إنكار حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صغره(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره، ويستدلون على ذلك بأن شق الصدر يتنافى مع الطبيعة البشرية، كما أنه أمر خيالي غير معقول، ويدخل في باب تبديل سنن الله في خلقه، إن ثبتت صحته. وهم بذلك ينفون إخراج حظ الشيطان من قلبه - صلى الله عليه وسلم - بغية إنزاله منزلة عوام الناس، ونفي إرهاصات النبوة عنه في نشأته الأولى.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره من جملة ما كان من إرهاصات النبوات، شأنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شأن إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - وغيرهم من الأنبياء والرسل، وليس محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعا في هذا؛ إذ لا فرق في ذلك بين زمن وزمن، ولا نبي ونبي.
2) إن رواية شق الصدر ثابتة متواترة تواترا لا يدع مجالا للشك فيها، وفيها من الحكم كتطهير قلبه - صلى الله عليه وسلم - وتصفية نيته وسريرته، والتبشير بنبوته ما لم يدركه بعضهم؛ فراح يشكك في ثبوتها عن جهل بمقاصدها وحكمها.
3) إن في عزوف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ملذات الشباب ونزوات الصبا كسائر أقرانه من المجتمع المكي - ما يؤكد أن ثمة شيئا اختص به هذا الشاب (محمد صلى الله عليه وسلم)، فخلص به من حظ الشيطان، وهذا الشيء الذي اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما كان من شق صدره صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. لكل نبي من الأنبياء معجزاته، وشق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد هذه المعجزات:
إن قوانين المنطق - وإن تكن لها علوم تدرس - يشترك في فهمها جميع العقلاء، حتى البدوي في خيمته، والزارع في حقله، والذين ينكرون حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ينكرونها لأسباب ثلاثة؛ أولها: أنها تتنافى مع الطبيعة البشرية، وثانيها: أنها لا تدخل في معروف العقل، وثالثها: أنها تبديل لسنة الله.
- أما عن كونها لا تتناسب والطبيعة البشرية، فلنا أن نتساءل:
هل من الطبيعة البشرية أن يتكلم سيدنا عيسى - عليه السلام - وهو مازال في المهد صبيا؟! وهل من الطبيعة الإنسانية المألوفة إحياء الموتى وإبراء الأبرص والأكمه؟! فهؤلاء المشككون يؤمنون بأن عيسى - عليه السلام - إنسان وأن حياته حياة إنسانية، وفي الوقت نفسه يؤمنون بأن عيسى تكلم في المهد، وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.
وهل من الطبيعة البشرية أن يلقى الإنسان في النار فلا تصيبه بسوء، وإذا هي عليه برد وسلام؟! وهم أيضا يؤمنون بأن إبراهيم - عليه السلام - ألقي في النار وخرج منها سالما، وهو إنسان، وحياته حياة إنسانية! وقد أعطى الله لموسى - عليه السلام - تسع آيات: (العصا، واليد، والدم، الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والطمس، والبحر)، وألان الله الحديد لداود، وسخر معه الجبال والطير، فكانت تسبح بالعشي والإشراق إلى آخر هذه النماذج.
وإذا كان الأمر على نحو ما أسلفنا، فكيف يؤمنون بهذه المعجزات، ويكفرون بتلك؟! ثم كيف يتنافى شق الصدر مع الطبيعة البشرية الإنسانية المألوفة ونحن نرى الطب الآن يشق ما يشاء لا من الصدور فحسب، بل يشق ما يشاء من جسم الإنسان؟! وإذا كان هذا ثابتا في حق المخلوق؛ فهو في حق الخالق من باب أولى، فله سبحانه أن يشق صدور من شاء من عباده، ويخصه بما يشاء من المعجزات.
- أما القول بأنها لا تدخل في معروف العقل - بمعنى أن العقل لا يجيزها - بل يراها طائفة من المستحيلات،
فعنه نقول: إذا جاز لهؤلاء القدامى أن يعجبوا من ذاك الحادث ويخرجوا به عن مدركات العقل فإن شيئا من هذا ليس سائغا لنا أبناء العصر الحديث؛ فليس لنا أن نشك في شق صدره - صلى الله عليه وسلم - ونحن في زمن تقدم الجراحة وتفوق الجراحين.
