الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد:
فطوبى لمن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بـــــ "طُوبى",
فطوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة في الجنة, مسيرة مائة عام, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » [أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة:1985]
وورد عن بعض السلف تفسير "طوبى" بالغبطة والفرح والخير وقرة العين, قال الله سبحانه وتعالى{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]؛
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرح وقُرة عينٍ،
وقال عكرمة رحمه الله: نعمى لهم، وقال الضحاك رحمه الله: غِبطة لهم،
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: خير لهم،
وقال قتادة رحمه الله: هي كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك؛ أي: أصبتَ خيرًا.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذه الأقوال متقاربة, لأن طُوبى فُعلى من الطّيب,
أي العيش الطيب لهم,
وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: : {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي: لهم حال طيبة, ومرجع حسن,
وذلك بما ينالون من رضوان الله وكرامته في الدنيا والآخرة, وأن لهم كمال الراحة, وتمام الطمأنينة,
ومن جملة ذلك: شجرة طوبى التي في الجنة, التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ما قطعها,
كما وردت بها الأحاديث الصحيحة.
هناك أناس دعا لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بــــ " طوبى " أسأل الله لي ولجميع إخواني المسلمين أن نكون منهم,
ومن أولئك: من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وآمن به, ومن لم يره وآمن به:
عن أبي أمامة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « طُوبى لمن رآني وآمن بي, وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي »
[أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة:1241]
قال الإمام القاري رحمه الله: " وذلك لأن الله مدحهم بإيمانهم بالغيب,
وكان إيمان الصدر الأول غيباً وشهوداً,
فإنهم آمنوا بالله واليوم الآخر غيباً, وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم شهوداً, لما أنهم رأوا الآيات وشاهدوا المعجزات,
وآخر هذه الأمة آمنوا غيباً بما آمن بها أولها شهوداً,
فلذا أثني عليهم النبي صلى الله عليه وسلم." والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ليست دعوى باللسان,
بل هي إيمان صادق, يثمر محبة له عليه الصلاة والسلام, تظهر آثار تلك المحبة في أمور, ذكرها أهل العلم,
منها: الاقتداء به, والحرص على سنته, واتباع أقواله وأفعاله, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه,
والتأدب بآدابه, وموافقته في حب ما يحبه, وبغض ما يبغضه, والسعي في إظهار دينه, ونصرة شريعته,
والذب عنه, والصلاة والسلام عليه عند ذكره, ومحبة قرابته, وآل بيته, وأزواجه, وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين,
ومحبة سنته والعاملين بها, والداعين إليها.
وزيادة على البشارة بـــ" طوبى " لمن آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يروه,
فهذه بشارة ثانية غالية, فعن أنس رضي الله عنه, « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( وددت أني لقيت إخواني ))
فقال أصحابه: أو ليس نحن إخوانك؟ فقال: (( أنتم أصحابي, ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني )) »
[أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة:2888]
الغرباء: عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( « إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً, فطوبى للغرباء » )) [أخرجه الإمام مسلم]
والغرباء هم الذين يصلحون إذا فسد الناس, فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً قال:
«(( إن الإسلام بدأ غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ, فطُوبى للغرباء))
قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (( الذين يصلحون إذا فسد الناس ))»
[صححه العلامة الألباني في الصحيحة:1273]
وهؤلاء الغرباء قلة, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم, فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للغرباء ))
قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟
قال: «(( ناس صالحون قليل في ناس سوءٍ كثير, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))»
[ صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة:1619,
وقال رواه ابن المبارك في الزهد] فطوبى لمن كان من أولئك
, وليبشر بالثواب العظيم, قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم,
وذلك حين يصير المعروف منكراً, والمنكر معروفاً,
وتصير السنة بدعةً, والبدعةً سنةً,
فيُقام على أهل السنة بالتثويب والتعنيف.....
فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة أهل السنة عادةً وسمعاً,
بل لا أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمرُ الله, غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء..
.لا يزالون في جهاد ونزاع, ومدافعة وقراع, آناء الليل والنهار,
وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل, ويثبهم الثواب العظيم.
فلا تستوحش أيها الغريب, وإن عاداك أكثر الناس أو جفوك, فالعاقبة لك,
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: أهل الإسلام في الناس غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء
وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميّزونها من الأهواء البدع فيهم غرباء,
والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشدُّ هؤلاء غربةً,
لكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم...
