الداروينية والتنين المجنح: اختبار قابلية نظرية التطور للتخطئة
- في جراجنا تنين:
عنون كارل ساجان Carl Sagan بابا بهذا الاسم في كتابه (عالم تسكنه الشياطين The Demon Haunted World). ويستعرض تحته الفرق بين العلم والزيف من خلال مثال يدعي فيه شخص وجود تنين في جراج بيته، و أول سؤال يمكن أن يطرح على هذا المدعي هو: أرنا التنين؟
يقودنا الرجل المتحمس إلى جراجه، ويشير إلى الداخل فلا نرى سوى سلم وبعض الأغراض المبعثرة...
- فنسأله: أين التنين؟
- يقول: إنه هنا بالطبع، لقد فاتني أن اذكر أنه تنين خفي.
هنا يقترح أحد الحضور نثر الدقيق كي نمسك بأثار ذلك التنين الخفي .
- فيرد صاحب الجراج قائلا: هذه فكرة جيدة لكن ألا تعلمون أن هذا التنين مجنح طائر يسبح في الهواء.
- يقول آخر: إذن سوف نستخدم جهاز تحسس يعمل بالأشعة تحت الحمراء كي نتبين ألسنة النار الخفية.
- يرد صاحب التنين الخفي قائلا بثقة: لكن هذه النار باردة.
يمكننا أن نرش رذاذ الطلاء في كل أرجاء الجراج كي نجعل التنين مرئيا، هذا اقتراح آخر يمكنه أن يحل المسألة!
- يقول صاحب التنين الخفي بغضب: مع الأسف، هذا التنين غير مادي ولا يلتصق به الطلاء، ولا يترك أي أثر.
هكذا يمكن لهذا الرجل الواثق أن يرد علي كل اختبار يتم اقتراحه بمبرر خاص يجعل من هذا الاختبار غير صالح.
بهذه الطريقة التي تتم بها الإجابة على كل سؤال بالتحايل علي أدلة التفنيد يمكننا القول بأن فرضية وجود التنين unfalsifiable؛ أي فرضية غير قابلة لإثبات الزيف ولا يمكن اختبار مدى صحتها.
اختبار النظريات وقابليتها للتفنيد
النظرية العلمية هي مجال من العلم يصف ظاهرة معينة بغرض تفسير كيفية حدوثها، وتقديم مجموعة من التكهنات أو التنبؤات التي يمكن عن طريق تفنيدها واختبارها تقييم مدى صلاحية هذه النظرية، ومن ذلك فإن قبول النظرية العلمية يتوقف على مدى قابليتها للاختبار testability، وقابليتها للتخطئة falsifiability.
ويطلق عليها وصف (نظرية غير قابلة للتفنيد unfalsifiable) عند غياب التجارب والاختبارات التي من شأنها إثبات صحة هذه النظرية من عدمه، لذلك فإن معيار القابلية لإثبات الزيف وفقا لبوبر وأقرانه هو إظهار الفرق بين ما هو علمي وما هو زائف، وترسيم للحدود بينهما، واختبار النظريات هو مهمة العلماء المختصين بالتعاون مع فلاسفة العلم.
موقف العلم من الداروينية
تشير المراجع الفلسفية المختصة بدراسة العلم أن معظم الاحكام القياسية أساسها فيزيقي، حيث يمكن معرفة أسباب الظواهر بوضوح لا يشوبه أدني غموض باستقراء قوانين معينة كالديناميكا الحرارية والجاذبية وامثالها.
لكن في علم الحياة البيولوجيا تأبى الأمور أن تسير بمثل هذه البساطة إلا عند المستوى الخلوي الجزيئي، وجدوى التكهن لا تكون ملحوظة إلا في مجال البيولوجيا الوظيفية ومستويات أولية تعتمد قوانين التفاعلات البيوكيميائية .
وبينما يستطيع العلماء اختبار النظريات على أكمل وجه بوساطة التجارب في العلوم العملية، نجد أن الأمر مختلف في العلوم التي يستحيل فيها إجراء التجارب ويكون التكهن محدود القيمة في اختبار فرض معين، كما هو الحال في العلوم التاريخية .
