الرد على ما أثير من شبهة حول حديث سجود الشمس تحت عرش الرحمن
نقلا عن ملتقى اهلا الحديث
سأل سائل فقال: قد أشكل علي معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن سجود الشمس تحت عرش الرحمن. كيف تسجد ؟ أتقف للسجود للواحد المعبود ؟ وإن حصل ذلك فمالنا لا نرى ذلك ؟ ثم إن الحديث الشريف يذكر أنها تصنع ذلك بعد غروبها مع انها تغرب عن أهل كل بلد فإذا كان الأمر كذلك فإنها تسجد في كل وقت لأنها غاربة في كل وقت عن بلد من البلاد. فما العمل؟ أفيدونا رحمكم الله وزادكم الله علماً.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قبل الجواب لا بد من إيضاح مسائل هامة ينبني على فهما أكثر الفهم وأجوده.
أول هذه المسائل أن نؤمن بالصحيح المنقول من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعليه فإننا نتحرى صحة ما وردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ثبت عندنا صحة الخبر آمنا به وعملنا بما فيه مذعنين متعبدين. وثاني المسائل أنه إذا ثبت لدينا صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه تحرينا الفهم الصحيح لمراده عليه الصلاة والسلام.
وتحري الفهم السليم مطلب شرعي قال تعالى :"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" وفيه ترغيب على الاختيار من بين الأقوال ولا يتأتى حسن الاختيار إلا بحسن الفهم. ومن أعظم ما يشحذ ملكة الفهم وينميها التأمل والتفكر في آيات الله الشرعية والكونية وطلب العلوم النافعة من العلوم الدنيوية ، قال ابن تيمية في فتاواه رحمه الله في معرض جوابه عن تعلم العلوم النافعة وفضلها:" وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها فهذه مثل الكتاب الذي هو الخط والحساب فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن ؛ وكتب العلم النافعة أو يكتب للناس ما ينتفعون به : كان هذا فضلا في حقه وكمالا"
والآن إليك الجواب وعلى الله التكلان:
الحديث الذي ذكر فيه سجود الشمس حديث صحيح :
رواه البخاري رحمه الله في بدء الخلق عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقديرالعزيز العليم
وأخرجه في صحيحه باب تفسير القرآن عن أبي ذر رضي الله عنه بلفظ :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقديرالعزيز العليم
وعند مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ذاك حين يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل او كسبت في إيمانها خيرا
وكذا أخرجه الترمذي في جامعه وأحمد في مسنده وغيرهم بألفاظ متقاربة .
والأحاديث فيها مسائل لها تعلق بصحة فهم المراد الذي التبس على السائل وهي:
1- معنى السجود الوارد في الحديث.
2- لفظ الغروب والتعقيب عليه بلفظ الذهاب.
3- حرف "حتى" الدال على الغاية والحد.
4- القول في عرش الرحمن سبحانه وتعالى.
أول هذه المسائل معنى لفظ السجود الوارد في الحديث. و يبدو أن السائل قد توهم من معنى السجود توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس ولا يلزم هذا كما هو معلوم. وبهذا يكون قد التبس عليه المعنى الاصطلاحي الذي يستعمله الفقهاء في شرحهم لكيفية السجود في الصلاة بالمعنى اللغوي الذي هو أوسع دلالة وأكثر معنى مما دل عليه الاصطلاح. ومن معاني السجود في اللغة الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج:" ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء"
قال ابن كثير رحمه الله :" يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به" ا.هـ.
وعليه فسجود الشمس مما يختص بها ولا يلزم ان يكون سجودها كسجود الآدميين كما أن سجودها متحقق بخضوعها لخالقها وانقيادها لأمره وهذا هو السجود العام لكل شيء خلقه الله كما في آية الحج السابقة إذ كل شيء من خلق الله تعالى يسجد له ويسبح بحمده ، قال تعالى في آية النحل:"ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون" والشمس داخلة في دواب السماء لأن معنى الدبيب السير والحركة والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل من خلال علوم الفلك المعاصرة إذ انها تدور حول نفسها ويسمون ذلك التفافا وهو دوران الشيء حول نفسه وذلك في خلال سبعة وعشرين يوما أرضيا وتدور(مع المجموعة الشمسية) حول مركز المجرة اللبنية بسرعة تقترب من 220 كيلومترا في الثانية. وكل في فلك يسبحون.
ولكن لو قال قائل:"هل تنتفي صفة السجود عن الشمس إذا كانت لا تسجد إلا تحت العرش فلا تكون خاضعة إلا عند سجودها تحت العرش وفي غير ذلك من الأحايين لا تكون؟
والجواب أن الشمس كما قدمنا لها سجدتان: سجود عام مستديم وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات وسجود خاص يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدة تحته وهو المذكور في الحديث وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه. ومن أمثلة ذلك من واقعنا أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان وهكذا مع انهم يشتركون في مسمى الفعل وهما المشي والسباحة.
هذه مسألة. أما المسألة الثانية فكما أنه يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن وهو الإطمئنان الذي هو ركن في الصلاة فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس لتحقيق صفة السجود. لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل ومن شواهد لغة العرب على ان السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه. ومن المعلوم أن السجود عبادة والله قد تعبد مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها فكان الإنحناء والنزول للآدميين وكان غير ذلك من كيفيات السجود لسائر الكائنات والمخلوقات مع اشتراكهما في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعا او كرها.