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس,
وأشدُّ ما يكون وحشة إذا استأنسوا, فوليُّه الله ورسوله والذين آمنوا,
وإن عاده أكثر الناس وجفوه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها,
ولا ينافس في عزها, للناس حال وله حال,
الناس منه في راحةٍ وهو من نفسه في تعبٍ. الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشدُّ غربةً منه في أول ظهوره,
وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة,
فالإسلام الحقيقيُّ غريب جداً, وأهله غرباء بين الناس.
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرةً في دينه, وفقهاً في سنة رسوله, وفهماً في كتابه,
وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات, وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه,
فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه,
وطعنهم عليه, وإزرائهم به, وتنفير الناس عنه, وتحذيرهم منه.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم, غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع,
غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم, غريب في صلاته لسوء صلاتهم,
غريب في طريقه لفساد طرقهم...غريب في معاشرتهم لهم, لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم."ـ
والغربة غربتان: غربة ظاهرة وغربة باطنه, فنافس فيهما وليكن لك نصيب منهما
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: الغربة بأحد الاعتبارات تنقسم إلى غربتين:
غربة ظاهرة. غربة باطنه. والغربة الظاهرة مثّل لها أهل العلم بأنها: ** غربة أهل الصلاح والطاعة بين الفسقة والفجار. **
وغربة أهل العلم المستقيمين الذين طلبوا العلم لله, لم يطلبوه ليماروا به السفهاء ولا ليصرفوا وجوه الناس إليهم,
الذين خشعت جوارحهم وقلوبهم لله عز وجل بين من طلب العلم ليس لله,
وبين من رغب في العلم لكنه رغب لأجل الجاه أو المال ** وغربة المستقيمين في أموالهم,
وتحرى المأكل والمصرف الحلال بين أولئك الذين يأكلون من كل جهة, ويصرفون في كل جهة.
وهذه غربة ظاهرة مثل لها أهل العلم بهذه الأمثلة وغيرها
ويتضح ذلك برؤية أصحابها أما الغربة الباطنة: فهي التي لا يظهر أمرها,
وهذه هي التي تنافس فيها المتنافسون, وهي غربة صدق القلب وقصده في توجهه إلى مولاه,
بحيث تكون إراداته ورغباته إلى الله, وفي الله, فيرى هذا الغريبُ الناس من حوله,
وتكالبهم على الدنيا, ورغبهم فيها, وحرصهم عليها, وأنهم يرونها وكأنها الباقية,
يراهم وهو متجه فيما بينهم إلى ربه, طامع إلى الجنة, متباعد عن النار, وكأنه غريب بينهم,
لأن قصده وتوجه قلبه مختلف عن توجه الناس, كذلك الخاشع الخاضع قلبه لله عز وجل بين جمهرة الذين لا يخشعون لله عز وجل يكون غريباً,
فهذه الغربة مما يتنافس فيه المتنافسون, لأن صاحبها الحظ الأوفر مما جاء في فضل الغرباء,
لأن صلاح الباطن له أثره على صلاح الظاهر بيّن جليّ. من يكثر من الاستغفار: عن عبدالله بن بسرٍ رضي الله عنه, قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «طُوبى لمن وجد في صحِيفتِهِ استغفاراً كثيراً » ))
[أخرجه الإمام ابن ماجه, قال الإمام النووي رحمه الله: سنده جيد,
وقال الإمام البوصيري هذا إسناد صحيح رجاله ثقات, وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:
إسناد ابن ماجه صحيح] فإن أحببت أن تسرك صحيفتك فأكثر من الاستغفار,
فعن الزبير رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «من أحبَّ أن تسُرَّه صحيفتُهُ فليُكثر من الاستغفار» ))
[أخرجه الطبراني وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع:5955]
وليحرص المسلم على الصدق والإخلاص في الاستغفار,
يقول الإمام الطيبي رحمه الله: فإن قلت: لِم لم يقل: " طُوبى لمن استغفر كثيراً ",
وما فائدة العدول؟ قلتُ: هو كناية عنه,
فيدلّ على حصول ذلك جزماً, وعلى الإخلاص,
لأنه إذا لم يكن مخلصاً فيه كان هباءً منثوراً,
فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه, ووبالاً له. من جعل الله مفاتيح الخير على يديه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«(( إن من الناس مفاتيح للشر, مغاليق للخير, فطٌوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه, وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه )) »
[ أخرجه الإمام ابن ماجه, قال عنه العلامة الألباني في الصحيحة( 1332): الحديث بمجموع طرقه حسن إن شاء الله]
قال الإمام السندي رحمه الله: قوله: ( إن من الناي مفاتيح للخير ).
