مقال لحسام الدين حامد منقول للفائدة من منتدى التوحيد حول تأويل قوله تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ .. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ .. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)..
وبعدُ .. فقد استشكل بعضُ الأفاضل ممن قرأ السورة الكريمة قوله تعالى في وصف الماء الدافق الذي خُلق منه الإنسان، بأنّه "يخرج من بين الصلب والترائب"، ذلك أنّ المني يأتي من الخصية، والبويضة تأتي من المبيض، بينا الصلبُ هو عظم الظهر ذو فقراتٍ تمتد من أعلاه إلى أسفله، والترائب عظام الصدر، فكيف؟!
وجواب هذا الإشكال يعتمد على مقدمتين، إذ إن هذا الإشكال يصح لو أنّ الآية الكريمة كانت تنفي أي مصدرٍ للماء الدافق غير الصلب والترائب، أو لو كان العلم الطبيعي توصّل إلى نفي أيّ دورٍ للصلب والترائب في خروج الماء الدافق، فالمقدمة الأولى في بيان أن الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية، والمقدمة الثانية في إفادة أن العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق الذي يكون منه الولد.
المقدمة الأولى: الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية:
المشهود أنّه لا يمتنع تعدد العلل للمعلول الواحد، وأنّ المنتج الواحد قد يكون حصيلة لأكثر من علة، وعليه فإنّ الفعل الذي يجري على عملياتٍ متعددة تشترك أو تتوالى، هذا الفعل يمكن وصفه بإحدى هذه العمليات دون أن يلزم من ذلك نفي سائر العمليات، فلو كان هناك منتجٌ يصدر عن العملية (أ)، ثم (ب)، ثم (ج)، ووصفتُه بأنه ينتج من (أ) لا يعني ذلك أنني أنفي صدوره من (ب) و (ج)، أو وصفت بأنه ينتج من (ج) لم يكن ذلك نفيًا لدور (أ) و (ب)!
مثال (1): الكلام يكون منتجًا من الفكر (أ) الذي يعمل عن طريق الأعصاب (ب) التي تحرّك أعضاء النطق (ج) وهي اللسان والشفاه وغيرها... فأنت مثلًا ترى أحد الناس يتكلم بكلمةٍ أغضبت من حوله، تلومه قائلًا "هذه عاقبة فكرك (أ) السقيم!"، مع أنّه يكون باشر هذا الفعل بلسانه (ج)، واختيارك نسبة الخطأ في الكلام للفكر (أ) لا يعني أنّك تنفي نسبته لللسان (ج) مثلًا، ونظير ذلك حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذة الناس بكلامهم ، أجاب أن الذي يكب الناس على وجوههم في النار هو "حصائد ألسنتهم (ج)"، دون أن يعني ذلك عند أحدٍ أن الكلام لا ينتج من بقية أعضاء النطق بخلاف اللسان، ودون أن يعني هذا أن الكلام لا يحتاج للفكر (أ) فيه قبل أن يخرج من اللسان!
تكمن البلاغة في اختيار الوصف المناسب للمقام، فأنت حين ترد الكلام وقت الملام إلى الفكر وتقول "هذه عاقبة فكرك السقيم"، تطلب من المخاطَب أن يراجع فكره، الذي أنتج هذه الكلمات التي أوجبت الاعتذار، وحين قال صلى الله عليه وسلم "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"، كان ذلك للفت النظر إلى خطورة الكلام وعاقبته مع يسره وإمكانه للجميع، فهو قد يكون أسهل شيءٍ حتى يلقيه المتكلم من لسانه دون فكر، وفي نفس الوقت هناك من يحصد هذا الخارج من الكلمات ليُحاسَب عليها المرء بعد ذلك، ثم قد تكبه على منخاره في النار!
مثال (2): المطر ينزل من السحاب الذي يجري في السماء بأمرٍ من الله تعالى، فيوصف المطر بأنّه ينزل من السحاب بقوله تعالى "وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا" وقوله تعالى " حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ" وقوله تعالى " أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ"، ويوصف بأنّه ينزل من السماء بقوله تعالى " وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا"، وينزل بأمر الله تعالى كما في قوله تعالى "إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ"، وهكذا فلا ينفي وصفٌ وصفًا آخر، وإنّما يكون الماء بأمر الله فينزل من السماء من السحاب، ولا يعني أيّ من هذه الأوصاف عند أحدٍ ممن يطالعها أنّها تمنع من إثبات الطرق المختلفة لتكون الأمطار عن طريق التبخر أو التكثف أو الرياح أو غير ذلك!
