ما هي الطبيعة؟
وما هي مفاهيمها؟
وما هي حقيقة تأثيرها؟
الطبيعة فِي اللغة: السَّجِيَّةُ والْخُلُقُ؛ غير أن للطبيعة اليوم فِي عقول الناس على حسب مفاهيمهم مفهومان، للطبيعة اليوم مفهومان:
المفهوم الأول: أَنَّهُا عبارة عَنْ الأشياء بذاتها، فالجماد والنبات والحيوان؛ كل هذه الكائنات هي الطبيعة، وهو مفهومٌ غيرُ دقيقٍ، وحُكْمٌ غيرُ سديدٍ، كما سيتبين لنا إن شاء الله جَلَّ وَعَلَا.
وأما المفهوم الثاني؛ فهو أن الطبيعة عبارة عَنْ صفاتٍ وخصائصِها، فهذه الصفاتُ من حرارةٍ وبرودةٍ، ورطوبةٍ ويُبُوسَةٍ، ومَلَاسَةٍ وخشونةٍ، وهذه القابلياتُ مِنْ حركةٍ وسكونٍ، ونمو واغتذاء، وتَزَاوُجٍ وتَوَالُدٍ؛ كلُّ هذه الصفاتِ والقابلياتِ هي «الطبيعة».
سواءٌ أكان القول الأول أو القول الثاني الْمُعَبِّرَ عَنْ الطبيعة بحق؛ فما نصيب هذا القول من الْحَقّ؟
أما القول الأول؛ فلا يخرج بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عَنْ تفسير الماء بالماء، فالأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء، والأصناف صَنَّفَتْ نفسَها، والأشياء أوجدت ذاتها، فهي الْحَادث والمُحدِث، وهي المخلوق والخالق فِي الوقت ذاته!!
وبطلان هذا القول بَيِّنٌ؛ فهو إما ادِّعَاءٌ بأن الشيء وُجِدَ بذاته من غير سبب، وقد تبين لنا فساد هذا الزعم بقانون السببية، وإما إدماج الخَالِق والمخلوق فِي كائن واحد، فالسبب عين المسبَّب، وهذا مستحيل؛ بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إِلَى الوقوف والشرح.
القول الثاني - وهو الاعتماد على قابليات الأشياء وخصائصها فِي التكوين -، فالقول فِيه: الْحَقيقةُ أن الَّذِينَ يعزون الخلق إِلَى تلك القابليات والخصائص لا يَعْدُونَ عَنْ كونهم وَصَّافينَ لتلك الظواهر، لا يعرفون كُنْهَها، ولا يكلفون أنفسهم عَنْاء البحث عَنْ حقيقتها، ولو فعلوا ذَلِكَ لوجدوا أن القابلية التي اعتمدوا عليها فِي خلق الشيء سرابٌ خادعٌ يحسبه الظمآن ماء، حتى إِذَا جاءه لم يجده شيئًا.
ولإيضاح ذَلِكَ بالطريق الْعِلْمي؛ خذ هذا المثال:
تضع حبة فِي التراب، تسقيها بالماء، تنتفخ وتنفلق، فيظهر منها الرُّشَيْم، ويندفع منه الْجُذَيْرُ إِلَى الأسفلِ، والمجموعُ الْخَضَرِيُّ إِلَى الأعلى، وتنشأ الأوراق، فالأزهار والثمار، وتكون الحبة قد أنتجت تفاحة مثلًا، فالقابلية التي كَانَت فِي الحبة وهي الانتفاخ والانفلاق وظهور الرشيم، ولو لا هذه القابليات المتوالية لَمَا اطَّرَدَتْ تلك الظواهر الحيوية، ولما نشأت عَنْها الثمرة، فَلْنَأْتِ إِلَى هذه القابلية بالذات نبحث عَنْ حقيقتها؛ لو لم تنتفخ الحبة وتنفلق لَمَا نشأ شيء؛ فمن الَّذِي نفخها وفلقها؟!!
