السؤال
حديث (لا يدخل الجنة ولد زانية) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه العلامة الألباني في "السلسلة الصحيحة"، فما مدى صحته ؟ وآمل ذكر النصوص التي دلت على ضعفه إذا كان ضعيفا ؟ وإذا كان ضعيفا فكيف ذكره الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة ؟
ملخص الجواب
حديث (لا يدخل الجنة ولد زانية) معلول لا يصح ، وأن كل طرقه لا تخلو من ضعف ظاهر. ولا يصح الاحتجاج بهذا الحديث ونحوه، في مثل هذه المسألة الكبيرة ، ولا يلزم لها التأويل ، فإنه فرع عن التصحيح .
الجواب
الحمد لله.
التعليق على درجة الحديث :
رُوي هذا الحديث عن ثلاثة من الصحابة، وهم ( عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو هريرة، عثمان بن أبي العاص ) رضي الله عنهم، ولا يصح عن واحد منهم .
وروي كذلك عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، لكنه من الاختلاف على مجاهد، فهو حديث واحد كما سنذكر .
وإليك تفصيل ذلك :
أما حديث عبد الله بن عمرو، فهو مضطرب سندا ومتنا، وبه أعله الدارقطني كما في "القول المسدد" (ص40) .
فإنه اختلف فيه على منصور، فرواه عنه شعبة والثوري وجرير وهمام وابن أبي ليلى .
فرواه الثوري، كما عند النسائي في "السنن الكبرى" (4895)، وابن حبان في "صحيحه" (3383)، وابن أبي ليلي كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (13/536)، وجرير كما عند ابن خزيمة في "التوحيد" (2/865) ثلاثتهم عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا وَلَدُ زِنَا ، وفي لفظ " ولا ولد زنية ".
ورواه شعبة، كما عند أبي داود الطيالسي في "مسنده" (2409)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (25414)، والدارمي كما في "سننه" (2139)،عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن نبيط، عن عبد الله بن عمرو به .
وبعضهم يرويه بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ . وبعضهم يرويه بزيادة : ولا ولد زنا ".
ثم إنه مع اضطرابه ضعيف فيه انقطاع، فالحديث مداره على جابان، وهو مجهول، ولا يعرف له سماع من عبد الله بن عمرو بن العاص .
قال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (2/564) : شيخ ". اهـ، وقال ابن خزيمة في "التوحيد" (2/864) :" مجهول ". اهـ، وقال أحمد كما في "بحر الدم" (1315) :" لا أعرفه ". اهـ، وقال ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكون" (623) :" مجهول" انتهى، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1410) :" لا يدرى من هو " انتهى .
وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/257) :" وَلا يعرف لجابان سماع من عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، وَلا لسالم من جابان وَلا من نبيط " انتهى .
وفيه " سالم بن أبي الجعد "، ثقة إلا أنه مدلس، وقد عنعن، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/109) :" من ثقات التابعين، لكنه يدلس ويرسل " انتهى .
وهذا الطريق ضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2/281) فقال :" قلت: وعلة هذا الإسناد، جابان هذا، فإنه لا يدرى من هو كما قال الذهبي، وإن وثقه ابن حبان على قاعدته . والزيادة التي في آخره منكرة لأنها بظاهرها تخالف النصوص القاطعة بأن أحدا لا يحمل وزر أحد، وأنه لا يجني أحد على أحد، وفي ذلك غير الآية أحاديث كثيرة، خرجتها في " الإرواء " (2362)، ولذلك أنكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد روى عبد الرزاق عنها أنها كانت تعيب ذلك وتقول :" ما عليه من وزر أبويه، قال الله تعالى :" ولا تزر وازرة وزر أخرى". وإسناده صحيح " انتهى .
وأما حديث أبي هريرة، فمداره على مجاهد، وقد اختلف عليه اختلافا كبيرا، حتى إنه رُوي عنه على عشرة أوجه لا يمكن الجمع بينها، فهو حديث مضطرب معلول .
فرواه عنه الحسن بن عمرو والمنهال بن عمرو والحكم، كما في "السنن الكبرى للنسائي" (4904)، و(4905)، و(4906)، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعيد بن أبي ذباب، عن أبي هريرة مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ .
ورواه الحسن بن عمرو عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا به، كما في "السنن الكبرى" للنسائي (4903) .
ورواه موسى الجهني عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا عليه، كما في "السنن الكبرى" للنسائي (4901)، بلفظ : أَرْبَعَةٌ لَا يَلِجُونَ الْجَنَّةَ عَاقٌّ بِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ خَمْرٍ، وَمَنَّانٌ وَوَلَدُ زِنَا
ورواه منصور عن مجاهد عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة مرفوعا، بلفظ : لا يدخل الجنة عاق لوالديه ولا ولد زنى ولا مدمن خمر ، كما في "تهذيب الآثار" (312) .
