الحمد لله رب العالمين وبعد
استشكل أمر القضاء والقدر على الناس، فمن غافلٍ عنه البتة، تائه عن آلاء الله وحكمته، إلى متواكلٍ أشبه بغنم الأضحية، يحتج به على قعوده منتطراً الفرج من الغيب دون أن يحرك ساكناً من جانبه. وفيما ينطلق الماديون فيما يحقق عمارة الدنيا وتدميرها على السواء، ينصرف آخرون عن تدبير أبسط الأشياء، كمن أصابه شلل تام. وبين ضفتي الفريقين أصناف من البشر وتباينات شتى تصل إلى حد عبث البعض بالحياة نفسها وازدرائها، ويرى هؤلاء أنه لا حاجة بهم إلى أية حاجة، وأنه لا قيمة لأي كلام أو فعل، ولا فائدة من التفكير العميق فضلاً عن التخطيط لشيء البتة، ويحكم هؤلاء قانون يقول: عش حياتك اليوم ولتمت غداً.
إن محور حديثنا هنا هو ذلك الإنسان، الذي يعتبر بحقٍ سيد الكائنات التي يقع عليها الحس. وبما أن إنجازات الإنسان هي المفتاح لتقويم أدائه ومدى نجاحه أثناء حياته، فإن أساس البحث كان منصباً على أفعاله التي تقع منه عن اختيار ووعي وإدراك، حيث إنّ ما وراء ذلك ليس عليه فيه حساب ولا ثواب ولا عقاب، يقول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): «رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل» (رواه الإمام أحمد).
وترد هنا جملة من الأسئلة المُشْكَلَة في أذهان الناس، نأخذها تباعاً: ألا تحكم مشيئة الخالق تبارك وتعالى تفاصيل أحداث الكون والإنسان والحياة؟ والجواب هو: بلى، إلا أنه سبحانه اختص الإنسان بقدرة على الاختيار إضافةً إلى تمييزه عن سواه بالفهم والإدراك. وهاتان الخاصتان، مجتمعتين -الفكر والإرادة- ترفعان الإنسان عن مستوى البهائم والجوامد، وتجعلانه مسؤولاً عن تصرفاته أمام الخالق والخلائق.
والخلاصة هي أن مشيئة الخالق منحت الإنسان القدرة على الاختيار، فكان الإنسان مأذوناً بالتصرف في ملك الله بحسب اختياره، ممنوح القدرة على الفعل والترك في مساحة واسعة، هي المنطقة التي يجري حديثنا عن أفعاله فيها.
وماذا لو تعارضت الإرادتان؟ الجواب هو: إنه لا محلَّ لذلك الافتراض؛ لأن إرادة الله شاملة كاملة نافذة حتماً، ولا تلزمها إرادة الإنسان بشيء، بل ولا يوجد محل للمقارنة أصلاً بين إرادة من خلق الكون وبين إرادة العاجز عن خلق ذبابة.
إذن فما هي أهمية أن يكون للإنسان إرادة، طالما أنَّ إرادته سبحانه وحده النافذة؟ والجواب هو أن الله تبارك وتعالى لا يُكرهُ الإنسان على فعلٍ جعل له القدرة على الاختيار فيه ورتب عليه حسابه، فذلك ظلم وقد نفاه سبحانه عن نفسه ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف 49] وفي الآية نسبة الأعمال لأصحابها بشكلٍ واضح. إضافةً إلى التأكيد على أن الله تعالى هو الذي قدَّر للإنسان الإرادة؛ ولذلك فهي داخلة ضمن ما أراده الله حتماً، يقول تعالى ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير 29] ولا يفهم من هذا الإجبارُ بحال، بل يعني أنه لا يقع في ملك الله شيء رغماً عنه، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يقع من دون علمه، إذ إنه قد أحصى كل شيء في اللوح المحفوظ، وليست مشيئة الإنسان نابعة من إرادة ذاتية مستقلة، إنما شاءها الله تبارك وتعالى.
ويأتي السؤال عن أمر تدوين الله سبحانه لكل ما هو واقعٌ في الكون، وبالتالي فإنه ما من امرئ إلا وينفُذُ فيه ما كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، فقد جاء في كتاب الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ [الحديد 22] وفي الحديث النبوي: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» (رواه مسلم).
والإشكال الوارد هنا: بما أنه لا يمكن تعديل ذلك المنصوص عليه في ذلك الكتاب، فإن النتيجة هي إلزام حتمي للإنسان بما جاء فيه، حيث إنه لا قبل له البتة على التغيير فيه؛ وعليه كان الإنسان مسيراً تماماً كالريشة في الفضاء تتقاذفها الرياح، وبهذا لا يبقى محل لإرادة الإنسان ولا معنى لحريته في الاختيار!
