فيض الكريم في حل الأقانيم
د. هشام عزمي
د. هشام عزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إن كثيرًا من الناس يكافحون في سبيلك ببذل حياتهم ، و كثيرون يكافحون في سبيلك ببذل أموالهم ، و أنا – يا ربي – لا أملك إلا ما تعلم . فاقبل يا رب كفاحي بما تعلم ، و اجعله مثمرًا في الدنيا و الآخرة ، إنك أنت العليم النصير .
و آخرون أعمتهم الدنيا فراحوا بأسلحتهم و أموالهم يحاربون دينك و رسولك ، و نحن ضدهم نحارب في سبيلك ، فافتح علينا يا ربنا بمددك الظاهر و الباطن ، و أرنا عجائب قدرتك و فتوحات حكمتك ، و انصرنا على أعدائك تحت راية دينك . إنك أنت السميع المجيب .
اللهم أنت ربي و أنت حسبي و أنت وليي و أنت وكيلي ، فنعم الرب ربي و نعم الحسب حسبي و نعم الولي وليي و نعم الوكيل و كيلي ، فسدد خطانا و انصرنا على القوم الكافرين و أنت القوي العزيز .
الأقانيم هي الحل
يرى النصارى أن وجود الأقانيم يحل معضلة أزلية الصفات الإلهية ، فالأقانيم – في نظرهم – هي الحل السحري الذي أعضل الفلاسفة و أعجز أرباب الديانات لمشكلة أزلية الصفات و كونها متعلقة بالمخلوقات غير الأزلية في نفس الوقت . و لمزيد من التعرف على حل الإقانيم ، دعونا نصت لما يقوله النصارى أنفسهم .
يقول احدهم في معرض كلامه عن الثالوث الأقدس – كما يسمونه - :
ولكن يعترضنا هنا اشكال.... ان كانت صفات الله اذلية كما نؤمن جميعا فهى اما عاملة او عاطلة ... فحاشا لله ان تكون صفاتة عاطلة فى اى وقت ثم اصبحت عاملة ( والا يكون قد حدث لة تغيير واللة لايتغير ) ... واذا كانت صفات الله عاملة معة منذ الاذل ... فمع من كان يتكلم فى الأزل قبل خلق الكون والملائكة؟؟؟؟ ومن كان يسمع ؟؟؟؟؟؟؟؟ ومن كان يود ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومن كان يراة وهو البصير؟؟؟؟؟؟؟؟
فان كان يود غيرة ويتكلم مع غيرة ويسمع غيرة وينظر الى غيرة .. فهذا شرك بالله
وان كان لايود ولايتكلم ولايسمع ولايرى .. فصفاتة هنا كانت عاطلة حتى خلق البشرية واصبح يتكلم ويود ويسمع ويرى بعد ان خلق خليقتة اى حدث للة تغيير فى صفاتة .. وهنا يكون فاقد لمقومات وجودة .. وهنا يكون اشبة بصفر فى فضاء العزلة والعدم ولاوجود لة ... وهو حاشاة ان يكون هكذا فهذا الكلام كفر بين
وهنا نجد الانجيل هو الوحيد الذى حل لنا هذة المشكلة ووضح لنا الحل العقلى المقبول لها( بعكس من يدعى ان تثليث الله ضد العقل ) .. حيث يقدم لنا الانجيل الله كما اعلن لنا عن نفسة .. الها حيا كاملا بكل صفاتة التى نعرفها ..فهو يتبادل الود والتكلم والسمع والبصر بين اقانيمة الثلاثة ( متى 28 : 19) وهؤلاء الثلاثة هم واحد ( 1يو 5: 7 ) فان الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الاب و الكلمة و الروح القدس و هؤلاء الثلاثة هم واحد) واقنوم كلمة تعنى جانب من جوانب شخصية الله الواحد الاحد .. انة واحد احد لاشريك لة لكن لة جوانب ثلاثة .
ففي نظر النصراني تقوم الإقانيم بجعل صفات الله عاملة على الدوام حتى لا تتغير عند تعلقها بالمخلوقات بعد وقوع عملية الخلق ، فالله يتبادل الود و التكلم و السمع و البصر بين أقانيمه ، و هذا هو ما سماه النصراني بالحل العقلي المقبول .
يقول آخر :
فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثا , وإن كان يبدو صعبا , ولكنه معقول, بل هو المعقول, لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله; لأنها تقتضي تنزيهه عن الصفات والعلاقات, ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات, وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منزه عن التغير, وهو مكتف بذاته, مستغن عن مخلوقاته. إذا , لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأنه لا شريك له ولا تركيب فيه. ولابد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة; أي جامعة لتعينات الذات الواحدة, لأن من لا تعين له لا وجود له.
ولا تناقض بين الوحدانية والتعينات, لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته, لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل, مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلا إن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها, أو إن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه, ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب, والآب يحب الابن, قبل إنشاء العالم, والروح القدس هو «روح المحبة». وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.
ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهرآ غامضا لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع علي أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته, حاشا. بل هم ذات واحدة, جوهر واحد, لاهوت واحد.
و يقول ثالث في اختصار :
تفرَّد الله دون سائر الكائنات بأنه مع وحدانيته وعدم وجود أي تركيب فيه، ليس تعيّناً واحداً بل تعينات. وكونه تعينات وليس تعيناً واحداً أمر يتوافق مع كماله واستغنائه بذاته وعدم تعرّضه للتطور أو التغير، لأنه يدل على أنه مع تفرّده بالأزلية كانت جميع صفاته بالفعل أزلاً، أي قبل وجود أي كائن سواه.
و يقول رابع معللاً الإيمان بالثالوث القدوس :
لأن الله محبة ، هو المحبة في أعلى صورها، وهذه المحبة تعود إلى كينونته فهو يمارس الحب منذ الأزل وإلى الأبد، ولا يمكن أن تكون هذه الصفة قد أضيفت إليه في وقت من الأوقات، و إلا فإنه يكون قد تغير – وحاشا لله أن يتغير -. ولابد لكي يمارس أحد الحب أن يكون هناك محبوب ، ولذا فالسؤال هو يا ترى من الذي كان يحبه الله قبل خلق الإنسان والعالم والخليقة؟ هل يوجد أزلي آخر غير الله، حاشا؟ ولذا لابد أن يكون هذا الحب موجها إلى أقنوم آخر في جوهره الواحد ، ولذا نستطيع أن نقول أن الله مكتفي بذاته من خلال أقانيمه فأقنوم الآب يحب اقنوم الإبن والإبن محبوب من الآب وهكذا ...
و يقول خامس متبعًا نفس السبيل :
من الناس من يقولون : لم يا ترى إله واحد في ثلاثة أقانيم ؟ أليس في تعدد الأقانيم انتقاص لقدر الله ؟ و أليس من الأفضل أن يقال : الله أحد و حسب ؟
لكننا إذا اطلعنا على كنه الله لا يسعنا إلا القول بالتثليث ، و كنه الله محبة (يوحنا الأولى4 : 16) ، و لا يمكن إلا أن يكون محبة ، ليكون الله سعيدًا ، فالمحبة هي مصدر سعادة الله ، و من طبع المحبة أن تفيض و تنتشر على شخص آخر فيضان الماء و انتشار النور ، فهي إذن تفترض شخصين على الأقل يتحابان ، و تفترض مع ذلك وحدة تامة بينهما ، و ليكون الله سعيدًا - و لا معنى لإله غير سعيد و إلا انتفت عنه الألوهية - كان عليه أن يهب ذاته شخصًا آخر يجد فيه سعادته و منتهى رغباته ، و يكون بالتالي صورة ناطقة له ، و لذلك ولد الله الابن منذ الأزل نتيجة لحبه إياه ، و وهبه ذاته ، و وجد فيه سعادته و منتهى رغباته ، و بادل الابن الأب هذه المحبة ، و وجد فيه هو أيضًا سعادته و منتهى رغباته ، و ثمرة هذا المحبة المتبادلة بين الأب و الابن كانت الروح القدس ، هو الحب إذًا يجعل الله ثالوثًا و واحدًا معًا .