وهذا هو حال علماء البيولوجيا منذ أمد بعيد في محاولتهم للإجابة عن ذلك السؤال حول حدث تاريخي فريد هو :كيف نشأت ملايين الأنواع الحية؟
لتقصي هذا الحدث لن يكون بمقدورهم الاعتماد على القوانين الكونية، ولكن يتوجب عليهم دراسة مجموعة من المشاهدات الإضافية التي قد تساعدهم في هذا الشأن، ومن ثم يوضع سيناريو تفسيري يمكن تسميته "حكاية تاريخية".
لكنه من غير الممكن التيقن من وقوع تلك الحكايات التاريخية، لأنها غير مشهودة، وأفضل ما توصف به فرص التكهن التي قد تتيحها هي أنها احتمالية probabilistic، وذلك لاستحالة رصد واختبار ما تتألف منه من أحداث، وإذا لم تكن متيقنا من المفاوضات التي أدت الى إبرام المعاهدة البريطانية المصرية بعام 1936م، فإن إعادة الحدث التاريخي هو اختبار غير متاح، ولا يمكننا في مثل هذه الحالة إجراء التجارب، واستدعاء المشاركين والشهود لتقدم الأسئلة نوع من الترف لأنهم في عداد الأموات، ولذلك لا يسعنا هنا سوي تقديم التكهنات، ومن هذا فباب التفنيد مفتوح أمام هذه الحكايات عن طريق الاختبارات المتكررة .
يدرك الباحثون أن الداروينية الحديثة تصنف جملة كنوع من الحكايات التاريخية، لاستحالة إعادة وقائعها من "البداية" وإخضاع أحداثها للرقابة والملاحظة المباشرة، فهي تغطي فترة عظيمة وغير مشهودة من التاريخ وقعت أغلب فصولها قبل وجود الإنسان، وفي أفضل حالتها لا يمكن للداروينية سوي تقديم مجموعة من التكهنات الاحتمالية -غير اليقينية- حول كيفية نشوء الأنواع، لأنها لن تتمكن يوما من إعادة أحداث تطوير حيوان ثديي من الزواحف لإثبات صحة الرواية التفسيرية المساقة (2).
كيف يختبر العلم نظرية الأصل المشترك؟
في عام 1837م رسم تشارلز داروين للمرة الأولى في دفتر ملاحظاته شجرة للحياة من شأنها أن تساعده في تفسير أصل الأنواع، وافترض أن كل الأنواع الحية على الأرض قد تحدرت من سلف مشترك، مرجعا ظاهرة التنوع الأحيائي الهائل الذي نراه اليوم إلى سلسلة طويلة من الانتواعات speciation، تباعدت خلالها الأنساب فيما بينها تدريجيا، لتكوّن تفرعات شجرية من النسل المتمايز سميت بشجرة تطور السلالات Phylogenetic tree.
بحسب النظرة البيولوجية يتكون الكائن الحي من صورتين متلازمتين في كيان واحد؛ هما الصورة الخبرية الجينية genotype، وتمثل في مكونات الحمض النووي الحامل للمعلومات، وهى بدورها المسؤولة عن ترميز وإنشاء الصورة الأخرى المظهرية .
ولذلك فإن الافتراض الرئيس للداروينية يزعم أن التشابه بين الكائنات الحية المختلفة هو بالضرورة نتيجة الميراث من سلف مشترك ، ويحتم ذلك وجود شجرة ترسم العلاقات التطورية من خلال الاستدلال بالتشابه في مصفوفات البيانات المورفولوجية (المظهرية) والجزيئية (محاذاة الأحرف الجينية أو متواليات الأحماض الأمينية ببروتينات محددة) بين الأنواع المختلفة.
وبناء على مدى التقارب بتلك المصفوفات يتم تسكين هذه الأنواع على شجرة الأنساب المفترضة ليمثل الجد أو السلف المشترك، الجذع الذي يتفرع منه أغصان شجرية تمثل النسل حيث تتموضع المجموعات ذات الصلة الوثيقة على مسافات متقاربة من بعضها البعض، وتبعد المسافات بين الأنواع على شجرة الأنساب هذه مع تباعد القرابة بينها، على غرار شجرة العائلة.
تنبؤات خائبة
يشرح بوبر من خلال عرضه لسمات النظرية العلمية أنه من السهولة بمكان أن نتحصل على براهين وإثباتات لكل النظريات تقريبًا إذا كنا نتطلع لمثل هذه الإثباتات، لكنها تظل بلا قيمة ما لم تكن متوافقة مع مجموعة من التنبؤات المجازفة التي تنير بصيرتنا في المستقبل لنتائج متوافقة.
