الهداية إلى الضلال*
سوء التصور طريق إلى الحيرة:
الحائر لا بد أن يحتار في المسائل الفرعية إذا كان تصوره عن الأصل غير صحيح، فمناقشة قضايا الإسلام والتشكيك حولها، ومن ثم الدفاع عنها لا يجدي نفعا إذا كان الحائر لا يؤمن بالله!!، فإذا آمن الإنسان بالله لزم أن يكون إيمانه بالله الخالق إيمانا يليق بالله حسب ما جاء في القرآن الكريم وعلى لسان رسوله الكريم لتكون النتيجة سليمة..
هاذا جانب مهم، والجانب الآخر هو أن الحائر سيبقى حائرا إذا لم يهيء نفسه لقبول الحق، فشرط الهداية في الإسلام أن يشرح الإنسان نفسه للبحث عن الحق، ويتجرد عن الهوى والأحقاد، ويتبع الحجة الصحيحة التي توافق العقل السليم ، والمنطق القويم، فنقول إن الهداية والعناية الربانية مشاهدة في العالم الكوني ابتداءا من الذرات إلى أكبر الأجرام.
طريق الهداية:
يقول العلماء في عملية الرضاع أن كل شيء يتم بهداية، فتنمو الغدد التي تصنع اللبن أثناء الحمل , يدفعها إلى هاذا النمو مواد يفرزها المبيضان , وفي نهاية الحمل وبدء الوضع , تتلقى هاذه الغدد النخامية الموجودة في قاعدة الجمجمة أمرا بالبدء في صنع اللبن , وما يكاد الطفل يولد حتى يبحث عن ثدي أمه بهداية لا حد لها , وعملية الرضاعة عملية شاقة , إذ أنها تقتضي انقباضات متوالية في عضلات وجه الرضيع ولسانه وعنقه , وحركات متواصلة في فكه الأسفل , وتنفسا من أنفه , ويقوم الطفل بهاذا كله بهداية تامة من أول رضعة لساعة فطامه ، وقالوا : إن الرجل نفسه لا يستطيع أن يقوم بعملية الرضاع كما يقوم بها الطفل الذي لا يتجاوز عمره ساعات، فإذا ما التفت العقل ودرس الوجود كله بعمق , يرى ظاهرة الهداية والتوفيق في كل شيء , فهي ظاهرة تنتظم شؤون الكون كله من الالكترونات في الذرة , إلى الذرة , إلى العناصر , إلى الأرض , إلى الشموس , إلى المجرات بكل حوادثها إلى كل خلية من خلايا الحيوان , إلى كل جهاز من أجهزته , إلى كل حيوان من وحيد الخلية , إلى النحلة , إلى الإنسان قال تعالى : (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) تلك كلمة القرآن وهي كذلك كلمة العقل , وهي كذلك كلمة العلم , إن هداية بلا هاد غير مقبولة لا عقلا ولا علما إن الله ظهر باسمه الهادي في كل شيء , ومع ذلك ضل الكافرون عن الله , وأضلوا قلوبهم , وهم في ضلالهم مهتدون إلى طرق الضلال والزيغ , إذ أن الإنسان بما أوتي من إرادة واختيار , وبما امتحن به في هذه الحياة كأثر ناتج عن هاذه الإرادة , قد ركب تركيبا ظهر فيه اسم الله الهادي بما يتفق مع هاذه الحرية في الإرادة ومع هاذا الامتحان : (ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها , قد افلح من زكاها , وقد خاب من دساها)..(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى , فإن الجنة هي المأوى) .
كفار الأمس واليوم:
إن الكافرين قديما كانوا يعتبرون الدعوة إلى الله وتعليل كل شيء به نوعا من الافتراء والكذب والأسطورة قال تعالى : (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم , بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر).
والكافرون اليوم يعتبرون كل كلام غير كلامهم , لا يقوم على علم , بل تظهر منه رائحة الخرافة , أوفيه معنى الأسطورة ، إن التشابه الكامل بين الموقفين في القديم والحديث دليل على وحدة النفس البشرية , وإن كان المحدثون أكثر فلسفة وأزهى زخرفا , كما أن فيه دليل على نوع من الهداية إلى الضلال , قال تعالى: (وهديناه النجدين)، (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)..
هداية إلى الضلال:
إن في ضلال الضالين نوع هداية إلى الضلال , لأنهم حرموا أنفسهم الرؤية الصافية فشاهدوا الأمور معكوسة , وفي هداية المهتدين للحق المظهر الكامل للهداية التامة، وكما أن في هداية المهتدين دليلا على ظاهرة الهداية , فإن في هداية الضالين إلى طرق الضلال دليلا عليها, والكل يدل على أن هنالك ذاتا هادية، فآيات الله التي تدل عليه واضحة جدا في كل شيء , ولكن الاهتداء إليها يحتاج إلى إنسانية أكثر، وإلى أخلاقية رفيعة، وانشراح صدر، وإطلاق العنان للعقل والقلب أن يتفرغ لقبول الحق دون كبر أو عناد أو تعصب للغير، قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)..