ومثل عملية شق الصدر يقع كل يوم، ولو أن العقل يأبى شق الصدر، ويأبى جوازه لكان إباؤه لسائر معجزات الأنبياء، والعقل في حكمه على الأشياء بالاستحالة والجواز، لا يفرق بين نبي ونبي، فلا يفرق بين عيسى ومحمد كما لا يفرق بين محمد وموسى.
فإذا كان من المعروف للعقل معجزات موسى وعيسى وغيرهما، لم يكن من المجهول بالنسبة له مسألة شق الصدر يقينا؛ إذ لو عرف العقل تلك الخوارق للأنبياء، ولم يعرفها لخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عقلا، بل لكان وهما زائلا، وعاطفة غير مضبوطة، فلا بد للعقل أن يعرف هذه الخوارق فيؤمن بها كلها، أو يجهلها فينكرها، أما أن يعرفها لجميع الأنبياء و ينكرها لمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فشيء لا نعرفه ولا نرضاه من العقل، بل لا يرضاه العقل لنفسه ومعلوم أن هذه كتلك!
- وأما القول بأن هذه القصة تبديل لسنة الله، والله يقول:(ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)) (الأحزاب)،
فنحن نعلم أن هذه القصة لا تخالف سنة الله، ولا تبدلها؛ إذ إن هذه القصة ثابتة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث كونه رسولا لا من حيث هو إنسان فقط، فإن كانت سنة الله ألا يخلق الخوارق على أيدي الأنبياء الذين سبقوا محمدا، لأمكن أن يقال عنها إنها تأبى أن يخلق خارقة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وأمكن لهؤلاء أن يقولوا إن سنة الله التي لا تبدل تأبى شق الصدر، وأما إذا كانت سنة الله بخلق الخوارق جارية على أيدي الأنبياء السابقين، باعتراف هؤلاء واعتراف كل مؤمن بالأنبياء والكتب المقدسة؛ فإنها لم تكن لتحجب ذلك عن خاتمهم، ولم تكن لتبخل بها على أفضلهم.
وإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك بالفعل - وجب أن يقال: إن سنة الله تقضي بأن تقدم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ألوانا من هذه المعجزات، فتمنحه نصيبا كبيرا من هذه المنحة التي تفضل الله بها على سائر الأنبياء؛ عيسى، وموسى، وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء كثير، وغير شق الصدر من البشارات والمعجزات أكثر.
وأما لو قلنا إن سنة الله وهبت هذه المنحة كل الأنبياء قبل محمد، وقسمت عليهم من ذلك ما شاء الله، فلما أن جاءت عند خاتمهم وأعمهم دينا ودعوة حرمته ذلك الفضل حرمانا باتا؛ لكنا بذلك مخالفين لسنة الله مخصصين إياها، ولم نتركها على نمط واحد[1]. وهذا هو عين تبديل سنة الله، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وحاشاه أن يحدث، بمقتضى قوله سبحانه وتعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)).
ولعل ما أثاره هؤلاء حديثا كان له وجه من القبول أو المسوغات لو أثير قديما، أما في هذه الأيام فلا،
ومعلوم - كما يقول د. عبد المعطي قلعجي - أنه "قد تقدم العلم، والطب، والجراحة، والتخدير، والعمليات الجراحية صارت تجرى في غرف معقمة، وبوسائل مختلفة، وتقنية جد ماهرة، فأمكن للجراحين اليوم إجراء مختلف أنواع العمليات الجراحية في كل موضع من الجسم؛ بهدف استئصال الداء وطرحه حيث لم تعد تنفع الوسائل الطبية، حتى أمكن الآن استخراج القلب، وليس فقط معالجته، وأن يستبدل قلب تالف بآخر صحيح من إنسان مات حديثا، أو حتى بقلب صناعي، ثم تخاط طبقات الجسم، وتعاد، فلا يموت المريض!