هذا هو كلامهم الموجود على مواقعهم و في كتبهم ، لم أغير فيه حرفًا ، و نقلته بنصه و بسياقه لم أغير فيه - و لو خطأ إملائيًا ! – و الله على ما أقول شهيد . و أرجو أن تغفروا لي عدم توثيق المصادر ؛ فنحن لسنا ممن يستحل الدعاية للكافرين أو لكتبهم أو لمواقعهم .
و استدلالهم هذا على صحة التثليث شهير جدًا ؛ فقد وجدناه في كل كتبهم تقريبًا ، و لا تخلو واحدة من مطوياتهم التي يوزعونها بغرض التنصير من إيراد هذا الكلام أو شبيهه .
و الرد عليهم في هذا الاستدلال من وجوه أذكرها تباعًا بإذن الله و حوله و قوته داعين الله أن يوفقنا و يسدد خطانا و يلهمنا الصواب ... آمين .
الوجه الأول
لم لا يتم حل المشكلة بقولنا أن الله يحب و يرى و يسمع ذاته منذ الأزل بدون الحاجة إلى أقانيم ؟ فالإنسان المخلوق – مثلاً – يحب ذاته و يرى ذاته و يسمع ذاته دون الحاجة إلى أقانيم ، فلم أوجبتم على الله وجودها ؟
ثم إن هناك دليلاً عقليًا على أن الله يرى و يسمع ذاته منذ الأزل : فإنه من المسلم به عند المسلمين و النصارى أن المؤمنين يرون الله و يسمعونه يوم القيامة . و بما أنه من المستحيل أن يرى و يسمع المخلوق ما لا يراه و لا يسمعه الله ، فالعقل يوجب أن الله يرى و يسمع ذاته يوم القيامة . و بما أنه سبحانه موجود منذ الأزل ، فهو يرى و يسمع ذاته منذ الأزل .
ما رأيكم في هذا الحل ؟
هو حل أكثر معقولية بمراحل من حل الأقانيم . و هو ينطبق كذلك على صفة المحبة ، فالله يحب ذاته منذ الأزل و ليس في هذا أي غرابة ، أليس كذلك ؟!
و هناك ملحوظة أوردها لتحاشي سوء الفهم : فقولنا الله و ذاته لا يشير لكائنين مختلفين ، بل الله علم على الذات الموصوفة بالصفات . فالذات الأزلية الموصوفة بالصفات الإلهية الأزلية هي الله . فالله هو اسم للذات و ليس كائنًا مغايرًا لها .
و للأمانة العلمية نذكر من صفوف كتّاب النصارى من تصدى بالنقد لهذا الحل ، يقول عوض سمعان في كتابه ( الله بين الفلسفة و المسيحية ) :
إن اعتبرنا وحدانية الله وحدانية مطلقة، تعذَّر علينا القول إنه يشاهد ذاته ويعيها، لأن هذا العمل يؤدي إلى تكوّن الله من إثنين هما " أ " هو " ب " وذاته، كما يؤدي إلى وجود علاقة له بينه وبين ذاته. والوحدانية المطلقة ليست مركبة، ولا علاقة لها بينها وبين ذاتها. كما تعذَّر علينا القول إنه كان يريد ذاته أو يحب ذاته، أو يسمع ذاته أزلاً. لأن ممارسته في الأزل لهذه الصفات " بل لكل صفاته الأخرى " تتطلّب إما وجود كائن أو كائنات ملازمة له أزلاً، أو وجود تركيب في ذاته. وبما أن الله واحد لا شريك له، وفي الوقت نفسه لا تركيب فيه على الإطلاق، إذاً فهذا الحل ليس على شيء من الصواب أيضاً.