والجواب على هذا هو: إن اللوح المحفوظ يحوي على علم الله بالأشياء والأحداث والوقائع ظاهرها وباطنها وفي الكيفية التي تتم عليها، جاءت لتدل على أمر آخر غير ما توهمه هؤلاء، وهو أن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم حيث يقول سبحانه: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام 59] فالله جل في علاه يقر حقيقة هي أنه لا يغيب عنه شيء مما يقع في الكون، وأن على الإنسان أن يعكس اعتقاده هذا في تقواه لربه ومولاه، وقد عرَّف النبي الكريم الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك» (رواه مسلم).
وكي نزيل كل التباس متعلق بالموضوع، يكفينا استعراض ما هو مشاهدٌ في واقع الحياة، وبناؤه على ما سبق من مفاهيم محكمة، وربطها بشكلٍ سليمٍ؛ حتى يزول الغموض الذي يراود البعض.
كلنا يعرف أن راية الإسلام قد اكتسحت إمبراطوريتي فارس والروم في عهد الخلافة الراشدة، وأن دولة الإسلام قد هزمت الصليبيين والتتار في فلسطين، وأنه بعد أن هدمت الخلافة تمزقت الأمة الإسلامية واحتُلت حواضرها تباعاً، القدس وغروزني وكابول وبغداد. فهل لمعرفتنا تلك أي تأثير في قرارات النصر أو الهزيمة؟ الجواب هو بالتأكيد: لا.
هكذا نجد أن مجرد العلم بالشيء لا يلزم بالفعل، ولا أثر له عليه طالما انحصر في مجرد المعرفة. والمفارقة هنا هي أن الإنسان يحتاج إلى أن يقع الشيء حتى يتيقن من وقوعه، وتبقى تحليلاته مجرد تخمينات وتنبؤات إلى أن تتحقق فعلاً مهما كانت قوة الأدلة المشاهدة، إلا إذا ثبتت لديه بالدليل القطعي. أما بالنسبة لله تبارك وتعالى، وله المثل الأعلى، فإنه عالم الغيب والشهادة ولا يعوزه وقوع الحدث أو التنبؤ به البتة حتى يعلم بوقوعه كحالنا، فالماضي والحاضر والمستقبل لديه سيان. وهذا من عظيم شأنه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى 11].
وفي الخلاصة، إنه لا أحد من البشر يستطيع الادعاء بأنه اتخذ قراره على أساس أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، وإن حصل، فذلك ادعاء باطل لعدم إمكان أحد الاطلاع على ذلك اللوح، وإنما يأخذ الإنسان قراره بناء على اختياره هو، وبذلك فإننا نخلص إلى أنه لا صلة بين ما نصّ عليه اللوح المحفوظ وبين إلزام الإنسان بعمل ما، منحه الله القدرة على الاختيار فيه.
ويسأل البعض: لعلّ الإنسان غيّر رأيه فيما سيقدم عليه فيما هو مخيّر فيه، ولكن المكتوب في اللوح المحفوظ سيلزمه لأنه واقع حتماً، وإلا لنسب الجهل إلى الخالق وهذا محال، وبهذا يكون الإنسان مكرهاً!.. يغيب عن ذهن هؤلاء أن الذي كتب ذلك هو الله سبحانه، وهو ليس بغافلٍ عما يفكر فيه هؤلاء وعلى أي قرار سيرسون، فالحيرة والخيار تربك الإنسان وليس الخالق سبحانه، وبما أنه تبارك وتعالى احتفظ بعلمه لنفسه لحكمة يعلمها، ولا يسع أحد الاطلاع على ما كتب، فإنه لن يكون له تأثير على سلوكه، بل عليه أن يحسن طويته ويعزم أمره على الصدق مع ربه كي يكون سجله ناصعاً يرضي الله تبارك وتعالى، وبهذا يكون أثر اللوح المحفوظ من هذا الجانب على الإنسان غير وارد من حيث الجبر أو الإكراه.
إذن طالما أن هذا العلم لا يجبر الإنسان على فعله، فلماذا كتب الله تعالى كل شيء واقع في الكون، وما هي الجدوى من ذلك؟.. لا شك أن الحِكَم في ذلك كثيرة، ويكفي أن نضعها في سياق فهم طبيعة الإنسان لفهمها. فالرقابة على الإنسان هي الضابط الأول لأفعاله، ولولا ذلك لأمعن الإنسان في الأرض بكل الشرور من غير حسيب.