لو كَانَ للحبة عقل وتدبير لقلنا: إن عقلها هو الَّذِي هيأ لها ذَلِكَ، ولو أن الماء هو الَّذِي نفخها وفلقها؛ لأمكن للماء أن ينفخ فِي الحديد وأن يَفْلِقَه.
إذًا؛ فلا بد من مؤثر وقبولٍ لتأثيرِ ذَلِكَ المؤثر، وإذا كَانَت الحبة بذاتها - جدلًا - انتفخت وانفلقت؛ فلماذا لم تَجْمُدْ وتَضْمُرْ بدلًا من أن تنتفخ وتنمو؟!!
بل هُنَالكَ ما هو أعجب من ذَلِكَ :
لو أننا أتينا بحبة من حبات الفول، وربطناها بخيط على قطعة من الخشب، ثم جعلناها فِي الماء مطمورة فِيه أو مغموسةً فِيه؛ سيظهر لنا ؛ المجموعُ الخضري يتجه إِلَى جهة العلو؛ لِأَنَّهُ يتعامل مع الشَّمْس والهواء، فيكون فوق سطح التربة.
المجموع الجذري يتجه إِلَى جهة السفل.
لو أننا قلبنا الخشبة، فجعلنا ما ظهر متجهًا إِلَى العلو فِي جهة السفل، وما ظهر متجهًا إِلَى السفل فِي جهة العلو؛ فما الَّذِي يحدث؟
يستدير كُلٌّ ليصير إِلَى مكانه الَّذِي هو له، فالذي جعلناه إِلَى جهة العلو - وهو المجموع الجذري - سينحني من أجل أن يكون إِلَى جهة السفل، والذي جعلناه فِي جهة السفل والأصل أَنَّهُ للعلو - وهو المجموع الخضري -؛ فهذا سينثني من أجل أن يتجه إِلَى جهة العلو؛ فهذه القابلية من أين؟!
أفي الحبة عقل؟!
ولماذا يتجه هذا إِلَى جهة العلو وهذا إِلَى جهة السفل؟!
ثم هذه الحبة كَأنَّها جماد، قبل أن تعالَجَ بالماء والتربة فإنها لا شيء فِيها، فإذا ما عولجت؛ انتفخت وانفلقت، وصار ما للعلو للعلو، وما للسفل للسفل؛ بأي شيء؟!!
فهذه يَقُولون: هي القابلية!!
لكي يحصل التكاثر والبقاء يحتاج الأمر إِلَى عقل وإدراك ومنهاج مرسوم من قِبَلِ تلك البذرة، البذرة لا تملك شيئًا من ذَلِكَ؛ فكيف حصلت إذًا ثمرةٌ بعينها؟!!
بل كيف حصلت ثمار كثير متنوعة؟!!
وكيف كَمَنَت الغاية الْمُعَيَّنَةُ والصفات المقصودة فِي صميمِ كل بذرة منها؟!!
لأنك خبير بأنك إن جعلت بذرة الإِجَّاصِ - وهو الكمثرى - وبذرةَ المشمش فِي تربة مع التقارب بينهما، وراعيت كلًا منهما؛ فهذه لا تخطئ أن تعطيك ثمرتها، وهذه لا تخطئ أن تعطيك ثمرتها، وهما يُسْقَيَانِ بماءٍ واحد، وهما أَيْضًا فِي تربة واحدة؛ بل إن الحنظل يكون بجوار ثمرة المشمش أو شجرة المشمش؛ فهذا يُخْرِجُ حنظلًا، وهذه تُخْرِجُ هذا الثمر الحلو؛ ومع اتفاقنا على أنه ليس للبذرة عقل ولا لجذرِ الشجرة إدراك فمن الَّذِي جعل هذا فِي هذا وهذا فِي هذا؟!!
التربة واحدة، وهذه وهذه تُسْقَيَانِ بماءٍ واحد؛ فمن أين؟!!
الطبيعة؟!!
أَيُّ طبيعة؟!!
القابلية؟!!
أيُّ قابليةٍ التي تُمَيِّزُ هذا التمييزَ العجيب؟!!