ولذلك يتوجب على الداروينية أن تضع مجموعة من التنبؤات الخاصة القابلة لإثبات الزيف والاختبار، يمكن عن طريق تفنيدها تقديم نوع من الصلاحية لهذا الزعم والبرهنة على صحته.
ومن ذلك فإن بناء شجرة انتساب تصطف خلالها الأنواع الحية في تراتب من المجموعات الهرمية المتداخلة تدريجيا بالاستناد إلى مدى التشابه بينها كان بمثابة الكأس المقدسة التي طالما حلم أنصار التطور بامتلاكها، ويمكن اعتبارها التنبؤ الرئيس لنظرية الأصل المشترك وكما تذكر مجلة New Scientist ، فإن مفهوم شجرة الحياة كان مركزيا لفكرة داروين، على نفس قدر أهمية الانتقاء الطبيعي، ووفقا لعالم الأحياء فورد دولتيل W. Ford Doolittle فإنه بدون شجرة الحياة يمكن أن نعتبر نظرية التطور لا وجود لها .
"The tree-of-life concept was absolutely central to Darwin's thinking, equal in importance to natural selection, according to biologist W. Ford Doolittle of Dalhousie University in Halifax, Nova Scotia, Canada. Without it the theory of evolution would never have happened".(3)
ويخبرنا بيتر أتكينز Peter Atkins الكيميائي بجامعة أكسفورد في كتابه (إصبع غاليليو Galileo's Finger) بأن التنبؤ الفعال يحتم اتساق تفاصيل التطور الجزيئي مع التطور المظهري.
"The effective prediction is that the details of molecular evolution must be consistent with those of macroscopic evolution".(4)
لكن هذا التنبؤ كان مجرد ترف لم يتحقق قط، فالكأس المقدسة على حد تعبير إريك بابتيست Eric Bapteste باتت مجرد سراب بعدما كان يعتقد أنها قريبة من متناول اليد، وفي تعليقه على نتاج عقود من البحث عن شجرة الأنساب قال أنه لزمن طويل كان بناء شجرة للحياة بمثابة الكأس المقدسة، ولكننا لا نمتلك أية أدلة على أن شجرة الحياة حقيقية.
"For a long time the holy grail was to build a tree of life. We have no evidence at all that the tree of life is a reality."
وأضاف Bapteste: "يرقد مشروع (شجرة الحياة) اليوم في حالة يرثى لها، ممزقا إلى أشلاء بفعل هجمة من الأدلة السلبية، وكثير من العلماء اليوم يجادلون بأن مفهوم شجرة الحياة عفا عليه الزمن، ونحتاج إلى التخلص منه".
Today the project lies in tatters, torn to pieces by an onslaught of negative evidence. Many biologists now argue that the tree concept is obsolete and needs to be discarded.(5)
بدأت المشاكل في التراكم في وقت مبكر، بداية من تسعينيات القرن العشرين مع تقدم وسائل المقاربة وتوسع رقعة البيانات المرصودة، ولاحت بالأفق بوادر خيبة أمل حول تحقيق هذا التنبؤ الرئيس للداروينية.
ففي تقرير نشر عام 1993م بمعرفة الأقران المختصين، خلص إلى البيان التالي :
"عقد علم التشكل (الموفولوجيا ) آمالا عريضة على البيولوجيا الجزيئية، ولكن نهاية تطلعاتنا كانت محبطة؛ فالتوافق بين أشجار التطور الجزيئية بعيد المنال كما هو الحال في الموفولوجيا، وكما هو الحال بين الأشجار الجزيئية والمورفولوجية".
"As morphologists with high hopes of molecular systematics, we end this survey with our hopes dampened. Congruence between molecular phylogenies is as elusive as it is in morphology and as it is between molecules and morphology".(6)
"As morphologists with high hopes of molecular systematics, we end this survey with our hopes dampened. Congruence between molecular phylogenies is as elusive as it is in morphology and as it is between molecules and morphology".(6)
وتوالت بعد ذلك الخيبات عبر عشرات التقارير العلمية رفيعة المستوى، التي تخبر عن تناقضات فادحة خلال المقاربات الفيلوجينية لبناء العلاقات التطورية بين الأنواع المختلفة، ولم يثبت مرور الوقت إلا تفاقم الإشكالية أكثر من السابق، حتى خلص تقرير لجامعة كامبردج بعام 2012م لنتائج أكثر إحباطا، ولخص بعضا من تلك المشاكل:
"لقد أصبح التعارض بشجرة تطور السلالات مشكلة أكثر حدة مع ظهور المزيد من البيانات على نطاق الجينوم".
