المؤثرات العربية في النحو العبري الوسيط
أمينة بوكيل
جامعة قسنطينة، الجزائر
الملخص:
أثار موضوع تأثر النحو العربي في مناهج بحثه اللغوي بالثقافات الأخرى اليونانية والسريانية والهندية الكثير من الجدل لأنه متصل اتصالا وثيقا بمدى أصالة النحو العربي. في هذا المقال نتناول الجانب الآخر من هذا الموضوع وهو تأثير النحو العربي في النحو العبري الوسيط من خلال عدة مستويات حاولنا الإجابة عن الإشكالية الآتية: كيف تجلت المؤثرات العربية في النحو العبري الوسيط وما هي مستوياتها؟ للإجابة عن هذه الإشكالية قسمنا المقال إلى ثلاثة مباحث: أولها رصد إشكالية تأسيس النحو العبري القديم، وثانيهما تطرق إلى بداية الدراسات النحوية في الأندلس من خلال عدة نحاة يهود. أما ثالث المباحث فتناول مظاهر تأثير النحو العربي في النحو العبري الوسيط من خلال ثلاثة مستويات: أولا على مستوى المواضيع والمصطلحات، ثانيا على مستوى منهج البحث اللغوي، وأخيرا على مستوى أساليب التأليف، وقد حللنا دوافع التأليف باللغة العربية بالذات.
The Arabic influences in the medieval Hebrew grammar
Amina Boukail
University of Constantine, Algeria
Amina Boukail
University of Constantine, Algeria
Abstract:
The issue of the influence of Arabic grammar in his linguistic research curricula with other Greek, Syriac and Indian cultures has sparked much controversy because it is closely related to the extent of authenticity of Arabic grammar. In this article, we deal with the other side of this topic, which is the effect of Arabic grammar on medieval Hebrew grammar through several levels. We tried to answer the following problem: How did the Arabic influences manifest in medieval Hebrew grammar, and what are their levels? To answer this problem, we divided the article into three sections: The first was to record the problem of establishing the ancient Hebrew grammar, and the second touched on the beginning of grammatical studies in Andalusia through several Jewish grammarians. As for the third section, it dealt with the aspects of the influence of Arabic grammar on the Hebrew grammar in the Middle Ages through three levels: first at the level of topics and terms, second at the level of the linguistic research method, and finally at the level of composition methods, and we have analyzed the motives of writing in the Arabic language in particular.
النص:
إن التأثر والتأثير بين الثقافات حتمي لا يمكن إقصاؤه فالمعارف ليست جزرا منعزلة تعيش بعيدة عن بعضها البعض، بل هي مجموعة تراكمات معرفية تمتص عبر الزمن مختلف التأثيرات التي تصلها من ثقافات أخرى سواء أكان في حرب أو سلم، بطريقة واعية أو غير واعية، وهذا ما حدث فعلا مع الثقافة اليهودية التي انتعشت بعد عصور من الجمود وتجددت بمجرد احتكاكها في الأندلس، لما وفرته هذه البيئة من مناخ تسامح وحرية فاتحة قنوات الحوار، فأقبل يهود الأندلس على الثقافة العربية إقبالا شديدا ونهلوا من ينابيعها العذبة، واختاروا اللغة العربية لغة تأليف وتواصل وتعبير.