الحقيقة: أن مَنْ أَنْعَمَ النظر فِي تعبير الطَّبِيعِيِّينَ المستندين إِلَى القابلية حينما يَقُولون: طُبِعَ النبات على ذَلِكَ!!
مَن الَّذِي طبعه إذًا؟!!
طبع النبات على ذلك؛ انتفخت الحبة وانفلقت، وتوالدت الخلايا، تميل الخلية الحية إِلَى الانقسام!!
مَنْ نظر إِلَى كلامهم هذا؛ وجد أن جميع ما قَالوا فِي التعليل إنما هي أفعال مبنية للمجهول لجهل الفاعل الْحَقيقي، فكأن الطبيعي أغمض العين عَنْ السبب الْحَقيقي، وَبنَى الفعلَ للمجهول تَخَلُّصًا؛ فمن الَّذِي نفخ الحبة؟!!
من الَّذِي فلقها؟!!
من الَّذِي أدى إِلَى التواجد؟!!
من الَّذِي جَبَلَ الخليةَ على الانقسام؟!!
كل هذا التحقيق لا تصل إِلَيْهِ نظرةُ الطَّبِيعِيِّينَ القصيرةُ بل المقتصِرةُ على وصف الظواهر دون الذهاب إِلَى أَسْبَابها؛ بل هي مخطئة فِي جعل الصفة المنفعلة سَبَبًَا فاعلًا، وجَعْلِ القابلية مؤثرًا، وجَعْلِ الظاهرةِ المجهولةِ عاملًا مُكَوِّنًا، فالانتفاخ صفة نشأت عَنْ المؤثر الخارج عَنْ الشيء وعن قبول أثره فِي ذَلِكَ الشيء.
الانفلاقُ صفةٌ.
الامتداد صفةٌ.
ما زاد الطبيعي على أنْ جَعَلَ من مجموع هذه الصفات مفهومًا مركبًا سماه: «قابليةَ التواجدِ والنمو»، فجعل من القابلية التي هي عَرَضٌ من أعراض الشيء سَبَبًَا فِي الخلق، ومن الصفة الانفعالية التي لا تعي ولا تدرك سَبَبًَا فاعلًا واعيًا فِي تكوين الأشياء.
إذًا؛ فَمَن الَّذِي ركز الطبيعة فِي العناصر؟!
ومن الَّذِي نوع تلك الطبائع؟!
كل ذَلِكَ يجعلنا نسأل عَنْ السبب ولا نقف عَنْد المجهول ولا نكتفي بوصف الظواهر؛ بل لا نصف هذه الظواهر خطأ بأنها أَسْبَاب الخلق الْحَقيقي.
ونحن نعلم أن القابلية ليست إلا صفة من صفات الشيء؛ فكيف تَخْلُقُه؟
نعلم أن الحبة بالنسبة للنبات جمادٌ لا يعقل؛ فكيف تُنَوِّعُهُ ولا عقل لها ولا إدراك؟!!
وإذا لاحظت أننا مجبورون بحكم هذه النظرة إِلَى طبائع الأشياء أن نسأل عَنْ حقيقة تلك الطبيعة، وعمن طبع الأشياء عليها، وكيف تؤثر؟
وهل تبدع، أم تصنف وتركب؟
وهل هي فاعلة بذاتها أم منفعلة لغيرها؟
ما دمنا مضطرين إِلَى هذه الأسئلة؛ فإننا ندرك أن الطَّبِيعِيِّينَ قد نقلونا من مجهول واحد إِلَى مجاهيل كثيرة، ومن الأصل الحاسم إِلَى الفروع التي لا تحسم الأمر، فبينما كنا نسأل عَنْ خالق الحبة وفالق النوى؛ انتقلنا بتلك النظرة القصيرة المتجاهِلة إِلَى صفاتٍ انفعاليةٍ ليس لها من القدرة على الخلق نصيب، ولو لا قِصَرُ النَّظَرِ عنْد الطَّبِيعِيِّينَ على هذه الأَسْبَابِ الغريبةِ الْمُحَيِّرَةِ دون مُبَرِّرٍ لوجدنا الجوابَ شافيًا منطقيًا منسجمًا مع ما تقدم من التحقيق الْعِلْمي فِي الآية الكريمة التالية، أَيْ لوجدنا الجواب مُتَّسِقًا مع الْحَقائق الْعِلْمية التي مرت فِي هذه الآية الكريمة: «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكَمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95»)، وبذَلِكَ ترجع الأَسْبَاب كلها إِلَى الخَالِق الأول، وتُعْرَفُ المجاهيلُ، ويُحْسَمُ الأمرُ.
