المستوي الثاني القيم الأخلاقية :
من الأسلحة المهمة التي يحتاج الداعية إلى الله المقاوم للإلحاد إلى استعمالها، سلاح القيم الأخلاقية وخاصة تلك التي تعارفت عليها البشرية، ودانت بها فطرتها، ذلك أنه لا يمكن أن يكون للملحد أي جواب حولها؛ فالفلسفة المادية التي تختصر الإنسان في كيانه البيولوجي لا تستطيع أن تفسر أي قيمة من القيم الخلقية، ولا تستطيع كذلك أن توفر لأتباعها أي حافز يدفعهم للسلوك الأخلاقي، وخاصة إن كان يحمل معاني التضحية والإيثار والبذل. وكيف يمكن ذلك لمن يرى الحياة الدنيا فرصته الوحيدة؛ فلذلك يسرع لاستعمال كل وسيلة لنيل ملذاتها وشهواتها قبل أن يطبق عليه العدم ـ كما يتصور ـ ولا يمكن لمثل هذا أن يؤدي أي وظيفة أو خدمة للبشرية تكون على حساب مصالحه، وإن فعل ذلك قوض جميع فكره ومذهبه الذي يؤمن به.
وقد أشار إلى هذا السلاح الذي يمتلكه المؤمنون، ولا يمتلكه الملاحدة [بوخينسكي] أستاذ الفلسفة بجامعة [فريبورج] بسويسرا تعليقا على تلك الآراء الوجودية الممتلئة بالشذوذ بقوله: (ليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي تربت على هذه الفلسفة، والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعية، وفي ادعاء استحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية، بل إن الوجودية قد أرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يدي سارتر.. ومن نتائج الوجودية أيضًا، دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسمم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تمامًا)
وقد أشار إلى هذا بعضهم بما سماه [الدليل الخُلُقي على وجود الله] ، ويقصد به القيم الخلقية، باعتبارها قيما ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، بل لا يمكن أن يكون بدونها المجتمع، وهذه الأخلاق تعتمد على وجود إله، لانه إذا لم يكن هنالك خالق يرى ويسمع ما يفعل البشر، ولم تكن هناك دار أخرى يثيب الله فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وكان الكسب المادي في هذه الحياة الدنيوية هو وحده الكسب المعتبر؛ لكان كل ما نراه لغوا وعبثا.
وبناء على هذا؛ فإننا عندما نقارن بين معايير الأخلاق عند المؤمن ـ وخاصة في الدين الأصيل الذي لم يحرف، ولم تتلاعب به الأهواء ـ مع المعايير التي يعتمدها الملحد نجد فرقا كبيرا جدا، فالمؤمن يمتلك معايير دقيقة ومضبوطة للأخلاق، وهي تتناسب مع الكرامة الإنسانية والنبل الإنساني، بينما الملحد يعجز أن يصف أي معيار، لأنه سيصطدم لا محالة بتصوراته المادية للكون والحياة.
ومثل ذلك نجد المؤمن يمتلك دوافع حقيقية للالتزام بالأخلاق، بخلاف الملحد الذي لا يجد أي دوافع، لأنه ـ في تصوره ـ ليس سوى كائن بيولوجي، جاء صدفة، وسيعدم بعد فترة قصيرة، ولا شيء غير ذلك.
انطلاقا من هذا سنحاول هنا باختصار أن نقارن بين معايير الأخلاق بين المؤمنين والملاحدة والدوافع التي تحفز للالتزام بها ليكون ذلك وحده كافيا في تهافت الرؤية الإلحادية، وعدم قدرتها على تأسيس أي مجتمع أو أي حياة نبيلة وفق قيم واضحة مضبوطة.
أولا ـ معايير الأخلاق عند الملحد ودوافعها:
من التعبيرات التي قد تختصر لنا تصور المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تحديدهم للأخلاق ما ورد في المناظرة المشهورة، والتي سُئل فيها الفيزيائي الشهير الملحد [لورنس كراوس] عن موقفه من زنا المحارم، فردّ قائلا: (ليس من الواضح بالنسبة إليّ أنه خطأ).