فعلى وزن هذين المثالين، فإنّ قوله تعالى "يخرج من بين الصلب والترائب" لا ينفي أنّ للخصية دورًا في خروج المني، كما لا ينفي أنّ لفرج الرجل دورًا في خروج المنيّ أثناء الجماع، وفي الآية ما يشير إلى أن المقصود يسبق ما يظهر للناظر في شأن هذا الماء وهو لفظ "يخرج"، قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: "والخروج مستعملٌ في ابتداء التنقل من مكانٍ إلى مكانٍ ولو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب"!
ولا شك أنّ جميع الأمم تعرف أن هذا الماء يخرج من فرج الرجل أثناء الجماع، ولا شك أنّ جميع الأمم علمت أنّ للخصية دورًا في خروج المنيّ سواءً بكونها ممرًا أو مخزنًا للمنيّ حتى ولو لم يقفوا على أنّها محلٌ لتوليد المني، والدليل على معرفة كافة الأمم بما فيهم العرب بذلك تتحصل من عدة وجوه:
الوجه الأول: قد عُلم أنّ قومًا من الصحابة رضي الله عنهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في الاستخصاء، ونُهوا عن ذلك، وحديث ابن مسعودٍ –رضي الله عنه- في ذلك متفقٌ عليه(1)، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: "الحكمة في منع الخصاء أنه خلاف ما أراده الشارع من تكثير النسل"، وقال النووي رحمه الله: "تحريم الخصي لما فيه من تغيير خلق الله، ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان والله أعلم"!
الوجه الثاني: قد عُلم أن خصاء الحيوان Neutering كان ممارسةً معروفةً عند العرب وغيرهم من الأمم منذ القدم، مع تحريم بعض أهل العلم في الإسلام لخصاء الحيوان لغير مصلحةٍ لما فيه من المثلة وقطع النسل، إن عُلِم ذلك جزمنا أنّ معرفة علاقة الخصية بالماء الذي يكون منه النسل كانت معروفةً للأمم، فضلًا عن العرب الذين يعمل كثيرٌ منهم برعي الغنم، فضلًا عن العلم بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!
الوجه الثالث: أن كافة المدارس الطبية التي وُجدت في اليونان والإسكندرية ومصر القديمة، باختلاف أقوالها في محال توليد المني وتكونه أهو الدماغ أم نخاع العظم أم الدم أم جميع الجسم، كلها ذكرت أنّ الخصية ممر أو مخزن للمني، فضلًا عن أنّ منهم من جعلها مشاركةً في توليده ومنهم من جعلها مؤثرةً في تحديد جنس الجنين كما سيأتي في الرد على دعوى الاقتباس، والذي يرى الحجج التي بنى عليها هؤلاء استنتاجاتهم تلك مثل أن المني والدم يتخثران، أو أن الإكثار من الجماع يخرج دمًا في الاستدلال على الأصل الدموي للمني، أو في كون الحجامة خلف الأذن تُضعف الإخصاب لكونه يقطع الأوعية الدموية الحاملة للمني من المخ في الاستدلال على الأصل الدماغي للمني، من رأى مثل هذه الاستدلالات وأضعف منها، علم لا محالة أنهم علموا بدور الخصية في الإنجاب ولو كان هذا الدور مقتصرًا على الممر والمخزن!
فيتحصل من هذه المقدمة الأولى أنّ الآية الكريمة لا تنفي دور الخصية في خروج المني، بل لفظ "الخروج" يشير إلى أنّ المقصود أمرًا وراء المنظور المتبادر إلى الأذهان كما قال ابن عاشور رحمه الله، خصوصًا وكافة الأمم كانت تثبت للخصية والفرج دورًا في خروج المني، والمجبوب الذي عدم الذكر والأنثيين –أي الخصيتين- يستحيل عند أهل الفقه أن يكون له ولدٌ ولو جاءته امرأته بولدٍ فلا يُنسب إليه!