ولكي يزداد الأمر وضوحًا؛ خذ هذا المثال:
«محرك السيارة»؛ فإن تحرك أجزاء المحرك واحتراقَ البنزينِ والقوةَ الدافعةَ فِي محصول الانفجار؛ كل تلك الخصائص قابلياتٌ وطبائع؛ فهل تجد أن قابليةَ الاحتراقِ وخاصيةَ الانفجارِ وقوانينَ الْمِيكَانِك هي التي خلقت المحرك وأبدعت السيارة؟!!
لا شك أن القابلية غير ذات الشيء، وأنها وإن كَانَت سَبَبًَا فِي اندفاع الظواهر وبروزِ المظاهر؛ فهو فِي حدود التركيب والتصنيف، لا فِي حدود الخلق والإبداع، وهي فِي المراحل الأخيرة - لا فِي المرحلة الأولى - من خلق الوجود، ولِذَلِكَ إِذَا أراد الطبيعيُّ الخروجَ مِنْ هذا الْمَأْزِقِ وأَقَرَّ مَعَنَا أن هذه الطبائع أَسْبَابٌ فرعية فِي مجال التكاثر والتنويع، ولا تعدو فِي حقيقتها نوعيةً تساندُ الأَسْبَاب التي مر الكلام عَنْها فِي مبدأ السببية؛ قلنا له: رجعتَ إذًا إِلَى الأصل الَّذِي بحثنا عَنْه مِنْ قَبْلُ وأثبتناه، ولم تستطع أن تجد ضمن الكائنات من طبائعها ما يصح أن يكون سَبَبًَا لإخراج الوجود من العدم، وإذا أردتَ أن تعرف العلة النفسية فِي تكوين هذا الإله الزائف - يعني وَثَنَ العصرِ الحاضرِ «الطبيعة» -، إِذَا أردت أن تعرف العلة النفسية لدى هَؤُلَاءِ فِي أخذهم بهذا الصنم؛ وجدتَهَا فِي السلسلة التالية:
عاين الإنسان صفة الشيء، فأضاف الصفات بعضَها إِلَى بعض، وكَوَّنَ من مجموع الصفات مفهومًا، سَمَّى المفهومَ قابليةً أو طبيعةً، مالت النفس إِلَى الراحة والاختصار، فجعلت من تلك الطبيعة فِي خيالها ذاتًا مستقلة فَعَّالَةً، وجَمَدَ الخيالُ البَشَرِيُّ على ذَلِكَ، وتَوَهَّمَ صاحبُه أَنَّهُ وجد إله الوجود، فأقبل عليه طائعًا، وأَسْلَمَ له خاضعًا مِنْ بَعْدِ أَنْ صَنَعَهُ بيده كما يفعل عابد الوثن، يصنعه ثم يتخيل أن له النفعَ والضُّرَّ، ثم يعبده.
فالعلة النفسية واحدة، ونوعية الخطأ واحدة؛ ألا وهي الاصطناع فِي أول الأمر، وَتَوَهُّمُ الاستقلالِ والتأثيرِ فِي آخره، وقد أشار القرآن الكريم إِلَى هذه الخدعة فِي آيات كريمة، منها:
«مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40»).
«قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70»).
«قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71»).
فانظر من أي ناحية ضل البشر من قبل!! ومن أي ناحية يَضِلون اليوم!!
والقضية ليست إلا أسماءً يسمونها فِي البداية كما قَالَ الأولون، ثم يجادلون عَنْها كحقيقة واقعة فِي النهاية كما فعل اللاحقون، قَالوا: «الطبيعة»، ثم جادلوا عَنْها!!