"Phylogenetic conflict has become a more acute problem with the advent of genomescale data sets."
"Phylogenetic conflict has become a more acute problem with the advent of genomescale data sets."
"سار التناقض بين أشجار التطور المستمدة من البيانات المورفولوجية مقابل التحليلات الجزيئية بمختلف المجموعات الفرعية يزداد انتشارا كلما توسع حجم البيانات في كافة الأنواع".
"Incongruence between phylogenies derived from morphological versus molecular analyses, and between trees based on different subsets of molecular sequences has become pervasive as datasets have expanded rapidly in both characters and species."
"Incongruence between phylogenies derived from morphological versus molecular analyses, and between trees based on different subsets of molecular sequences has become pervasive as datasets have expanded rapidly in both characters and species."
"التضارب والتعارض في شجرة تطور السلالات هو الحدث الشائع، القاعدة وليس الاستثناء".
"Phylogenetic conflict is common, and frequently the norm rather than the exception".(7)
"Phylogenetic conflict is common, and frequently the norm rather than the exception".(7)
وبعدما بات التعارض داخل مصفوفات الأشجار الفيلوجينية "phylogenies" الجزيئية والمورفولوجية وبينها أمرا مسلما به وعلى نطاق واسع، كان من المنتظر أن يؤدي هذا إلى الاعتراف بفشل تنبؤات الدراوينية حول شجرة الحياة، وبالتالي دفع الشكوك حول صلاحية النموذج التطوري برمته لتفسير تاريخ وأصل الأنواع، لكن كما سنرى فإن هذا لم يحدث وتم اللجوء لبعض الحيل.
الفرضيات الإضافية
وكأننا نتابع مشهدا دراميا من وحي الخيال، بطله فيلسوف العلم كارل بوبر يجلس في ركن قريب، يراقب عن كثب المسار التاريخي للنظرية الداروينية الحديثة ويدون ملاحظاته ليتخذها مثالا عمليا يحتذى به لتعريف العلم الزائف، حين يقر في معايير ضبط النظرية العلمية هذا الوصف:
"بعض النظريات التي هي حقا قابلة للاختبار، يصر أنصارها والمعجبون بها على التمسك بها، حتى حينما يثبت الاختبار أنها كاذبة، وذلك عن طريق وضع افتراضات إضافية مساعدة، وإعادة تفسير النظرية بما يوافق النتائج الجديدة للهروب من خضوعها للتفنيد، ومثل هذا الإجراء ممكن دائما، ولكن كل ما يمكنه تقديمه هو إنقاذ النظرية من عملية التفنيد والاختبار على حساب تدمير حالتها العلمية، أي تحويلها لنظرية غير قابلة للاختبار".
Some genuinely testable theories, when found to be false, are still upheld by their admirers—for example by introducing ad hoc some auxiliary assumption, or by reinterpreting the theory ad hoc in such a way that it escapes refutation. Such a procedure is always possible, but it rescues the theory from refutation only at the price of destroying, or at least lowering, its scientific status.(9)
Some genuinely testable theories, when found to be false, are still upheld by their admirers—for example by introducing ad hoc some auxiliary assumption, or by reinterpreting the theory ad hoc in such a way that it escapes refutation. Such a procedure is always possible, but it rescues the theory from refutation only at the price of destroying, or at least lowering, its scientific status.(9)
بعد اصطدامها بنتائج واضحة تفند تنبؤاتها وتثبت عدم جدواها لتفسير التنوع الحيوي أرغمت الداروينية على أن تحذو حذو صاحب التنين المجنح الخفي، ولجأ أنصارها لوضع بعض المبررات والفرضيات الإضافية لإنقاذها من الهلاك، وبسبب ذلك أصبحت النظرية غير قابلة للتفنيد وإثبات الزيف، ولم يكن أمام مسعفي الداروينية خيارًا آخر.