المقدمة الثانية: العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق!
هل الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية؟
الجواب العلمي هو: لا، وهذا مشتهرٌ لا خلاف فيه، والدليل أنّك قد تجد المرء مصابًا بانعدام الحيوانات المنوية Azospermia ومرد ذلك إلى أسبابٍ غير متعلقةٍ بالخصية Pre-testicular azospermia وهي حالاتٌ نادرة الحدوث لكون الخلل في هذه الأعضاء نادرًا في الجملة (2)، ومن النادر أن يظهر هذا الخلل في هذه الأعضاء في صورة انعدام الحيوانات المنوية فحسب! فالمقصود أنّه ليست الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية حصرًا! هناك أعضاء غير الخصية تؤثر في تكوين المني وخروجه، والعلم لا ينفي أن يكون هناك دورٌ للعظام، وليس المقصود هنا أن نبحث عن إعجازٍ علمي في القرآن –كعادة إخواننا في جواب كل شبهة- حتى تسألني عمن يقول بأن للعظام دور، وإنما المقصود بيان أن العلم الطبيعي لا يثبت للخصية دورًا حصريا في توليد المني!
ولو أنّ العلم الطبيعي سكت عن دور العظام في توليد المنيّ لكان هذا رافعًا للتعارض، لأن الشرع لم يُثبت شيئًا نفاه العلم الطبيعي، لو وقفنا عند هذا الحد لكان كافيًا (3)، غير أننا نجد أن العلم الطبيعي يحمل لنا ما يُستأنس به في هذا الصدد، ففي جورنال البحوث الإكلينيكية The Journal of Clinical Investigation ذي معامل التأثير 13.765 في سنة 2013م، نُشر بحثٌ عن هرمونٍ ينتج من الخلايا العظمية Osteoblast-derived hormone واسم هذا الهرمون هو Osteocalcin يقترح أنّ له دورًا في تنظيم الخصوبة في الإنسان من خلال محورٍ هرمونيٍّ يشمل البنكرياس والعظم والخصية Pancreas-bone-testis axis، نُشِر هذا البحث في مايو 2013م، وقام بحثهم على دراسة تعرضية Cohort study لمجموعة من الذكور المصابين بفشل أولي في وظائف الخصية Primary testicular failure، فوُجد أن اثنين منهم سبب مشكلتهم هو خلل في هذا الهرمون، ويمكن مراجعة هذا البحث ومراجعه من العاشر حتى الثالث عشر للوقوف على حقيقة ذلك! (*)
من المقدمة الأولى والثانية يظهر أنّه لا يلزم من وصف الماء الدافق بأنّه يخرج من بين الصلب والترائب نفي كونه يخرج من الخصية، كما لا يلزم من وصف الكلام بأنّه من اختراع دماغ المتكلم نفي كونه من مخرجات اللسان وأعضاء النطق، خصوصًا إذا استحضرنا أنّ المتكلِّم والمبلِّغ والمخاطبين جميعًا يعلمون دور الخصية في خروج الماء الدافق والإنجاب! فإنْ وقفنا عند هذا الحد كان الوصف بأنّ الماء يخرج من بين الصلب والترائب، زيادة علمٍ لا تنفي العلم الثابت بعلاقة الماء بالخصيتين، وبالتالي فزيادة العلم هذه مصدر ثبوتها هو الوحي، ولا يوجد من العلم الطبي ما ينفيها، وعليه فلا يوجد تعارض بين ثابتٍ من الشرع وثابتٍ من العلم الطبيعي، لأن الثابت من الشرع لا ينفيه شيءٌ من العلم الطبيعي، بل يوجد في المقالات العلمية المنشورة حديثًا ما يُستأنس به، ووجود مثل هذه المقالات يجعل المبادرة بالجزم برفض هذا العلم الزائد الثابت بالنص الشرعي ليس فقط تهجمًا لنفي ما لا ينفيه العلم الطبيعي، بل تهجمًا على نفي ما يلوح في الأفق بوادر من العلم الطبيعي في اتجاه إثباته.
سؤال: لم اختِير أن يوصف الماء الدافق بأنّه يخرج من بين الصلب والترائب على وجه التحديد؟!