ولهذا امتدح سبحانه الذين يخشونه بالغيب، لما في ذلك من دلالة على قوة إيمانهم به، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك 12]؛ ولذلك فإن المسلمين هم أكثر من يلزمهم التنبه إلى هذا الجانب، سواء على صعيد الفرد أم الجماعة أم الدولة؛ ولهذا السبب بالذات نجد أن المجتمعات التي يقطنها المسلمون كانت الأكثر أماناً طيلة فترة تحكيم الإسلام. إذ إن إحسان تطبيق الإسلام يوفر عوامل الأمن والاستقرار والطمأنينة، وما مظاهر الاضطراب والقلق التي نشأت في الدولة الإسلامية سوى نتيجة الإخلال بنظام الحكم في الإسلام وعند إساءة تطبيقه، كما استفحلت الشرور تماماً بعد أن هدمت دولة الخلافة. هذا فيما نرى أن إحسان تطبيق النظام الرأسمالي يولد الفوضى والدمار والجريمة والاضطراب؛ ولذلك نرى أن الغرب يزرع مدنه بكاميرات تصوير على كل ناصية وفي كل طريق، حتى يأمن الناس الشرور والجريمة المستفحلة، كما هي حال العاصمة البريطانية لندن التي تعج بأجهزة المراقبة بشكل مهول.
من جانبٍ آخر فإن يقين الإنسان بعلم الله المتعلق بالغيب، وأنه لا يعوزه وقوع الشيء حتى يتنبه لحدوثه، فإن ذلك يساهم بشكل فعال بتمسك المسلم بوشائج دينه، مهما كثرت الصعوبات، وتبدلت وتغيرت الأوضاع، لعلمه أن الله رقيب عليم خبير. كما لا يقال آنذاك بأن الإسلام قد نزل على نبي في الصحراء قبل 1400 عام، وهو دين لا يمكن تطبيقه أو التمسك به أو إقامته الآن لعدم مواءمته العصر، نعم لا يمكن ذلك بحال؛ لأن التسليم بأن الله بكل شيء محيط، يعني أن المفاجآت والتطورات والتغيرات التي طرأت على الإنسان ليست بجديدة على الخالق سبحانه، وأنها كانت معلومة الحدوث حين نزل هذا الدين، وبما أن الرسالة قد تمت واكتملت وانقطع الوحي بعد وفاة النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يبقى هذا الإسلام كما نزل صالحاً لكل زمان ومكان، وما على من يريد أن ينساب في هذا الكون البديع بمحض اختياره مع الغاية من خلق الله له ليسلك طريق النهوض والارتقاء، إلا أن يسلك سبيلاً واحداً هو التمسك بدينه والثبات عليه.
كما أن إدراك الإنسان المسلم لهذه الحقيقة يقفل أبواب الشيطان التي تغري أهواء الإنسان بالنكوص عن درب الله بحجة ضغوط الواقع ومبررات الواقعية الانهزامية. هذا مع العلم أن الله تعالى قدر للحياة وللكون وللإنسان سنناً وقوانين مادية، ينبغي الوقوف عليها والتعامل معها بوصفها حقائق، لا يمكن إنكارها والتعامي عنها بحجة الاتكال على الله وانتظار طارئ من الغيب، بل إن هذا نقيض التوكل الذي محله القلب، كما أن زمن النبوات والمعجزات قد انتهى، ولم يتبقَ سوى تلك الحقائق الطبيعية والقوانين المادية إضافةً لمنهج الله تعالى المتمثل بالإسلام يضيء الطريق لكيفية عمارة الدنيا وتحقيق الطمأنينة للبشرية والسعادة في الدنيا والآخرة.
من هنا كان غياب مفهوم القضاء والقدر بتلك الرؤية الواضحة التي تربط التزام منهج الله بالأخذ بالأسباب المادية لإنجاز الأهداف وتحقيق المطلوب في واقع الحياة. لقد أدى انعدام وضوح ذلك المفهوم على وجهه الصحيح إلى خلل واضح في مسيرة الكثيرين، وتسبب في إخفاق وانتكاس كثير من الحركات والتكتلات الإسلامية في مشاريعها، لا سيما في القضايا الجوهرية، وعلى رأسها قضية الحكم والسلطان والتغيير السياسي.
فقد رأينا من يدعي إمكان إقامة سلطان الإسلام من خلال الديمقراطية، مع أن الإسلام يقوم على نقيضها، حيث يلزم الإسلام الأمة بتطبيقه ونبذ غيره قولاً واحداً، ولا يدع الإسلام للأمة أي اختيار في استبداله أو مزجه مع غيره أو التباطؤ في تحكيمه، حيث نص القرآن صراحة على ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء 65] والديمقراطية تجعل الخيار للناس، يحللون ويحرمون يبدلون ويغيرون في أنظمتهم وقوانينهم بحسب رغباتهم ومصالحهم.