كل هذا أصبح في استطاعة الإنسان، أفما يكون في استطاعة الإنسان المخلوق لا يستطيعه الله الخالق الذي يقول للشيء: كن فيكون" [2]؟!
ثانيا. إن رواية شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة صحيحة، رويت في مصادر عدة بطرق متواترة، ولها العديد من الحِكم:
يحسن بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة عند الأخبار الواردة في شق صدره - صلى الله عليه وسلم - فقد رويت في ذلك أخبار بعضها في خبر قصير، وبعضها الآخر في خبر طويل، ولا تخلو من زيادة في بعضها ونقص في الآخر، وإن كان المعنى الأصلي متفقا في الجميع، ولنذكر واحدا منها: فعن ثابت عن أنس بن مالك: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة[3]، فقال: "هذا حظ الشيطان منك"، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه[4]، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - ظئره[5] - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع[6] اللون، قال أنس: وكنت أرى أثر ذلك المخيط[7] في صدره»[8] [9].
"وكان أول ما شق صدره - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثالثة من عمره وقيل في الرابعة، وذلك لتطهيره، وإخراج حظ الشيطان منه" [10].
ولقد روت كتب السنة بالأسانيد الصحيحة، وروت كتب السيرة - كذلك - هذه الحادثة التي توجه النظر إلى عناية الله - عز وجل - برسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ طفولته المبكرة، وأن من مظاهر هذه العناية: أن يستخرج الله حظ الشيطان من قلبه منذ سنيه الأولى؛ حتى لا يسلك الشيطان إليه سبيلا.
وإن الله الذي شاءت إرادته - منذ الأزل - أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، أراد سبحانه أن يجعل منه المثل الكامل للإنسان الكامل، والإنسان يبدأ السير نحو الكمال بطهارة القلب، وتصفية النفس، والتوبة، والإخلاص، أو - بتعبير آخر - بشق الصدر واستخراج حظ الشيطان منه.
ولقد أرسل الله ملائكته، فشقوا عن صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستخرجوا حظ الشيطان منه، وملأوه سكينة وإيمانا وحكمة، ورأفة ورحمة؛ فكان - صلى الله عليه وسلم - رأفة على الصغير ورحمة للكبير[11].
ولقد كان في حادث شق صدره - صلى الله عليه وسلم - من الحكم والمقاصد ما علمها قوم؛ فجزموا بثبوته في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - آخذين في اعتبارهم ما سيكون له من شأن النبوة والرسالة، وجهل هذه الحكم وتلك المقاصد آخرون؛ فأنكروا هذا الحادث، مغفلين ما سيئول إليه أمر هذا الصبي وما هو معد له.
ويحسن بنا في هذا الصدد أن نجمل تلك الحكم من وراء هذا الحادث بما يعضد أهميته ويبرهن بشكل واضح على ثبوته، ومن تلك المقاصد ما يأتي:
تطهير قلبه، وخلوص نيته، وتصفية ميوله؛ إذ ليس الصبي محمد كغيره من الصبية، بل له من الشأن ما اقتضى أن يخرج عن جملة ما درج عليه سواه؛ ولما كان الأمر كذلك جاء شق صدره صلى الله عليه وسلم.
ولقد "سئل شيخ الإسلام أبو الحسن السبكي عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلبه - صلى الله عليه وسلم - حين شق فؤاده وقول الملك: هذا حظ الشيطان منك. فأجاب: بأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق فيه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئا.
هذا معنى الحديث، ولم يكن للشيطان فيه حظ، وأما الذي نفاه الملك فهو أمر في الجبلة[12] البشرية، فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب" [13]. يقول الشاعر:
وما أخرج الأملاك من قلبه أذى
ولكنهم زادوه طهرا على طهر
ولكنهم زادوه طهرا على طهر
وهناك معنى آخر، وهو أن قلب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوء بالرحمة، بل هو منبعها وأصلها، كما قال سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)) (الأنبياء)، وهذه الرحمة شاملة كاملة؛ لأنها رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولكن الله - عز وجل - أخرج الشيطان وأعوانه، وإخوانه، ومن قدر عليه الشقاء من هذه الرحمة، فلا نصيب لهم فيها، ولا شيء لهم منها، ويكون المعنى حينئذ أنهم أخرجوا من قلبه الشريف حظ الشيطان من رحمته، فلا حظ للشيطان في هذه الرحمة[14].