فقد كانت المفاضلة بين خيار فشل توقعاتها وخيار تحويلها إلى مجموعة من الفرضيات غير القابلة للتفنيد بمثابة المفاضلة بين بقاء جسدها تحت أدوات الإنعاش بسبب الموت سريريا، كحل وحيد أو ترك هذا الجسد ليصنف مباشرة في عداد الميت بيولوجيا.
علي سبيل المثال لا الحصر، تفترض الداروينية أن السمات المشتركة بين الأنواع هي نتاج تحدرها من سلف مشترك يحمل نفس السمات، فيما عرف بالتنادد homologous، وعليه يمكننا أن نتنبأ بتوزيع مصفوفات هذا التشابه بشكل هرمي متداخل سلس خلال شجرة حياة تمثل العائلة والقرابة، لكن على عكس التوقعات المأمولة ترصد المشاهدات الفعلية من خلال الفحص الفيلوجيني انتشارا واسعا لسمات مشتركة بين أنواع متباينة وبعيدة الصلة على أغصان شجرة الأنساب بصورة يستحيل معها إرجاع هذا التشابه إلى فرضية التوارث من سلف، فبينما كان من المتوقع أن نجد الحصان هو الأقرب من الأبقار والمجترات الأخرى جزيئيا، بسبب التشابه التشريحي والوظيفي والسلوكي بينهما، تخرج دراسات نشرتها وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم لتؤكد بأن الحصان أقرب وراثيا للخفاش منه للأبقار والأغنام ، ليصنع معضله عصية على الحل حول تناقض سمات التشريح والمورفولوجية مع السمات الجزيئية.(10)
وفي موقع أخر تتساءل ناشيونال جيوغرافيك تحت عنوان "How a quarter of the cow genome came from snakes" كيف انتقل ربع جينوم الثعابين إلى الأبقار؟
حين تلاحظ على نحو غير مسبوق وجود تشابه في أكثر من ربع جينوم الثعابين التي تنتمي إلى الزواحف مع جينوم الأبقار، التي تنتمي لفئة مختلفة تماما هي الثدييات، لتتناقض بشدة مع أشجار القرابة المزعومة وتنبؤات السلف المشترك، وكالعادة لم تعدم الداروينية من اختلاق المبررات والفرضيات الإضافية حتى لو بدت غير منطقية، لتضع مسؤولية هذا التناقض على كاهل بقة (حشرة) صغيرة مسكينة، زاعمين أنها نقلت هذه الجينات تكرارية النسخ المسماة بالترانسبوزونات transposons نقلا أفقيا Horizontal gene transfer، والذي يعني نقل المورثات أفقيا بين الأنواع بطرق شبيهة بالعدوى، وليس رأسيا بطريق التوارث من السلف المشترك، ومثل هذا الحدث شائع في بدائيات النواة، لكن لا يوجد أي سند علمي لإمكانية حدوثه في الكائنات الراقية أو مسؤوليته عن مثل هذه التطورات كما بالسناريو السابق، والتي قامت فيه البقة بنقل الجين القافز من الزواحف إلى سلف قريب للأبقار عن طريق العدوى بسبب امتصاصها للدماء من كلاهما.(11)
وعلى صعيد آخر ينتشر كم هائل من التناقضات بشجرة الأنساب مع توسع رقعة الرصد داخل جينومات الأنواع الحية كما تقر مجلة الطبيعة nature، وتضرب لنا مثالا محيرا حول تطابق أكثر من مائتي منطقة في كلا من جينوم الخفاش والدولفين، واستحالة مسؤولية السلف المشترك عن ذلك، لتعزي ذلك التشابه إلى فرضية إضافية أخرى سميت بالتطور التقاربي convergent evolution، والتي تزعم أن السمات المشتركة بين تلك الأنواع لم تكن متوارثة من سلف مشترك، بل أتت نتاجًا لتطور كلا النوعين بطريقة متقاربة وبشكل مستقل.(12)
شجرة الحياة... وفرضية التنين
ونتيجة ذلك تحولت الفرضية الأساسية حول شجرة الأنساب بفعل هذه المسوغات والتبريرات الإضافية إلى فرضية غير قابلة للاختبار والتفنيد unfalsifiable، وأفشلت الاختبار الوحيد المتاح لتفنيدها؛ وهو الاعتماد على التشابه بين الأنواع، وبعبارة أخرى يمكننا القول أن التطور يعتمد التشابه بين مورثات الأنواع المختلفة كدليل على السلف المشترك -إن كان متوافقا- داخل شجرة الحياة التي تم اختلاقها، وفي نفس الوقت فإن التشابه في الموروثات بين الأنواع التي لا تتوافق داخل تلك الشجرة يمكن تخطيه بالقول إنه نتاج تطور تقاربي convergent evolution، أو نقل جينات أفقيا Horizontal gene transfer، ومن ذلك يمكن القول باطمئنان أن شجرة الأنساب ليست علما، بل احتيالا مجردًا.