و هو كلام ظاهر التكلف و يناقض المشاهدة و الحس ؛ فإنه إذا تكلم الإنسان فهو يسمع نفسه بلا مشاكل . بل إنه إذا كلم زيدُ عبيدًا ، فالكلام لا يسمعه عبيد فحسب بل و يسمعه زيد أيضًا . و هذا ثابت بالحس و المشاهدة و لا ينكره إلا مكابر !
بل إنه من الثابت لدى المسلمين أن الله بعد فناء كل المخلوقات يتكلم و يقول : (( لمن الملك اليوم ؟ )) و يرد قائلاً : (( لله الواحد القهار )) ، فهذا يدل على أن الكلام كصفة أو كفعل لا يرتبط بمفعول .
و معلوم أن الإنسان يعلم ذاته و يعيها و يدرك إن كان سعيدًا أو غاضبًا أو حزينًا ، و هو – كذلك – يرى نفسه و يسمع نفسه بدون وجود أقانيم فيه . فكيف ننفي عن الله كونه يعلم ذاته و يدركها و يراها و يسمعها ؟!
و مقتضى تطبيق هذا الكلام على الأقانيم أنه عندما يتكلم الآب بشئ إلى الإبن ، فالآب لا يسمع هذا الكلام بل الإبن فقط هو الذي يسمعه !! لأنه لا يجوز أن تكون هناك نسبة بين الآب و الآب ، بل هي فقط بين أقنومين متغايرين كالآب و الإبن ! و لا حول و لا قوة إلا بالله !
الوجه الثاني
قولهم أن عمل صفات الله بعد كونها عاطلة يقتضي وقوع التغير في ذات الله هو غير مسلّم ، بل هو باطل .
لماذا ؟
لأن التغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون الفاعل قام بالفعل فإن الناس لا يقولون للإنسان إذا تكلم – بعد سكوته - ومشى – بعد وقوفه – أنه وقع له تغير في ذاته .
ولا يقولون إذا طاف و صلى و أمر و نهى- إذا كان ذلك من عاداته- أنه تغير ، بل يقولون ذلك لمن استحال وانقلب من وضع لآخر كالإنسان إذا مرض وقد كان صحيح البدن ، قيل قد تغير .
وكذلك إذا تغير خلقه ودينه يقال قد تغير كالذي يكون فاجراً ثم ينقلب براً يقال له قد تغير ، قال تعالى: { إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، ومن المعلوم أنهم إذا كانوا على عاداتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم . فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا باعتقاد الخير اعتقاد الشر قيل قد غيروا ما بأنفسهم .
فإذا كان هذا هو معنى التغير فالرب لم يزل ولا يزال يفعل أفعال الكمال وأفعاله كلها كمال سبحانه لم يتغير عن ذلك فمتى شاء تكلم ومتى شاء رزق ومتى شاء خلق .
ولكن الذين يلزمهم أن يكون قد تغير هم من يقولون كان في الأزل لا يفعل والفعل ممتنع منه لا يتمكن منه!! ثم صار الفعل ممكناً يمكنه أن يفعل ويقولون صار الفعل ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً وهذه عين التغير .
يقول شارح الطحاوية :
ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلمًا بالأمس لا يقال : أنه حدث له الكلام ، ولو كان غير متكلم ، لأنه لآفة كالصغر . والخرس ، ثم تكلم يقال - : حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة ، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء ، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل ، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل ، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة .
( ابن أبي العز الحنفي ، شرح العقيدة الطحاوية ص76 )
فيفهم من هذا الكلام أن التغير في ذات الله يقع لو كان الانتقال من مرحلة العجز عن الفعل إلى مرحلة القدرة على الفعل . لكنه لا يقع عند انتقال الصفة من مرحلة القدرة على الفعل إلى مرحلة القيام بالفعل .
و عليه يتبين فساد قول النصارى أن كون الصفات عاطلة ثم عاملة يستلزم وقوع التغير في ذات الله .
الوجه الثالث
الصفات الإلهية ثلاثة أقسام : صفات ذاتية ثابتة لله أزلاً و أبدًا لا تفارقه ، و صفات فعلية متعلقة بالمشيئة إن شاء الله فعلها و إن لم يشأ لم يفعلها ، و صفات خبرية .