ومثال ذلك طواف الرجل حول الكعبة إذ لايلزمه أن يقف عند الحد الممتد من الحجر الأسود ليتحقق حساب طواف كامل إذ أنه حتى لو طاف وواصل مسيره وتجاوز الحد دون الوقوف لإستلامه فإنه يتحقق له شوط كامل ويكون قد قضى جزءا من شعيرة الطواف دون ان يقف عند الحد الذي ذكرنا ، وكذلك الشمس تجري في الفلك ونراها تشرق وتغرب دائبة ومع ذلك لها سمت او منتهى يقابلها على وجه الأرض تسجد عنده لله تعالى ويكون ذلك السمت او الحد مقابلاً في تلك اللحظة لمركز باطن العرش كما أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.
ومع أن الشمس و المخلوقات بأجمعها تحت العرش في كل وقت إلا أنه لا يلزم أن تكون المخلوقات بأجمعها مقابلة لمركز باطن العرش لأن العرش كالقبة على السماوات والمخلوقات ، والشمس في سجودها المخصوص إنما تحاذي مركز باطن العرش فتكون تحته بهذا الإعتبار كما ذكره ابن كثير في البداية بشأن المحاذاة التحتية للعرش ، وكما قرره ابن تيمية رحمه الله في فتاواه وسائر أئمة اهل السنة من حيث أن العرش كالقبة وهو معلوم من حديث الأعرابي الذي أقبل يستشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم وقصته مشهورة ثابتة.
وقد يسأل سائل فيقول:"إذاً كيف يكون الله بكل شيء محيط؟" والجواب أن الله عز وجل غير العرش. فالله جل جلاله مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته إذ أن الله هو المحيط بكل شيء وليس العرش وقد أنكر ابن تيمية على المخالفين الذي يرون أن العرش مستدير مع استدارة الأفلاك لأنهم تركوا صحيح المنقول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نص على ان العرش كالقبة وليس كالدائرة. وهذا هو الصواب لموافقته للأدلة الثابتة. وهو ما دل عليه العقل قديما عند المتقدمين وحديثا عند الفيزيائيين بشأن إنحناء الكون ولكن لا يلزم من هذا القول باستدارة العرش استدارة كاملة لأن العرش غيرالسماوات من جهة ولأنه لو كان العرش مستديراً لكانت الشمس –والمخلوقات - "داخل" العرش لا "تحته" وظرف التحتية أنسب لحال العرش الذي هو كالقبة ولذلك قال اين تيمية في مجموع الفتاوى:" لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن " العرش " فلك من الأفلاك المستديرة الكروية الشكل ؛ لا بدليل شرعي . ولا بدليل عقلي . وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين الذين نظروا في " علم الهيئة " وغيرها من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة المشرقية وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر " عرش الله " وذكر " كرسيه " وذكر " السموات السبع " فقالوا بطريق الظن إن " العرش " هو الفلك التاسع ؛ لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق" ا.هـ.
وهذا السمت أو الحد او المنتهى المعبر عنه في الحديث بالحرف "حتى" للدلالة على الغاية والحد فهو كالسمت (ولا أقول هو السمت) الذي نصبه الجغرافيون على الخارطة الأرضية ويسمونه خطوط الطول الممتدة بأعداد متتالية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فإذا حاذت الشمس سمت أو حد السجدة مع محاذاتها في ذات الوقت لمركز باطن العرش فإنها تسجد سجودا على الكيفية التي لا يلزم منها ان توافق صفة سجود الآدميين وعلى هيئة لا تستلزم توقف الشمس عن الحركة وضربنا على ذلك مثال الطواف بالبيت.
أما هذا السمت أو الحد أو المنتهى - كما قال الإمام ابن عاشور- فإنه لا قبل للناس بمعرفة مكانه. قال رحمه الله في التحرير والتنوير في تفسير قوله تعالى "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم" :
" وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعاً لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي" ا.هـ.
والخلاصة أن سجود الشمس على المعنى الذي ذكرناه غير ممتنع أبدا وبما ذكرنا يزول الإشكال إن شاء الله ولا يخالف الحديث صريح العقل إنما قد يخالف ما اعتاد عليه العقل وألفه وهذا ليس معياراً تقاس بها الممكنات في العقل فضلاً عن الممكنات في الشرع لأن الله على كل شيء قدير ولأن العادة نسبية باعتبار منشأ الناس واختلاف مشاربهم ومجتمعاتهم وعلمهم. والسامع مثلاً لما تخرج به علينا فيزياء الكم من العجائب والأسرار كنظرية ريتشارد فينمان و مبدأ اللاحتمية لهايزنبرج وغيرها من السنن والظواهر في هذا الكون مما يحير عقول العلماء يوقن بأن لله حكمة بالغة يطلع من يشاء عليها ويستأثر بما يشاء عنده، قال تعالى:"ويخلق ما لا تعلمون" ، وقال تعالى:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون" ، وقال:"وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" . والإنسان الأصل فيه الضعف والجهل ، قال تعالى:"وخلق الإنسان ضعيفا" وقال في آية الأحزاب:"إنه كان ظلوما جهولا" ولذلك فابن آدم يسعى على الدوام لدفع ذلك عن نفسه بطلب ضديهما وهما القوة والعلم . قال تعالى في صفة طالوت لما بعثه ملكا:"وزاده بسطة في العلم والجسم" فجمع له بين القوة العلمية والقوة العملية.
