الإسلام والرق - محمد قطب
ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب!.. لو كان الإسلام صالحاً لكل عصر – كما يقول دعاته – لما أباح الرق.. وإن إباحته للرق.. وإن إباحته للرق لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة، وأنه أدى مهمته وأصبح في ذمة التاريخ!
وإن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك! كيف أباح الإسلام الرق؟ هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله، ولا شك في صدقه، وفي أنه جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها.. كيف أباح الرق؟ الدين الذي قام على المساواة الكاملة. الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد، وعاملهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك.. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له؟ أَوَ يريد الله للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق الذي أكرمه إذ قال: " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام؟
وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق، ولكنه كإبراهيم: " قال: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي! ".
أما الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده، فإنه لا يتلبث حتى يتبين حقيقة الأمر، وإنما يميل به الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه!
وأما الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة، يتلقونها من سادتهم هناك، فينتفشون بها عجبا ً، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال، وهي المادية الجدلية، التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا معدى عنها ولا محيص. وهي الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية الثانية (وهي نهاية العالم!) وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار، إنما كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية، أو للطور الاقتصادي القائم حينئذ، وأنها صالحة له، متلائمة مع ظروفه، ولكنها لا تصلح للمرحلة التالية التي تقوم على أساس اقتصادي جديد. وأنه – من ثم – لا يوجد نظام واحد يمكن أن يصلح لكل الأجيال. وإذا كان الإسلام قد جاء والعالم نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع، فقد جاءت تشريعاته وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور، فاعترفت بالرق، وأباحت الإقطاع [11]! ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد إمكانياته الاقتصادية! لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل!
ونريد هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية، بعيداً عن الغبار الذي يثيره هؤلاء وأولئك، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين، و " العلماء " المزيفين!
نحن ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين، وننظر إله في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة، فنستفظع الرق، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره دين أو نظام. ثم تغلب علينا انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق، وكل توجيهاته وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها، ونتمنى في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح.
وهنا وقفة عند حقائق التاريخ. ففظائع الرق الروماني في العالم القديم لم يعرفها قط تاريخ الإسلام، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية، كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للرقيق، حتى لو لم يكن عمل على تحريره – وهذا غير صحيح!
كان الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا. شيئا لا حقوق له البتة، وإن كان عليه كل ثقيل من الواجبات. ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا الرقيق. كان يأتي من طريق الغزو. ولم يكن هذا الغزو لفكرة ولا لمبدأ.
وإنما كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان.
فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف، يستمتع بالحمامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، وأطايب الطعام من كل لون، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها. ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة الرومان، قبل أن يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح للإمبراطورية، وموردا للأموال.
في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ من ذلك الاستعمار. أما الرقيق فقد كانوا – كما ذكرنا – أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر. كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار. ولم يكونوا يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا، لا لأن من حقهم – حتى كالبهائم والأشجار – أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء. وكانوا – في أثناء العمل – يساقون بالسوط، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات. ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة – بأصفادهم – فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات.
ولكن الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك، وأدل على الطبيعة الوحشية التي ينطوي عليها ذلك الروماني القديم، والتي ورثها عنه الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال.
تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح، وكانت من أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطور أحياناً، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل. بل كان المرح يصل إلى أقصاه، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة!
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه.
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها.
ثم جاء الإسلام …
جاء ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق:
" بعضكم من بعض " [12] جاء ليقول: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " [13] جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " [14]، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد. وإنما الفضل للتقوى: " ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى " [15].
جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " [16] وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة. فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف " [17]، وهم إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " [18] وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " [19] ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: " احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".
ولم يكن ذلك كل شئ. ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة.
لم يعد الرقيق " شيئاً ". وإنما صار بشراً له روح كروح السادة. وقد كانت الأمم الأخرى كلها تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة، خلق ليستعبد ويستذل، ومن هنا لم تكن ضمائرهم تتأثم من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال الشاقة [20] ومن هنالك رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة، لا في عالم المثل والأحلام، بل في عالم الواقع. ويشهد التاريخ - الذي لم ينكره أحد، حتى المتعصبون من كتاب أوربا - بأن معاملة الرقيق في صدر الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر. حداً جعل الرقيق المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين - مع أنهم يملكون ذلك بعد أن تحرروا اقتصادياً وتعودوا على تحمل تبعات أنفسهم - لأنهم يعتبرونهم أهلاً لهم، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم! وأصبح الرقيق كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل. فأما القول فقد نهى صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء. وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: " إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " [21] فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة! وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء، ويردهم إلى الآصرة البشرية التي تربطهم جميعاً، والمودة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض. وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل: " ومن قتل عبده قتلناه.. " وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر - التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشرية الأصيلة - وهي ضمانات كاملة ووافية، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب (وللتأديب حدود مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه) مبرراً شرعياً لتحرير الرقيق.
* * *
يتبع..........
تعليق