هذا، وحادثة شق صدره - صلى الله عليه وسلم - تنطوي على حكم؛ منها: تهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سيتحمله من أمر الرسالة، وعبء الدعوة، وذلك على مستويين:
الأول: الابتلاء بوصفه سنة من سنن الأنبياء، كما يقول العلامة ابن المنير: "وشق الصدر له - صلى الله عليه وسلم - وصبره عليه من جنس ما ابتلى الله تعالى به الذبيح وصبر عليه".
وأيضا فقد وقع له هذا الابتلاء وهو صغير يتيم بعيد عن أهله صلى الله عليه وسلم[15].
الثاني: تهيئته - صلى الله عليه وسلم - لما سيناط به من الدعوة، وما تقتضيه من سعة صدر، ونقاء حفيظة، فكأن قلبه - صلى الله عليه وسلم - غسل بالثلج والبرد والماء الممتلئ حكمة وإيمانا؛ ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها، فيكون في الدنيا أزهد، وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص؛ ولأنه كان له أعداء يتقولون عليه، فأراد الله تعالى أن ينفي عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق. كما قال عز وجل: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97)) (الحجر)، فغسل قلبه غير مرة، فصار بحيث إذا أوذي بشج رأسه - صلى الله عليه وسلم - أو كسر رباعيته - كما في يوم أحد - يقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»[16] [17].
وإذا كان الأمر على نحو ما أسلفنا؛ فلسائل أن يسأل: إذا كان لهذا الصبي من الشأن ما له، واقتضى ذلك أن يخلص قلبه من قابل قذف الشيطان فيه كسائر البشر، فلم خلق الله هذا القابل ابتداء في هذه الذات المحمدية وقد كان بوسعه - عز وجل - أن يخلقه أول مرة سليما من هذا الحظ معافى؟!
ونحن من جانبنا نقول له: إنه من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقه تكملة للخلق الإنساني ولا بد منه، ونزعه كرامة ربانية طرأت. "ولو خلق الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كذلك - أي مطهرا من ذلك القابل بالجبلة - لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته - صلى الله عليه وسلم - فأظهره الله تعالى على يد جبريل - عليه السلام - ليتحققوا كمال باطنه كما برز لهم مكمل الظاهر" [18]. ولكي يعيش - صلى الله عليه وسلم - على سبب بالملأ الأعلى، ويدرك أن له شأنا غير شأن لداته[19]؛ لذلك أوتي هذا الفضل على تلك الصورة الحسية.
قال بعض العلماء: الحكمة في شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم - مع القدرة أن يمتلئ قلبه إيمانا، وحكمة من غير شق -: الزيادة في قوة اليقين؛ لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه جميع المخاوف العادية؛ فلذلك كان - صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله عز وجل: )ما زاغ البصر وما طغى (17)( (النجم)[20].
إن المتأمل لإرادة الله وقدره يجده محض فضل فوق كل فضل، وعناية دونها أي عناية، ورعاية لم تكن لأحد سواه - صلى الله عليه وسلم - فأين ذلك كله من عناية الأب والجد والعم؟ بل أين رحمة الخلائق كلهم من رحمة الله عز وجل؟
وليس لأحد من سبيل أمام هذه الأحاديث الثابتة بتأويل لها، أو صرف عن ظاهرها؛ فالأمر الحسي فيها مقصود له - صلى الله عليه وسلم - بكل ما ورد في شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك مما يجب التسليم له، دون تعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "وشيء نستطيع استنتاجه من هذه الآثار مؤداه أن بشرا ممتازا كمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا تدعه العناية غرضا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس، فإذا كانت للشر موجات تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها، فقلوب النبيين - بتولي الله لها - لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي، لا في مقاومة التدني، وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته" [21].