وقالوا: هي الأبدية الأزلية!!
هي الخَالِق والمخلوق!!
هي الأثر والمؤثِّر!!
إِلَى غير ذَلِكَ مما قَالوا كما قَالَ الأولون، وَنَعَى عليهم القرآن فِي قوله: «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ»، فهي فِي البدء أسماءٌ ثم يجادلون عَنْها، كما هو فِي المنتهى؛ أسماءٌ ثم يجادلون عَنْها.
يقولون:«الطبيعة»، ثم يجادلون عنها!!
فخلاصة القول فِي الطبيعة: أَنَّهُا إما قولٌ بأن الأشياء حدثت بذاتها؛ وهذا قول ساقط من كل اعتبار، وإما قولٌ بأن الصفات تخلق بالذات، وهو أشد تداعيًا وسقوطًا من القول الأول؛ لِأَنَّهُ إِذَا عجزت ذات الشيء عَنْ خلقه؛ فكيف تستطيعه الصفة؟!!
وهم يَقُولون: القابلية!!
وهذا كله منفعل وليس بفاعل، فيجعلون الصفة خالقًا!!
فإذا كَانَت الذات لا تستطيع أن تخلق؛ فكيف بالصفة؟!!
وأما اعتبار القابلية على أَنَّهُا سبب متأخر كبقية الأَسْبَاب؛ فتفتقر إِلَى السبب الأول، وهو الَّذِي به نقول.
إذًا؛ ففي الأحوال الثلاثة لا بد من الرجوع إِلَى الخَالِق الأول، وتأتي الطبيعة متأخرةً منفعلةً له، مفتقرةً إِلَيْهِ، وهكذا تجد أن الطبيعة - إلهَ العصرِ المزعومِ!! - لم تَثْبُتْ أمامَ النقدِ المنطقيِّ والشرحِ الْعِلْميِّ.
وليس بالنسبة للموجودات سوى صفاتها وقابلياتها وقوانينها التي تجري عليها، وأن طبائع الأشياء لا تخلقها، ومن كَانَ يبحث عَنْ ذات مستقلة لها مبدعةٍ فعالةٍ خارجةٍ عَنْ نطاق الأشياء؛ كَانَ لا شك باحثًا عَنْ عَنْقاءِ مَغْرِب، يعني عَنْ المستحيل.
فلا بد للعقل من الاعتراف؛ ولَكِنْ هذا اليأس الإنساني عَنْ معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا فِي ماضيها ومستقبلها؛ يقابله يقين إجمالي ينطوي كل عقلٍ بشريٍّ على الاعتراف به طوعًا أو كرهًا، وأنه مهما طالت الأَسْبَاب الممكنة؛ لأن الَّذِينَ يَقُولون بنظرية التطور يُرجعون ذَلِكَ إِلَى أَسْبَاب سابقة، وهي نظرية متهافتة، أَثْبَتَ الْعِلْمُ نفسُه بطلانَها؛ ولَكِن مهما طالت الأَسْبَاب الممكنة؛ فإنه لا بد من الاعتراف بالسبب الأول، وقد مر أن الأخذ بسلسلة الأَسْبَاب هذه يُدْخِلُ فِي الدَّوْرِ والتسلسل، وهما باطلان عقلًا.
فإذًا؛ لا بد من وُجُود السبب الأولِ الَّذِي أعطى الحياة الوجود، أعطى الحياةَ الحياةَ؛ لِأَنَّهُ الحي، وأعطى الوجودَ الوجودَ؛ لِأَنَّهُ أولُ موجودٍ؛ لِأَنَّهُ أولٌ ليس له بدايةٌ، وأن وُجُوده لذاته من حيث هي.
فسواءٌ أَفُرِضَت الأَسْبَابُ متناهيةً أو غيرَ متناهيةٍ؛ فلا بد لتفسيرها وفهمها ومعقوليةِ وُجُودِها من إثباتِ شيءٍ آَخَرَ يَحْمِلُ فِي نفسِه سببَ وُجُودِه وبقائِه، بحيث يكون الأولَ الْحَقَّ الَّذِي ليس قبله شيء؛ وإلا لبقيت كل هذه الممكناتُ فِي طَيِّ الكتمانِ إن لم يكن لها مَبْدَأٌ ذو وُجُود مستقل.