هذا وبقي في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم فائدتان لطيفتان تزيلان لبساَ كثيراً. الفائدة الأولى في قوله عليه الصلاة والسلام:" فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش" عند البخاري وغيره. ولم يقل عليه الصلاة والسلام أنها "تغرب تحت العرش" أو "حتى تغرب تحت العرش" وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث وهو فهم مردود لأن ألفاظ الحديث ترده. فقوله:"تذهب" دلالة على الجريان لا دلالة على مكان الغروب لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين وإنما تغرب في جهة معينة وهي ما اصطلح عليه الناس باسم الغرب والغروب في اللغة التواري والذهاب كما ذكره ابن منظور وغيره يقال غرب الشيء أي توارى وذهب وتقول العرب أغرب فلان أي أبعد وذهب بعيداً عن المقصود.
أما الفائدة الثانية فهي في قوله صلى الله عليه وسلم:" فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يستنكر الناس منها شيئا". وكأن في هذا دلالة ضمنية بأن هناك من الناس ممن يبلغه هذا الحديث من قد يستشكله فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود فينكر الناس ذلك ويرهبونه. إلا أنه صلى الله عليه وسلم أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع انها تسجد ولكنه سجود غير سجود الآدميين ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً ويتضح من كلامه صلى الله عليه وسلم مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها وكما قدمنا فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها وهو اللبس الذي أزاله صلى الله عليه وسلم بقوله:" فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" كما أن العقل يدل على ذلك إذ أن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثمان دقائق وهذا يعني انه لو حدث خطب على الشمس أو فيها فإننا لا نراه إلا بعد ثمان دقائق من حصوله وعليه فلا يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت ولو بأجزاء من الثانية لله تعالى تحت عرشه ونحن لا نعلم عن ذلك لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا. ولهذا يقول الله تعالى:"وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" والإعراض صور متعددة منها الغفلة واللهو عن تدبر الآيات كونية وشرعية ولذلك فإن البعض ممن ساء فهمهم لبعض الآيات و الأحاديث إنما أوتوا من قبل أنفسهم بعدم إمعان النظر في آيات الله الكونية وبهجرهم لتدبر كتاب الله وإعراضهم عن التفقه في سنة رسول الله مع عزوفهم عن الاستزادة من العلوم الدنيوية النافعة في هذا الباب.
ومع هذا لو سلمنا بانعدام هذ الفارق الزمني مع أنه حاصل موجود فإننا قد أوضحنا أن الشمس تسجد على صفة مخصوصة منفصلة بهيئتها وصورتها عن معتاد التصور ولكن من حيث أصل المعنى داخلة في عموم معنى الخضوع الدال عليه لفظ السجود لغة لا اصطلاحاً كصنيعنا في الصلاة من حيث الهبوط والنزول والطمأنينة والتوقف لبعض الوقت ولو كان سجود الشمس كسجودنا لتعطلت مصالح العباد وفسدت معيشتهم والله تعالى يقول:"لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" والفلك من قول العرب تفلك ثدي الجارية إذا استدار وقال ابن عباس : في فلك مثل فلكة المغزل أ.هـ. وفلكة الغزل عندهم كانت مستديرة لتناسب إتمام نسج اللباس ومنه جاء معنى الاستدارة.
ولكن بعد هذا كله لو قال قائل:"الخرور يكون من أعلى إلى أسفل ، ويُقال له ارتفعي : والإرتفاع يكون من أسفل إلى أعلى ، فهذا ظاهر أنها تذهب إلى تحت العرش مباشرة , تخر من أعلى إلى أسفل ، وثم ترتفع من أسفل إلى أعلى ، لا أنها تسجد وهي جارية فلفظ الحديث لا يدل عليه، وكذلك ألفاظ الإستئذان ، فإنها إن كانت جارية اثناء السجود ، فلماذا تستأذن الشمس في الجريان أصلا وهي جارية؟؟
الجواب:
أولا هناك بعض الاشكالات التي تعاود الظهور ويكثر حولها النقاش ، وهي منحصرة- على حد علمي - فيما يلي:
1- هل يلزم من سجود الشمس وقوفها لفعل السجود الوارد في الحديث؟
2- هل يلزم من خرور الشمس أن يكون خرورا ملحوظ المسافة طلوعاً ونزولاً؟
3- هل يلزم من استئذان الشمس للطلوع وقوفها لذلك حتى يؤذن لها؟
والجواب على الاشكالات كالتالي:
لا يلزم من سجود الشمس أن تتوقف لفعل السجود لما يلي:
أ- أن سجود الشمس من حيث الخصوص لا يلزم منه ان يكون كسجود الآدميين من حيث الوقوف للطمأنينة ونحوه.