وفي ضوء ما سبق مثل النحو العربي مصدرا هاما للنحاة اليهود في الأندلس، لما يوفره من أدوات متنوعة ومناهج تتسم بالعلمية في دراسة الظاهرة اللغوية وتحليلها على عدة مستويات، إضافة إلى استثمار النحو العربي لمعطيات العلوم الأخرى والتي جعلته ثريا ومنفتحا في الوقت نفسه، فهل كان هناك فعلا نحوا عبريا قبل فترة الأندلس؟ كيف بدأ النحو العبري في الأندلس وما هي مظاهر تأثره بالنحو العربي؟
1 - إشكالية تأسيس النحو العبري القديم:
لا يمكن الحديث عن بداية النحو العبري القديم بمعزل عن تاريخ اللغة العبرية ومراحل تطورها، التي بدورها كانت مرتبطة بالتاريخ المضطرب الذي عرفه العبريون أولا ثم يهود وبنو إسرائيل فيما بعد، حيث كانت حياتهم تقوم على الترحال وعدم الاستقرار، فلا شك أن هذه الأوضاع أثرت بشكل أو بآخر على اللغة العبرية التي تجسدت في "العهد القديم" والذي لم يخل من أثار أكادية وسومرية ومصرية وفارسية، كما كانت "لغته فقيرة، إذ لا يتعدى معجمه 8000 كلمة، استقت من مجتمع بدوي رعوي، فنما لذاك معجم (لغة) الظواهر الطبيعية المرتبطة بهذا الواقع، وقلت معاني التحضر والعمران والتجارة والمهن"(1).
وهكذا بقيت هذه اللغة زمنا طويلا دون أن تجد من علماء اليهود عناية لوضع قواعدها، وقبل أن يبدأ وضع القواعد العبرية بمنهجية منظمة، كانت هناك محاولات فردية متفرقة والتي ارتبطت بمحاولة تفسير "العهد القديم" لأنه يمثل النص الأساسي الذي يقوم عليه الدين اليهودي(2)، ولصيانة نصوصه والاحتفاظ بقراءته قراءة صحيحة، برزت جهود بعض العلماء اليهود في هذه الناحية وعرف هؤلاء باسم (السوفريم) أي الكتاب من خلال إيجاد مقاييس وقواعد لقراءة صحيحة لنصوص العهد القديم(3).
ثم ظهرت فيما بعد ما يعرف بـ"الماسوراة"(4)، التي هي مجموعة جهود استمرت عدة أجيال وتتمثل في ملاحظات تدون إما على هامش الصفحة أو في أسفلها، أو في أعلاها، جمعت هذه الملاحظات في كتب مستقلة.
وتمثل عمل الماسورطيين في الانكباب على قراءة "العهد القديم" والحرص على تتبع كل الجزئيات المتعلقة بالإملاء والتنقيط والنبر وتسجيلها وتصنيفها وعدها، وامتدت جهودهم من القرن الثاني والثالث إلى ما بعد القرن العاشر، حيث أدخلوا نظام التنقيط والحركات(5).
2 - بدايات النحو العبري في الأندلس:
إلا أن البداية الفعلية للنحو العبري برز مع احتكاك اليهود بالثقافة العربية وآدابها، فقد لاحظ اليهود مدى اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم وانكبابهم على تفسيره وشرح عباراته وتحديد مواضع الإعجاز فيه باعتباره النموذج الأعلى، "وقد ذكرت دائرة المعارف اليهودية في المجلد السادس صفحة 67 بأن اليهود لم يؤلفوا كتابا في قواعد لغتهم إلا بعد تتلمذهم على يد العرب، وبعد أن نشئوا في مهد الثقافة العربية نشأة مكنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها، عند ذلك بدأ اليهود يتجهون نحو وضع قواعد للغتهم متبعين في ذلك الطرق التي اتبعها علماء النحو العربي"(6).
وفي بغداد كان سعديا الفيومي يرأس حركة علمية ولغوية يهودية، وكان قد تتلمذ عند العرب حيث كان يفسر الألفاظ العبرية المشكلة في التوراة بما يقاربها في اللفظ العربي، كما ترجم العهد القديم إلى اللغة العربية، وكان يختار أقرب الألفاظ العربية من نطق اللفظة العبرية، كلما استطاع ذلك(7)، ومن أشهر مؤلفاته اللغوية: قاموس في اللغة العربية حيث رتب الكلمات العبرية ترتيبا أبجديا.
وبهذا انتهت الدراسات اللغوية الدراسات اللغوية في الشرق لتنتقل عبر تلامذة سعديا الفيومي إلى الأندلس أين وجدت هناك أفاق أرحب للبحث والإبداع، وازدهرت حركة فكرية جديدة خاصة في الفترة ما بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر الميلادي، وصلت الدراسات النحوية إلى مرحلة النضوج وخاصة في قرطبة حيث ظهر فيها كثير من العلماء اليهود.
