إشكالية الاقتصار على أئمة الأمصار
د.أحمد الشامي
20-8-2024م
د.أحمد الشامي
20-8-2024م
لا يخفى أن القرآن الكريم متواتر، وتواتر القرآن الكريم يختلف عن تواتر القراءات، لأن جميع القراءات (العشرة المتواترة+ الأربعة الشاذة الصحيحة) متفقون على نفس السور والفقرات والآيات والكلمات (إلا حرف جر"من" مرة، وضمير الغائب"لهو" مرة) ، وإنما وقع الاختلاف في التنقيط والتشكيل.
وقد أحصيت حالات الاختلاف في سورة البقرة في التنقيط فكانت 55 مرة شاملة ما ثبت بسند صحيح أو نقل بسند ضعيف أو نسب للقارئ بغير سند أو نسب لغير أحد بغير سند فقيل "قُرئ" ، وما صح منها كان 28، وبقسمة الرقمين على عدد حروف سورة البقرة يصبح الاختلاف الثابت هو 0.02% في التنقيط، أو 0.08% شامل الثابت وغير الثابت، ليصبح متوسط نسبة الاتفاق في التنقيط ما ببن 99.98% إلى 99.92% .
ونفس الحال قمت بإحصاء الاختلاف في التشكيل (غير شامل التشكيل الصرفي لكونه لا علاقة له بالمعنى) ، يتراوح الاختلاف في سورة البقرة سواء الثابت أو غير الثابت ما بين99.8% إلى 99.2 %.
وقد قمت بإحصاء حالات الاختلاف بين القراء من البقرة للإسراء، ووجدت أنه في مواضع الاختلاف ، عند حدوث اختلاف ثنائي أو ثلاثي إلخ، فإن 15 قارئ على الأقل يتفقون في وجه واحد على الأقل، هذا في 100% من الحالات، وفي 55% من الحالات اتفق 24 قارئ على أحد أوجه الاختلاف.
وحيث أن المسلم غير ملزم بمعرفة كل الـأحرف ، فيكفيه من (فتبينوا ، فتثبتوا) أن يعرف وجهاً واحداً، فإن إثبات تواتر أحد الوجهين كافٍ.
يساعد في التأكد من ذلك أن لدينا 75 تابعي وصلنا القرآن كاملاً من طريقهم، وعنهم 95 من تابعي التابعين، ومفتاح معرفة من قرأ بماذا هي عبارة ( وقرأ الباقون) ، فعندما يقول الهذلي ( قرأ عاصم والكسائي بكذا...وقرأ الباقون بكذا) فلا يقصد بالباقين أي باقي السبعة ، وإنما باقي من وصله القرآن من طريقهم وذكر هو أسانيدهم في بداية كتابه.
وبهذا يتضح الفارق بين تواتر القرآن الكريم وتواتر القراءات العشرة، ولهذا أنا دائماً أطلب أن يأتي شخص بحرف وقع فيه اختلاف ونحن نعجز عن إثبات تواتر أحد وجهي الاختلاف على الأقل.
ويجب أن ينتبه القارئ الكريم إلى أن مسألة التواتر والشذوذ ديناميكية، فيمكن لقراءة أن تنتشر (تتواتر) لفترة كانتشار قراءة أبي عمرو في مصر إلى القرن العاشر الهجري، ثم تختفي (تشذ) وتنتشر غيرها، فلا ينبغي للمسلم أن يكلف نفسه ولا أن يتصور المخالف أنه من واجبات المسلم أن يثبت تواتر كل قراءة ، يكفي وجهاً واحداً.
فلو لم نتمكن من إثبات تواتر قراءة ابن عامر جدلاً، فهذا لا يضر، فالقراءة يمكن أن تتواتر ثم تشذ حسب نشاط القارئين بها.
وينبغي أن يعلم القارئ أننا لا نتكلم هنا عن موثوقية نسبة القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نناقش في درجة الثبوت، هل هي عالية جداً أم عالية جداً جداً ، ولا نناقش هذا بخصوص السور والآيات والفقرات والكلمات والحروف، وإنما بخصوص 0.02% من التنقيط و 0.2% من التشكيل فقط، والنقاش بخصوصه ليس في ثبوته عن رسول الله وإنما في درجة قوة الثبوت، هل هو ثبوت عالي أم ثبوت عالي جداً، ومن باب أولى يجب أن ينتبه القارئ أننا لا نتكلم عن التحريف، هذا لا قدرة لأحد على ادعاءه فضلاً عن إثباته، وما ينبغي لهم وما يستطيعون.
ثم الكلام في هذا الحيز الضيق من هذا الوجه هو ليس في جميع مراحل الإسناد، وإنما في الطبقة التي بين إمام القراءة والصحابي، فبعض القراءات لا نجد فيها بين الإمام (كابن كثير مثلاً) و الصحابي (كابن عباس) سوى شخص أو شخصين ( كمجاهد ودرباس)، وهذا ليس بتواتر في تلك الطبقة، أما في باقي الطبقات فالتواتر حاصل.
لحل هذا الإشكال يلزمنا معرفة سبب هذا التصرف، لماذا اقتصر ابن كثير على مجاهد ودرباس، مجاهد إمام كبير، وقد أخذ القراءة عن ابن عباس، فهل يتصور أنه الوحيد الذي أخذ القرآن عن ابن عباس؟ يقيناً لا، ولدينا الكثيرون قد أخذوا من ابن عباس غيره بالفعل، إذن ما قرأ به مجاهد لم يتفرد به، فلماذا اقتصر عليه ابن كثير؟ هل يعقل أن ابن كثير يختار القراءات هشة الثبوت ويقرأ بها؟ لو كنتُ أنا مكانه لما فعلت، فكيف وابن كثير إمام الإقراء بمكة كلها، فيقيناً لم يقتصر ابن كثير على مجاهد لعلة أنه لم يجد غيره ، ولا لعلة أنه لم يقرأ بهذه القراءة عن ابن عباس غيره، فلم يبق إلا أن يكون قد فعل ما نفعله جميعاُ إلى اليوم، أننا نختار أفضل من يقوم بتعليم القرآن الكريم ونتعلم منه، لا لكونه الوحيد الذي يعرف القراءة، وإنما لتميزه.
من هنا نكتشف أنهم يعاقبون ابن كثير على أخذه القرآن من أفضل المتخصصين، ويتعبرون هذا التصرف طاعن وقادح، ولو أنصفوا لكان العكس.
إمام القراءة ليس كراوي الحديث، فإمام القراءة لا ينال الإمامة إلا برضى الناس، فالإقراء في المسجد والصلاة وتعليم الناس القرآن شرط فيه أن تكون مرضياً في أعين الناس، بخلاف رواية الحديث.
فإذا انضاف لهذا أنك صرت إماماً في بلدة في زمن أئمة كبار يقتدي بهم الناس كالصحابة، فهل نتوقع أن الناس سترضى منك أن تقرأ بما خالف ما تعلموه من الصحابة الأحياء بالفعل ؟
لقد كان ابن كثير إماماً لأهل مكة في القراءة في زمن الصحابة ، فلن يكون مرضياً عنه (إماماً) إلا إن وافقهم.
وبناءاً عليه فالقاعدة الواردة بالصورة صحيحة عقلاً، وسأقدم بعض النماذج العملية التي تثبت هذه الصحة العقلية:-
[1] ابن عامر يصرح بأن قراءته قراءة أهل الشام:
«حدّثنا عبد العزيز بن محمّد أنّ عبد الواحد بن عمر حدّثهم، قال: حدّثنا محمد بن جرير، قال: حدّثنا العبّاس بن [20/ و] الوليد، قال: حدّثني عبد الحميد بن بكار قال: حدّثنا أيّوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر أن هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها.» ([1])
حدّثنا هشام بن عمّار، قال: حدّثنا سويد بن عبد العزيز وأيّوب بن تميم القارئ عن يحيى بن الحارث الذماري أنه حدّثهما عن عبد الله بن عامر اليحصبي «4» أنه كان يقرأ هذا «5» الحروف ويقول: هي قراءة أهل الشام.([2] )
[2] ارجع إلى قراءة قومك
لما قرأ ابن كثير حرف مخالف لأهل مكة الذين هو أمام الإقراء فيهم نهاه الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير وأمره بأن يلتزم قراءة أهل مكة:
«حدّثنا فارس بن أحمد قال: حدّثنا عبد الله بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن موسى، قال: حدّثني الحسين بن بشر الصوفي قال: حدّثنا روح بن عبد المؤمن، قال: حدّثنا محمد بن صالح، قال: قرأ عبد الله بن كثير في بيت شبل وثمّ يومئذ عدّة من القرّاء: أو من وراء جدر «3» [الحشر: 14] فناداه ابن الزبير «4»: ما هذه القراءة؟ ارجع إلى قراءة قومك، قال: إني لما هبطت العراق خلطوا عليّ قراءتي، قال: فقال: أو من وراء جدار «5»
وبالفعل قراءة جدار هي قراءة المكيين (ابن عباس؛ مجاهد ؛ ابن محيصن؛ ابن كثير) وأيضاً قراءة تلميذ الحجازيين "ابو عمرو" الذي كان يختار قراءة الحجازيين على من سواهم.
[3] خرج عن إجماع أهل بلده فرغب الناس عن قراءته
يقول ابن الجزري:
«وقال ابن مجاهد: كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية فخرج به عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته وأجمعوا على قراءة ابن كثير لأتباعه(([3]
ويقول أبو الحسن السخاوي:
«قال ابن مجاهد: ذكر لي أحمد بن أبي خيثمة، عن خلف، عن عبيد، عن شبل بن عبَّاد، قال: حدثني حميد، قال: قال مجاهد: ابن محيصن يبني، ويرصص في العربية، يريد مدحه بذلك، غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية، يخرج به عن إجماع أهل بلده. فرغب الناس عن قراءته لذلك. وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه([4])
[4] وجود ما يسمى ب(القراءة على أهل المدينة)
لأهل المدينة قراءة يقرؤها الناس عليهم ؛ يقول ابن مجاهد بسنده:
«وَقَرَأَ حَمْزَة أَيْضا على جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَقَرَأَ جَعْفَر على آبَائِهِ وقرءوا على أهل الْمَدِينَة( [5])
قال الإمام الهذلي:
]«رواية الكسائي وقُتَيْبَة عن أبي جعفر قال: قرأت على الذراع على المغازلي على بن باذان على بشر على عمر بن حفص المسجدي على الكسائي على إسماعيل على الكسائي على قُتَيْبَة، قال: قُتَيْبَة: قرأت على الكسائي، وقرأ علي أما أنا قرأت عليه اختياره وأما هو فقرأ هو علي قراءة أهل المدينة قال: المسجدي: قال: قرأت على قُتَيْبَة وأبا سليمان بن جماز برواية ابن فليح وأبي جعفر قراءة الذراع على ابْن شَنَبُوذَ على ابن سنان على الشيزري والإنطاكي على ابن جماز، وقرءوا كلهم على أبي جعفر قراءة شيبة([6])[
[5] لا يُقْرئ بشئ يبتدعه
يقول أبو الحسن السخاوي:
«وكان ابن كثير، رحمه الله، لا يقرأ، ولا يقرئ بشيء يبتدعه. لذلك أجمع الناس على قراءته، ورغبوا عن قراءة محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهْمى([7])
[6] أمال فتفرق عنه أهل مكة:
قال الإمام الهذلي:
«وحكى حديث أهل مكة حين قدم هارون الكسائي ليصلي بهم فقرأ سورة (والنجم) فأمال فتفرقوا من خلفه وشغبوا عليه([8])
[7]البلدة تقرأ بقراءة صحابتها:
«حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: " يَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ: " قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: قِرَاءَةُ أَبِي مُوسَى، وَاللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَأَمَرْتُهُ أَنْ يُغْرِقَهَا قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَيُغْرِقَنَّكَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَاءٍ. [قَالَ شَاذَانُ: فِي سَقَرِهَا "»
وأختم هنا باقتباسٍ لإمام هذا الفنِّ ، ابنُ الجَزَريِّ رحمه الله:-
[أوقفت عليه شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي : معذور أبو شامة حيث أن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحاً ، وإلاّ فكل أهل بلدة كانوا يقرؤنها أخذوها أمما عن أمم ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها]
منجد المقرئين ص67، ينظر : مناهل العرفان 1/445.راجع أيضاً :أسانيد ابن الجزري وموارده,ج2.صـ104.