ومثله [ريتشارد دوكنز] الذي صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: (لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ)
أما الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية [بيتر سنجر]، بصرح بأن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: (فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان)
هذه التعابير كلها تدل على المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تفسير الأخلاق وتحديدها، وهو كونها ذاتية لا موضوعية، فليس هناك شيء اسمه أخلاق عندهم، وما نراه من أخلاق في تصرفاتهم، لا ينطلق من كونهم ملاحدة، وإنما من تأثير البيئة التي يعيشون فيها أو غيرها، أما لو ترك الأمر للملحد وعقله المجرد؛ فإن كل شيء بالنسبة له مباح، أو كما عبر [فرانك توريك] بقوله: (لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لاأخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية.. وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم)
وعبر عن ذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: (يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي) .
ولا يصعب على أي عاقل أن يعرف سبب خلو الإلحاد من الرؤية الأخلاقية، ذلك أن الإلحاد لا يؤمن إلا بالحس والمادة وما ينشأ عنهما، وبما أن الأخلاق أمور معنوية، ويصعب عليه تفسيرها وفق رؤيته المادية، ولذلك ينكرها.
وقد عبر الفيلسوف الأميركي اللاأدري [توماس نيجل] في كتابه [العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟] عن هذا المعنى بذكره (أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية)
لكن إلحاحات المؤمنين على الملاحدة في هذا الجانب الذي لا تكاد تخلو مناظرة منه، جعلهم يفكرون في حل ينقذون به أنفسهم، والإلحاد الذي يؤمنون به، والذي لا يوفر لهم، ولا للبشرية أي غطاء أخلاقي يمكن أن يفيدهم.
ومن تلك الحلول وأكثرها رواجا محاولة الملحد الشهير سام هاريس في كتابه [المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم الإنسانية؟]، والذي حاول أن يبرّر فيه ما هو أخلاقي بما يحقق للبشرية الرفاه والسعادة والرخاء.
وما ذكره هو تكرار لما ذكره الكثير من الملاحدة في عصورهم المختلفة، فهم يعتبرون معيار الأخلاق تحقيق المنفعة أو الرفاه الاجتماعي، وكذلك دفع الألم والضرر، فهذا هو الذي يحدد مصير كون الفعل أخلاقيا من عدمه، فهو أخلاقي إذا حقق المنفعة والرفاه أو الرخاء الاجتماعي، وهو غير أخلاقي إذا أدى إلى ألم أو ضرر.
وأما كيف يتم تحديد المنفعة والضرر وعلى أي أساس؛ فيرى هؤلاء أن ذلك يتم من خلال ما يُبينه العلم، فالعلم هو المؤهل الوحيد لديهم لإثبات ذلك من عدمه، ولذلك يُعلنون رفضهم الاعتماد على النصوص الدينية في مسألة الأخلاق، بل ويشترط بعضهم أن لا تكون الفلسفة الأخلاقية معتمدةً على نصوص دينية.
ويمكننا تلخيص الرد عليهم في الوجوه التالية :
1 ـ الخداع اللفظي:
ذلك أن ما ذكروه لا يمثل معياراً حقيقياً للأخلاق، لأنه لم يبين كيفية تمييز الأخلاق من عدم الأخلاق أو الخير من الشر، فالتعبير بالرفاه أو الرخاء الاجتماعي أو الألم والضرر لن يحل المسألة، لأن تبديل الألفاظ لا يُغير من حقيقة الأمر، وسيبقى السؤال: ما الذي يجعل زيادة الرفاه أو الرخاء الاجتماعي أمراً أخلاقياً؟ وما الذي يجعل إلحاق الضرر أو الألم أمراً غير أخلاقي؟! فهذا السؤال تم الالتفاف عليه، لأن كل ما ذكره هؤلاء هو إعادة تعريف لمسألة الخير (الرفاه أو الرخاء الاجتماعي)، وكذلك لمسألة الشر (الألم والضرر) من جديد، وهذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر معياراً حقيقياً للتمييز بين الأخلاق وغير الأخلاق أو الخير والشر.
وهذا ما أشار إليه ويليام كريج في مناظرته مع سام هاريس حول المسألة الأخلاقية، إذ يقول قاصداً الأخير: (فهو يعيد تعريف كلمة (خير) لتصبح (رخاء الكائنات الواعية)، ولذلك فإن تسأل: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات أمراً خيراً؟) يعادل وفق تعريفه الجديد سؤال: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات زيادة في رخاء الكائنات؟) إنه مجرد حشو، إنه مجرد الحديث في دوائر مفرغة! وهكذا (حل) الدكتور هاريس مشكلة القيم بإعادة تعريف مصطلحاته فقط، وهذا مجرد تلاعب بالألفاظ).