وآخرون يرون الاستعانة بالقوى الاستعمارية الأجنبية لتغيير الأنظمة، مع أن تلك القوى هي سبب البلاء وأصل الداء، كما أن ذلك الفعل مخالف لصريح القرآن حيث قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة 1]، وطائفة ترى أن بإمكانها المشاركة في أنظمة جائرة ظالمة خاضعة للهيمنة الأجنبية مع أن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود 113]، فضلاً عن أن تلك الأنظمة لا تملك من أمرها سوى تنفيذ رغبات أسيادها، إضافةً إلى أنها جبلت على الشر والفساد ولا رجاء فيها.
ومنهم من يصوِّر إمكانية تحقيق الأمر من خلال طريق التدرج والمشاركة في الأنظمة الحالية مع أن الله تعالى حرم تطبيق غير الإسلام جزئياً أو كلياً حيث قال: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة 44]، فضلاً عن أن هذه الأنظمة قد ثبت بالأدلة الحسية القاطعة استعصاؤها على الإصلاح، ولا بد من تغييرها تغييراً جذرياً شاملاً.
وكم رأينا من اللاهثين في هذه السبل، رغم أنهم لا يجدون في منتهاها سوى السراب، ولا يحصدون منها سوى الأشواك، والعراق وفلسطين والجزائر نماذج واضحة على ذلك. وفضلاً عن بطلان تلك السبل ومرارة حصادها، فإن أصحابها قد أسقطوا من حساباتهم أن النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جسد رسالة الإسلام بوحي من الله تعالى قد أمضى أكثر من نصف فترة نبوته (13 سنة من أصل 23) في العمل لأخذ الحكم وإيجاد السلطان الحقيقي الذي مكن من إقامة دار الإسلام في المدينة المنورة. وليس معقولاً ولا مقبولاً إغفال تلك المرحلة الهامة من حياة النبي الكريم تحت أية ذريعة. وقد كانت أهم عناوين تلك المرحلة التي نقلت الدعوة من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين هي: العمل المنظم الدؤوب لكسب أهل القوة والنفوذ لحماية الدعوة ولإقامة الدولة الإسلامية الأولى. وخوض الصراع الفكري مع المجتمع والكفاح السياسي مع أرباب النظام الجاهلي بغية هدم العادات والتقاليد والأعراف والقيم والأنظمة البالية الباطلة، وكسب مؤيدين وأنصار لدعوته، شكلوا كتلة متراصة حملت قضية الإسلام وسعت إلى إقامته في الحياة. نعم هذه هي أهم معالم الطريقة النبوية، وهي السبيل الوحيد لتحقيق أي تغيير جذري شامل في أي مجتمع، وهو ما يتطابق مع عوامل التغيير الطبيعية في المجتمعات والأمم. وهكذا يكون الامتثال لسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاعة لله سبحانه وتعالى وأخذاً بسنن الكون في التغيير السياسي المبدئي الشامل.
بهذا يكون القضاء والقدر عامل قوة فعال في شخصية الإنسان، يشحذ الهمة وينير البصيرة، لا عامل ضعف وخمول، حيث يفتح الفهم الواعي الآفاق أمام الإنسان لتدبر آلاء الله والسير بحسب قوانينه في كونه وفي شرعه لنيل توفيقه ونصره، على عكس ما نرى من حال أقوام قد ركبهم اليأس، بعد أن وهن يقينهم بقضاء الله وقدره، فأغفلوا اطلاعه على كافة الأحداث وتدبيره لنصرة دينه وتوفيقه لمن يمتثل أمره، وكأنه ليس معنا وغير مطلع على أحوالنا، ما جعل هؤلاء القوم ينكصون على أعقابهم ويتعاطون مع الأشياء بدونية الغافلين، فارتكبوا الموبقات بذريعة التذاكي، وانقلبت عندهم المعايير فبات الأخ عدواً والعدو صديقاً. بينما تجد من يرى بنور الله ويعي أن الله سبحانه وتعالى معه يسمع ويرى، مازال متمسكاً بعهد الله وكأنه ظافر بالدنيا وما فيها، ويرى في كل ما يحدث حكمة لله يبتغيها لإظهار دينه وإتمام أمره، واقفاً على أحكام الله، يقلب وجهه تارة نحو الأرض وأخرى نحو السماء، منشرح الصدر لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة 32-33].
تعليق