ورواه يونس بن خباب عن مجاهد عن ابن عمر به مرفوعا بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنَا وَلَا الثَّانِي وَلَا الثَّالِثُ ، كما في " السنن الكبرى" للنسائي (4908)
ورواه زياد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنَا، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَا مَنَّانٌ ، كما في "شعب الإيمان" للبيهقي (7489).
ورواه عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا ولد زنى ولا من أتى ذات محرم ولا مرتدا أعرابيا بعد هجرة ، كما في "تهذيب الآثار" للطبري (308)
ورواه خصيف عن مجاهد عن ابن عباس به مرفوعا، كما في "حلية الأولياء" (3/308)، بلفظ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ .
ورواه إبراهيم بن أبي المهاجر عن مجاهد عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الزِّنَا وَلَا شَيْءٌ مِنْ نَسْلِهِ إِلَى سَبْعَةِ آبَاءٍ الْجَنَّةَ ، كما في "مسند عبد بن حميد" (1464) .
قال أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/307) :" اخْتُلِفَ عَلَى مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقَاوِيلَ عَشَرَةٍ ". انتهى.
وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/111) :" قال الدار قطني: ثم اختلف على مجاهد في هذا الحديث على عشرة أوجه، فتارة يروى عن مجاهد عن أبى هريرة، وتارة عن مجاهد عن ابن عمر، وتارة عن مجاهد عن أبى ذئاب، وتارة يروى موقوفا، إلى غير ذلك، وكله من تخليط الرواة ". انتهى .
رواية عثمان بن أبي العاص :
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية" لابن حجر (1874)، من طريق إبراهيم بن الحسن، قال ثنا عبد الله بن عيسى، رجل من أهل البصرة عن أبي الحكم، مولى أبي العاص، عن عثمان بن أبي العاص، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة ولد زنا، ولا عاق لوالديه، ولا مدمن خمر . . قيل : يا رسول الله، وما مدمن خمر ؟ قال: ثلاث سنين، في كل سنة مرة .
وإسناده ضعيف جدا، مسلسل بالمجاهيل .
فيه " أبو الحكم مولى أبي العاص "، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/516) :" لا يعرف " انتهى .
وكذلك فيه " إبراهيم بن الحسن الكندي، وعبد الله بن عيسى " : مجهولان، كما قال علي بن المديني في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/93) .
والحديث لضعفه واضطراب طرقه سندا ومتنا، ضعفه جماهير أهل العلم، حتى قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/413)، والقاري في "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" (391) :" لا أصل له ". انتهى، بل حكم عليه بالوضع ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/109) .
وصحح أحد طرقه الحافظ السخاوي كما في "الأجوبة المرضية" (1/96)، وهو طريق الحسن بن عمرو الفقيمي عن مجاهد قال: كنت نازلاً بالمدينة على عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن أبي ذئاب، فحدثنا عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة ولد زنية ".
وتردد فيه الشيخ الألباني، فقال في "السلسلة الضعيفة" (3/449) :" وقد تكلم على الحديث جماعة من العلماء، كالحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف " (4/176/210) والسخاوي في " المقاصد الحسنة " (470/1322) وابن طاهر في " تذكرة الموضوعات " (ص 109) وابن القيم في " المنار " (ص 48) واتفقوا جميعا على أنه ليس على ظاهره، وعلى أنه ليس له إسناد صالح للاحتجاج به . وغاية ما ادعاه بعضهم ردا على ابن طاهر وابن الجوزي: أنه ليس بموضوع! ولذلك تكلفوا في تأويله حتى لا يتعارض مع الأصل المتقدم، بما تراه مشروحا في كثير من المصادر المتقدمة . وأنا أرى أنه لا مسوغ لتكلف تأويله بعد ثبوت ضعفه من جميع طرقه، ولذلك فقد أحسن صنعا من حكم عليه بالوضع كابن طاهر وابن الجوزي، والله أعلم " انتهى .
ثم عاد الشيخ الألباني فقوى الحديث بالشواهد في "السلسلة الصحيحة" (2/282)، فقال :" وقد وجدت للحديث شواهد يتقوى بها، فقال الطحاوي (1 / 395) : حدثنا أبو أمية حدثنا محمد بن سابق حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن أبي الحجاج، عن مولى لأبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بتمامه. قلت: وهذا شاهد قوي رجاله كلهم ثقات غير مولى أبي قتادة، فلم أعرفه، لكنه إن كان صحابيا، فلا تضر الجهالة به لأن الصحابة كلهم عدول كما هو معلوم، ومن المحتمل أن يكون منهم لأن الراوي عنه، أبا الحجاج، هو مجاهد بن جبر التابعي المشهور ". انتهى.
من صحح الحديث لا يقول بظاهر الحديث
ومن صحح الحديث وقواه من أهل العلم لم يقل بظاهره إجماعا، لأن الله يقول : وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الأنعام/164.
وقد نصَّ على ذلك الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه السخاوي في "الجواهر والدرر" (2/930)، حيث قال :" ومنها: أنه سُئِلَ عن حديث " لا يدخُل الجنَّةَ ولدُ زِنا ولا ولدُه ولا ولدُ ولدِه ". هل هو صحيحٌ؟ وما معناه؟.
فأجاب: ليس هذا الحديث بهذا اللَّفظ صحيحًا، وورد في حديث " لا يدخل ولدُ زنا الجنَّة ". فسره العلماء -على تقدير صحته - بأنَّ معناه : إذا عمل بمثل عمل أبويه، واتفقوا أنه لا يُحْمَلُ على ظاهره، واللَّه أعلم ".
كلام أهل العلم في تأويل معنى الحديث
وقد ذكر أهل العلم عدة أجوبة لتأويل معنى الحديث، فمنها :
التوجيه الأول : أن المقصود بقوله " ابن زنا "، أو " ولد زنا " . من كان متحققا به مكثرا له، أي يفعل الزنى حتى يوصف به .
قال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/372) أُرِيدَ بِهِ : من تَحَقَّقَ بِالزِّنَا، حتى صَارَ غَالِبًا عليه، فَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَيُقَالُ هو ابْنٌ له، كما يُنْسَبُ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالدُّنْيَا إلَيْهَا، فَيُقَالُ لهم : بَنُو الدُّنْيَا، لِعَمَلِهِمْ لها، وَتَحَقُّقِهِمْ بها، وَتَرْكِهِمْ ما سِوَاهَا، وَكَمَا قد قِيلَ لِلْمُتَحَقِّقِ بِالْحَذَرِ: ابن أَحْذَارٍ، وَلِلْمُتَحَقِّقِ بِالْكَلاَمِ : ابن الأَقْوَالِ، وَكَمَا قِيلَ لِلْمُسَافِرِ: ابن سَبِيلٍ، وَكَمَا قِيلَ لِلْمَقْطُوعِينَ عن أَمْوَالِهِمْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا : أَبْنَاءُ السَّبِيلِ، كما قال تَعَالَى في أَصْنَافِ أَهْلِ الزَّكَاةِ : ( إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ )، حتى ذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَ السَّبِيلِ . وَكَمَا قال بَدْرُ بن حَزَازٍ لِلنَّابِغَةِ :
أَبْلِغْ زِيَادًا وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ * فَلَوْ تَكَيَّسَ أو كان ابْنَ أَحْذَارِ
أَيْ لو كان حَذِرًا وَذَا كَيْسٍ، وَكَمَا يُقَالُ فُلاَنٌ ابن مَدِينَةٍ، لِلْمَدِينَةِ التي هو مُتَحَقِّقٌ بها. وَمِنْهُ قَوْلُ الأَخْطَلِ :
رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ * يَظَلُّ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ
فَمِثْلُ ذلك : (ابن زِنْيَةٍ) ؛ قِيلَ لِمَنْ قد تَحَقَّقَ بِالزِّنَا، حتى صَارَ بِتَحَقُّقِهِ بِهِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَصَارَ الزِّنَا غَالِبًا عليه ؛ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِهَذِهِ الْمَكَانِ التي فيه، ولم يُرِدْ بِهِ من كان ليس من ذَوِي الزِّنَا الذي هو مَوْلُودٌ من الزِّنَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى هذا الحديث لِلْمَعَانِي التي ذَكَرْنَاهَا في مِثْلِهِ في الْبَابِ الذي قبل هذا الْبَابِ " انتهى .
التوجيه الثاني : أنه إن مات طفلا لا يدخل الجنة بعمل أبويه المسلمين، لانقطاع نسبه، بخلاف من ولد من أبوين مسلمين من نكاح صحيح، فإنه إن مات طفلا دخل الجنة بإسلام أبويه، ولحوق نسبه إليهما . ذكر ذلك الإمام أحمد بن إسماعيل أبو الخير الطالقاني، وهو من فقهاء الشافعية، بل قال عنه ابن النجار :" كان رئيس أصحاب الشافعي " انتهى من "تاريخ الإسلام" للذهبي (12/903)
قال الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين" (2/146) في ترجمة الطالقاني :" رأيت بخطه، سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد، في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة، عما ورد في الخبر أن ولد الزنا لا يدخل الجنة، وهناك جمع من الفقهاء، فقال بعضهم : هذا لا يصح ؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى . وذكر أن بعضهم قال في معناه : أنه إذا عمل عمل أَصْلَيْهِ [= والديه]، وارتكب الفاحشة : لا يدخل الجنة . وزيف ذلك، بأن هذا لا يختص بولد الزنا، بل حال ولد الرِّشْدة مثله .
