليال ". ولدينا مثال جميل عن ذلك في سفر أستير عندما قالت أستير " صُومُوا مِنْ جِهَتِي وَلاَ تَأْكُلُوا وَلاَ تَشْرَبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَيْلاً وَنَهَاراً " ( أستير 16:4 ). وفي اليوم الثالث ( بعد انتهاء الصوم وانقضاء ليلتين ) وقفت أستير في دار بيت الملك.
وبناءً على ذلك نرى بوضوح أن " ثلاثة أيام وثلاث ليال " بلغة الحديث العبرية لم تكن تعني فترة زمنية كاملة ( ثلاثة أيام كاملة وثلاث ليال كاملة ) بل كانت تعني أي جزء من اليومين الأول والثالث. الشيء الهام الذي يجب تسجيله هو أن عدد الأيام كان دائماً مساوياً لعدد الليالي كلما جاء الحديث عن هذا الموضوع، ولو كان عدد الليالي الفعلي يقل بليلة واحدة عن عدد الأيام. وبما أننا لا نستعمل طريقة الحديث التي كانت مستعملة طريقة الحديث التي كانت مستعملة في سالف الأزمنة، فيجب ألاّ نحكم سريعاً على معناها. ويوجد دليل قاطع في الكتاب المقدس، وذلك عندما قال يسوع لليهود إنه سوف يظل في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، فقد عرفوا أنه من المتوقع أن تتم النبوّة بعد ليلتين فقط. ففي اليوم اللاحق لصلب المسيح ( أي بعد ليلة واحدة فقط ). ذهبوا إلى بيلاطس وقالوا: " يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ " ( متى 27: 64،63 ).
من الجائز أن نفهم أن كلمات " بعد ثلاث أيام " تعني أي وقت في اليوم الرابع، ولكن طبقاً للغة اليهودية في ذلك العصر كانوا يعنون اليوم " الثالث " ولم يكن محور اهتمامهم محصوراً على حراسة القبر طيلة ثلاث ليالٍ كاملة. لكن كان يعني ذلك حتى اليوم الثالث ( أي بعد ليلتين اثنتين فقط ).
وبناءً على ذلك فإن عبارة " بعد ثلاث أيام وثلاث ليال " لم تكن تعني مدة اثنتين وسبعين ساعة ( كما نفهمهما اليوم ) بل تعني أي مدة زمنية تغطي فترة ثلاث أيام. ففي تلك الأيام إذا قال شخص ما لشخص آخر ( مثلاً في يوم الجمعة مساءً ) إنه سيعود بعد ثلاث أيام، فلا شك أن الشخص لن يتوقع عودة الآخر قبل الثلاثاء التالي. ونظراً أن زعماء اليهود كانوا قلقين، وراغبين في تفادي أي تحقيق لنبوة المسيح ( سواء حقيقية أو مدبرة ) فإن كل اهتمامهم كان منصباً على حراسة القبر حتى " اليوم الثالث " ( أي يوم الأحد ) لأنهم أدركوا أن معني" بعد ثلاث أيام " أو " ثلاث أيام وثلاث ليال " ليس المفهوم الحرفي.
والسؤال الهام هو ليس كيف نقرأ تلك اللغة القديمة غير الموجودة في حياتنا الحالية، لكن كيف كان اليهود يقرأونها طبقاً لأسلوب عصرهم؟ ومن الأهمية بمكانٍ أن نسجل أنه عندما صرح التلاميذ بشجاعة أن المسيح قام من الأموات في اليوم الثالث ( أي يوم الأحد ) بعد انقضاء ليلتين فقط ( أعمال 40:10 ) لم يحاول أي شخص أن يعترض على هذه الشهادة، كما يفعل ديدات وهو يدعي أن ثلاث ليال كان يجب أن تنقضي قبل أن تتحقق نبوة المسيح! لكن يهود ذلك العصر كانوا يعرفون لغتهم جيداً. ولما كان ديدات يجهل أسلوبهم في الحديث، فإنه يهاجم افتراضياً النبوة التي ذكرها المسيح لأنه لم يبق في القبر فعلياً ثلاثة أيام وثلاث ليال، أي اثنتين وسبعين ساعة. ( هذا يعني أيضاً أن إقامة يونان في جوف الحوت كانت تغطي فقط جزءاً من فترة الثلاث أيام، ولم تكن بالضرورة ثلاثة أيام وثلاث ليال حرفياً).
بعد تفنيد جدل ديدات الضعيف ضد آية المسيح التي ذكرها لليهود، ننتقل الآن لموضوع آخر لنعرف بالضبط ماذا كانت تعني آية يونان فعلاً.
--------------------------------------------------------------------------------
انتهي الجزء الاول
تعليق