والله عز وجل بَيَّنَ لنا بالحجة القرآنية الْعَظِيمة، كما في قوله جل وعلا: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35»)، فذَلِكَ شيءٌ لا يمكنهم أن يدَّعوه بوجهٍ، فهم منقطعون، والحجة قائمة عليهم؛ لِأَنَّهُم لا يمكن أن يَقُولوا: "إنما خلقنا من غير شيء"، ولا يمكن أن يَقُولوا: "خلقنا أنفسنا"؛ بل يَقُول الله رب العالمين بارتقاءِ القرآن الْعَظِيم فِي الحجة: «أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36»).
وهذا أمر لا يمكن أن يَدَّعوه، ومعلوم أن خلق السماوات والأرض كَانَ قبل خلق الإنسان.
لا يَدَّعِي إنسانٌ قط أَنَّهُ وُجِدَ أَوَّلًا بلا أرضٍ ولا سماءٍ، ولا شمسٍ ولا قمرٍ، ثم خَلَقَ اللهُ تبارك وتعالى الْأَرْضَ له والسماءَ من فوقه، وأَشْرَقَ عليه الشَّمْسَ، وأتى له بالليل فِيه القمرُ!!
هل يَقُول إنسان ذَلِكَ؟!!
إذًا؛ الإنسان طارىءٌ على هذا الوجود، فالأرض والسماوات؛ كل ذَلِكَ وجد قبل خلق الإنسان؛ فمن الَّذِي خلق السماوات والأرض؟!!
لأَنَّهُ قد يَقُول قائل: "إنَّهُ هو الَّذِي خلق نفسه"!!
كذَلِكَ الَّذِي كَانَ مباهتًا لإبراهيم عليه السلام؛ «إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر».
وهذا ارتقاء فِي الحجة؛ حتى لا يتوقف المرء مع هذه الْمُمَاحَكَاتِ التي لا تغني عَنْ الْحَقّ شيئًا؛ ولَكِنْ أَخَذَ برأسِه حتى دَقَّهَا بالْحَجَرِ أو دَقَّ بها الْحَجَرَ مِنْ أجل أن ينتبه، فهذا يَقُول: «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت»!! ويأتي بمغالطة مكشوفة، فيقول: فإن الله عز وجل هو الَّذِي يأتي بالشمس من المشرق، وأنت تَدَّعِي أنك ربٌّ وإلهٌ؛ إذًا فَأْتِ بالشمسِ من المغرب، فبُهِتَ الَّذِي كفر.
فقد يوجد من يَقُول سيرًا على هذا النهج المرذول: "إنَّهُ هو الَّذِي خلق نفسه" كما قَالَ الأول!!
فيقال: فمن الَّذِي خلق السماوات والأرض؟!!
أخلقتها أنت؟!!
مَنْ خَلَقَها إذًا؟!
ولِذَلِكَ قرر الخطابي رحمه الله أن الكفار لا يمكن أن يَدَّعُو هذا، وفائدة ذكره والسؤالِ عَنْه: قَطْعُ اللَّجَاجِ والخِصامِ؛ إذ قد يوجد جاحدٌ مكابر يَقُول: "أنا خلقتُ نفسي" كما زعم مثيل له من قَبْلُ بأنه يحيي ويميت؛ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت»؛ فماذا كَانَ الجواب؟
سؤال آخرُ أَبَانَ عجزَه وأَكْذَبَهُ فِي زعمه الأول - " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت " -، «قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ»، فكانت النتيجة: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258»).
فَهَبْ شخصًا قَالَ: "أنا خلقت نفسي"؛ فهل يستطيع أن يزعم أَنَّهُ خلق السماوات والأرض؟!!