وأول عالم نحوي برز في هذه الفترة مناحيم بن سروق(8) صاحب كتاب "الكراسة" الذي تخصص في الجانب اللغوي للعهد القديم، قسم فيه الأبجدية إلى قسمين:
- الطبقة الأولى تشمل الحروف التي تستعمل كحروف أصلية وزيادات في الصدر والعجز.
- الطبقة الثانية للتمييز بين الأصول وبين الحروف الزائدة(9).
ومن أشهر تلامذته يهودا حيوج(10)، عاش في قرطبة، وتمثل مؤلفاته مرحلة ازدهار النحو العبري، حيث وضع قوانين جديدة في أصول الكلمات وفي الإبدال، وفصل الصيغ النحوية بعضها عن بعض وبهذا أسس لعلم نحو عبري منظم، وأهم مؤلفاته باللغة العربي:
- كتاب عن الحروف اللينة، والأفعال التي تدخل فيها هذه الحروف ويتكلم فيه عن الحروف الصائتة والحروف الصامتة والحروف الضعيفة.
- كتاب الأفعال ذوات المثلين.
- كتاب التنقيط يعالج فيه نظام التنقيط وتغيير حروف العلة ونظام النبرات(11).
وألف أيضا الشاعر سليمان بن جبريول كتابا في النحو العبري، ونظمه شعرا يختصر فيه قواعد النحو العبري وهو يشبه في ذلك ألفية ابن مالك.
وجاء بعده العالم النحوي مروان بن جناح(12)، الذي يعتبر شيخ النحاة اليهود وقد كان متضلعا في اللغة العربية فاستحق احترام وتقدير العلماء وقد ذكره ابن أبي أصيبعة بأنه "كان يهوديا وله عناية بصناعة المنطق والتوسع في علم لسان العرب واليهود"(13).
وألف العديد من الكتب اللغوية نذكر منها: "التنقيح المستلحق" و"اللمع"، "التقريب والتسهيل"، "التنبيه والتسوية".
وألف آخرون في مجال النحو العبري كـأبي إبراهيم إسحاق بن يرون الأندلسي الذي كتب "الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية"، وألف إبراهيم الفاسي كتاب "جامع الألفاظ"(14).
وتشترك المؤلفات السابقة في أنها انطلقت من دراستهم المقارنة بين اللغتين العربية والعبرية، وما لاحظوه من تشابه على المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي، دفعهم ذلك إلى البحث في قرابة هاتين اللغتين، ثم جمع الصيغ والمفردات العبرية وشرح ما غمض عليهم من الكلمات العبرية عن طريق ما يقابلها في العربية والآرامية، وقد شرح مروان بن جناح هذه الطريقة قائلا في كتابه "اللمع": "وما لم أجد عليه شاهدا مما ذكرته ووجدت الشاهد عليه من اللسان العربي، لم أنكل من الاستشهاد بواضحه، ولم أتحرج عن الاستدلال بلائحة... وقد رأيت رأس المثيبة سعديا الفيومي يتوكأ على مثل ذلك في كثير من تراجمه، أعني أنه يترجم اللفظة العبرية الغريبة بما يجانسها من اللغة العربية"(15).