ب- أنه يحصل السجود منها وهي سائرة ، وهذا القول مني وجدت أنه لم يكن بدعاً من القول ولله الحمد فقد سبقني إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله : قال في البداية والنهاية: "وعن ابن عباس انه قرأ: والشمس تجري لا مستقر لها، اي: ليست تستقر، فعلى هذا تسجد وهي سائرة."
ومن هنا ندرك فائدة علم القراءات في دفع كثير من الاشكالات. والفائدة الثانية كما هو معلوم اختيار ابن كثير لسجود الشمس وهي سائرة بناء على هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه.
ويشبه هذا سجود المسافر الذي على دابته أو سجود الخائف على نفسه الهارب من عدو ونحوه إذ كلاهما يصح سجوده ويقع مع انتفاء وقوف أحدهما.
ولكن لو قال قائل:"نقبل منك صحة السجود دون أن يلزم منه وقوف الشمس ولكن الشمس لابد أن تقف لأن هذا لازم الخرور والاستئذان وإن لم يكن لازم السجود؟"
والجواب على هذا كما يلي:
حتى لو لزم من الخرور والاستئذان ونحوه توقف الشمس فإنه لا يلزم من ذلك وقوفها وقوفاً يلاحظه الناس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا يستنكر الناس منها شيئا ". كما أن هناك نكتة خفية على البعض وهي أن مقدار وقوفها لم ينص عليه الحديث او يشر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يمنع أن يكون وقوفها للخرور والاستئذان (وكذلك السجود تنزلاً) حاصل في ثوانٍ أو أجزاء من الثانية وهذه الثوان تضمحل في فرق الثمان دقائق الذي يفصل بيننا وبين الشمس فلا يمكن ملاحظة فترة السجود حينئذٍ ، هذا للشخص الملاحظ المتابع ، فكيف بالبشرية المشغولة بضيعات الدنيا. وهذا صحيح شرعا وعقلاً ، فشرعاً (على افتراض أننا نشبه سجود الشمس بسجودنا) نجد أن الذي يسجد بتسبيحة واحدة قد صح منه السجود وأجزأه كما لو سجد مصلٍ بأكثر من تسبيحة ، والشاهد أن السجود وما يترتب عليه من خرور ويتبعه من استئذان لا يلزم من ذلك كله مقداراً معيناً من الوقت نضعه من أذهاننا قياساً على معتاد فعلنا لأن الحديث أبهم وأطلق المقدار الزمني لهذه الأفعال ولذلك فلا يمنع حدوثها في وقت قصير للغاية . وعلى الذين يتوقعون من الشمس تطويلاً أو مقداراً معيناً أن يأتوا بالدليل المقيد لإطلاق الحديث ، وترد حجتهم لمجرد أنهم قاسوا حال سجود الشمس على حال سجود الآدمي.
هذه مسألة ، اما المسألة الثانية فهي أنه لا يلزم من خرور الشمس ، وذلك بالسفول والارتفاع كما في الحديث عند مسلم:"حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت" ، أقول لا يلزم من خرور الشمس أن تنزل نزولاً ملحوظ المقدار او ترتفع ارتفاعا ملحوظ المقدار كذلك ، فالحديث أطلق ولم يذكر مقدار مسافة الخرور سفولاً ولم يعين مقدار مسافة الارتفاع عندما تقضي سجودها واستئذانها كما ان الحديث (كما ذكرناه) لم يعين مقدار زمن سجودها وكذا استئذانها. ولنضرب على ذلك مثلاً: أليس يصح السجود بالإيماء البسيط الذي لا يكاد يرى من المريض الذي لا يستطيع الحراك؟ فهذا الذي يوميء بالسجود إيماء حتى ولو كان يسيراً جداً يصح سجوده ويقع منه، فكيف إذا علمنا ان سجود الشمس بطبعه مختلف ويرد على صفته (أي سجود الشمس) من الممكنات والاحتمالات ما لايرد ولا ينطبق على سجود الآدمي. وعليه فالذين يتوقعون أو يتصورون من خرور الشمس واستئذانها مسافة معينة او زماناً مقدراً عليهم الدليل الذي بموجبه اختاروا هذا التقييد. ولا يصح منهم تصورهم الذي يلزمون به أنفسهم أو يلزمون به غيرهم بناء على القياس والمقارنة بين سجود الشمس وخرورها وكذا سجود الآدمي وخروره. وبقي هنا فائدة لطيفة وهي أن الخرور قد يأتي بمعنى الركوع وعلى هذا المعنى لا يلزم أن يكون النزول كاملاً ملحوظاً كما لو كان في السجود الحقيقي الكامل ، كما في قوله تعالى:" وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا". وقياساً على هذا عموم هذا المعنى (لا قياساً على فعل الآدمي) نقول أنه لا يلزم من خرور الشمس أن يكون خروراً بالغ السفول بحيث يستنكر الناس منها ذلك. وقبل ذلك كله ذكرنا أن الحديث لم يبين مقدار مسافة السفول او مقدار مسافة الارتفاع فقد يقع منها الخرور والارتفاع بمقدار يسير لا يلحظه احد وذلك بسنتيمترات يسيرة مثلاً والحديث بإطلاقه لكيفية وصفة السجود لا يمنع من هذا الاحتمال.
والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه ووحرره طالب المغفرة:
عبدالله بن سعيد بن علي الشهري
نقلا عن ملتقى اهلا الحديث
سأل سائل فقال: قد أشكل علي معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن سجود الشمس تحت عرش الرحمن. كيف تسجد ؟ أتقف للسجود للواحد المعبود ؟ وإن حصل ذلك فمالنا لا نرى ذلك ؟ ثم إن الحديث الشريف يذكر أنها تصنع ذلك بعد غروبها مع انها تغرب عن أهل كل بلد فإذا كان الأمر كذلك فإنها تسجد في كل وقت لأنها غاربة في كل وقت عن بلد من البلاد. فما العمل؟ أفيدونا رحمكم الله وزادكم الله علماً.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قبل الجواب لا بد من إيضاح مسائل هامة ينبني على فهما أكثر الفهم وأجوده.
أول هذه المسائل أن نؤمن بالصحيح المنقول من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعليه فإننا نتحرى صحة ما وردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ثبت عندنا صحة الخبر آمنا به وعملنا بما فيه مذعنين متعبدين. وثاني المسائل أنه إذا ثبت لدينا صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه تحرينا الفهم الصحيح لمراده عليه الصلاة والسلام.
وتحري الفهم السليم مطلب شرعي قال تعالى :"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" وفيه ترغيب على الاختيار من بين الأقوال ولا يتأتى حسن الاختيار إلا بحسن الفهم. ومن أعظم ما يشحذ ملكة الفهم وينميها التأمل والتفكر في آيات الله الشرعية والكونية وطلب العلوم النافعة من العلوم الدنيوية ، قال ابن تيمية في فتاواه رحمه الله في معرض جوابه عن تعلم العلوم النافعة وفضلها:" وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها فهذه مثل الكتاب الذي هو الخط والحساب فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن ؛ وكتب العلم النافعة أو يكتب للناس ما ينتفعون به : كان هذا فضلا في حقه وكمالا"
والآن إليك الجواب وعلى الله التكلان:
الحديث الذي ذكر فيه سجود الشمس حديث صحيح :
رواه البخاري رحمه الله في بدء الخلق عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقديرالعزيز العليم
وأخرجه في صحيحه باب تفسير القرآن عن أبي ذر رضي الله عنه بلفظ :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقديرالعزيز العليم
وعند مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ذاك حين يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل او كسبت في إيمانها خيرا
وكذا أخرجه الترمذي في جامعه وأحمد في مسنده وغيرهم بألفاظ متقاربة .
والأحاديث فيها مسائل لها تعلق بصحة فهم المراد الذي التبس على السائل وهي:
1- معنى السجود الوارد في الحديث.
2- لفظ الغروب والتعقيب عليه بلفظ الذهاب.
3- حرف "حتى" الدال على الغاية والحد.
4- القول في عرش الرحمن سبحانه وتعالى.
أول هذه المسائل معنى لفظ السجود الوارد في الحديث. و يبدو أن السائل قد توهم من معنى السجود توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس ولا يلزم هذا كما هو معلوم. وبهذا يكون قد التبس عليه المعنى الاصطلاحي الذي يستعمله الفقهاء في شرحهم لكيفية السجود في الصلاة بالمعنى اللغوي الذي هو أوسع دلالة وأكثر معنى مما دل عليه الاصطلاح. ومن معاني السجود في اللغة الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج:" ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء"
قال ابن كثير رحمه الله :" يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به" ا.هـ.
وعليه فسجود الشمس مما يختص بها ولا يلزم ان يكون سجودها كسجود الآدميين كما أن سجودها متحقق بخضوعها لخالقها وانقيادها لأمره وهذا هو السجود العام لكل شيء خلقه الله كما في آية الحج السابقة إذ كل شيء من خلق الله تعالى يسجد له ويسبح بحمده ، قال تعالى في آية النحل:"ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون" والشمس داخلة في دواب السماء لأن معنى الدبيب السير والحركة والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل من خلال علوم الفلك المعاصرة إذ انها تدور حول نفسها ويسمون ذلك التفافا وهو دوران الشيء حول نفسه وذلك في خلال سبعة وعشرين يوما أرضيا وتدور(مع المجموعة الشمسية) حول مركز المجرة اللبنية بسرعة تقترب من 220 كيلومترا في الثانية. وكل في فلك يسبحون.
ولكن لو قال قائل:"هل تنتفي صفة السجود عن الشمس إذا كانت لا تسجد إلا تحت العرش فلا تكون خاضعة إلا عند سجودها تحت العرش وفي غير ذلك من الأحايين لا تكون؟
والجواب أن الشمس كما قدمنا لها سجدتان: سجود عام مستديم وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات وسجود خاص يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدة تحته وهو المذكور في الحديث وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه. ومن أمثلة ذلك من واقعنا أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان وهكذا مع انهم يشتركون في مسمى الفعل وهما المشي والسباحة.
هذه مسألة. أما المسألة الثانية فكما أنه يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن وهو الإطمئنان الذي هو ركن في الصلاة فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس لتحقيق صفة السجود. لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل ومن شواهد لغة العرب على ان السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه. ومن المعلوم أن السجود عبادة والله قد تعبد مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها فكان الإنحناء والنزول للآدميين وكان غير ذلك من كيفيات السجود لسائر الكائنات والمخلوقات مع اشتراكهما في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعا او كرها.