ذلك لأنّ طبيعة الماء الدافق تنافي طبيعة العظام الثابتة، فالذي أخرج الماء السائل من هذه العظام القوية الصلبة صلابة حروفها القوية المقلقلة "الصلب" و "الترائب"، والذي أخرج هذا الماء الجاري من عظام الظهر والصدر وهي أقل عظام الجسم من جهة نطاق الحركة مقارنةً بعظام اليدين والرجلين، الذي أخرج هذا الماء الدافق من بين هذه العظام الصلبة قليلة الحركة، لقادرٌ على أن يرجع الإنسان مرةً أخرى يسعى لمحشره، بعد أن حواه جوفُ الأرض ساكنًا لا حياة فيه! ولذا عندما ينظر الإنسان مم خلق، سيعلم أنّ الله على رجعه قادر!
ــــــــــــ
(*) قلتُ (فارس): يقول الألوسى فى تفسيره: " هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه ".. (روح المعانى)..
فيكون المعنى هنا أن العظام هى السبب الأولى فى تكوين الحيوانات المنوية على اعتبار أن الصلب والترائب كناية عن العظام.. فذكر البعض وأراد الكل.. كما فى قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) والمقصود العالم يقول الزركشى (فعبر بالأرض والسماء عن العالم.. لأن المقام مقام الوعيد.. والوعيد إنما يحصل لو بين أن الله لا يخفى عليه أحوال العباد حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم.. والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض بل من العالم.. فيكون المراد بالسماء والأرض العالم.. إطلاقاً للجزء على الكل) كما فى البرهان فى علوم القرآن.. وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن للعظام دوراً فاعلاً فى إنتاج الحيوانات المنوية.. حيث يحفز بروتين العظام أوستيوكالسين الخلايا البينية فى الخصية لافراز هرمون التستوستيرون اللازم لبناء المنويات (الحيوانات المنوية) فى خلايا الخصيتين ..
وعليه فمن الجائز - بهذا الاعتبار - أن يكون فى قوله تعالى (يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) إشارة ضمنية لدور العظام فى إنتاج المنويات.. وغنى عن البيان أنه أراد بقوله تعالى (خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) السلالة أو الحيوانات المنوية لقول النبى عليه السلام (ما من كل الماء يكون الولد)..
وبعدُ .. فقد استشكل بعضُ الأفاضل ممن قرأ السورة الكريمة قوله تعالى في وصف الماء الدافق الذي خُلق منه الإنسان، بأنّه "يخرج من بين الصلب والترائب"، ذلك أنّ المني يأتي من الخصية، والبويضة تأتي من المبيض، بينا الصلبُ هو عظم الظهر ذو فقراتٍ تمتد من أعلاه إلى أسفله، والترائب عظام الصدر، فكيف؟!
وجواب هذا الإشكال يعتمد على مقدمتين، إذ إن هذا الإشكال يصح لو أنّ الآية الكريمة كانت تنفي أي مصدرٍ للماء الدافق غير الصلب والترائب، أو لو كان العلم الطبيعي توصّل إلى نفي أيّ دورٍ للصلب والترائب في خروج الماء الدافق، فالمقدمة الأولى في بيان أن الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية، والمقدمة الثانية في إفادة أن العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق الذي يكون منه الولد.
المقدمة الأولى: الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية:
المشهود أنّه لا يمتنع تعدد العلل للمعلول الواحد، وأنّ المنتج الواحد قد يكون حصيلة لأكثر من علة، وعليه فإنّ الفعل الذي يجري على عملياتٍ متعددة تشترك أو تتوالى، هذا الفعل يمكن وصفه بإحدى هذه العمليات دون أن يلزم من ذلك نفي سائر العمليات، فلو كان هناك منتجٌ يصدر عن العملية (أ)، ثم (ب)، ثم (ج)، ووصفتُه بأنه ينتج من (أ) لا يعني ذلك أنني أنفي صدوره من (ب) و (ج)، أو وصفت بأنه ينتج من (ج) لم يكن ذلك نفيًا لدور (أ) و (ب)!