3 - مظاهر تأثير النحو العربي في النحو العبري الوسيط:
تتعدد مظاهر تأثير النحو العربي في النحو العبري الوسيط وهو واضح، كما أنه واعي ومباشر، معتمدين بشكل كبير على مؤلفات مروان بن جناح والتي تعد خير نموذج يبرز فيه التأثير العربي بجلاء، ويمكن توزيع هذه المظاهر على ثلاثة عناصر:
أ - المواضيع والمصطلحات:
إن الحديث عن نحو عبري بمصطلحات دقيقة لا يكون بمعزل عن تأثير النحو العربي الذي تميز بشمولية مصطلحاته ودقته في الوقت نفسه، وقد اقتبس النحاة اليهود وفي مقدمتهم النحوي الشهير مروان بن جناح العديد من المصطلحات من أجل تحليل الظاهرة اللغوية العبرية، وبما أن اللغة العبرية لم تكن في هذه الفترة مستعدة لأن تكون لغة تأليف، ألف النحاة اليهود باللغة العربية مستخدمين مصطلحاتها النحوية والصوتية كما يتجلى ذلك في الفقرة الآتية لـمروان بن جناح الذي يعالج فيها النون المتحركة قائلا: "إلا أن النون المتحركة مشربة غنة والغنة من الخياشيم والنون الساكنة خالصة من الخياشيم وإنما سميتها باسم واحد لما ذكرت لك أعني لاشتباه الصوتين وإلا فإنهما ليستا من مخرج واحد"(16).
ونجد هذه المصطلحات مطابقة لما جاءت في "المقتضب": "لأن المتحركة مشربة غنة والغنة من الخياشيم والنون الخفيفة خالصة من الخياشيم وإنما سميتها باسم واحد لاشتباه الصوتين وإلا فإنهما ليستا من مخرج واحد لما ذكرت لك"(17).
وهنا نلمح أن ابن جناح قد اختار مصطلحات صوتية وردت في "المقتضب" كـ(الغنة - النون الساكنة - مخرج...)، ويدل على اطلاع العميق لابن جناح على أمهات النحو العربي، والأمثلة كثيرة على ذلك.
أما من ناحية المواضيع فالمتفحص لكتاب "اللمع" يجد العديد من مباحث النحو العربي مقتبسة خاصة من "كتاب سيبويه"، كتقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ومعالجة كل قسم على حدا وتحليل مختلف جوانبه، فنجد ابن جناح يخصص أبواب خاصة بالأفعال المعتلة والقلب، والإبدال والحذف...
ب - منهج النحو العبري الوسيط:
استخدم النحاة اليهود خطوات وأدوات النحو العربي في مقاربتهم للظاهرة اللغوية العبرية في مجالي التنظير والتطبيق، فقد لاحظ النحاة اليهود أن "العرب بحكم المميزات قد دعوا إلى تفكير اللغة في نظامها وقدسيتها ومراتب إعجازها فأفضى بهم النظر لا إلى درس شمولي كوني بلغة فحسب، بل قلدهم النظر أيضا إلى الكشف عن كثير من أسرار الظاهرة اللسانية"(18)، ولهذا كان النحاة اليهود يتدرجون من جمع المادة اللغوية إلى استقرائها وتحليل مكوناتها ورصد المتشابه والمختلف بينها، وتصنيفها إلى مباحث صوتية وصرفية وتركيبة مثلما نجد ذلك في مؤلفات مروان بن جناح، كما نجد أيضا أن النحاة اليهود ينطلقون في بناء نظرياتهم من نصوص "العهد القديم" لاستخلاص الأحكام النحوية والقواعد منها ومقارنتها المستمرة بأحكام النحو العربي لاستبدال وتقوية البرهان وهناك العديد من الأمثلة في كتاب "اللمع" لـمروان بن جناح نقتطف منها ما يلي: "وأرى أن أقرب لك هذا بما أمثله لك من اللفظ العربي وذلك أنك تقول عجبت من ضرب زيد عمرا إذا كان زيد فاعل. ومن ضرب زيد عمرو إذا كان زيد مفعول به"(19). "وهكذا تقول العرب أيضا، وشبعت خبزا ولحما أي من خبز ولحم"(20). "واعلم أن فعل العبرانيين في تضعيفهم ياء الاستقبال في هذه الألفاظ المتقدمة الذكر مجانس لفعل العرب في تضعيفهم همزة أفعل الماضي في قولهم أراق الماء وأهراقه"(21).
