هل قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة كي يتزوج امرأته ؟
الحمد لله.
أولا :
الصحابي الجليل خالد بن الوليد سيف الله المسلول على المشركين ، وقائد المجاهدين ، القرشي المخزومي المكي ، أسلم سنة سبع للهجرة بعد فتح خيبر وقيل قبلها ، وتوفي سنة 21هـ ، وله من الفضائل الشيء الكثير ، ومن أهم ما جاء في فضائله :
1- عن أنس رضي الله عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال :
( أَخَذَ الرَّايَةَ زَيدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ) وَعَينَاهُ تَذرِفَانِ ( حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيهِم )
رواه البخاري (4262)
2- وعَنْ عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ :
( مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدِ بن الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ مُنْذُ أَسْلَمْنَا ) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/515) وأبو يعلى في "المسند" (13/274) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/350) : ورجاله ثقات .
ثانيا :
قد تعرض هذا الصحابي الجليل لحملات من الطعن والتشويه قام عليها بعض المستشرقين الذين يتلقفون كل رواية من غير بحث ولا تدقيق ، وقام عليها طوائف من الشيعة حقدا وغيظا من هذا الصحابي الذي أبلى بلاء حسنا في قتال الكفار ، وحماية الدولة المسلمة في عهود الخلافة الراشدة.
ومن بعض تلك الطعون القصة المشهورة في قتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته ليلي بنت سنان .
ومالك بن نويرة يكنى أبا حنظلة ، كان شاعرا فارسا من فرسان بني يربوع ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله على صدقات قومه .
وقد اتفقت الروايات التاريخية على قدر مشترك ، فيه أن مالك بن نويرة قتله بعض جند خالد بن الوليد ، وأن خالدا تزوج بعد ذلك زوجته ليلى بنت سنان .
وأما سبب قتل مالك بن نويرة وذكر بعض ملابسات ذلك الحادث فقد تفاوتت الروايات في بيانه ، إلا أن معظم قدامى المؤرخين الذين سجلوا تلك الحادثة ، مثل الواقدي وابن إسحاق ووُثَيمة وسيف بن عمر وابن سعد وخليفة بن خياط وغيرهم ، ذكروا امتناع مالك بن نويرة من أداء الزكاة وحبسه إبل الصدقة ، ومنعه قومه من أدائها ، مما حمل خالدا على قتله ، من غير التفات إلى ما يُظهره من إسلام وصلاة .
قال ابن سلام في "طبقات فحول الشعراء" (172) :
" والمجمع عليه أن خالدا حاوره ورادَّه ، وأن مالكا سمح بالصلاة والتوى بالزكاة " انتهى .
وقال الواقدي في كتاب "الردة" (107-108) :
" ثم قدَّم خالدٌ مالكَ بن نويرة ليضرب عنقه ، فقال مالك : أتقتلني وأنا مسلم أصلي للقبلة ؟! فقال له خالد : لو كنتَ مسلما لما منعت الزكاة ، ولا أمرت قومك بمنعها ." انتهى .
كما تواتر على ذكر ذلك من بعدهم من المؤرخين كالطبري وابن الأثير وابن كثير والذهبي وغيرهم .
وتتحدث بعض الروايات عن علاقة بين مالك بن نويرة وسجاح التي ادعت النبوة ، وتشير أيضا إلى سوء خطابٍ صدر من مالك بن نويرة ، يفهم منه الردة عن دين الإسلام ، كما ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/322) فقال :
" ويقال : بل استدعى خالد مالك بن نويرة ، فأنَّبَه على ما صدر منه من متابعة سجاح ، وعلى منعه الزكاة ، وقال : ألم تعلم أنها قرينة الصلاة ؟ فقال مالك : إن صاحبكم كان يزعم ذلك . فقال : أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟! يا ضرار اضرب عنقه ، فضربت عنقه ." انتهى .