يقول العلامة العثيمين رحمه الله :
الصفات : يعني ما يتصف به الموصوف وهي بالنسبة لله عز وجل ثلاثة أقسام :
1 – صفات ذاتية .
2 – وصفات فعلية .
3 – وصفات خبرية .
الصفات الذاتية : هي صفات المعاني الثابتة لله أزلاً وأبداً ، مثل : الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة إلى غير ذلك وهي كثيرة ، تسمى صفات ذاتية فهذه صفات ذاتية ، لأنه متصف بها أزلا ً وأبدًا لا تفارق ذاته .
الصفات الفعلية : هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ، مثل : الاستواء على العرش ، والنـزول إلى السماء الدنيا ، والمجيء للفصل بين العباد ، والفرح بتوبة التائب ، والضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة ، والغضب على الكافرين والرضى للمؤمنين وما أشبه ذلك ، هذه تسمى صفات فعلية ، لأنها من فعله وفعله يتعلق بمشيئته ، لكن هذا القسم من صفات الله ، آحاده حادثة تحدث شيئاً فشيئاً ، وأما جنس الفعل فإنه أزلي أبدي .
الصفات الخبرية : يعني : أننا نعتمد فيها على مجرد الخبر ، ليست من المعاني المعقولة بل المدركة بالسمع المجرد .
( محمد بن صالح بن عثيمين ، شرح العقيدة السفارينية ص153-154 بتصرف )
فبخلاف الصفات الذاتية مثل العلم و العزة و الحكمة الملازمة لله أزلاً و أبدًا ، نجد أن الصفات الفعلية مثل الرزق و المنع متعلقة بمشيئة الله : إذا شاء رزق و إذا شاء منع ، فهو يرزق من يشاء عندما يشاء و يمنع من يشاء عندما يشاء . و لا يقال أن الله يرزق أزلاً و يمنع أزلاً ؛ لأن الرزق و المنع حسب مشيئته إن شاء رزق و إن شاء منع .
وقد نشأ عن عدم التفريق بين الصفات الذاتية والصفات والفعلية فساد و إلحاد في أسماء الله و صفاته , بل نشا عن القول بقدم الصفات الفعلية هذا الإشكال النصراني .
يقول الكاتب النصراني عوض سمعان عن صفات الله:
وإن قلنا إنها قديمة افترضنا وجود كائنات معه أزلاً كان يحبها ويسمعها ويكلمها، أو افترضنا وجود تركيب في ذاته، لأن هذه الصفات تستلزم في ممارستها وجود أكثر من كائن واحد، أو وجود كائن مركب،من هيولي وصورة، أو من جوهر وعرض. وهذا باطل، لأن الله لا شريك له ولا تركيب في ذاته.
فهو يقول بقدم الصفات الإلهية و لكنه لا يفرق بين الصفات الذاتية و الفعلية ، فوقع في الإشكال !
و لا يظن أحدٌ أننا نقول بحدوث الصفات الفعلية – معاذ الله ! بل قولنا الذي ندين به هو أن الله متصف بهذه الصفات أزلاً و لكن الأفعال نفسها حادثة في آحادها ؛ فهو الخالق المصور الرزاق أزلاً و أبدًا بمعنى أنه قادر على الخلق و التصوير و الرزق منذ الأزل و إلى الأبد ، و لكن خلق زيد هو فعل حادث و تصوير زيد فعل حادث و رزق زيد فعل حادث . و لا يجوز عقلاً أن نقول أن الله يخلق زيد أزلاً أو يصوره أزلاً أو يرزقه أزلاً ، فهذا محال بين البطلان !