ثم فتح الله تعالى عليَّ جوابه شافيا، لا أدري هل سبقت إليه ؟ فقلت : معناه أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليهِ، بخلاف ولد الرشدة، فإنه إذا مات طفلا، وأبواه مؤمنان : ألحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء . وولد الزنا لا يدخل الجنة بعمل أصليه ؛ أما الزاني فنسبه منقطع، وأما الزانية فشؤم زناها، وإن صلحت : يمنع من وصول بركة صلاحها إليه ". انتهى .
التوجيه الثالث : أنه ليس المقصود أنه يُحرم الجنة بفعل أبويه، وإنما هذا من باب الخبر، أن من ولد من الزنا كان نطفة خبيثة، لا يوفق للخير لخبث أصله .
قال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص115) :" والذين قالوا لا يدخل الجنة، احتجوا بأمور، منها : أن النبي قال لا يدخل الجنة ولد زنا، فإذا كان هذا حال ولد الزنا، مع أنه لا ذنب له في ذلك، ولكنه مظِنة كل شر وخبث، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدا، لأنه مخلوق من نطفة خبيثة، وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام : النار أولى به ؛ فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام ؟!" انتهى .
وقال في "نقد المنقول" (ص123) :" ومن ذلك : أحاديث : ( لا يدخل الجنة ولد زنا )، قال أبو الفرج ابن الجوزي : وقد ورد في ذلك أحاديث، ليس فيها شيء يصح، وهي معارَضة بقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
قلت : ليست معارَضة لها، إن صحت ؛ فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة، لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص " انتهى .
ومما سبق يتبين :
أن الحديث معلول لا يصح، وأن كل طرقه لا تخلو من ضعف ظاهر.
ولا يصح الاحتجاج بهذا الحديث ونحوه، في مثل هذه المسألة الكبيرة، ولا يلزم لها التأويل، فإنه فرع عن التصحيح .
ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة هذه الأجوبة: (3006)، (21818)
والله أعلم .
حديث " لا يدخل الجنة ولد زنية " لا أعرف له إسناداً صحيحاً سالماً من العلل أو الشذوذ. وإن كان بعض أهل العلم قد صحح الحديث كابن حبان (رقم 3384،3383) والألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة: رقم 673).
وبعض أهل العلم حكم عليه بالوضع كابن الجوزي (رقم 1561 - 1566) وحكم أيضاً على حديث: " ولد الزنا شر الثلاثة " بشدة الضعف فأورده في العلل المتناهية (رقم 1282 - 1283) في حين وصفه بعض أهل العلم بالاضطراب كالدارقطني، وبالضعف كالحافظ ابن حجر كما في القول المسدد له (49 - 50 رقم 10) والكلام فيه طويل جداً.
ولو صح الحديث فقد اتفق أهل العلم أنه لا يُحمل على ظاهره؛ لأن الشريعة قد قررت حُكماً قطعياً، وهو: أن أحداً لا يحمل من إثم غيره شيئاً ما دام أنه لم يكن له يدٌ في وقوع غيره فيه. فإن الله – تعالى – يقول: " ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " [النجم 38 - 39ٍ]
وقال – سبحانه -: " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " [البقرة: 286] وقال –عز وجل -: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون " [البقرة: 141،134].
ولذلك فقد صح عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تقول عن ولد الزنا: " ليس عليه من وزر أبويه، قال الله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (13861،13860) وابن أبي شيبة (رقم 12543) وصح عن علي بن أبي طلحة أن ابن عباس أنكر على من قال: إنه شرُ الثلاثة، وقال: " لو كان شرَّ الثلاثة ما استُؤْني بأمَّه أن تُرجم حتى تضعه " أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (24/ 135 - 136) وانظره في الاستذكار (23/ 175) بل كان ابن عباس يقول: " هو خير الثلاثة " أخرجه عبد الرزاق (رقم 13863)
ولذلك فإن لمن صحح الحديث تفاسير عِدة تُخرج الحديث عن معارضته الظاهرية المقرر القطعي السابق ذكره. ومن أحسن هذه التوجيهات توجيه الإمام الطحاوي في بيان مشكل الأحاديث (2/ 372 - 373) حيث فسر كلمة (ولد زنية) الواردة في الحديث بأن المقصود بها من وقع منه الزنى وغلب عليه حتى صار يُنسب إليه، وبيَّن أن هذا أسلوب عربي صحيح، كما يُقال للمشتغلين بالدنيا بنو الدنيا، وكما وُصف المسافر المنقطع ب (ابن السبيل) واستشهد الطحاوي لذلك ببيتين من الشعر تدل على هذا الاستخدام أيضاً. هذا والله أعلم. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
حديث (لا يدخل الجنة ولد زانية) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه العلامة الألباني في "السلسلة الصحيحة"، فما مدى صحته ؟ وآمل ذكر النصوص التي دلت على ضعفه إذا كان ضعيفا ؟ وإذا كان ضعيفا فكيف ذكره الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة ؟
ملخص الجواب
حديث (لا يدخل الجنة ولد زانية) معلول لا يصح ، وأن كل طرقه لا تخلو من ضعف ظاهر. ولا يصح الاحتجاج بهذا الحديث ونحوه، في مثل هذه المسألة الكبيرة ، ولا يلزم لها التأويل ، فإنه فرع عن التصحيح .