إذن فلماذا أنكر بعض الصحابة على خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة ، كما فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو قتادة الأنصاري ؟
يمكن تلمس سبب ذلك من بعض الروايات ، حيث يبدو أن مالك بن نويرة كان غامضا في بداية موقفه من الزكاة ، فلم يصرح بإنكاره وجوبها ، كما لم يقم بأدائها ، فاشتبه أمره على هؤلاء الصحابة ، إلا أن خالد بن الوليد أخذه بالتهمة فقتله ، ولما كان مالك بن نويرة يظهر الإسلام والصلاة كان الواجب على خالد أن يتحرى ويتأنى في أمره ، وينظر في حقيقة ما يؤول إليه رأي مالك بن نويرة في الزكاة ، فأنكر عليه من أنكر من الصحابة رضوان الله عليهم .
جاء في البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (6/322) :
" فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس ، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة ، وبذلوا الزكوات ، إلا ما كان من مالك بن نويرة ، فكأنه متحير في أمره ، متنح عن الناس ، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه ، واختلفت السرية فيهم ، فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم أقاموا الصلاة ، وقال آخرون إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا ." انتهى .
ولما كان مالك بن نويرة من وجهاء قومه وأشرافهم ، واشتبه موقفه في بداية الأمر ، شكا أخوه متمم بن نويرة ما كان من خالد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فعاد ذلك بالعتاب على خالد ، وتخطئته في إسراعه إلى قتل مالك بن نويرة ، قبل رفع أمره إلى أبي بكر الصديق وكبار الصحابة رضوان الله عليهم .
روى خليفة بن خياط (1/17) قال :
" حدثنا علي بن محمد عن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : قدم أبو قتادة على أبي بكر فأخبره بمقتل مالك وأصحابه ، فجزع من ذلك جزعا شديدا ، فكتب أبو بكر إلى خالد فقدم عليه . فقال أبو بكر : هل يزيد خالد على أن يكون تأول فأخطأ ؟ ورد أبو بكر خالدا ، وودى مالك بن نويرة ، ورد السبي والمال ." انتهى .
وقال ابن حجر في "الإصابة" (5/755) :
" فقدم أخوه متمم بن نويرة على أبي بكر ، فأنشده مرثية أخيه ، وناشده في دمه وفي سبيهم ، فرد أبو بكر السبي . وذكر الزبير بن بكار أن أبا بكر أمر خالدا أن يفارق امرأة مالك المذكورة ، وأغلظ عمر لخالد في أمر مالك ، وأما أبو بكر فعذره ." انتهى .
هذا غاية ما يمكن أن يقال في شأن قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة ، أنه إما أن يكون أصاب فقتله لمنعه الزكاة وإنكاره وجوبها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إنه أخطأ فتسرع في قتله وقد كان الأوجب أن يتحرى ويتثبت ، وعلى كلا الحالين ليس في ذلك مطعن في خالد رضي الله عنه .
يقول ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة " ( 5/518) :
" مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم ، ولم يثبت ذلك عندنا ، ثم يقال : غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة : إنه كان معصوم الدم ، وإن خالداً قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ " فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب قوداً ولا دية ولا كفارة.
وقدر روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية : قوله تعالى :
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) نزلت في شأن مرداس ، رجل من غطفان ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى قومه ، عليهم غالب الليثي ، ففر أصحابه ولم يفر . قال : إني مؤمن ، فصبحته الخيل ، فسلم عليهم ، فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك .
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ". ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولاً؛ فإذا كان النبي لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل ، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك بن نويرة بطريق الأولى والأحرى ." انتهى .
أما اتهام خالد بن الوليد رضي الله عنه بأنه قتل مالك بن نويرة من أجل أن يتزوج امرأته لهواه السابق بها ، فيبدو أنها تهمة مبكرة رماه بها مالك نفسه وبعض أتباعه بها ، وليس لهم عليها دليل ظاهر ، إنما يبدو أنه أطلقها ليغطي بها السبب الحقيقي الذي قتل لأجله وهو منع الزكاة ، يدل على ذلك : الحوار الذي نقله الواقدي بين خالد ومالك .
قال الواقدي في "كتاب الردة" (107-108) :
" فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته ، فنظر إليها ثم قال : يا خالد بهذا تقتلني .