.أي أن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير كالعلم, والإصلاح بين الناس,
حتى كأنه ملكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم. من قنع بما أعطاه من رزق:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول:
« (( طُوبى لمن هُدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع ))»
[ أخرجه الإمام الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح]
قال الإمام القاري رحمه الله: لم يطلب زيادة عليه لعلمه بأن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدّر له,
وقال الإمام المباركفوري رحمه الله: قوله: (( وكان عيشه كفافاً ))
أي لا ينقص عن حاجته ولا يزيد عن كفايته فيبطر ويطغى (( وقنع )) كمنع,
أي: رضي بالقسمِ ولم تطمح نفسه لزيادة عليه. من طال عمره وحسن عمله: عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(( طوبى لمن طال عُمرُهُ, وحسُن عملُهُ ))»
[ أخرجه لطبراني, وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع:3928]
وحسن العمل يكون بالإخلاص لله, وأن يكون وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام
فطوبى لمن طال عمره وحسن عمله, قال الإمام الطيبي رحمه الله:
طول العمر مع حسن العمل...يدل على سعادة الدارين والفوز بالحسنيين
من حفظ لسانه وبكى على ذنوبه واعتزل الناس فيما لا فائدة فيه: عن ثوبان رضي الله عنه, قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: «طُوبى لمن ملك لسانه,
ووسعه بيته, وبكى على خطيئته»
[أخرجه الطبراني, وقال عنه العلامة الألباني: حسن, في صحيح الجامع:3929]
قال الإمام القاري رحمه الله: (( طُوبى لمن ملك لسانه )) لأن في حفظ اللسان والعزلة السلامة من آفات الدنيا,
ومفسدات الأعمال. (( ووسعه بيته )) أي: اعتزل الناس, (( وبكى على خطيئته ))
بأن يتذكر ذنوبه, ويعددها, ويبكى على ما فرط منه. ــــــــــــــــــ
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
فطوبى لمن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بـــــ "طُوبى",
فطوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة في الجنة, مسيرة مائة عام, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » [أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة:1985]
وورد عن بعض السلف تفسير "طوبى" بالغبطة والفرح والخير وقرة العين, قال الله سبحانه وتعالى{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]؛
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرح وقُرة عينٍ،
وقال عكرمة رحمه الله: نعمى لهم، وقال الضحاك رحمه الله: غِبطة لهم،
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: خير لهم،
وقال قتادة رحمه الله: هي كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك؛ أي: أصبتَ خيرًا.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذه الأقوال متقاربة, لأن طُوبى فُعلى من الطّيب,
أي العيش الطيب لهم,
وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: : {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي: لهم حال طيبة, ومرجع حسن,
وذلك بما ينالون من رضوان الله وكرامته في الدنيا والآخرة, وأن لهم كمال الراحة, وتمام الطمأنينة,
ومن جملة ذلك: شجرة طوبى التي في الجنة, التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ما قطعها,
كما وردت بها الأحاديث الصحيحة.
هناك أناس دعا لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بــــ " طوبى " أسأل الله لي ولجميع إخواني المسلمين أن نكون منهم,
ومن أولئك: من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وآمن به, ومن لم يره وآمن به:
عن أبي أمامة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « طُوبى لمن رآني وآمن بي, وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي »
[أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة:1241]
قال الإمام القاري رحمه الله: " وذلك لأن الله مدحهم بإيمانهم بالغيب,
وكان إيمان الصدر الأول غيباً وشهوداً,
فإنهم آمنوا بالله واليوم الآخر غيباً, وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم شهوداً, لما أنهم رأوا الآيات وشاهدوا المعجزات,
وآخر هذه الأمة آمنوا غيباً بما آمن بها أولها شهوداً,
فلذا أثني عليهم النبي صلى الله عليه وسلم." والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ليست دعوى باللسان,
بل هي إيمان صادق, يثمر محبة له عليه الصلاة والسلام, تظهر آثار تلك المحبة في أمور, ذكرها أهل العلم,
منها: الاقتداء به, والحرص على سنته, واتباع أقواله وأفعاله, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه,
والتأدب بآدابه, وموافقته في حب ما يحبه, وبغض ما يبغضه, والسعي في إظهار دينه, ونصرة شريعته,
والذب عنه, والصلاة والسلام عليه عند ذكره, ومحبة قرابته, وآل بيته, وأزواجه, وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين,
ومحبة سنته والعاملين بها, والداعين إليها.