مثال (1): الكلام يكون منتجًا من الفكر (أ) الذي يعمل عن طريق الأعصاب (ب) التي تحرّك أعضاء النطق (ج) وهي اللسان والشفاه وغيرها... فأنت مثلًا ترى أحد الناس يتكلم بكلمةٍ أغضبت من حوله، تلومه قائلًا "هذه عاقبة فكرك (أ) السقيم!"، مع أنّه يكون باشر هذا الفعل بلسانه (ج)، واختيارك نسبة الخطأ في الكلام للفكر (أ) لا يعني أنّك تنفي نسبته لللسان (ج) مثلًا، ونظير ذلك حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذة الناس بكلامهم ، أجاب أن الذي يكب الناس على وجوههم في النار هو "حصائد ألسنتهم (ج)"، دون أن يعني ذلك عند أحدٍ أن الكلام لا ينتج من بقية أعضاء النطق بخلاف اللسان، ودون أن يعني هذا أن الكلام لا يحتاج للفكر (أ) فيه قبل أن يخرج من اللسان!
تكمن البلاغة في اختيار الوصف المناسب للمقام، فأنت حين ترد الكلام وقت الملام إلى الفكر وتقول "هذه عاقبة فكرك السقيم"، تطلب من المخاطَب أن يراجع فكره، الذي أنتج هذه الكلمات التي أوجبت الاعتذار، وحين قال صلى الله عليه وسلم "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"، كان ذلك للفت النظر إلى خطورة الكلام وعاقبته مع يسره وإمكانه للجميع، فهو قد يكون أسهل شيءٍ حتى يلقيه المتكلم من لسانه دون فكر، وفي نفس الوقت هناك من يحصد هذا الخارج من الكلمات ليُحاسَب عليها المرء بعد ذلك، ثم قد تكبه على منخاره في النار!
مثال (2): المطر ينزل من السحاب الذي يجري في السماء بأمرٍ من الله تعالى، فيوصف المطر بأنّه ينزل من السحاب بقوله تعالى "وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا" وقوله تعالى " حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ" وقوله تعالى " أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ"، ويوصف بأنّه ينزل من السماء بقوله تعالى " وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا"، وينزل بأمر الله تعالى كما في قوله تعالى "إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ"، وهكذا فلا ينفي وصفٌ وصفًا آخر، وإنّما يكون الماء بأمر الله فينزل من السماء من السحاب، ولا يعني أيّ من هذه الأوصاف عند أحدٍ ممن يطالعها أنّها تمنع من إثبات الطرق المختلفة لتكون الأمطار عن طريق التبخر أو التكثف أو الرياح أو غير ذلك!
فعلى وزن هذين المثالين، فإنّ قوله تعالى "يخرج من بين الصلب والترائب" لا ينفي أنّ للخصية دورًا في خروج المني، كما لا ينفي أنّ لفرج الرجل دورًا في خروج المنيّ أثناء الجماع، وفي الآية ما يشير إلى أن المقصود يسبق ما يظهر للناظر في شأن هذا الماء وهو لفظ "يخرج"، قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: "والخروج مستعملٌ في ابتداء التنقل من مكانٍ إلى مكانٍ ولو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب"!
ولا شك أنّ جميع الأمم تعرف أن هذا الماء يخرج من فرج الرجل أثناء الجماع، ولا شك أنّ جميع الأمم علمت أنّ للخصية دورًا في خروج المنيّ سواءً بكونها ممرًا أو مخزنًا للمنيّ حتى ولو لم يقفوا على أنّها محلٌ لتوليد المني، والدليل على معرفة كافة الأمم بما فيهم العرب بذلك تتحصل من عدة وجوه:
الوجه الأول: قد عُلم أنّ قومًا من الصحابة رضي الله عنهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في الاستخصاء، ونُهوا عن ذلك، وحديث ابن مسعودٍ –رضي الله عنه- في ذلك متفقٌ عليه(1)، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: "الحكمة في منع الخصاء أنه خلاف ما أراده الشارع من تكثير النسل"، وقال النووي رحمه الله: "تحريم الخصي لما فيه من تغيير خلق الله، ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان والله أعلم"!
الوجه الثاني: قد عُلم أن خصاء الحيوان Neutering كان ممارسةً معروفةً عند العرب وغيرهم من الأمم منذ القدم، مع تحريم بعض أهل العلم في الإسلام لخصاء الحيوان لغير مصلحةٍ لما فيه من المثلة وقطع النسل، إن عُلِم ذلك جزمنا أنّ معرفة علاقة الخصية بالماء الذي يكون منه النسل كانت معروفةً للأمم، فضلًا عن العرب الذين يعمل كثيرٌ منهم برعي الغنم، فضلًا عن العلم بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!