وبناء على هذا، فإن القول بأن الأخلاق وعدم الأخلاق يُحدد بالمنفعة أو الرفاه الاجتماعي أو باجتناب الألم والضرر، لا يُمكن أبداً أن يُعتبر معياراً حقيقياً لتمييز المسألة الأخلاقية من غيرها.
2 ـ عدم التفريق بين الأفعال الأخلاقية وغيرها
يحاول الملاحدة ـ تجنبا لأن يوصفوا بالاضطراب الفكري ـ الملائمة بين الإلحاد والفلسفة المادية التي يؤمنون بها، ولذا تجدهم يعتمدون معايير مادية تنسجم مع هذه الفلسفة مثل المنفعة أو الرفاه، أو الألم والضرر؛ فهم يحاولون أن يصوروا كل المسائل بصورة مادية بحتة حتى مسألة الأخلاق والقيم.
وكل هذا غير صحيح، لأن القيم الأخلاقية لا يمكن أن تعتمد على المعايير المادية، أو كما عبر احدهم بقوله: (والفرق بين الفعل الأخلاقي وسائر الأفعال هو أن الفعل الأخلاقي قابل للثناء والمدح، ويضفي الناس قيمة على مثل هذا الفعل، لكن هذه القيمة ليست من نوع القيمة التي يقيم بها عمل أحد العمال، وذلك لأن العامل يوجد قيمة مادية يستحق مبلغاً من المال أو شيئاً من السلع في مقابل عمله، بينما الفعل الأخلاقي يتميز بقيمة تفوق هذه القيم بحيث لا يمكن تقويمها بالمال ولا بالسلع المادية. فالجندي الذي يضحي بروحه من أجل الآخرين يقوم بفعل ذي قيمة، لكن هذه القيمة ليست من لون القيم المادية).
لذلك لا يمكننا قياس القيم الأخلاقية بالمعايير الإلحادية (المادية)، لأنه يصعب عليها تفسيرها وتبريرها، وكلامنا هذا ليس عن الملحدين وإنما عن الفلسفة المادية الإلحادية، فهناك فرق بين الأمرين كما وضحنا ذلك سابقا، وكما سنوضحه في الوجه التالي.
3 ـ عدم التفريق بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي
من المغالطات التي يمارسها الملاحدة في هذا المجال هروبهم من فلسفة الأخلاق إلى واقع الأخلاق، وهذه مغالطة كبيرة، ذلك أن الواقع الأخلاقي قد يكون له مصادر أخرى غير الإلحاد؛ فلذلك لا يمكن اعتباره.
ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الحوار مع الملاحدة حول الفلسفة الأخلاقية للدين، وليس عن الواقع الأخلاقي العملي للمتدينين، وهذا الخلط يقع فيه بعض الملاحدة فيركز مثلاً على سلوكيات الجماعات الدينية المتطرفة لإثبات بأن الأديان تخلو من فلسفة أخلاقية، ولإثبات بأنهم يعتمدون على النصوص الدينية لتبرير تصرفاتهم وممارساتهم، وهذا الأمر بالتأكيد مجانب للصواب، لأن الفلسفة الأخلاقية تختلف عن الواقع الأخلاقي سواءً عند المتدينين أو عند الملاحدة.
وهكذا؛ فإن الأخلاق في الواقع العملي عند المؤمنين لا تعني بالضرورة أنها تمثل الفلسفة الأخلاقية الدينية، وكذلك العكس، فالأخلاق في الواقع العملي عند الملحدين لا تعني بالضرورة بأنها نتاج الفلسفة الأخلاقية عندهم، ولذا فعندما نجد ملحدون وقفوا مع المظلومين ضد الظالمين بل وضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق العدالة، ونجد في المقابل أشخاصاً يدعون الإيمان بالله سبحانه ولكنهم يقفون مع الظالمين في سحق المظلومين، فلا نحيل ذلك مباشرة إلى الفلسفة الأخلاقية عند الطرفين، لأن هناك من الطرفين من يفعل عكس ذلك، وكشاهد على ذلك نجد أمثال جماعة داعش من المسلمين، وأمثال جوزيف ستالين من جانب الملحدين.