ثالثا. في زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزوفه عن ملذات الشباب ونزواته ما يبرهن على خلوصه من الشيطان وإغوائه:
إن المتأمل المنصف لأخلاق النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، والواقف على تصرفاته؛ ليدرك بما لا يدع مجالا لتشكيك شاك ولا إنكار منكر أن هذا الشاب غير أقرانه، من حسن خلقه وعزوفه عن الشهوات، ولعل في تلك الحقيقة ما يؤكد ضمنيا ثبوت شيء غير عادي لذاك الشاب، وأسرع ما يتبادر للذهن في تفسير أخلاقه تلك وزهده ذاك هو حادث شق صدره - صلى الله عليه وسلم - في صغره، خاصة إذا استحضرنا ما أسلفنا ذكره من حكم ذاك الحادث ومقاصده من تنقية قلبه، وتصفية ميوله، وخلوصه من نصيب الشيطان.
ومعلوم أن شق صدره - صلى الله عليه وسلم - كان لإخراج حظ الشيطان منه، والدليل على تحقق ذلك أنه كان في شبابه بعيدا من حياة اللهو، والمجون في مكة، طاهرا من الآثام التي تدنس الشباب في مجتمعاتهم، وصدق قول السيدة آمنة بنت وهب - أم الرسول صلى الله عليه وسلم - حينما قالت: "والله ما للشيطان عليه من سبيل".
ولما شب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مكة تعج بمختلف أنواع اللهو، والفساد، والملاذ الشهوانية الدنسة، ولقد كانت حانات الخمر منتشرة، وكذلك بيوت الريبة، وعليها علامات تعرف بها، وكانت هناك المغنيات الماجنات والراقصات، وكان الشباب يتهالك على كل ذلك ويتهافت عليه، ولكن الله - عز وجل - برأ رسوله، واختاره من أكرم معادن الإنسانية وجعله بمنأى عن كل ذلك.
ولقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين"، أما هاتان المرتان فها هو سيدنا على يتحدث عنهما، فيقول سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما هممت بشيء مما كان عليه أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله - عز وجل - فيهما؛ قلت ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي: ألا تبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان"؟ فقال: بلى.
قال صلى الله عليه وسلم: "فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة؛ فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله، ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ماذا فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت.
ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعته تلك الليلة فسألت فقيل: نكح فلان فلانة؛ فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فوالله، ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني الله - عز وجل - بنبوته» [22].
لقد كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - شرحا مستفيضا، وتوضيحا كاملا، وتعبيرا تاما لما اتفق عليه العقلاء، وأجمع عليه أصحاب البصائر المستنيرة، أن ذلك من علامات الأنبياء[23].
وهكذا كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - حياة زكية طاهرة من الآثام التي تدنس الشباب في مجتمعاتهم، بعيدة عن الشرك، فلم يسجد لصنم قط، بعيدا عن معايب الجاهلية، ومفاسدها[24]. فهذا كله دليل على حفظ الله له ورعايته منذ صغره، وأن الحكمة من شق صدره كانت لإخراج حظ الشيطان منه، وذلك لتهيئته للنبوة، وعصمته من الآثام.
ولقد شب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب يكلؤه الله بحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها، لما يريد به من كرامته حتى صار أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما، وأمانة، وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى حتى سماه قومه "الأمين"، لما جمع له من الأمور الصالحة فيه، فلقد كان الغالب عليه بمكة "الأمين"، ولقد اختاره الله تعالى للرسالة، ولكنه اصطنعه لنفسه قبل أن يمنحه النبوة[25].
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان إرهاص مبكر بالنبوة، وإعداد للعصمة من الشرك وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك، فلم يرتكب إثما ولم يسجد لصنم، رغم انتشار ذلك في قريش.
وتحدث د. محمد سعيد البوطي عن الحكمة من ذلك، فقال: يبدو أن الحكمة من ذلك إعلان أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهيئته للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم.