الجواب
الحمد لله.
التعليق على درجة الحديث :
رُوي هذا الحديث عن ثلاثة من الصحابة، وهم ( عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو هريرة، عثمان بن أبي العاص ) رضي الله عنهم، ولا يصح عن واحد منهم .
وروي كذلك عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، لكنه من الاختلاف على مجاهد، فهو حديث واحد كما سنذكر .
وإليك تفصيل ذلك :
أما حديث عبد الله بن عمرو، فهو مضطرب سندا ومتنا، وبه أعله الدارقطني كما في "القول المسدد" (ص40) .
فإنه اختلف فيه على منصور، فرواه عنه شعبة والثوري وجرير وهمام وابن أبي ليلى .
فرواه الثوري، كما عند النسائي في "السنن الكبرى" (4895)، وابن حبان في "صحيحه" (3383)، وابن أبي ليلي كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (13/536)، وجرير كما عند ابن خزيمة في "التوحيد" (2/865) ثلاثتهم عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا وَلَدُ زِنَا ، وفي لفظ " ولا ولد زنية ".
ورواه شعبة، كما عند أبي داود الطيالسي في "مسنده" (2409)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (25414)، والدارمي كما في "سننه" (2139)،عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن نبيط، عن عبد الله بن عمرو به .
وبعضهم يرويه بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ . وبعضهم يرويه بزيادة : ولا ولد زنا ".
ثم إنه مع اضطرابه ضعيف فيه انقطاع، فالحديث مداره على جابان، وهو مجهول، ولا يعرف له سماع من عبد الله بن عمرو بن العاص .
قال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (2/564) : شيخ ". اهـ، وقال ابن خزيمة في "التوحيد" (2/864) :" مجهول ". اهـ، وقال أحمد كما في "بحر الدم" (1315) :" لا أعرفه ". اهـ، وقال ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكون" (623) :" مجهول" انتهى، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1410) :" لا يدرى من هو " انتهى .
وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/257) :" وَلا يعرف لجابان سماع من عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، وَلا لسالم من جابان وَلا من نبيط " انتهى .
وفيه " سالم بن أبي الجعد "، ثقة إلا أنه مدلس، وقد عنعن، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/109) :" من ثقات التابعين، لكنه يدلس ويرسل " انتهى .
وهذا الطريق ضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2/281) فقال :" قلت: وعلة هذا الإسناد، جابان هذا، فإنه لا يدرى من هو كما قال الذهبي، وإن وثقه ابن حبان على قاعدته . والزيادة التي في آخره منكرة لأنها بظاهرها تخالف النصوص القاطعة بأن أحدا لا يحمل وزر أحد، وأنه لا يجني أحد على أحد، وفي ذلك غير الآية أحاديث كثيرة، خرجتها في " الإرواء " (2362)، ولذلك أنكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد روى عبد الرزاق عنها أنها كانت تعيب ذلك وتقول :" ما عليه من وزر أبويه، قال الله تعالى :" ولا تزر وازرة وزر أخرى". وإسناده صحيح " انتهى .
وأما حديث أبي هريرة، فمداره على مجاهد، وقد اختلف عليه اختلافا كبيرا، حتى إنه رُوي عنه على عشرة أوجه لا يمكن الجمع بينها، فهو حديث مضطرب معلول .
فرواه عنه الحسن بن عمرو والمنهال بن عمرو والحكم، كما في "السنن الكبرى للنسائي" (4904)، و(4905)، و(4906)، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعيد بن أبي ذباب، عن أبي هريرة مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ .
ورواه الحسن بن عمرو عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا به، كما في "السنن الكبرى" للنسائي (4903) .
ورواه موسى الجهني عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا عليه، كما في "السنن الكبرى" للنسائي (4901)، بلفظ : أَرْبَعَةٌ لَا يَلِجُونَ الْجَنَّةَ عَاقٌّ بِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ خَمْرٍ، وَمَنَّانٌ وَوَلَدُ زِنَا
ورواه منصور عن مجاهد عن مولى لأبي قتادة عن أبي قتادة مرفوعا، بلفظ : لا يدخل الجنة عاق لوالديه ولا ولد زنى ولا مدمن خمر ، كما في "تهذيب الآثار" (312) .