فقال خالد : بل لله أقتلك ، برجوعك عن دين الإسلام ، وجفلك – يعني منعك - لإبل الصدقة ، وأمرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة أموالهم . قال : ثم قدمه خالد فضرب عنقه صبرا .
فيقال إن خالد بن الوليد تزوج بامرأة مالك ودخل بها ، وعلى ذلك أجمع أهل العلم ." انتهى .
يقول الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (5/755) :
" وروى ثابت بن قاسم في "الدلائل" أن خالدا رأى امرأة مالك - وكانت فائقة في الجمال - فقال مالك بعد ذلك لامرأته : قتلتِني ! يعني : سأقتل من أجلك .
وهذا قاله ظنا ، فوافق أنه قتل ، ولم يكن قتله من أجل المرأة كما ظن ." انتهى .
ويقول ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" (1/91) :
" الحق عدم قتل خالد ؛ لأن مالكا ارتد ورد على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة رسول الله ، كما فعل أهل الردة ، وقد اعترف أخو مالك لعمر بذلك .
وتزوُّجُه امرأتَه : لعله لانقضاء عدتها بالوضع عقب موته ، أو يحتمل أنها كانت محبوسة عنده بعد انقضاء عدتها عن الأزواج على عادة الجاهلية ، وعلى كل حال فخالد أتقى لله من أن يظن به مثل هذه الرذالة التي لا تصدر من أدنى المؤمنين ، فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه ، فالحق ما فعله أبو بكر ، لا ما اعترض به عليه عمر رضي الله تعالى عنهما ، ويؤيد ذلك أن عمر لما أفضت إليه الخلافة لم يتعرض لخالد ، ولم يعاتبه ، ولا تنقصه بكلمة في هذا الأمر قط ، فعلم أنه ظهر له أحقية ما فعله أبو بكر ، فرجع عن اعتراضه ، وإلا لم يتركه عند استقلاله بالأمر ؛ لأنه كان أتقى لله من أن يداهن في دين الله أحدا " انتهى .
ويقول الدكتور علي الصلابي في كتابه "أبو بكر الصديق" (219) :
" وخلاصة القصة أن هناك من اتهم خالدا بأنه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده ، لعدم صبره على جمالها ، ولهواه السابق فيها ، وبذلك يكون زواجه منها - حاش لله - سفاحا ، فهذا قول مستحدث لا يعتد به ، إذ خلت المصادر القديمة من الإشارة إليه ، بل هي على خلافه في نصوصها الصريحة ، يذكر الماوردي في "الأحكام السلطانية" (47) أن الذي جعل خالدا يقدم على قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه ، وبذلك فسد عقد المناكحة بينه وبين أم تميم ، وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار الحرب أن يسبين ولا يقتلن ، كما يشير إلى ذلك السرخسي في المبسوط (10/111) ، فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه ، فلما حلت بنى بها كما "البداية والنهاية" .
ويعلق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله : إن خالدا أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبية ، إذ إن السبية لا عدة عليها ، وإنما يحرم حرمة قطعية أن يقربها مالكها إن كانت حاملا قبل أن تضع حملها ، وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ، ثم دخل بها وهو عمل مشروع جائز لا مغمز فيه ولا مطعن ، إلا أن أعداءه والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم ، فانتهزوها وذهبوا يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم ، وأن خالدا قتله من أجل امرأته وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله ، فهذا مما لم يعرف ثبوته . ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم . والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا : هل يجب على الذمية عدة وفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين ، بخلاف عدة الطلاق ، فإن تلك سببها الوطء ، فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد ، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع . وكذلك إن كان دخل بها ،وقد حاضت بعد الدخول حيضة .
هذا إذا كان الكافر أصلياً . وأما المرتد إذا قتل ، أو مات على ردته ، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة ، لأن النكاح بطل بردة الزوج ، وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد ، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها ، كما ليس عليها عدة من الطلاق .
ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتداً ، فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء ، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة ، لا بعدة كاملة ، في أحد قوليهم ، وفي الآخر : بثلاث حيض ، وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء ، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم .
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد ، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم ، وهذا مما حرمه الله ورسوله ) " انتهى .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب