الإسلام و الغرب > كارثة فكرية >
يستمر في الولايات المتحدة وأوربا ذلك الهوس العدائي الغريب بالإسلام. في الآونة الأخيرة أصدر الكاتب التريندادي الأصل، البريطاني الجنسية حاليا، في.أس. نايبول مؤلفا ضخما عن رحلاته إلى أربع من دول العالم الإسلامي، كلها غير عربية، عنوان الكتاب ما بعد الإيمان: رحلات إسلامية بين الشعوب المعتنقة، وهو يشكل متابعة لكتابه بين المؤلفين: رحلة إسلامية، الذي أصدره قبل 18 سنة عن زيارة قام بها آنذاك للدول نفسها، خلال الفترة ما بين الإصدارين أصبح في. إس. نيبول السير في. إس. نيبول المؤلف الواسع الشهرة، وأيضا ن كما يجب أن نقول، الغزير الموهبة، الذي وطدت رواياته وكتبه الأخرى "أكثرها من أدب الرحلات" مكانته كأحد أهم الشخصيات في الأدب العالمي، ويبلغ من شهرته، على سبيل المثال، أننا نجد الترجمة الفرنسية لـ ما بعد الإيمان، حتى في واجهات مخازن سونيا ريكييل الفخمة في شارع سان جرمان في باريس، معروضة بين الشالات والأحزمة وشنطات اليد، إنه ولا شك نوع من التقدير لنايبول، رغم أنه قد لا يسره كثيراً، من الجهة الأخرى اهتمت كبريات الصحف الأمريكية والبريطانية بمراجعة الكتاب والإشادة به كعمل من أستاذ عظيم في فن الملاحظة الدقيقة والتفصيل المعبر، يلبي في شكل خاص ذلك النهم العميق لدى القارئ الغربي لتعرية وفضح الإسلام، وإذ لا يمكن أحداً اليوم أن يؤلف كتابا مشابها عن المسيحية أو اليهودية، فإن الإسلام لا يزال يعتبر "صيدا حلالا"، مهما كان تواضع معلومات "الخبير" المفترض عن الموضوع وجهله اللغات اللازمة لتناوله.
ولكن نايبول له حالة خاصة، إنه ليس من محترفي الاستشراق أو متقصدي الإثارة، بل شخص من العالم الثالث يوجه رسائله عن تلك المناطق إلى قراء لنا أن نفترض أنهم من الليبراليين الغربيين المحبطين، الذين لا يملون سماع أسوأ ما يمكن عن أساطير ذلك العالم، أي حركات التحرر الوطني، والأهداف الثورية، وشرور الكولونيالية، وكلها في نظر نايبول ما يفسر الوضع المزري لدول أفريقيا وآسيا الني تغرق في بحر من الفقر والعجز، وتعاني من سوء هضم أفكار غربية مثل التصنيع والتحديث، أنهم أولئك الناس، كما يقول نايبول في واحد من كتبه، الذين يعرفون استعمال الهاتف لكن ليس ابتكاره، ويمكن الآن في الغرب الاستشهاد بنايبول كشخصية نموذجية من العالم الثالث، فقد ولد في ترينيداد لعائلة هندية تنتمي إلى الطائفة الهندوسية، ونزح إلى بريطانيا في الخمسينات وأصبح من طليعة النخبة الثقافية، ويأتي اسمه دوما عند الكلام عن مرشحين محتملين لجائزة نوبل، من هنا كما يرون لا بد من الثقة بشهادته عن العالم الثالث. وكما كتب أحد مراجعي مؤلفاته في 1979م، فهو يقدم شهادته "من دون أي وهم رومانسي عن التفوق الأخلاقي للأقوام البدائية. ومن دون أثر للتعالي الغربي أو الحنين إلى الكولونيالية."