ورواه يونس بن خباب عن مجاهد عن ابن عمر به مرفوعا بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنَا وَلَا الثَّانِي وَلَا الثَّالِثُ ، كما في " السنن الكبرى" للنسائي (4908)
ورواه زياد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنَا، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَا مَنَّانٌ ، كما في "شعب الإيمان" للبيهقي (7489).
ورواه عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا ولد زنى ولا من أتى ذات محرم ولا مرتدا أعرابيا بعد هجرة ، كما في "تهذيب الآثار" للطبري (308)
ورواه خصيف عن مجاهد عن ابن عباس به مرفوعا، كما في "حلية الأولياء" (3/308)، بلفظ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ .
ورواه إبراهيم بن أبي المهاجر عن مجاهد عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، مرفوعا، بلفظ : لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الزِّنَا وَلَا شَيْءٌ مِنْ نَسْلِهِ إِلَى سَبْعَةِ آبَاءٍ الْجَنَّةَ ، كما في "مسند عبد بن حميد" (1464) .
قال أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/307) :" اخْتُلِفَ عَلَى مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقَاوِيلَ عَشَرَةٍ ". انتهى.
وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/111) :" قال الدار قطني: ثم اختلف على مجاهد في هذا الحديث على عشرة أوجه، فتارة يروى عن مجاهد عن أبى هريرة، وتارة عن مجاهد عن ابن عمر، وتارة عن مجاهد عن أبى ذئاب، وتارة يروى موقوفا، إلى غير ذلك، وكله من تخليط الرواة ". انتهى .
رواية عثمان بن أبي العاص :
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية" لابن حجر (1874)، من طريق إبراهيم بن الحسن، قال ثنا عبد الله بن عيسى، رجل من أهل البصرة عن أبي الحكم، مولى أبي العاص، عن عثمان بن أبي العاص، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة ولد زنا، ولا عاق لوالديه، ولا مدمن خمر . . قيل : يا رسول الله، وما مدمن خمر ؟ قال: ثلاث سنين، في كل سنة مرة .
وإسناده ضعيف جدا، مسلسل بالمجاهيل .
فيه " أبو الحكم مولى أبي العاص "، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/516) :" لا يعرف " انتهى .
وكذلك فيه " إبراهيم بن الحسن الكندي، وعبد الله بن عيسى " : مجهولان، كما قال علي بن المديني في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/93) .
والحديث لضعفه واضطراب طرقه سندا ومتنا، ضعفه جماهير أهل العلم، حتى قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/413)، والقاري في "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" (391) :" لا أصل له ". انتهى، بل حكم عليه بالوضع ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/109) .
وصحح أحد طرقه الحافظ السخاوي كما في "الأجوبة المرضية" (1/96)، وهو طريق الحسن بن عمرو الفقيمي عن مجاهد قال: كنت نازلاً بالمدينة على عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن أبي ذئاب، فحدثنا عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة ولد زنية ".
وتردد فيه الشيخ الألباني، فقال في "السلسلة الضعيفة" (3/449) :" وقد تكلم على الحديث جماعة من العلماء، كالحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف " (4/176/210) والسخاوي في " المقاصد الحسنة " (470/1322) وابن طاهر في " تذكرة الموضوعات " (ص 109) وابن القيم في " المنار " (ص 48) واتفقوا جميعا على أنه ليس على ظاهره، وعلى أنه ليس له إسناد صالح للاحتجاج به . وغاية ما ادعاه بعضهم ردا على ابن طاهر وابن الجوزي: أنه ليس بموضوع! ولذلك تكلفوا في تأويله حتى لا يتعارض مع الأصل المتقدم، بما تراه مشروحا في كثير من المصادر المتقدمة . وأنا أرى أنه لا مسوغ لتكلف تأويله بعد ثبوت ضعفه من جميع طرقه، ولذلك فقد أحسن صنعا من حكم عليه بالوضع كابن طاهر وابن الجوزي، والله أعلم " انتهى .
ثم عاد الشيخ الألباني فقوى الحديث بالشواهد في "السلسلة الصحيحة" (2/282)، فقال :" وقد وجدت للحديث شواهد يتقوى بها، فقال الطحاوي (1 / 395) : حدثنا أبو أمية حدثنا محمد بن سابق حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن أبي الحجاج، عن مولى لأبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بتمامه. قلت: وهذا شاهد قوي رجاله كلهم ثقات غير مولى أبي قتادة، فلم أعرفه، لكنه إن كان صحابيا، فلا تضر الجهالة به لأن الصحابة كلهم عدول كما هو معلوم، ومن المحتمل أن يكون منهم لأن الراوي عنه، أبا الحجاج، هو مجاهد بن جبر التابعي المشهور ". انتهى.