الوجه الثالث: أن كافة المدارس الطبية التي وُجدت في اليونان والإسكندرية ومصر القديمة، باختلاف أقوالها في محال توليد المني وتكونه أهو الدماغ أم نخاع العظم أم الدم أم جميع الجسم، كلها ذكرت أنّ الخصية ممر أو مخزن للمني، فضلًا عن أنّ منهم من جعلها مشاركةً في توليده ومنهم من جعلها مؤثرةً في تحديد جنس الجنين كما سيأتي في الرد على دعوى الاقتباس، والذي يرى الحجج التي بنى عليها هؤلاء استنتاجاتهم تلك مثل أن المني والدم يتخثران، أو أن الإكثار من الجماع يخرج دمًا في الاستدلال على الأصل الدموي للمني، أو في كون الحجامة خلف الأذن تُضعف الإخصاب لكونه يقطع الأوعية الدموية الحاملة للمني من المخ في الاستدلال على الأصل الدماغي للمني، من رأى مثل هذه الاستدلالات وأضعف منها، علم لا محالة أنهم علموا بدور الخصية في الإنجاب ولو كان هذا الدور مقتصرًا على الممر والمخزن!
فيتحصل من هذه المقدمة الأولى أنّ الآية الكريمة لا تنفي دور الخصية في خروج المني، بل لفظ "الخروج" يشير إلى أنّ المقصود أمرًا وراء المنظور المتبادر إلى الأذهان كما قال ابن عاشور رحمه الله، خصوصًا وكافة الأمم كانت تثبت للخصية والفرج دورًا في خروج المني، والمجبوب الذي عدم الذكر والأنثيين –أي الخصيتين- يستحيل عند أهل الفقه أن يكون له ولدٌ ولو جاءته امرأته بولدٍ فلا يُنسب إليه!
المقدمة الثانية: العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق!
هل الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية؟
الجواب العلمي هو: لا، وهذا مشتهرٌ لا خلاف فيه، والدليل أنّك قد تجد المرء مصابًا بانعدام الحيوانات المنوية Azospermia ومرد ذلك إلى أسبابٍ غير متعلقةٍ بالخصية Pre-testicular azospermia وهي حالاتٌ نادرة الحدوث لكون الخلل في هذه الأعضاء نادرًا في الجملة (2)، ومن النادر أن يظهر هذا الخلل في هذه الأعضاء في صورة انعدام الحيوانات المنوية فحسب! فالمقصود أنّه ليست الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية حصرًا! هناك أعضاء غير الخصية تؤثر في تكوين المني وخروجه، والعلم لا ينفي أن يكون هناك دورٌ للعظام، وليس المقصود هنا أن نبحث عن إعجازٍ علمي في القرآن –كعادة إخواننا في جواب كل شبهة- حتى تسألني عمن يقول بأن للعظام دور، وإنما المقصود بيان أن العلم الطبيعي لا يثبت للخصية دورًا حصريا في توليد المني!