مع ذلك فحتى نايبول يعتبر أن الإسلام من بين المشاكل الأسوأ التي يعاني منها العالم الثالث وقال أخيراً، متأثرا ربما بأصله الهندوسي، أن الكارثة العظمى التي شوهت تاريخ الهند كانت دخول الإسلام إليها، ويختلف عن غالبية المؤلفين في أنه لم يقم بزيارة واحدة بل زيارتين إلى عالم الإسلام لكي يتيقن من كرهه العميق لذلك الدين وأهله وأفكاره، المفارقة أنه يهدي ما بعد الإيمان إلى زوجته المسلمة نادرة، من دون إشارة إلى أفكارها ومشاعرها، ويبين كتابه الأول أنه تبرهن له على آرائه المسبقة، لكن تبرهن على ماذا؟ على أن العودة إلى الإسلام تمثل نوعا من "الانذهال" والارتداد عن الواقع، ويسأله شخص في ماليزيا: "ما الغاية من كتاباتك؟ هل تريد أخبار الناس عن حقيقة الأمور؟" ويجيب: نعم، أعتقد أن الهدف هو الفهم، ويعود السائل: "أليس الهدف هو المال؟" الجواب: "نعم، لكن طبيعة العمل مهمة)"، هكذا فهو يتنقل بين المسلمين ويكتب عن ذلك، ويتسلم مبالغ محترمة من الناشر والمجلات التي تنشر مقتطفات من كتبه، مدفوعا بأهمية العمل وليس حبا به، ويروي له المسلمون قصصهم، ويدونها باعتبارها أمثلة على طبيعة "الإسلام"، ليس في الكتابين إلا أقل من القليل من المتعة أو التعاطف، المقاطع الساخرة في الكتاب الأول جاءت كلها ضد المسلمين، الذين يعتبرهم قراء نايبول الأمريكيون والبريطانيون أجانب مضحكين أو متشددين إرهابيين محتملين لا يستطيعون التهجي أو التفكير المنطقي أو الحوار السليم مع الغربيين الرهيفي التحضر. وهكذا فكلما كشف المسلمون نقاط ضعفهم ((الإسلامية)) سارع نايبول، ذلك الشاهد العالم ثالثي المعتمد، إلى تسجيلها وتوجيهها إلى الغرب، على سبيل المثال: ما أن يعبر إيراني عن المرارة من الغرب حتى يوضح نايبول: أنه تخبط شعب له حضارة قروسطية عليلة يستيقظ على عالم النفط والمال، ويتضارب لديه شعور بالقوة من جهة والانتهاك من الثانية، ويدرك أن هناك حضارة جديدة عظيمة تحيط به (الغرب)، ولا بد من رفضها، لكن في الوقت نفسه الاتكال عليها.
علينا أن نتذكر هذه الجملة ونصف الجملة، لأنها مقولة نايبول الرئيسة التي ينطق منها لمخاطبة العالم: "الغرب هو علم المعرفة والنقد والتقنية، والمؤسسات الفاعلة، فيما يعاني الإسلام من الإحباط والغضب والتأخر والاتكال. ويرى أمامه قوة جديدة لا يعرف كيف يسيطر عليها. الغرب يقدم الخير إلى الإسلام من الخارج، لأن الحياة التي جاءت إلى الإسلام لم تأت من داخله" وهكذا، في جملة واحدة، يختزل نايبول حياة بليون مسلم، ويلقي بها جانبا، علة الإسلام السياسي الأصلية كما يرى تكمن في بدايته - أنها العلة التي سرت في تاريخ الإسلام، وهي أنه لم يقدم حلا سياسيا أو عمليا للقضايا السياسية التي أثارها، أنه لم يقدم سوى الإيمان، ولم يقدم سوى النبي، الذي كان سيعطي كل الحلول، إلا أنه توفي، هذا الإسلام السياسي هو ليس سوى الغضب والفوضى، إن كل الأمثلة التي يقدمها نايبول، كل الأشخاص الذين التقى، هم من القائلين بالنقيضة بين الإسلام والغرب، وهي النقيضة التي افترضها أصلا وصمم على أن يراها في كل مكان، من هنا فالكتاب الأول في النهاية مشجر مليء بالتكرار.
لكن لماذا يعود بعد نحو عشرين ليقدم كتابا ثانيا يضارع الأول في الإطالة والإملال؟ السبب الوحيد الذي أجده هو أنه يعتقد أن الإسلام دين العرب، وكل مسلم غير عربي فهو مجرد "معتنق" للدين. من هنا فإن جميع هؤلاء المعتنقين أي الماليزيين والباكستانيين والإيرانيين والإندونيسيين وغيرهم، يعانون من فقدان الهوية الأصلية أو كبتها. أي أن الإسلام ديانة وافدة تعزلهم عن تقاليدهم وتتركهم في حال دائم من الـ((بين بين)). ويحاول نايبول في كتابه الجديد توثيق مصير ((المعتنقين)) الذين خسروا ماضيهم ولم يقدم لهم دينهم الجديد سوى الضياع والمزيد من اللا كفاءة المضحكة - كل ذلك نتيجة تحولهم إلى الإسلام. إذا وافقنا على هذا المنطق السخيف يمكن أن نقول إن الكاثوليكية لا تصلح إلا لسكان روما، ونعتبر أن كل من عداهم من الكاثوليك، أي الإيطاليين خارج روما والأسبان والأمريكيين اللاتينيين والفيليبينيين.... الخ، مقطوع عن تاريخه وتقاليده، كما أن جميع الأنغليكانيين خارج إنكلترا هم من المعتنقين ولذا، فمثلهم مثل المسلمين من غير العرب، ليس أمامهم سوى اللاجدوى وتقليد الغير.