ومثال ذلك طواف الرجل حول الكعبة إذ لايلزمه أن يقف عند الحد الممتد من الحجر الأسود ليتحقق حساب طواف كامل إذ أنه حتى لو طاف وواصل مسيره وتجاوز الحد دون الوقوف لإستلامه فإنه يتحقق له شوط كامل ويكون قد قضى جزءا من شعيرة الطواف دون ان يقف عند الحد الذي ذكرنا ، وكذلك الشمس تجري في الفلك ونراها تشرق وتغرب دائبة ومع ذلك لها سمت او منتهى يقابلها على وجه الأرض تسجد عنده لله تعالى ويكون ذلك السمت او الحد مقابلاً في تلك اللحظة لمركز باطن العرش كما أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.
ومع أن الشمس و المخلوقات بأجمعها تحت العرش في كل وقت إلا أنه لا يلزم أن تكون المخلوقات بأجمعها مقابلة لمركز باطن العرش لأن العرش كالقبة على السماوات والمخلوقات ، والشمس في سجودها المخصوص إنما تحاذي مركز باطن العرش فتكون تحته بهذا الإعتبار كما ذكره ابن كثير في البداية بشأن المحاذاة التحتية للعرش ، وكما قرره ابن تيمية رحمه الله في فتاواه وسائر أئمة اهل السنة من حيث أن العرش كالقبة وهو معلوم من حديث الأعرابي الذي أقبل يستشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم وقصته مشهورة ثابتة.
وقد يسأل سائل فيقول:"إذاً كيف يكون الله بكل شيء محيط؟" والجواب أن الله عز وجل غير العرش. فالله جل جلاله مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته إذ أن الله هو المحيط بكل شيء وليس العرش وقد أنكر ابن تيمية على المخالفين الذي يرون أن العرش مستدير مع استدارة الأفلاك لأنهم تركوا صحيح المنقول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نص على ان العرش كالقبة وليس كالدائرة. وهذا هو الصواب لموافقته للأدلة الثابتة. وهو ما دل عليه العقل قديما عند المتقدمين وحديثا عند الفيزيائيين بشأن إنحناء الكون ولكن لا يلزم من هذا القول باستدارة العرش استدارة كاملة لأن العرش غيرالسماوات من جهة ولأنه لو كان العرش مستديراً لكانت الشمس –والمخلوقات - "داخل" العرش لا "تحته" وظرف التحتية أنسب لحال العرش الذي هو كالقبة ولذلك قال اين تيمية في مجموع الفتاوى:" لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن " العرش " فلك من الأفلاك المستديرة الكروية الشكل ؛ لا بدليل شرعي . ولا بدليل عقلي . وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين الذين نظروا في " علم الهيئة " وغيرها من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة المشرقية وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر " عرش الله " وذكر " كرسيه " وذكر " السموات السبع " فقالوا بطريق الظن إن " العرش " هو الفلك التاسع ؛ لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق" ا.هـ.
وهذا السمت أو الحد او المنتهى المعبر عنه في الحديث بالحرف "حتى" للدلالة على الغاية والحد فهو كالسمت (ولا أقول هو السمت) الذي نصبه الجغرافيون على الخارطة الأرضية ويسمونه خطوط الطول الممتدة بأعداد متتالية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فإذا حاذت الشمس سمت أو حد السجدة مع محاذاتها في ذات الوقت لمركز باطن العرش فإنها تسجد سجودا على الكيفية التي لا يلزم منها ان توافق صفة سجود الآدميين وعلى هيئة لا تستلزم توقف الشمس عن الحركة وضربنا على ذلك مثال الطواف بالبيت.
أما هذا السمت أو الحد أو المنتهى - كما قال الإمام ابن عاشور- فإنه لا قبل للناس بمعرفة مكانه. قال رحمه الله في التحرير والتنوير في تفسير قوله تعالى "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم" :
" وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعاً لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي" ا.هـ.
والخلاصة أن سجود الشمس على المعنى الذي ذكرناه غير ممتنع أبدا وبما ذكرنا يزول الإشكال إن شاء الله ولا يخالف الحديث صريح العقل إنما قد يخالف ما اعتاد عليه العقل وألفه وهذا ليس معياراً تقاس بها الممكنات في العقل فضلاً عن الممكنات في الشرع لأن الله على كل شيء قدير ولأن العادة نسبية باعتبار منشأ الناس واختلاف مشاربهم ومجتمعاتهم وعلمهم. والسامع مثلاً لما تخرج به علينا فيزياء الكم من العجائب والأسرار كنظرية ريتشارد فينمان و مبدأ اللاحتمية لهايزنبرج وغيرها من السنن والظواهر في هذا الكون مما يحير عقول العلماء يوقن بأن لله حكمة بالغة يطلع من يشاء عليها ويستأثر بما يشاء عنده، قال تعالى:"ويخلق ما لا تعلمون" ، وقال تعالى:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون" ، وقال:"وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" . والإنسان الأصل فيه الضعف والجهل ، قال تعالى:"وخلق الإنسان ضعيفا" وقال في آية الأحزاب:"إنه كان ظلوما جهولا" ولذلك فابن آدم يسعى على الدوام لدفع ذلك عن نفسه بطلب ضديهما وهما القوة والعلم . قال تعالى في صفة طالوت لما بعثه ملكا:"وزاده بسطة في العلم والجسم" فجمع له بين القوة العلمية والقوة العملية.
