فان قلتَ: فما تأويل قوله تعالى (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).. ؟!
قلتُ: تأويله هو قوله تعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)..
فالخلق هنا هو التطور أو التحول من حال إلى حال..
ولذلك يقول الإمام الطبرى فى تفسيره: " يقول: وقد خلقكم حالاً بعد حال طوراً نُطْفة وطوراً عَلَقة وطوراً مضغة وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ".. (جامع البيان)..

فان قلتَ: فما معنى قوله تعالى (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)..؟!
قلتُ: النطفة هى الماء القليل وفى لسان العرب (وبه سمي المني نطفة لقلته) أى تشبيهاً له بالماء القليل..
وأما العلقة فهى وصف لحالة تطور الجنين من النطفة الأمشاج والتى تشبه القطرة..
ويكون الجنين فى هذا الطور شبيهاً بدودة العلق وقد امتلأ دماً..
ولذلك يقول الإمام إبن كثير فى تفسيره (فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة)..
ويقول إبن عاشور فى تفسيره (ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص … من دم الأم بسبب التصاقه)..​
وخلايا الدم الحمراء الخالصة هى أول الخلايا المتخصصة التى يخلقها الله تعالى فى الجنين..

فان قلتَ: فما معنى قوله تعالى (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).. ؟!
قلتُ: المضغة هنا هى وصف لحالة تطور الجنين من العلقة..
والمضغة فى الأصل قطعة من لحم..
ولذلك جاء فى الحديث الشريف عن النبى عليه السلام (وإنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ مُضْغَةٌ مِنِّي) أى جزء منى..
وتبدو الكتل البدنية للجنين فى هذه المرحلة وكأنها قطعة من لحم ممضوغ..
ولذلك سمى الله تعالى هذه المرحلة أو هذا الطور (مُضْغَةً) وليس لحماً ثم أتبع ذلك بقوله (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)..

يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ".. (الحج: ٥)..
قلتُ: هنا نجد القرآن يدعو للتأمل والتدبر..
فقوله تعالى (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) يفيد التباين بين العناصر التى خلق الله تعالى منها الإنسان..
و(ثُمَّ) تفيد الترتيب مع التراخى..
فمثلاً لوتأملنا قوله تعالى (مِّن تُرَابٍ) فانها تشير إلى بداية خلق الإنسان من طين ولكنه ذكر هنا التراب فقط ثم أعقب ذلك بقوله (ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) ويُعبر بها عن ماء الرجل كما فى مفردات ألفاظ القرآن ثم أعقب ذلك بقوله (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهى الكيسة الأريمية إذا علقت بالرحم واستحالت فصارت على شكل العلقة مستطيلة أى على شكل دودة العلق ثم أعقب ذلك بقوله (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ) وهى الكتل البدنية بعد أن استحالت وصارت على شكل قطعة لحم غير منتظمة الشكل والتى تتمايز إلى قطاع عضلى وقطاع عظمى وقال (لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ) لأنه قال فى سورة المؤمنون (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) فبين سبحانه وتعالى هنا أن المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة حتى لا يظن أحد أن الله تعالى يقدر تكوين العظام من المضغة كلها ولا تكون مع ذلك أعضاء الجنين تامة الخلق بعد فى هذه المرحلة..

فأراد الله تعالى من خلال هذه الآيات الكريمة بيان طلاقة قدرته فى خلق الإنسان..

والنطفة الأمشاج هى البويضة المخصبة أو سلالة الرجل وقد اختلطت بنطفة المرأة..

وقد ذكر الإمام الرازى فى تفسيره عن مجاهد أن نطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء..

وقد سُميت النطفة كذلك لأنها تشبه الماء القليل أو القطرة فى شكلها..

يقول الله تعالى فى كتابه العزيز " أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ".. (القيامة: ٣٨-٤٠)..
قلتُ: سلالة السائل المنوى هى المسئولة عن تحديد جنس الجنين..
حيث تحمل الأم كروموسومات من نوع (X) فقط بينما يحمل الأب كروموسومات من نوع (Y) وكذلك من نوع (X) وتحديد جنس الجنين إنما يكون وفقاً للكروموسومات التى يحملها الحيوان المنوى ولذلك قال تعالى (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) فقال منه والمقصود هنا ماء الرجل..
ويطلق العرب لفظة (الماء) مضافة إلى شىء ما للإشارة إلى سيولته..
كقول إبن البيطار وهو يشرح طريقة عمل عصير الليمون: " ثم يُلقى عليه من ماء الليمون المصفى المعتصر على شىء من السكر ".. (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية)..​​
والولد إنما يتكون من المادة الوراثية الموجودة فى ماء الرجل وبويضة المرأة..
ولذلك يقول إبن القيم: " ومني الرجل وحده لايتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى ".. (التبيان فى أقسام القرآن)..

فان قلتَ: فما معنى قوله تعالى (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ).. ؟!
قلتُ: الراجح أن المراد بالعلق هنا هو الطين اللازب الذى يعلق باليد..
لأن ظاهر السياق يتحدث عن بدء خلق الإنسان من طين..
يقول المرتضى الزبيدى: " والعَلَقُ: كُلُّ ما عُلِّقَ وأيضاً: الطّينُ الذى يعْلَق باليَد ".. (تاج العروس)..
يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: " إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لّازِبٍ ".. (الصافات: 11)..
والطين اللازب هو: الطين اللاصق الذى يعلق باليد..
يقول الإمام الطبرى فى تفسيره: " إنا خلقناهم من طين لاصق.. وإنما وصفه جل ثناؤه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء... والتراب إذا خُلط بماء صار طيناً لازباً "..​