يقع ما بعد الإيمان في أربع مئة صفحة، تقوم كلها على هذه "النظرية" الغيبية والمهينة. السؤال هنا ليس عن صحة أو خطأ الفكرة، وإنما عن كيف أمكن لرجل بذكاء وموهبة نايبول تأليف كتاب على هذه الدرجة من الحمق والإملال، يكرر إلى ما لا نهاية قصصا تعبر عن فكرة سقيمة هي أن غالبية المسلمين هي من الذين انقطعوا عن تاريخهم باعتناق الإسلام وكتب عليهم، تبعا لذلك، مواجهة مصير واحد متشابه. المسلمون من غير العرب متحولون عن هويتهم وليس لهم إلا أن يعيشوا تاريخا مزيفا.
ما أراه هو أن نايبول في مرحلة ما من حياته، تعرض لحادث فكري خطير. وأن هوسه العدائي بالإسلام أدى به في شكل ما إلى التوقف عن التفكير، أو إلى ما يشبه الانتحار الفردي الذي يجبره على تكرار المقولة نفسها إلى ما لا نهاية. إنها ما أعتبره كارثة فكرية كبرى فقد فيها نايبول الكثير من قدراته. إذ أصبحت كتاباته مكرورة مضجرة، وضاعت مواهبه، ولم يعد قادراً على التفكير السليم. إنه الآن يعتاش على سمعته، التي توهم مراجعي كتبه أنهم لا يزالون أمام كاتب عظيم، فيما الحقيقة أنه ليس الآن سوى شبح لذلك الكاتب. المؤسف أكثر أن كتابه الأخير عن الإسلام سيعتبر تقويما رئيسا لديانته عظيمة، وسيؤدي ذلك إلى المزيد من الأذى للمسلمين، وإلى المزيد من التوسع والتعميق للهوة بينهم وبين الغرب. ولن يستفيد أحد شيئا سوى الناشرين الذين سيبيعون الكثير من الكتب، ونايبول نفسه الذي سيحصل على الكثير من المال.
كارثة فكرية!(*)
إدوارد سعيد
أستاذ الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا
إدوارد سعيد
أستاذ الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا
يستمر في الولايات المتحدة وأوربا ذلك الهوس العدائي الغريب بالإسلام. في الآونة الأخيرة أصدر الكاتب التريندادي الأصل، البريطاني الجنسية حاليا، في.أس. نايبول مؤلفا ضخما عن رحلاته إلى أربع من دول العالم الإسلامي، كلها غير عربية، عنوان الكتاب ما بعد الإيمان: رحلات إسلامية بين الشعوب المعتنقة، وهو يشكل متابعة لكتابه بين المؤلفين: رحلة إسلامية، الذي أصدره قبل 18 سنة عن زيارة قام بها آنذاك للدول نفسها، خلال الفترة ما بين الإصدارين أصبح في. إس. نيبول السير في. إس. نيبول المؤلف الواسع الشهرة، وأيضا ن كما يجب أن نقول، الغزير الموهبة، الذي وطدت رواياته وكتبه الأخرى "أكثرها من أدب الرحلات" مكانته كأحد أهم الشخصيات في الأدب العالمي، ويبلغ من شهرته، على سبيل المثال، أننا نجد الترجمة الفرنسية لـ ما بعد الإيمان، حتى في واجهات مخازن سونيا ريكييل الفخمة في شارع سان جرمان في باريس، معروضة بين الشالات والأحزمة وشنطات اليد، إنه ولا شك نوع من التقدير لنايبول، رغم أنه قد لا يسره كثيراً، من الجهة الأخرى اهتمت كبريات الصحف الأمريكية والبريطانية بمراجعة الكتاب والإشادة به كعمل من أستاذ عظيم في فن الملاحظة الدقيقة والتفصيل المعبر، يلبي في شكل خاص ذلك النهم العميق لدى القارئ الغربي لتعرية وفضح الإسلام، وإذ لا يمكن أحداً اليوم أن يؤلف كتابا مشابها عن المسيحية أو اليهودية، فإن الإسلام لا يزال يعتبر "صيدا حلالا"، مهما كان تواضع معلومات "الخبير" المفترض عن الموضوع وجهله اللغات اللازمة لتناوله.