هذا وبقي في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم فائدتان لطيفتان تزيلان لبساَ كثيراً. الفائدة الأولى في قوله عليه الصلاة والسلام:" فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش" عند البخاري وغيره. ولم يقل عليه الصلاة والسلام أنها "تغرب تحت العرش" أو "حتى تغرب تحت العرش" وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث وهو فهم مردود لأن ألفاظ الحديث ترده. فقوله:"تذهب" دلالة على الجريان لا دلالة على مكان الغروب لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين وإنما تغرب في جهة معينة وهي ما اصطلح عليه الناس باسم الغرب والغروب في اللغة التواري والذهاب كما ذكره ابن منظور وغيره يقال غرب الشيء أي توارى وذهب وتقول العرب أغرب فلان أي أبعد وذهب بعيداً عن المقصود.
أما الفائدة الثانية فهي في قوله صلى الله عليه وسلم:" فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يستنكر الناس منها شيئا". وكأن في هذا دلالة ضمنية بأن هناك من الناس ممن يبلغه هذا الحديث من قد يستشكله فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود فينكر الناس ذلك ويرهبونه. إلا أنه صلى الله عليه وسلم أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع انها تسجد ولكنه سجود غير سجود الآدميين ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً ويتضح من كلامه صلى الله عليه وسلم مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها وكما قدمنا فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها وهو اللبس الذي أزاله صلى الله عليه وسلم بقوله:" فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا" كما أن العقل يدل على ذلك إذ أن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثمان دقائق وهذا يعني انه لو حدث خطب على الشمس أو فيها فإننا لا نراه إلا بعد ثمان دقائق من حصوله وعليه فلا يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت ولو بأجزاء من الثانية لله تعالى تحت عرشه ونحن لا نعلم عن ذلك لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا. ولهذا يقول الله تعالى:"وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" والإعراض صور متعددة منها الغفلة واللهو عن تدبر الآيات كونية وشرعية ولذلك فإن البعض ممن ساء فهمهم لبعض الآيات و الأحاديث إنما أوتوا من قبل أنفسهم بعدم إمعان النظر في آيات الله الكونية وبهجرهم لتدبر كتاب الله وإعراضهم عن التفقه في سنة رسول الله مع عزوفهم عن الاستزادة من العلوم الدنيوية النافعة في هذا الباب.
ومع هذا لو سلمنا بانعدام هذ الفارق الزمني مع أنه حاصل موجود فإننا قد أوضحنا أن الشمس تسجد على صفة مخصوصة منفصلة بهيئتها وصورتها عن معتاد التصور ولكن من حيث أصل المعنى داخلة في عموم معنى الخضوع الدال عليه لفظ السجود لغة لا اصطلاحاً كصنيعنا في الصلاة من حيث الهبوط والنزول والطمأنينة والتوقف لبعض الوقت ولو كان سجود الشمس كسجودنا لتعطلت مصالح العباد وفسدت معيشتهم والله تعالى يقول:"لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" والفلك من قول العرب تفلك ثدي الجارية إذا استدار وقال ابن عباس : في فلك مثل فلكة المغزل أ.هـ. وفلكة الغزل عندهم كانت مستديرة لتناسب إتمام نسج اللباس ومنه جاء معنى الاستدارة.
ولكن بعد هذا كله لو قال قائل:"الخرور يكون من أعلى إلى أسفل ، ويُقال له ارتفعي : والإرتفاع يكون من أسفل إلى أعلى ، فهذا ظاهر أنها تذهب إلى تحت العرش مباشرة , تخر من أعلى إلى أسفل ، وثم ترتفع من أسفل إلى أعلى ، لا أنها تسجد وهي جارية فلفظ الحديث لا يدل عليه، وكذلك ألفاظ الإستئذان ، فإنها إن كانت جارية اثناء السجود ، فلماذا تستأذن الشمس في الجريان أصلا وهي جارية؟؟
الجواب:
أولا هناك بعض الاشكالات التي تعاود الظهور ويكثر حولها النقاش ، وهي منحصرة- على حد علمي - فيما يلي:
1- هل يلزم من سجود الشمس وقوفها لفعل السجود الوارد في الحديث؟
2- هل يلزم من خرور الشمس أن يكون خرورا ملحوظ المسافة طلوعاً ونزولاً؟
3- هل يلزم من استئذان الشمس للطلوع وقوفها لذلك حتى يؤذن لها؟
والجواب على الاشكالات كالتالي:
لا يلزم من سجود الشمس أن تتوقف لفعل السجود لما يلي:
أ- أن سجود الشمس من حيث الخصوص لا يلزم منه ان يكون كسجود الآدميين من حيث الوقوف للطمأنينة ونحوه.