من صحح الحديث لا يقول بظاهر الحديث
ومن صحح الحديث وقواه من أهل العلم لم يقل بظاهره إجماعا، لأن الله يقول : وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الأنعام/164.
وقد نصَّ على ذلك الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه السخاوي في "الجواهر والدرر" (2/930)، حيث قال :" ومنها: أنه سُئِلَ عن حديث " لا يدخُل الجنَّةَ ولدُ زِنا ولا ولدُه ولا ولدُ ولدِه ". هل هو صحيحٌ؟ وما معناه؟.
فأجاب: ليس هذا الحديث بهذا اللَّفظ صحيحًا، وورد في حديث " لا يدخل ولدُ زنا الجنَّة ". فسره العلماء -على تقدير صحته - بأنَّ معناه : إذا عمل بمثل عمل أبويه، واتفقوا أنه لا يُحْمَلُ على ظاهره، واللَّه أعلم ".
كلام أهل العلم في تأويل معنى الحديث
وقد ذكر أهل العلم عدة أجوبة لتأويل معنى الحديث، فمنها :
التوجيه الأول : أن المقصود بقوله " ابن زنا "، أو " ولد زنا " . من كان متحققا به مكثرا له، أي يفعل الزنى حتى يوصف به .
قال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/372) أُرِيدَ بِهِ : من تَحَقَّقَ بِالزِّنَا، حتى صَارَ غَالِبًا عليه، فَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَيُقَالُ هو ابْنٌ له، كما يُنْسَبُ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالدُّنْيَا إلَيْهَا، فَيُقَالُ لهم : بَنُو الدُّنْيَا، لِعَمَلِهِمْ لها، وَتَحَقُّقِهِمْ بها، وَتَرْكِهِمْ ما سِوَاهَا، وَكَمَا قد قِيلَ لِلْمُتَحَقِّقِ بِالْحَذَرِ: ابن أَحْذَارٍ، وَلِلْمُتَحَقِّقِ بِالْكَلاَمِ : ابن الأَقْوَالِ، وَكَمَا قِيلَ لِلْمُسَافِرِ: ابن سَبِيلٍ، وَكَمَا قِيلَ لِلْمَقْطُوعِينَ عن أَمْوَالِهِمْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا : أَبْنَاءُ السَّبِيلِ، كما قال تَعَالَى في أَصْنَافِ أَهْلِ الزَّكَاةِ : ( إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ )، حتى ذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَ السَّبِيلِ . وَكَمَا قال بَدْرُ بن حَزَازٍ لِلنَّابِغَةِ :
أَبْلِغْ زِيَادًا وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ * فَلَوْ تَكَيَّسَ أو كان ابْنَ أَحْذَارِ
أَيْ لو كان حَذِرًا وَذَا كَيْسٍ، وَكَمَا يُقَالُ فُلاَنٌ ابن مَدِينَةٍ، لِلْمَدِينَةِ التي هو مُتَحَقِّقٌ بها. وَمِنْهُ قَوْلُ الأَخْطَلِ :
رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ * يَظَلُّ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ
فَمِثْلُ ذلك : (ابن زِنْيَةٍ) ؛ قِيلَ لِمَنْ قد تَحَقَّقَ بِالزِّنَا، حتى صَارَ بِتَحَقُّقِهِ بِهِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَصَارَ الزِّنَا غَالِبًا عليه ؛ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِهَذِهِ الْمَكَانِ التي فيه، ولم يُرِدْ بِهِ من كان ليس من ذَوِي الزِّنَا الذي هو مَوْلُودٌ من الزِّنَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى هذا الحديث لِلْمَعَانِي التي ذَكَرْنَاهَا في مِثْلِهِ في الْبَابِ الذي قبل هذا الْبَابِ " انتهى .
التوجيه الثاني : أنه إن مات طفلا لا يدخل الجنة بعمل أبويه المسلمين، لانقطاع نسبه، بخلاف من ولد من أبوين مسلمين من نكاح صحيح، فإنه إن مات طفلا دخل الجنة بإسلام أبويه، ولحوق نسبه إليهما . ذكر ذلك الإمام أحمد بن إسماعيل أبو الخير الطالقاني، وهو من فقهاء الشافعية، بل قال عنه ابن النجار :" كان رئيس أصحاب الشافعي " انتهى من "تاريخ الإسلام" للذهبي (12/903)
قال الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين" (2/146) في ترجمة الطالقاني :" رأيت بخطه، سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد، في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة، عما ورد في الخبر أن ولد الزنا لا يدخل الجنة، وهناك جمع من الفقهاء، فقال بعضهم : هذا لا يصح ؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى . وذكر أن بعضهم قال في معناه : أنه إذا عمل عمل أَصْلَيْهِ [= والديه]، وارتكب الفاحشة : لا يدخل الجنة . وزيف ذلك، بأن هذا لا يختص بولد الزنا، بل حال ولد الرِّشْدة مثله .