نتابع مع عوض سمعان :
حقاً قد يكون هناك شخص بصير دون أن يكون هناك شيء يبصره. لكن إذا أدركنا أن الله كامل في ذاته كل الكمال، وأنه لذلك لا يتغير أو يتطور أو يكتسب لذاته شيئاً على الإطلاق، تبيَّن لنا أنه لا يمكن أن صفاته كانت في الأزل عاطلة، ثم أصبحت بعد ذلك صفات عاملة، بسبب وجود الكائنات التي خلقها في الزمان. بل من المؤكد أن صفاته كانت عاملة من تلقاء ذاتها أزلاً لدرجة الكمال، قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه. وعملها هذا، على اعتبار أن وحدانيته وحدانية مطلقة، يقتضي وجود كائن أو كائنات ملازمة له أزلاً، أو وجود تركيب في ذاته كما مرَّ بنا. لأنه لولا ذلك لما كان لصفاته عمل حينذاك. وبما أن الله لا شريك له ولا تركيب فيه، إذاً فهذا الحل ليس على شيء من الصواب كذلك.
فها هو قد وقع في فخ جعل صفات الله الفعلية عاملة من تلقاء ذاتها!! أزلاً ، بل هو يقرر أن كونها عاملة أزلاً و أبدًا هو اللائق بكمال الله سبحانه . و مقتضى هذا الاعتقاد هو نفي مشيئة الله في أفعاله ؛ فهو – حسب كلامه – لا يفعل بإرادته ، بل هو مجبر على الفعل و إلا انتفى كماله !
و هذه طعنة قاتلة لهذه الأطروحة النصرانية !
فعند النصارى أن الله مجبور على الفعل حتى لا ينتفي كماله ، فتوقفه عن الفعل نقص . و هذا نفي لإرادته و مشيئته و كونه فعال لما يريد . بخلاف اعتقادنا – كمسلمين – في كون الله قادرًا على الفعل أزلاً و أبدًا و لكنه يفعل بإرادته و مشيئته ، و أنه إذا أراد شيئًا فعله و إن لم يرد لم يفعل ، و أن فعله و إرادته متلازمان .
و العجيب أن عوض سمعان اضطر للقول بعدم أزلية الفعل نفسه بل أزلية القابلية للفعل بعد سطور حيث قال :
وقد يقول قائل آخر إن الكتاب المقدس يُسنِد إلى الله الغضب، ولا يُعقَل أن الغضب كان أزلاً، لأنه لم يكن هناك ما يدعو الله للغضب حينذاك. كما أن الغضب يدل على حدوث تأثر فيه، والتأثر يقتضي التغيّر، والله لا يتغير!
وللرد على ذلك نقول : إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أن مبدأ التأثر لا بد وأن يكون موجوداً فيه منذ الأزل، لأنه بسبب هذه الوحدانية يكون محباً ومحبوباً، وعالماً ومعلوماً، ومريداً ومراداً، ومتكلماً وسامعاً، منذ الأزل. فضلاً عن ذلك، فإن الغضب المسنَد إلى الله بسبب قيام الناس بعمل الشر، لا يُراد به حدوث انفعال فيه، بل يُراد به فقط عدم رضائه عن فعل الشر، وذلك وجه من الوجوه السلبية للكمال الذي يتصف به أزلاً، لأن الكمال لا يحب الخير فقط، بل ويبغض الشر أيضاً. وبما أن كمال الله كان بالفعل أزلاً، فمن البديهي أن يكون للغضب ضد الشر أساس في ذاته أزلاً أيضاً.
لاحظ كلماته ( مبدأ التأثر لا بد وأن يكون موجوداً فيه منذ الأزل ) و ( فمن البديهي أن يكون للغضب ضد الشر أساس في ذاته أزلاً ) ، فهو يعترف بأن مبدأ أو أساس أو صفة الغضب ضد الشر موجودة أزلاً في ذات الله و لكنه يهرب من القول صراحةً أن الله قادر على الغضب أزلاً و لكنه يغضب عندما يشاء ، فتأمل !
خلاصة هذا الوجه : أن النصارى يقولون أن الله فاعل أزلاً و أن استمراره في حال الفعل هو كمال له تعالى لأن كونه فاعلاً أزلاً و أبدًا هو أكمل له من كونه عاطلاً .