فإِذَا كَانَ العدم لا يوجِدُ سماءً ولا أرضًا، وإذا كَانَت السماء والأرض لم توجِدَا نَفْسَيْهِمَا، وإذا كَانَ هَؤُلَاءِ لا يستطيعون الادِّعَاءَ بأنهم أَوْجَدوا ذَلِكَ كله؛ لِأَنَّهُ لا بد لهذا كله من موجد، وهذا الموجد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
فلا بد من التسليم لِمَا تقضي به العقول السليمة من هذا القانون الَّذِي إِذَا رُدَّ؛ فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يصح فِي العقل قانونٌ.
«قانون السببية»؛ جعله الله رب العالمين قانونًا فطريًا فِي كل فطرة إنسانية، وأنت تستعمل قانون السببية فِي كل أمر، ولَكِن من أجل توضيح ذَلِكَ بالمثال كما مر؛ أنت عَنْدما تجد إنسانًا فِي ساحة المسجد، ثم بعدَ حينٍ تجدُه فوق سطح المسجد؛ فأنت لا تسأل، لن تقول له: كيف صعدت إِلَى سطح المسجد؟ لأن هذا الإنسان قادر على الصعود إِلَى سطح المسجد؛ ولَكِن لو وجدتَ حَجَرًَا – جمادًا - فِي ساحة المسجد، ثم بعد حينٍ - وقد غِبْتَ عَنْه - رأيتَه فوق سطح المسجد؛ فإنك ستقول: مَن الَّذِي صعد بهذا الحجر إِلَى هذا المكان؟ لِأَنَّهُ لا يستطيع أن يصعد وحده، فأنت تبحث عَنْ السبب، وكذَلِكَ الشأن فِي كل شيء.
فهذا الخلق؛ مَن الَّذِي أوجده؟
مَن السبب فِي وُجُود هذا المسبَّب؟
هذا أثرٌ؛ مَن الَّذِي أَثَّرَهُ؟
من الَّذِي كَانَ سَبَبًَا فِيه؟
العربي الَّذِي يعيش فِي الصحراء يرعى الإبل، ويأكل الشِّيحَ والقَيْصُوم، ويبول على عقبيه!! التفت إِلَى قانون السببية كما التفت إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ الأولون بلا خلاف ولا فرق.
قال: أثر الشيء يدل على المسير، البعرة تَدُلّ على البعير، والأثر يدل على المسير، ثم نظر إِلَى أَسْبَاب وراء مسبَّبات هو يعرفها، فقال: سماء ذات أبراج، أرض ذات فجاج، بحار ذات أمواج؛ أفلا يدل ذَلِكَ كله على اللطيف الخبير؟!
ما سبب هذا؟!
من السبب فِيه؟! وهذا عربيٌّ جاهلٌ أُمِّيٌ، لم يجلس أمام عالم، ولم يدخل أكاديميةَ أَفْلَاطون ولا أَرِسْطُو مَنْ قَبْلُ، وإنما هَدَتْهُ الفطرةُ إِلَى الإقرار بهذا القانون، وهو قانون السببية.
فالمخلوق لا بد له من خالق، والقرآن يبين لنا ذَلِكَ بأعذب لفظ وأجمله، وأبلغِه وأفصحِه، مع قيام الحجة العقلية التي لا تدفع؛ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36»)، فينهار بهذا كلِّ الَّذِي يعبد من دون الله جَلَّ وَعَلَا، أعني الطبيعة التي يَقُولون: إنَّهُا أزلية أبدية!! وأنها هي التي خلقت الخلق وأوجدت العالم!! .
الإنسان متدين بالطبع؛ ولِذَلِكَ قَالوا: إن علماءَ الْحَفْرِيَّاتِ والذين يُنَقِّبُونَ فِي الآثار القديمة بالمدن والمدنيات؛ وجدوا كثيرًا من تلك المدن المطمورة أو المهجورة، فلما بحثوا ونقبوا؛ وجدوا مدنًا بلا حصون، وجدوا مدنًا بلا معاهد علمية، بلا مدارس، بلا مَشَافِي، إلى غير ذَلِكَ؛ ولَكِنهم لم يجدوا مدينة قط من المدائن القديمة بغير مَعْبَدٍ.