وزيادة على البشارة بـــ" طوبى " لمن آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يروه,
فهذه بشارة ثانية غالية, فعن أنس رضي الله عنه, « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( وددت أني لقيت إخواني ))
فقال أصحابه: أو ليس نحن إخوانك؟ فقال: (( أنتم أصحابي, ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني )) »
[أخرجه الإمام أحمد, وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة:2888]
الغرباء: عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( « إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً, فطوبى للغرباء » )) [أخرجه الإمام مسلم]
والغرباء هم الذين يصلحون إذا فسد الناس, فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً قال:
«(( إن الإسلام بدأ غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ, فطُوبى للغرباء))
قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (( الذين يصلحون إذا فسد الناس ))»
[صححه العلامة الألباني في الصحيحة:1273]
وهؤلاء الغرباء قلة, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم, فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للغرباء ))
قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟
قال: «(( ناس صالحون قليل في ناس سوءٍ كثير, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))»
[ صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة:1619,
وقال رواه ابن المبارك في الزهد] فطوبى لمن كان من أولئك
, وليبشر بالثواب العظيم, قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم,
وذلك حين يصير المعروف منكراً, والمنكر معروفاً,
وتصير السنة بدعةً, والبدعةً سنةً,
فيُقام على أهل السنة بالتثويب والتعنيف.....
فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة أهل السنة عادةً وسمعاً,
بل لا أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمرُ الله, غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء..
.لا يزالون في جهاد ونزاع, ومدافعة وقراع, آناء الليل والنهار,
وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل, ويثبهم الثواب العظيم.
فلا تستوحش أيها الغريب, وإن عاداك أكثر الناس أو جفوك, فالعاقبة لك,
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: أهل الإسلام في الناس غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء
وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميّزونها من الأهواء البدع فيهم غرباء,
والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشدُّ هؤلاء غربةً,
لكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم...
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس,
وأشدُّ ما يكون وحشة إذا استأنسوا, فوليُّه الله ورسوله والذين آمنوا,
وإن عاده أكثر الناس وجفوه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها,
ولا ينافس في عزها, للناس حال وله حال,
الناس منه في راحةٍ وهو من نفسه في تعبٍ. الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشدُّ غربةً منه في أول ظهوره,
وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة,
فالإسلام الحقيقيُّ غريب جداً, وأهله غرباء بين الناس.
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرةً في دينه, وفقهاً في سنة رسوله, وفهماً في كتابه,
وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات, وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه,
فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه,
وطعنهم عليه, وإزرائهم به, وتنفير الناس عنه, وتحذيرهم منه.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم, غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع,
غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم, غريب في صلاته لسوء صلاتهم,
غريب في طريقه لفساد طرقهم...غريب في معاشرتهم لهم, لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم."ـ
والغربة غربتان: غربة ظاهرة وغربة باطنه, فنافس فيهما وليكن لك نصيب منهما
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: الغربة بأحد الاعتبارات تنقسم إلى غربتين:
غربة ظاهرة. غربة باطنه. والغربة الظاهرة مثّل لها أهل العلم بأنها: ** غربة أهل الصلاح والطاعة بين الفسقة والفجار. **
وغربة أهل العلم المستقيمين الذين طلبوا العلم لله, لم يطلبوه ليماروا به السفهاء ولا ليصرفوا وجوه الناس إليهم,
الذين خشعت جوارحهم وقلوبهم لله عز وجل بين من طلب العلم ليس لله,
وبين من رغب في العلم لكنه رغب لأجل الجاه أو المال ** وغربة المستقيمين في أموالهم,
وتحرى المأكل والمصرف الحلال بين أولئك الذين يأكلون من كل جهة, ويصرفون في كل جهة.