أسباب الهداية إلى الضلال:
الكبر والغفلة عن آيات الله هما طريق الكفر , والخضوع للحق وقبوله واليقظة على آيات الله هي طريق الإيمان، فبمزيد من أخلاق الإنسان , وبمزيد من التأمل , وبمزيد من طلب الحق , يصل الإنسان إلى الله، فإذا قيل : إن المرجع في الهداية إرادة الله كما قال تعالى : (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) نقول : إن المرجع في كل شيء إرادة الله , وليس في ذلك عذر لمعتذر أو متعلل أو متهرب أو متحلل من المسؤولية كما قال الله : (إن هو إلا ذكر للعالمين , لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) ، وهاذا يعني أن مشيئة الله محيطة بكل شيء , ولاكن لا يعني هاذا إلغاء اختيار الإنسان ومشيئته كما قال تعالى : (يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام )، (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين)، . إن الله إذا أراد أن يضل إنسانا ظهر له في الوجود كله باسم المضل , حتى لم ير في آيات الله في كل خلقه ما يدله عليه : وكذلك في آياته في القرآن حتى لا يرى فيها آية تدله عليه , وليس في ذلك إجبار من الله له ؛ بل ذلك لأن الإنسان ذاته اختار الطريق الآخر كبرا وظلما , فصار يرى الآيات معكوسة , فما فيه حجة على الإيمان صار يعتبره حجة له على الكفر , وذالك كأثر من إحاطة هداية الله في الطريقين , والذي يتحمل المسؤولية هو الإنسان ذاته .
سنن الله في الهداية:
تعالى الله أن يُسأل تغيير ما سن من سنته , وعلى الإنسان أن يحقق ما طلب منه ضمن هاذه السنن ويقول الكافرون : إن الله قارد على أن يهدي الناس كلهم إلى ما يحب ؛ فلم لم يهديهم ؟ وإن الله قادر على أن يجعل العالم خاليا من كل شر ؛ فلم لم يفعل , يقولون هاذا حتى يقولوا أخيرا : كون العالم فيه ضلال وكونه فيه شر , فذالك دليلان على أن هاذا العالم ليس من صنع الله ويقولون للمؤمنين : ما دمتم تؤمنون بالقضاء والقدر , فما نحن فيه من انحراف قدره الله علينا ولا مخرج لنا من قدره , فهو المسؤول إذن ولسنا المسؤولين فلا تلومونا ألم يقل : (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء)، ونقول : كلمتهم هاذه قالها الكافرون من قبل , ورد عليهم القرآن أي رد : (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين , ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ).
نفس اللغة القديمة للكافرين استعملها كفار عهد الدعوة الأول , واستعملها كفار عصرنا الحاضر : (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)، ترى ما قيمة حجة المكذبين؟ يلاحظ في الرد القرآني أنه رماهم بالتكذيب لرسل الله صلوات الله عليهم , و أن بلاغ الرسل فيه الحجة عليهم .
مشيئة الله ومشيئة الإنسان:
إن الحيارى نظروا إلى عموم مشيئة الله ولم ينظروا إلى مشيئتهم , فأرادوا أن يقيموا الحجة على الله بكماله , فأقام الله عليهم الحجة بمشيئتهم التي استعملوها في غير طريقها الصحيح . إن ما كتب الله , وما علم الله , وما أراد الله , لا يسلب الإنسان اختياره , كلاهما خطأ عظيم أن نظن أن الله لا يعلم ما سيحدث , أو نظن بأن علمه بما سيحدث يسلبنا اختيارنا، فالعلم كاشف لا مجبر , وإذا كان علمه تعالى لا يسلبنا اختيارنا . فكذلك إراداته وكذلك قدرته , فالقدرة تبرز ما خصصته الإرادة والإرادة تخصص ما سبق به العلم إنه من الخطأ أن نفهم قوله تعالى : (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) ، بأنه يجبر على الهداية ويجبر على الضلال بل : (فلما زاغو أزاغ الله قلوبهم ) (قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها)، (إن هو إلا ذكر للعالمين , لمن شاء منكم أن يستقيم , وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)، إن إرادة الإنسان موجودة ؛ ولا يعني هذا أن هناك شيئا يكون خارجا عن إرادة الله , وعموم الإرادة الإلهية حق ؛ ولا يعني هذا سلب الإنسان حريته واختياره .
طريق الخلاص:
لقد خلق الله كل شيء , حسيا كان أو معنويا , ومن الأخلاق الفاسدة إلى الأخلاق الحسنة , إلى الإنسان , إلى الوجود كله , وأعطى كل شيء هدايته , فالكبر مهتد إلى طريقه , وكذلك الحسد , وكذلك الضلال , وكذلك كل نوع من أنواع الضلال , الشمس , وكذلك القمر . وبالنسبة للإنسان خاصة : ذاته , ونفسه , وجسمه , وكل شيء فيه مهتد إلى طريقه إذا ترك على سجيته ,ولكن هذا الإنسان بما أوتي من ملكات أهلته للتكليف , جعل الخير والشر له فتنة قال تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، ونتيجة لهذا فرض عليه أن يحاول التغلب على كثير من ميوله ورغباته وأهوائه وشهواته , وأن يكيف ذاته حسب هدى معين , حده له الوحي الإلهي , ليقوم بدوره على هذه الأرض ضمن طريق مخصوص . وعلى هذا فانحراف الإنسان عن هذا الطريق ضلال , وإن كانت فروع هذا الضلال من الهداية التي أعطيت لكل شيء في موضوعه قال تعالى : (وهديناه النجدين)، ولكن كون الإنسان يستطيع أن يتخلى عن هذا الضلال – ولو على حساب متعته – فإنه مفروض عليه أن يعمل كي يحقق معنى الابتلاء , ولذلك كان : "حفت الجنة بالمكاره , وحفت النار بالشهوات" .
----------------
* وضعته ردا على الحائر في موضوعه "أنا حزين جدا" ، وبعد قراءة الردود وردود الكاتب آثرت أن أضعه موضوعا جديدا...
تعليق