ولكن نايبول له حالة خاصة، إنه ليس من محترفي الاستشراق أو متقصدي الإثارة، بل شخص من العالم الثالث يوجه رسائله عن تلك المناطق إلى قراء لنا أن نفترض أنهم من الليبراليين الغربيين المحبطين، الذين لا يملون سماع أسوأ ما يمكن عن أساطير ذلك العالم، أي حركات التحرر الوطني، والأهداف الثورية، وشرور الكولونيالية، وكلها في نظر نايبول ما يفسر الوضع المزري لدول أفريقيا وآسيا الني تغرق في بحر من الفقر والعجز، وتعاني من سوء هضم أفكار غربية مثل التصنيع والتحديث، أنهم أولئك الناس، كما يقول نايبول في واحد من كتبه، الذين يعرفون استعمال الهاتف لكن ليس ابتكاره، ويمكن الآن في الغرب الاستشهاد بنايبول كشخصية نموذجية من العالم الثالث، فقد ولد في ترينيداد لعائلة هندية تنتمي إلى الطائفة الهندوسية، ونزح إلى بريطانيا في الخمسينات وأصبح من طليعة النخبة الثقافية، ويأتي اسمه دوما عند الكلام عن مرشحين محتملين لجائزة نوبل، من هنا كما يرون لا بد من الثقة بشهادته عن العالم الثالث. وكما كتب أحد مراجعي مؤلفاته في 1979م، فهو يقدم شهادته "من دون أي وهم رومانسي عن التفوق الأخلاقي للأقوام البدائية. ومن دون أثر للتعالي الغربي أو الحنين إلى الكولونيالية."
مع ذلك فحتى نايبول يعتبر أن الإسلام من بين المشاكل الأسوأ التي يعاني منها العالم الثالث وقال أخيراً، متأثرا ربما بأصله الهندوسي، أن الكارثة العظمى التي شوهت تاريخ الهند كانت دخول الإسلام إليها، ويختلف عن غالبية المؤلفين في أنه لم يقم بزيارة واحدة بل زيارتين إلى عالم الإسلام لكي يتيقن من كرهه العميق لذلك الدين وأهله وأفكاره، المفارقة أنه يهدي ما بعد الإيمان إلى زوجته المسلمة نادرة، من دون إشارة إلى أفكارها ومشاعرها، ويبين كتابه الأول أنه تبرهن له على آرائه المسبقة، لكن تبرهن على ماذا؟ على أن العودة إلى الإسلام تمثل نوعا من "الانذهال" والارتداد عن الواقع، ويسأله شخص في ماليزيا: "ما الغاية من كتاباتك؟ هل تريد أخبار الناس عن حقيقة الأمور؟" ويجيب: نعم، أعتقد أن الهدف هو الفهم، ويعود السائل: "أليس الهدف هو المال؟" الجواب: "نعم، لكن طبيعة العمل مهمة)"، هكذا فهو يتنقل بين المسلمين ويكتب عن ذلك، ويتسلم مبالغ محترمة من الناشر والمجلات التي تنشر مقتطفات من كتبه، مدفوعا بأهمية العمل وليس حبا به، ويروي له المسلمون قصصهم، ويدونها باعتبارها أمثلة على طبيعة "الإسلام"، ليس في الكتابين إلا أقل من القليل من المتعة أو التعاطف، المقاطع الساخرة في الكتاب الأول جاءت كلها ضد المسلمين، الذين يعتبرهم قراء نايبول الأمريكيون والبريطانيون أجانب مضحكين أو متشددين إرهابيين محتملين لا يستطيعون التهجي أو التفكير المنطقي أو الحوار السليم مع الغربيين الرهيفي التحضر. وهكذا فكلما كشف المسلمون نقاط ضعفهم ((الإسلامية)) سارع نايبول، ذلك الشاهد العالم ثالثي المعتمد، إلى تسجيلها وتوجيهها إلى الغرب، على سبيل المثال: ما أن يعبر إيراني عن المرارة من الغرب حتى يوضح نايبول: أنه تخبط شعب له حضارة قروسطية عليلة يستيقظ على عالم النفط والمال، ويتضارب لديه شعور بالقوة من جهة والانتهاك من الثانية، ويدرك أن هناك حضارة جديدة عظيمة تحيط به (الغرب)، ولا بد من رفضها، لكن في الوقت نفسه الاتكال عليها.