وهذه غربة ظاهرة مثل لها أهل العلم بهذه الأمثلة وغيرها
ويتضح ذلك برؤية أصحابها أما الغربة الباطنة: فهي التي لا يظهر أمرها,
وهذه هي التي تنافس فيها المتنافسون, وهي غربة صدق القلب وقصده في توجهه إلى مولاه,
بحيث تكون إراداته ورغباته إلى الله, وفي الله, فيرى هذا الغريبُ الناس من حوله,
وتكالبهم على الدنيا, ورغبهم فيها, وحرصهم عليها, وأنهم يرونها وكأنها الباقية,
يراهم وهو متجه فيما بينهم إلى ربه, طامع إلى الجنة, متباعد عن النار, وكأنه غريب بينهم,
لأن قصده وتوجه قلبه مختلف عن توجه الناس, كذلك الخاشع الخاضع قلبه لله عز وجل بين جمهرة الذين لا يخشعون لله عز وجل يكون غريباً,
فهذه الغربة مما يتنافس فيه المتنافسون, لأن صاحبها الحظ الأوفر مما جاء في فضل الغرباء,
لأن صلاح الباطن له أثره على صلاح الظاهر بيّن جليّ. من يكثر من الاستغفار: عن عبدالله بن بسرٍ رضي الله عنه, قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «طُوبى لمن وجد في صحِيفتِهِ استغفاراً كثيراً » ))
[أخرجه الإمام ابن ماجه, قال الإمام النووي رحمه الله: سنده جيد,
وقال الإمام البوصيري هذا إسناد صحيح رجاله ثقات, وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:
إسناد ابن ماجه صحيح] فإن أحببت أن تسرك صحيفتك فأكثر من الاستغفار,
فعن الزبير رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «من أحبَّ أن تسُرَّه صحيفتُهُ فليُكثر من الاستغفار» ))
[أخرجه الطبراني وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع:5955]
وليحرص المسلم على الصدق والإخلاص في الاستغفار,
يقول الإمام الطيبي رحمه الله: فإن قلت: لِم لم يقل: " طُوبى لمن استغفر كثيراً ",
وما فائدة العدول؟ قلتُ: هو كناية عنه,
فيدلّ على حصول ذلك جزماً, وعلى الإخلاص,
لأنه إذا لم يكن مخلصاً فيه كان هباءً منثوراً,
فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه, ووبالاً له. من جعل الله مفاتيح الخير على يديه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«(( إن من الناس مفاتيح للشر, مغاليق للخير, فطٌوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه, وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه )) »
[ أخرجه الإمام ابن ماجه, قال عنه العلامة الألباني في الصحيحة( 1332): الحديث بمجموع طرقه حسن إن شاء الله]
قال الإمام السندي رحمه الله: قوله: ( إن من الناي مفاتيح للخير ).
.أي أن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير كالعلم, والإصلاح بين الناس,
حتى كأنه ملكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم. من قنع بما أعطاه من رزق:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول:
« (( طُوبى لمن هُدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع ))»
[ أخرجه الإمام الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح]
قال الإمام القاري رحمه الله: لم يطلب زيادة عليه لعلمه بأن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدّر له,
وقال الإمام المباركفوري رحمه الله: قوله: (( وكان عيشه كفافاً ))
أي لا ينقص عن حاجته ولا يزيد عن كفايته فيبطر ويطغى (( وقنع )) كمنع,
أي: رضي بالقسمِ ولم تطمح نفسه لزيادة عليه. من طال عمره وحسن عمله: عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(( طوبى لمن طال عُمرُهُ, وحسُن عملُهُ ))»
[ أخرجه لطبراني, وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع:3928]
وحسن العمل يكون بالإخلاص لله, وأن يكون وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام
فطوبى لمن طال عمره وحسن عمله, قال الإمام الطيبي رحمه الله:
طول العمر مع حسن العمل...يدل على سعادة الدارين والفوز بالحسنيين
من حفظ لسانه وبكى على ذنوبه واعتزل الناس فيما لا فائدة فيه: عن ثوبان رضي الله عنه, قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: «طُوبى لمن ملك لسانه,
ووسعه بيته, وبكى على خطيئته»
[أخرجه الطبراني, وقال عنه العلامة الألباني: حسن, في صحيح الجامع:3929]
قال الإمام القاري رحمه الله: (( طُوبى لمن ملك لسانه )) لأن في حفظ اللسان والعزلة السلامة من آفات الدنيا,
ومفسدات الأعمال. (( ووسعه بيته )) أي: اعتزل الناس, (( وبكى على خطيئته ))
بأن يتذكر ذنوبه, ويعددها, ويبكى على ما فرط منه. ــــــــــــــــــ
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