إن إخراج العلقة من قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطهير له من حالات الصبا اللاهية العابثة، وتأكيد على اتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له، وأنه ليس للشيطان عليه سبيل كسائر لداته[26].
الخلاصة:
· حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة من المعجزات التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أيد غيره من الرسل والأنبياء بالمعجزات الدالة على قدرته، والعقل في حكمه على الأشياء بالاستحالة والجواز لا يفرق بين زمان وزمان، ولا بين مكان ومكان، كما لا يفرق بين نبي ونبي.
· إذا كان الطب الحديث قد توصل في عمليات جراحية بشرية إلى نقل القلب، واستبدال قلب آخر به أو حتى قلب صناعي ويعيش الإنسان بعدها، فكيف ننكر قدرة الله في شق صدر النبيـ صلى الله عليه وسلم - وهو القادر على ذلك؟! وهل يبعد على الخالق ما استطاعه المخلوق؟!
· لقد نقلت إلينا حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرق صحيحة متواترة لا سبيل إلى إنكارها، وهي من أدلة صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنها من تمام الرعاية الإلهية منذ صغره، وذلك لإعداده - صلى الله عليه وسلم - للنبوة، وتلقي الوحي من السماء.
· كانت هذه الحادثة مظهرا من مظاهر العناية الإلهية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك باستخراج حظ الشيطان من قلبه - صلى الله عليه وسلم - ثم وضع الرأفة والرحمة في قلبه، وغسله ليزداد طهارة على طهارته، وإيمانا على إيمانه، ويسمو إلى درجة لم يصل إليها أحد من البشر من الحكمة، والرحمة، والإيمان.
· لقد كان من نتائج هذه الحادثة أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يركن إلى المعاصي واللهو والعبث كغيره من شباب مكة، فقد عصمه الله من كل هذه السقطات التي تقلل من قدره وتحط من مكانته، وهذا خير شاهد على حدوث شيء خارج عن المألوف له، ذاك ما كان من شق صدره - صلى الله عليه وسلم - صغيرا.
(*) نقد كتاب "حياة محمد"، عبد الله بن علي النجدي القصيمي، المطبعة الرحمانية، مصر، ط1، 1354هـ/ 1935م.
[1]. نقد كتاب "حياة محمد"، عبد الله بن علي النجدي القصيمي، المطبعة الرحمانية، مصر، ط1، 1354هـ/ 1935م، ص35: 38 بتصرف.
[2]. دلائل النبوة، البيهقي، علق عليه: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج1، هامش ص138، 139 بتصرف يسير.
[3]. العلقة: الدم الغليظ المنعقد.
[4]. لأم: ضم بعضه إلى بعض.
[5]. الظئر: المرضعة لغير ولدها، ويقصد بها السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
[6]. المنتقع: المتغير.
[7]. المخيط: الإبرة.
[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السماوات وفرض الصلوات (431).
[9]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ط1، ج1، ص112، 113.
[10]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص24.
[11]. الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974، ص48، 49.
[12]. الجبلة: الطبيعة.
[13]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص31.
[14]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص35 بتصرف يسير.
[15]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص31 بتصرف.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب إذا عرض الذمي بسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يصرح (6530)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (4747)، واللفظ له.
[17]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص34 بتصرف يسير.
[18]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص31.
[19]. اللدات: النظراء.
[20]. مقدمات النبوة وإعداد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع معجزاته وخصائصه، يحيى إسماعيل، دار الوفاء، مصر، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص138.
[21]. مقدمات النبوة وإعداد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع معجزاته وخصائصه، يحيى إسماعيل، دار الوفاء، مصر، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص140، 141 بتصرف.
[22]. إسناده حسن: أخرجه البزار في مسنده، المجلد الأول، مسند علي بن أبي طالب (640)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ, باب بدء الخلق (6272)، وحسن إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقات صحيح ابن حبان.
[23]. الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974، ص53: 55 بتصرف.
[24]. انظر: دلائل النبوة، البيهقي، علق عليه: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص138.
[25]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص79، 80.
[26]. السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج1، ص67، 68.
موقع بيان الإسلام ..