كما استشهد ابن جناح في العديد من المواضع بالشعر العربي في تبريره للأحكام النحوية وللاستدلال كقوله في باب الحذف:
بالخير خيرات وإن شرا فا | ⁂ | ولا أريد الشر إلا أن تا |
وما نلاحظه في منهج ابن جناح أنه يعرض مادته النحوية ثم يناقشها من مختلف نواحيها اللغوية، ثم يعرض مجموعة أمثلة وشواهد مستمدة بالدرجة الأولى من نصوص "العهد القديم" والشعر العربي ثم يبن أن هذه الأحكام موجودة في اللغة العربية من باب المقارنة ولتقوية براهينه.
جـ - أساليب التأليف:
يعد التأليف مظهرا من مظاهر التطور العقلي والكمال العلمي، لنزوعه للتنظيم والتنسيق والتحكم في المعارف وفق رؤية ما، وقد برز النحاة العرب في ذلك حتى وإن تعددت اتجاهاتهم في عرض الموضوعات النحوية إلا أنها تتفق أن منهج التأليف "هو الطريق الذي يسلكه المؤلف أو ذاك أو مجموعة من المؤلفين في زمن واحد أو في أزمنة متباينة في تنظيم أبواب كتاباتهم وفصولهم ومباحثهم ولتدرج في عرض أفكارهم في خطوات منظمة مبينة على أسس منهجية واضحة ومتسقة توصل إلى تعليم قراءة الحقائق العلمية التي يستنبطها العلماء بإتباعهم منهج البحث"(23).
وقد استثمر النحاة اليهود أساليب التأليف النحوي عند العرب بدأ من العنوان الذي يمثل واجهة أي كتاب، وقد أولاه النحاة اليهود عناية خاصة، وتتميز على العموم عناوينهم بأنها مختصة في موضوع من مواضيع النحو فهناك مثلا: كتاب الحروف ليهودا حيوج أو كتاب المؤنث والمذكر لموسى بن جيكاتيلا، كما نجد هناك عناوين مختصرة في كلمة واحدة، تتميز بالشمول مثل كتاب الاستغناء لإسماعيل بن نغريلة، أو اللمع لمروان بن جناح وهي عناوين تحمل تقريبا الدلالات نفسه الشمول والوضوح على غرار عناوين المؤلفات اللغوية العربية كالكتاب لسيبويه والمزهر للسيوطي.
أما من ناحية توزيع المادة النحوية والتبويب فقد أولى العرب أهمية لهذا العنصر منذ وقت مبكر لإيصال المادة العلمية، إذا لم يمض سوى قرن وبعض قرن على ظهور أول كتاب نحوي حتى بدأت مناهج النحاة في التبويب تتخطى تلك الحدود التي رسمها سيبويه في كتابه(24). ويقوم التبويب على مواضيع النحو وتقسيماته، وقد درجت معظم المؤلفات النحوية على توزيع المادة النحوية على الاسم والفعل والحرف، حيث ساعد هذا التوزيع على استغلال معظم مواضيع النحو، مما يجعلها سهلة الإدراك والفهم للمتعلم لأنه يفصل أبواب النحو عن أبواب علم الصرف، كما فعل سيبويه وابن سراج، ونجد هذه المنهجية متبعة بوضوح في كتاب "اللمع" لابن جناح في توزيعه المادة النحوية على عدة أبواب ومباحث، حيث بدأ بالمستوى الصوتي ثم الصرفي ثم التركيبي متأثر بكتاب سيبوبه.
أما من ناحية لغة التأليف والتي كانت اللغة العربية، فان هناك دوافع متعددة حول اختيار النحاة اليهود هذه اللغة، وقد انتشر قبول العربية كلغة تأليف ليشمل أيضا الكتابة الدينية ونصوص الشريعة اليهودية(25). ولم يجدوا أي غضاضة في الكتابة باللغة العربية.
ويمكن أن نضيف أيضا دافعا آخر وراء إقبال اليهود على تأليف وإتقان اللغة العربية هو اتخاذها وسيلة للحصول على نفوذ أكثر ومكانة أهم في المجتمع الأندلسي للتخلص من الشعور بالنقص في المجتمع الأندلسي(26)، حيث أن التأليف باللغة العربية هو دليل على اندماج اليهود في المجتمع الأندلسي.
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نستنتج النتائج الآتية:
- تجلى تأثير النحو العربي في النحو العبري الوسيط على عدة مستويات بدأ بالمصطلحات وتقسيم المواضيع وأساليب التأليف.
- أسهمت هذه الجهود اللغوية في الحفاظ على اللغة العبرية من الضياع والإهمال لتتحول إلى لغة إبداع وفن بعد قرون من الجمود، كما كانت هذه الجهود عاملا مهما في النهضة الشعرية التي قادها فيما بعد الشعراء اليهود.
- كان اختيار اللغة العربية اختيارا واعيا ينم عن اعتراف ضمني بالنضج والتطور التي عرفته اللغة العربية في هذه الفترة.
- ازدهرت الدراسات المقارنة في مؤلفات النحاة اليهود لاسيما بين اللغتين العربية والعبرية وهي مادة مهمة استثمرت فيما بعد من طرف المستشرقين.
كم هي كثيرة الدراسات التي تناولت تأثر النحو العربي بالثقافات الأخرى كاليونانية والسريانية والهندية، وكم هي قليلة الدراسات التي تناولت تأثير النحو العربي في النحو الفارسي والنحو العبري، هذا الأخير نتج عن احتكاك النحاة اليهود بالثقافة العربية وما وفرته البيئة الأندلسية من مناخ يسوده الحوار والتفاعل الثقافي، وقد استثمر النحاة اليهود هذه الأجواء لإحياء اللغة العبرية والتي تحولت من لغة طقوس وصلاة إلى لغة مرنة تحتفل بمظاهر الحياة وتتسع لها، ولغة مقننة بمنهجية واضحة المعالم، وقد امتص النحو العبري المؤثرات العربية بطريقة واعية جعلت من النحو العبري الوسيط مرجعية هامة في الدراسات اللغوية العربية الحديثة، ذلك لأن انتقال المعارف من ثقافة إلى أخرى وتلاقح الحضارات أمر حتمي تستمر به الإنسانية.
الهوامش:
1 - أحمد شحلان: المعجم العبري بين الملابسات التاريخية والواقع اللغوي، مجلة اللسان العربي، العدد 36، الرباط 1992م، ص 131.
2 - حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، بيروت 1971، ص 12.
3 - إبراهيم موسى هنداوي: الأثر العربي في الفكر اليهودي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، (د.ت)، ص 5.
4 - الماسورة: تعني في اللغة العبرية التراث من الفعل مسر أي تسلم بمعنى آخر انتقال التراث والتقاليد وهي تضم تراثا ضخما نشأ بتعاقب الأجيال يدور حول مجموعة من الملاحظات النقدية التي ترفق نصوص "العهد القديم".
5 - Geoffrey Wogoder : Dictionnaire encyclopédique du Judaïsme, Traduit par Sylvie Anne Goldbergavec, Cerf, Paris 1993, p. 714.
6 - إبراهيم موسى هنداوي: الأثر العربي في الفكر اليهودي، ص 7.
7 - حسن ظاظا: اللسان والإنسان، دار القلم، ط2، دمشق 1992، ص 146.
8 - ولد مناحيم بن سروق عام (910م) بطرطوشة، شاعر مجيد توفي عام (960م).
9 - إبراهيم موسى هنداوي: الأثر العربي في الفكر اليهودي، ص 10.
10 - هو أبو زكريا يحيى بن داود، ولد بفاس سنة (945م)، هاجر إلى قرطبة وتوفي بها سنة (1000م).
11 - محمد بحر عبد المجيد: اليهود في الأندلس، الهيئة المصرية العامة، المكتبة الثقافية، عدد 237، القاهرة 1970، ص 27.
12 - هو أبو الوليد مروان بن جناح ولد بقرطبة سنة (990م) وتوفي سنة (1050م) بسرقسطة، أشهر النحاة اليهود في الأندلس.