ولو أنّ العلم الطبيعي سكت عن دور العظام في توليد المنيّ لكان هذا رافعًا للتعارض، لأن الشرع لم يُثبت شيئًا نفاه العلم الطبيعي، لو وقفنا عند هذا الحد لكان كافيًا (3)، غير أننا نجد أن العلم الطبيعي يحمل لنا ما يُستأنس به في هذا الصدد، ففي جورنال البحوث الإكلينيكية The Journal of Clinical Investigation ذي معامل التأثير 13.765 في سنة 2013م، نُشر بحثٌ عن هرمونٍ ينتج من الخلايا العظمية Osteoblast-derived hormone واسم هذا الهرمون هو Osteocalcin يقترح أنّ له دورًا في تنظيم الخصوبة في الإنسان من خلال محورٍ هرمونيٍّ يشمل البنكرياس والعظم والخصية Pancreas-bone-testis axis، نُشِر هذا البحث في مايو 2013م، وقام بحثهم على دراسة تعرضية Cohort study لمجموعة من الذكور المصابين بفشل أولي في وظائف الخصية Primary testicular failure، فوُجد أن اثنين منهم سبب مشكلتهم هو خلل في هذا الهرمون، ويمكن مراجعة هذا البحث ومراجعه من العاشر حتى الثالث عشر للوقوف على حقيقة ذلك! (*)
من المقدمة الأولى والثانية يظهر أنّه لا يلزم من وصف الماء الدافق بأنّه يخرج من بين الصلب والترائب نفي كونه يخرج من الخصية، كما لا يلزم من وصف الكلام بأنّه من اختراع دماغ المتكلم نفي كونه من مخرجات اللسان وأعضاء النطق، خصوصًا إذا استحضرنا أنّ المتكلِّم والمبلِّغ والمخاطبين جميعًا يعلمون دور الخصية في خروج الماء الدافق والإنجاب! فإنْ وقفنا عند هذا الحد كان الوصف بأنّ الماء يخرج من بين الصلب والترائب، زيادة علمٍ لا تنفي العلم الثابت بعلاقة الماء بالخصيتين، وبالتالي فزيادة العلم هذه مصدر ثبوتها هو الوحي، ولا يوجد من العلم الطبي ما ينفيها، وعليه فلا يوجد تعارض بين ثابتٍ من الشرع وثابتٍ من العلم الطبيعي، لأن الثابت من الشرع لا ينفيه شيءٌ من العلم الطبيعي، بل يوجد في المقالات العلمية المنشورة حديثًا ما يُستأنس به، ووجود مثل هذه المقالات يجعل المبادرة بالجزم برفض هذا العلم الزائد الثابت بالنص الشرعي ليس فقط تهجمًا لنفي ما لا ينفيه العلم الطبيعي، بل تهجمًا على نفي ما يلوح في الأفق بوادر من العلم الطبيعي في اتجاه إثباته.
سؤال: لم اختِير أن يوصف الماء الدافق بأنّه يخرج من بين الصلب والترائب على وجه التحديد؟!
ذلك لأنّ طبيعة الماء الدافق تنافي طبيعة العظام الثابتة، فالذي أخرج الماء السائل من هذه العظام القوية الصلبة صلابة حروفها القوية المقلقلة "الصلب" و "الترائب"، والذي أخرج هذا الماء الجاري من عظام الظهر والصدر وهي أقل عظام الجسم من جهة نطاق الحركة مقارنةً بعظام اليدين والرجلين، الذي أخرج هذا الماء الدافق من بين هذه العظام الصلبة قليلة الحركة، لقادرٌ على أن يرجع الإنسان مرةً أخرى يسعى لمحشره، بعد أن حواه جوفُ الأرض ساكنًا لا حياة فيه! ولذا عندما ينظر الإنسان مم خلق، سيعلم أنّ الله على رجعه قادر!
ــــــــــــ
(*) قلتُ (فارس): يقول الألوسى فى تفسيره: " هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه ".. (روح المعانى)..
فيكون المعنى هنا أن العظام هى السبب الأولى فى تكوين الحيوانات المنوية على اعتبار أن الصلب والترائب كناية عن العظام.. فذكر البعض وأراد الكل.. كما فى قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) والمقصود العالم يقول الزركشى (فعبر بالأرض والسماء عن العالم.. لأن المقام مقام الوعيد.. والوعيد إنما يحصل لو بين أن الله لا يخفى عليه أحوال العباد حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم.. والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض بل من العالم.. فيكون المراد بالسماء والأرض العالم.. إطلاقاً للجزء على الكل) كما فى البرهان فى علوم القرآن.. وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن للعظام دوراً فاعلاً فى إنتاج الحيوانات المنوية.. حيث يحفز بروتين العظام أوستيوكالسين الخلايا البينية فى الخصية لافراز هرمون التستوستيرون اللازم لبناء المنويات (الحيوانات المنوية) فى خلايا الخصيتين ..
وعليه فمن الجائز - بهذا الاعتبار - أن يكون فى قوله تعالى (يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) إشارة ضمنية لدور العظام فى إنتاج المنويات.. وغنى عن البيان أنه أراد بقوله تعالى (خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) السلالة أو الحيوانات المنوية لقول النبى عليه السلام (ما من كل الماء يكون الولد)..
تعليق