و عليه فيلزم النصارى القول بوجوب الفعل على الله ، و هذا الوجوب ليس لمجرد علمه بأنه سيفعل بل لأن كونه فاعلاً هو كمال له من حيث ذاته و صفاته أو أحدهما . و معلوم أن ما كان كمالاً لله تعالى فهو واجب ، لذا يجب على الله أن يكون فاعلاً ليستمر في منزلة الكمال .
و هذا قبيح جدًا ؛ لأنه ينافي القول بأن الله يفعل بإرادته المحضة . فالقول بالإرادة المحضة لا يتفق و وجوب الفعل على الله لكون الفعل أكمل له من عدمه . فالله – عندهم – لا يحب بإرادته ، بل يحب لأنه مجبر على الحب ، و لا يتكلم كما يشاء بل هو مجبر على الكلام منذ الأزل و إلى الأبد ، و هكذا مع باقي الصفات .
فإن قال لك النصراني : أنا أؤمن بإله تعمل صفاته أزلاً من تلقاء ذاتها ، قل له : أنا أؤمن بإله يفعل ما يريد .
ملحوظة : كل الاقتباسات لعوض سمعان من كتابه ( الله بينالفلسفة و المسيحية ) ، الباب الثالث ( مشكلات الوحدانية المجردة و الوحدانيةالمطلقة ) ، الفصل الأول ( مشكلة العلاقة بين صفات الله و ذاته ) .
الوجه الرابع
هناك العديد من الصفات التي لا يمكن تصور عملها بين الأقانيم قبل الخلق مثل الخالق و الغفور و الباعث و المحيي و المميت و غيرهم . فكيف يعقل أن تكون الأقانيم تخلق بعضها بعضًا أو تحيي بعضها بعضًا و تميت بعضها بعضًا أو تبعث – من الموت!! – بعضها بعضًا ؟!!
هناك حلان لهذا الإشكال :
إما أن يقول النصارى أن العالم أزلي مع الله ، و بالتالي كانت هذه الصفات عاملة أزلاً من خلال تفاعل الله الأزلي مع مخلوقاته الموجودة منذ الأزل .
أو يقولوا – كما قال عوض سمعان في صفة الغضب – أن مبدأ أو أساس صفات الخلق و المغفرة و الإحياء و الإماتة و البعث موجودة في الله منذ الأزل ، و لكنها تعمل فقط عندما يشاء الله . أو بمعنى أوضح : أن هذه الصفات متعلقة بمشيئة الله يفعلها عندما يشاء و لا يلزمه القيام بها في كل وقت .
و في الحالتين يصير حل الأقانيم في خبر كان !
لأنه وقتها نستطيع أن نقول للنصارى أن الحل المقترح لكيفية عمل هذه الصفات يصلح كذلك لباقي الصفات مثل المحبة و الكلام و السمع و البصر و غيرها . فإن كنتم – يا معشر النصارى – قد اضطررتم لهذا الحل ، فيلزمكم اتباعه في كل الصفات و بالتالي لا يصير لفرضية الأقانيم أي ضرورة أو حتى مسوغ .
و القضية باختصار أن دعوى النصارى أن الأقانيم هي الحل السحري لمشكلة عمل الصفات الإلهية يثبت فشلها عند التصدي لعمل بعض الصفات كالخلق و الإحياء و الإماتة و البعث . و عند البحث عن حل لهذه الصفات لا يلجأ النصارى لحل الأقانيم ، بل يستنبطون حلاً آخر . و هنا نقول لهم : لم لا تستخدموا هذا الحل اللاأقانيمي مع كل الصفات ؟ أليس وجود حل واحد لكيفية عمل كل الصفات أفضل من وضع حل لبعض الصفات و حل آخر للبعض الآخر ؟
و هنا تسقط دعوى اضطرارهم للقول بالأقانيم !
و أنها هي الحل العقلي المقبول !
و أن الإيمان بها هو المعقول !
و أنه لا بد من الإقرار بها !
إلى آخر هذه الدعاوى التي قرأناها سويًا في بداية هذا البحث .