ثم فتح الله تعالى عليَّ جوابه شافيا، لا أدري هل سبقت إليه ؟ فقلت : معناه أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليهِ، بخلاف ولد الرشدة، فإنه إذا مات طفلا، وأبواه مؤمنان : ألحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء . وولد الزنا لا يدخل الجنة بعمل أصليه ؛ أما الزاني فنسبه منقطع، وأما الزانية فشؤم زناها، وإن صلحت : يمنع من وصول بركة صلاحها إليه ". انتهى .
التوجيه الثالث : أنه ليس المقصود أنه يُحرم الجنة بفعل أبويه، وإنما هذا من باب الخبر، أن من ولد من الزنا كان نطفة خبيثة، لا يوفق للخير لخبث أصله .
قال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص115) :" والذين قالوا لا يدخل الجنة، احتجوا بأمور، منها : أن النبي قال لا يدخل الجنة ولد زنا، فإذا كان هذا حال ولد الزنا، مع أنه لا ذنب له في ذلك، ولكنه مظِنة كل شر وخبث، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدا، لأنه مخلوق من نطفة خبيثة، وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام : النار أولى به ؛ فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام ؟!" انتهى .
وقال في "نقد المنقول" (ص123) :" ومن ذلك : أحاديث : ( لا يدخل الجنة ولد زنا )، قال أبو الفرج ابن الجوزي : وقد ورد في ذلك أحاديث، ليس فيها شيء يصح، وهي معارَضة بقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
قلت : ليست معارَضة لها، إن صحت ؛ فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة، لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص " انتهى .
ومما سبق يتبين :
أن الحديث معلول لا يصح، وأن كل طرقه لا تخلو من ضعف ظاهر.
ولا يصح الاحتجاج بهذا الحديث ونحوه، في مثل هذه المسألة الكبيرة، ولا يلزم لها التأويل، فإنه فرع عن التصحيح .
ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة هذه الأجوبة: (3006)، (21818)
والله أعلم .
حديث " لا يدخل الجنة ولد زنية " لا أعرف له إسناداً صحيحاً سالماً من العلل أو الشذوذ. وإن كان بعض أهل العلم قد صحح الحديث كابن حبان (رقم 3384،3383) والألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة: رقم 673).
وبعض أهل العلم حكم عليه بالوضع كابن الجوزي (رقم 1561 - 1566) وحكم أيضاً على حديث: " ولد الزنا شر الثلاثة " بشدة الضعف فأورده في العلل المتناهية (رقم 1282 - 1283) في حين وصفه بعض أهل العلم بالاضطراب كالدارقطني، وبالضعف كالحافظ ابن حجر كما في القول المسدد له (49 - 50 رقم 10) والكلام فيه طويل جداً.
ولو صح الحديث فقد اتفق أهل العلم أنه لا يُحمل على ظاهره؛ لأن الشريعة قد قررت حُكماً قطعياً، وهو: أن أحداً لا يحمل من إثم غيره شيئاً ما دام أنه لم يكن له يدٌ في وقوع غيره فيه. فإن الله – تعالى – يقول: " ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " [النجم 38 - 39ٍ]
وقال – سبحانه -: " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " [البقرة: 286] وقال –عز وجل -: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون " [البقرة: 141،134].
ولذلك فقد صح عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تقول عن ولد الزنا: " ليس عليه من وزر أبويه، قال الله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (13861،13860) وابن أبي شيبة (رقم 12543) وصح عن علي بن أبي طلحة أن ابن عباس أنكر على من قال: إنه شرُ الثلاثة، وقال: " لو كان شرَّ الثلاثة ما استُؤْني بأمَّه أن تُرجم حتى تضعه " أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (24/ 135 - 136) وانظره في الاستذكار (23/ 175) بل كان ابن عباس يقول: " هو خير الثلاثة " أخرجه عبد الرزاق (رقم 13863)
ولذلك فإن لمن صحح الحديث تفاسير عِدة تُخرج الحديث عن معارضته الظاهرية المقرر القطعي السابق ذكره. ومن أحسن هذه التوجيهات توجيه الإمام الطحاوي في بيان مشكل الأحاديث (2/ 372 - 373) حيث فسر كلمة (ولد زنية) الواردة في الحديث بأن المقصود بها من وقع منه الزنى وغلب عليه حتى صار يُنسب إليه، وبيَّن أن هذا أسلوب عربي صحيح، كما يُقال للمشتغلين بالدنيا بنو الدنيا، وكما وُصف المسافر المنقطع ب (ابن السبيل) واستشهد الطحاوي لذلك ببيتين من الشعر تدل على هذا الاستخدام أيضاً. هذا والله أعلم. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
تعليق