[أوقفت عليه شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي : معذور أبو شامة حيث أن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحاً ، وإلاّ فكل أهل بلدة كانوا يقرؤنها أخذوها أمما عن أمم ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها]
منجد المقرئين ص67، ينظر : مناهل العرفان 1/445.راجع أيضاً :أسانيد ابن الجزري وموارده,ج2.صـ104.
ولا يتسدرك علينا بأن مسلم بن جندب الهذلي أقرأ أهل المدينة بالهمز بعد أن لم يكونوا يقرؤون بها، لأنه قد صح وجود الهمز عند قراء من المدينة كنافع وعن أستاذ الأستاذين أبي بن كعب المدني إمام أهل المدينة في القراءة والصحابي الجليل، صح عنه الهمز وصح عنه عدمه ، بما يعني أن الهمز لم يكن خافياً عن مجموع المدنيين وإن خفى عن جلهم، كما أن هذا أقصى ما يفيده جواز قلب المعادلة في باب طرق الأداء، بأن تكون قراءة أهل البلد قراءة إمامهم في الأشياء التي تخفى ، وهذا مشاهد إلى اليوم، فالناس لا تقبل من القارئ أن يقرأ بخلاف ما يعلموه أثناء الصلاة مثلاً، كأن يقرأ ( صوماً صمتا) بدلاًمن (صوماً) ، لكنهم يقبلون أن يقرأ " موسى " بالإمالة ولو جهلوها.
ولو كان الأمر كذلك لعاد الإشكال غير ذي بال، لكون الهدف هو إسقاط وثاقة النص، وطرق الأداء خارج نقطة البحث تلك.
ولا يُسْتَشكلُ بأن هذه القراءات هي اختيارات هؤلاء القراء، لأنه قد صح عنهم الإقراء بها نقلاً عمن سبقهم من الصحابة بدون اختيار بأسانيد للقرآن كاملاً، فلن يكون اختيارهم خارج طرق الأداء.
الخلاصة:
بما أن إمام الإقراء لا ينال الإمامة إلا برضى الناس، وبما أن الناس لن ترضى إلا بقراءة الصحابة الذين كانوا معاصرين للإمام، إذن قراءة الإمام قراءة أهل بلده، وهذا تواتر ضخم في الطبقة قبل الأخيرة.
[1] ) («جامع البيان في القراءات السبع» (1/ 245)
[2])) «جامع البيان في القراءات السبع» (1/ 245)
[3])) «غاية النهاية في طبقات القراء» (2/ 167)
([4] ) «جمال القراء وكمال الإقراء» (ص534 ط المأمون)
[5])) «السبعة في القراءات» (ص73)
[6]))«الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها» (ص171)
([7]) «جمال القراء وكمال الإقراء» (ص533 ط المأمون)
[8]) ) «الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها» (ص308)