ب- أنه يحصل السجود منها وهي سائرة ، وهذا القول مني وجدت أنه لم يكن بدعاً من القول ولله الحمد فقد سبقني إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله : قال في البداية والنهاية: "وعن ابن عباس انه قرأ: والشمس تجري لا مستقر لها، اي: ليست تستقر، فعلى هذا تسجد وهي سائرة."
ومن هنا ندرك فائدة علم القراءات في دفع كثير من الاشكالات. والفائدة الثانية كما هو معلوم اختيار ابن كثير لسجود الشمس وهي سائرة بناء على هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه.
ويشبه هذا سجود المسافر الذي على دابته أو سجود الخائف على نفسه الهارب من عدو ونحوه إذ كلاهما يصح سجوده ويقع مع انتفاء وقوف أحدهما.
ولكن لو قال قائل:"نقبل منك صحة السجود دون أن يلزم منه وقوف الشمس ولكن الشمس لابد أن تقف لأن هذا لازم الخرور والاستئذان وإن لم يكن لازم السجود؟"
والجواب على هذا كما يلي:
حتى لو لزم من الخرور والاستئذان ونحوه توقف الشمس فإنه لا يلزم من ذلك وقوفها وقوفاً يلاحظه الناس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا يستنكر الناس منها شيئا ". كما أن هناك نكتة خفية على البعض وهي أن مقدار وقوفها لم ينص عليه الحديث او يشر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يمنع أن يكون وقوفها للخرور والاستئذان (وكذلك السجود تنزلاً) حاصل في ثوانٍ أو أجزاء من الثانية وهذه الثوان تضمحل في فرق الثمان دقائق الذي يفصل بيننا وبين الشمس فلا يمكن ملاحظة فترة السجود حينئذٍ ، هذا للشخص الملاحظ المتابع ، فكيف بالبشرية المشغولة بضيعات الدنيا. وهذا صحيح شرعا وعقلاً ، فشرعاً (على افتراض أننا نشبه سجود الشمس بسجودنا) نجد أن الذي يسجد بتسبيحة واحدة قد صح منه السجود وأجزأه كما لو سجد مصلٍ بأكثر من تسبيحة ، والشاهد أن السجود وما يترتب عليه من خرور ويتبعه من استئذان لا يلزم من ذلك كله مقداراً معيناً من الوقت نضعه من أذهاننا قياساً على معتاد فعلنا لأن الحديث أبهم وأطلق المقدار الزمني لهذه الأفعال ولذلك فلا يمنع حدوثها في وقت قصير للغاية . وعلى الذين يتوقعون من الشمس تطويلاً أو مقداراً معيناً أن يأتوا بالدليل المقيد لإطلاق الحديث ، وترد حجتهم لمجرد أنهم قاسوا حال سجود الشمس على حال سجود الآدمي.
هذه مسألة ، اما المسألة الثانية فهي أنه لا يلزم من خرور الشمس ، وذلك بالسفول والارتفاع كما في الحديث عند مسلم:"حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت" ، أقول لا يلزم من خرور الشمس أن تنزل نزولاً ملحوظ المقدار او ترتفع ارتفاعا ملحوظ المقدار كذلك ، فالحديث أطلق ولم يذكر مقدار مسافة الخرور سفولاً ولم يعين مقدار مسافة الارتفاع عندما تقضي سجودها واستئذانها كما ان الحديث (كما ذكرناه) لم يعين مقدار زمن سجودها وكذا استئذانها. ولنضرب على ذلك مثلاً: أليس يصح السجود بالإيماء البسيط الذي لا يكاد يرى من المريض الذي لا يستطيع الحراك؟ فهذا الذي يوميء بالسجود إيماء حتى ولو كان يسيراً جداً يصح سجوده ويقع منه، فكيف إذا علمنا ان سجود الشمس بطبعه مختلف ويرد على صفته (أي سجود الشمس) من الممكنات والاحتمالات ما لايرد ولا ينطبق على سجود الآدمي. وعليه فالذين يتوقعون أو يتصورون من خرور الشمس واستئذانها مسافة معينة او زماناً مقدراً عليهم الدليل الذي بموجبه اختاروا هذا التقييد. ولا يصح منهم تصورهم الذي يلزمون به أنفسهم أو يلزمون به غيرهم بناء على القياس والمقارنة بين سجود الشمس وخرورها وكذا سجود الآدمي وخروره. وبقي هنا فائدة لطيفة وهي أن الخرور قد يأتي بمعنى الركوع وعلى هذا المعنى لا يلزم أن يكون النزول كاملاً ملحوظاً كما لو كان في السجود الحقيقي الكامل ، كما في قوله تعالى:" وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا". وقياساً على هذا عموم هذا المعنى (لا قياساً على فعل الآدمي) نقول أنه لا يلزم من خرور الشمس أن يكون خروراً بالغ السفول بحيث يستنكر الناس منها ذلك. وقبل ذلك كله ذكرنا أن الحديث لم يبين مقدار مسافة السفول او مقدار مسافة الارتفاع فقد يقع منها الخرور والارتفاع بمقدار يسير لا يلحظه احد وذلك بسنتيمترات يسيرة مثلاً والحديث بإطلاقه لكيفية وصفة السجود لا يمنع من هذا الاحتمال.
والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه ووحرره طالب المغفرة:
عبدالله بن سعيد بن علي الشهري