علينا أن نتذكر هذه الجملة ونصف الجملة، لأنها مقولة نايبول الرئيسة التي ينطق منها لمخاطبة العالم: "الغرب هو علم المعرفة والنقد والتقنية، والمؤسسات الفاعلة، فيما يعاني الإسلام من الإحباط والغضب والتأخر والاتكال. ويرى أمامه قوة جديدة لا يعرف كيف يسيطر عليها. الغرب يقدم الخير إلى الإسلام من الخارج، لأن الحياة التي جاءت إلى الإسلام لم تأت من داخله" وهكذا، في جملة واحدة، يختزل نايبول حياة بليون مسلم، ويلقي بها جانبا، علة الإسلام السياسي الأصلية كما يرى تكمن في بدايته - أنها العلة التي سرت في تاريخ الإسلام، وهي أنه لم يقدم حلا سياسيا أو عمليا للقضايا السياسية التي أثارها، أنه لم يقدم سوى الإيمان، ولم يقدم سوى النبي، الذي كان سيعطي كل الحلول، إلا أنه توفي، هذا الإسلام السياسي هو ليس سوى الغضب والفوضى، إن كل الأمثلة التي يقدمها نايبول، كل الأشخاص الذين التقى، هم من القائلين بالنقيضة بين الإسلام والغرب، وهي النقيضة التي افترضها أصلا وصمم على أن يراها في كل مكان، من هنا فالكتاب الأول في النهاية مشجر مليء بالتكرار.
لكن لماذا يعود بعد نحو عشرين ليقدم كتابا ثانيا يضارع الأول في الإطالة والإملال؟ السبب الوحيد الذي أجده هو أنه يعتقد أن الإسلام دين العرب، وكل مسلم غير عربي فهو مجرد "معتنق" للدين. من هنا فإن جميع هؤلاء المعتنقين أي الماليزيين والباكستانيين والإيرانيين والإندونيسيين وغيرهم، يعانون من فقدان الهوية الأصلية أو كبتها. أي أن الإسلام ديانة وافدة تعزلهم عن تقاليدهم وتتركهم في حال دائم من الـ((بين بين)). ويحاول نايبول في كتابه الجديد توثيق مصير ((المعتنقين)) الذين خسروا ماضيهم ولم يقدم لهم دينهم الجديد سوى الضياع والمزيد من اللا كفاءة المضحكة - كل ذلك نتيجة تحولهم إلى الإسلام. إذا وافقنا على هذا المنطق السخيف يمكن أن نقول إن الكاثوليكية لا تصلح إلا لسكان روما، ونعتبر أن كل من عداهم من الكاثوليك، أي الإيطاليين خارج روما والأسبان والأمريكيين اللاتينيين والفيليبينيين.... الخ، مقطوع عن تاريخه وتقاليده، كما أن جميع الأنغليكانيين خارج إنكلترا هم من المعتنقين ولذا، فمثلهم مثل المسلمين من غير العرب، ليس أمامهم سوى اللاجدوى وتقليد الغير.
يقع ما بعد الإيمان في أربع مئة صفحة، تقوم كلها على هذه "النظرية" الغيبية والمهينة. السؤال هنا ليس عن صحة أو خطأ الفكرة، وإنما عن كيف أمكن لرجل بذكاء وموهبة نايبول تأليف كتاب على هذه الدرجة من الحمق والإملال، يكرر إلى ما لا نهاية قصصا تعبر عن فكرة سقيمة هي أن غالبية المسلمين هي من الذين انقطعوا عن تاريخهم باعتناق الإسلام وكتب عليهم، تبعا لذلك، مواجهة مصير واحد متشابه. المسلمون من غير العرب متحولون عن هويتهم وليس لهم إلا أن يعيشوا تاريخا مزيفا.
ما أراه هو أن نايبول في مرحلة ما من حياته، تعرض لحادث فكري خطير. وأن هوسه العدائي بالإسلام أدى به في شكل ما إلى التوقف عن التفكير، أو إلى ما يشبه الانتحار الفردي الذي يجبره على تكرار المقولة نفسها إلى ما لا نهاية. إنها ما أعتبره كارثة فكرية كبرى فقد فيها نايبول الكثير من قدراته. إذ أصبحت كتاباته مكرورة مضجرة، وضاعت مواهبه، ولم يعد قادراً على التفكير السليم. إنه الآن يعتاش على سمعته، التي توهم مراجعي كتبه أنهم لا يزالون أمام كاتب عظيم، فيما الحقيقة أنه ليس الآن سوى شبح لذلك الكاتب. المؤسف أكثر أن كتابه الأخير عن الإسلام سيعتبر تقويما رئيسا لديانته عظيمة، وسيؤدي ذلك إلى المزيد من الأذى للمسلمين، وإلى المزيد من التوسع والتعميق للهوة بينهم وبين الغرب. ولن يستفيد أحد شيئا سوى الناشرين الذين سيبيعون الكثير من الكتب، ونايبول نفسه الذي سيحصل على الكثير من المال.
تعليق