النظرية -----> التنبؤ -----> فشل التنبؤ-----> فرضية إضافية -----> نظرية غير قابلة للاختبار
خلاصة القول:
يمكننا وصف نظرية التطور بالهدف المتحرك، فمع كل اكتشاف يناقضها يتم نقلها بعيدا عن مرماه بحيث يمكن دفن الاكتشاف أو التحايل عليه، ولم يثبت العلم يوما أن نظرية التطور صحيحة، كل ما فعله هو إعادة تعريف نظرية التطور لتوائم الاكتشافات العلمية الحديثة، فالعلم يعدل باستمرار نظرية التطور لتتناسب مع البيانات الجديدة، ومن ثم يدعي أن تلك البيانات تناسب نظرية التطور.
لكن هذا ليس علما... بل خدعة بهلوانية متخمة بالعبثية. أو كما نطلق عليها بتسمية قد لا تروق للبعض: (تنين العلم المجنح).
يقول Richard Lewontin عالم الوراثة بجامعة هارفارد:
"التطور ليس حقيقة.. إنه فلسفة، يأتي المذهب المادي في المقام الأول كمقدمة بديهية، ومن ثم يتم تفسير الأدلة في ضوء هذا الالتزام الفلسفي غير القابل للتغيير".
"evolution is not a fact, it's a philosophy. The materialism comes first (a priori), and the evidence is interpreted in light of that unchangeable philosophical commitment".(13)
"evolution is not a fact, it's a philosophy. The materialism comes first (a priori), and the evidence is interpreted in light of that unchangeable philosophical commitment".(13)
(1) Carl Sagan, "The Demon Haunted World", The Dragon in My Garage, p165.
(2) Ernst Mayr, "This Is Biology: The Science of the Living World", Harvard University Press,1998.
(3) Graham Lawton, "Why Darwin was wrong about the tree of life", New Scientist, Magazine issue 2692, 21 January 2009.
(4) Peter Atkins, "Galileo's Finger: The Ten Great Ideas of Science", p.16, (Oxford University Press, 2003).
(5) Graham Lawton, "Why Darwin was wrong about the tree of life", New Scientist, 21 January 2009.
(6) Patterson et al., "Congruence between Molecular and Morphological Phylogenies," Annual Review of Ecology and Systematics, Vol. 24: 179 (Nov. 24, 1993).
(7) Liliana M. Dávalos, Andrea L. Cirranello, Jonathan H. Geisler, and Nancy B. Simmons, "Understanding Phylogenetic Incongruence: Lessons from Phyllostomid Bats," Biological Reviews of the Cambridge Philosophical Society, Vol. 87: 991-1024 (2012).
http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3573643/
(8) Laura Spinney, "Is life a tree - or more of a tangled thicket?", The Guardian, Monday 26 January 2009 .
(9) Karl Popper, "Conjectures and Refutations, Routledge and Kegan Paul", London, UK. Reprinted in Theodore Schick (ed., 2000), Readings in the Philosophy of Science, Mayfield Publishing Company, Mountain View, Calif.
(10) a) "Bats and horses get strangely chummy", Newscientist.com, 25 June 2006.
b) Z Chen & D E Ruffner, "Amplification of closed circular DNA in vitro", Nucleic Acids Res. Dec 1, 1998; 26(23): 1126–1127.
(11) Ed Yong, "How a quarter of the cow genome came from snakes", Nationalgeographic.com, Phenomena: January 1, 2013.
(12) Erika Check Hayden, "Convergent evolution seen in hundreds of genes", nature.com, 04 September 2013.
(13) Phillip E. Johnson, Defeating Darwinism by Opening Minds, InterVarsity Press, Illionis, 1997, p.
منقول من مقال أحمد يحيى من مجلة براهين