13 - أبو العباس أحمد بن القاسم بن أبي أصبيعة: عيون الأنبياء، شرح وتحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت 1965، ص 498.
14 - محمد بحر عبد المجيد: اليهود في الأندلس، ص 27.
15 - مروان بن جناح القرطبي الأندلسي: كتاب اللمع، تحقيق يوسف دربنورغ، المطبعة الوطنية، باريس 1896، ص 7.
16 - مروان بن جناح القرطبي الأندلسي: كتاب اللمع، ص 28.
17 - أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، وزارة الأوقاف المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، ط1، القاهرة 1994، ص 23.
18 - عبد السلام المسدي: التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، تونس 1981، ص 26.
19 - مروان بن جناح القرطبي الأندلسي: كتاب اللمع، ص 67.
20 - المصدر نفسه، ص 287.
21 - المصدر نفسه، ص 290.
22 - المصدر نفسه، ص 287.
23 - كريم حسين ناصع الخالدي: مناهج التأليف النحوي، دار صفاء، ط1، عمان 2007، ص 12.
24 - المرجع نفسه، ص 13.
25 - علي سامي النشار: الفكر اليهودي وتأثره بالفلسفة الإسلامية، دار المعارف، الإسكندرية 1972، ص 16.
26 - Ross Brann: Reflexiones sobre el árabe y la identidad litería de los judíos de al-Andalus, de libro judíos y musulmanes en al Andalus y el Maghreb, Casa de Velázquez, Madrid 2002, p. 19.
References:
1 - Al-Khāldī, Karīm: Manāhij at-ta’līf an-naḥwī, Dār Ṣafā’, 1st ed., Amman 2007.
2 - Al-Massaddi, Abdessalam: Al-tafkīr al-lisānī fī al-haḍāra al-‘arabiyya, Al-Dār al-‘Arabiyya li al-Kitāb, Tunis 1981.
3 - Al-Mubarrad, Abū al-Abbās: Al-muqtaḍib, edited by Muḥammad ‘Abd al-Khāliq ‘Uḍayma, Lajnat Iḥyā’ al-Turāth al-Islāmī, 1st ed., Cairo 1994.
4 - Al-Nashshār, ‘Alī Sāmī: Al-fikr al-yahūdī wa ta’aththuruhu bi al-falsafa al-islāmiyya, Dār al-Ma‘ārif, Alexandria 1972.
5 - Brann, Ross: Reflexiones sobre el árabe y la identidad litería de los judíos de al-Andalus, de libro judíos y musulmanes en al-Andalus y el Maghreb, Casa de Velázquez, Madrid 2002.
6 - Hindawī, Ibrāhīm Mūsā: Al-athar al-‘arabī fī al-fikr al-yahūdi, Maktabat al-Anglo al-Miṣriyya, Cairo (n.d.).
7 - Ibn Abī ’Uṣaybi‘a, Abū al-Abbās: ‘Uyūn al-anbā’, edited by Nizār Ridā, Dār Maktabat al-Ḥayāt, Beirut 1965.
8 - Shahlane, Ahmed: Al-mu‘jam al-‘ibrī bayna al-mulābasāt at-tārīkhiyya wa al-wāqi‘ al-lughawī, Majallat al-Lisān al-‘Arabī, N° 36, Rabat 1992.
9 - Wogoder, Geoffrey: Dictionnaire encyclopédique du Judaïsme, Traduit par Sylvie Anne Goldbergavec, Cerf, Paris 1993.
10 - Ẓāẓā, Ḥassan: Al-fikr ad-dīnī al-isrā’ilī aṭwāruhu wa madhāhibuhu, Institute for Arab Research and Studies, Beirut 1971.
11 - Ẓāẓā, Ḥassan: Al-lisān wa al-insān, Dār al-Qalam, 2nd ed., Damascus 1992.الإحالة إلى المقال:
* أمينة بوكيل: المؤثرات العربية في النحو العبري الوسيط، مجلة حوليات التراث، جامعة مستغانم، العدد الحادي عشر، سبتمبر 2011.http://annales.univ-mosta.dz