لذا فالسؤال المهم المتعلق بالمثال المتقدم هو: ما هي الفلسفة الأخلاقية للإلحاد التي تجعل الملحد يضحي بنفسه وهو لا يؤمن بالحياة الأخروية ولا بالجزاء الأخروي؟ فالفلسفة الأخلاقية عند المتدين في حال تضحيته بنفسه في مناصرته للمظلومين واضحة ومعروفة وأما الملحدين فلا، إذ لا يوجد مبرر من الناحية الفلسفية يتوافق مع الفلسفة المادية التي يتبعونها.
وهذا ما جعل الدكتور جون لينكس يبين بأن الملحد ليس بعاجز عن أن يكون خيراً ولكن الإلحاد لا يدعم أي أسس فكرية للأخلاق، لأن فرضية الإلحاد –كما يقول- ليس لديها تأسيس لمبادئ الخير والشر.
4 ـ اعتبارهم المنفعة والضرر معيارا أخلاقي
وهذا معيار لا يمكن قبوله، لأنه يتنافى مع الأخلاق، ذلك لأنه من الممكن تحقيق منفعة في أفعال غير أخلاقية، كما يمكن إلحاق الضرر في بعض الأفعال، ومع ذلك تكون أفعالاً أخلاقية، ومن الأمثلة على ذلك الكذب، إذ قد يترتب عليه منفعة رغم كونه غير أخلاقي، وكالتضحية بالنفس من أجل الآخرين، فهو بالتأكيد يؤدي إلى الضرر رغم كونه يُعد من الأفعال الأخلاقية، ولذلك نستطيع القول أن المعايير التي اتخذها الملاحدة للأخلاق غير صحيحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقق الرفاه الاجتماعي وانتفاء الضرر والألم ليست من المسائل الأخلاقية أصلاً، وإنما هي تعبير عن صور الحياة السعيدة (بالمفهوم المادي)، وهناك فرق كبير بين الحياة الأخلاقية والحياة السعيدة.
وهذا ما ذكره [ويليام كريج ] رداً على [سام هاريس]، حيث قال: (ومقارنة الدكتور هاريس بين الحياة الحسنة والحياة السيئة ليست مقارنة أخلاقية بين الحياة الخيرة أخلاقياً والحياة الآثمة أخلاقياً، بل هي مقارنة بين الحياة السعيدة والحياة البائسة، وليس هناك أي سبب للمساواة بين (السرور والبؤس) و(الخير والشر)، وخصوصاً ضمن النظرة الإلحادية. وهكذا فلا يوجد مطلقاً أي سبب في الرؤية الإلحادية يدفع للاعتقاد بأن ازدهار الكائنات الواعية هو خير موضوعي).
وعندما سئل احدهم؛ فقيل له: (على أي فعل من أفعالنا الاختيارية يطلق (الخير) وما هو معيار خيريته؟)، أجاب بقوله: (إن العمل الذي له دور ايجابي في تحقيق كمال الإنسان، أي العمل الذي يسعى الإنسان بأدائه للوصول إلى مقصودة وغايته النهائية سيكون خيراً بسبب تأثيره في ضوء ذلك المطلوب بالذات والغاية النهائية، أي لكونه سبباً وواسطة للوصول الى الغاية النهائية والخير بالذات فهو خير بالواسطة ومطلوب بالغير اصطلاحاً ومنه ينتزع معنى (القيمة الأخلاقية)
وأضاف قائلاً: (ومما ذكر نستنتج أن (الخير) ليس ـ في ذاته ومطلقاً ـ معياراً للقيمة الأخلاقية، بل يكون أخلاقياً مع ملاحظة القيود المذكورة، كما أن (الشر) يكون أخلاقياً فيما لو أطلق على الفعل الاختياري، والفعل الذي له دور سلبي في تحقق كمال الإنسان يكون (شراً). فالشر أيضاً يكون بملاحظة هذه القيود مفهوماً أخلاقياً وذا قيمة أخلاقية سلبية وبكمة أخرى: اللاقيمة).
5 ـ عدم التفريق بين المصلحة والمنفعة:
حيث يخلط الملاحدة بين المصلحة والمنفعة، وقد رد على هذا الخلط احدهم بقوله: (وفي هذا المجال لا ينبغي أن يختلط علينا الأمر فهناك فرق كبير بين الكذب ذي المصلحة والكذب ذي المنفعة، وكثير من الناس يشتبه عليه أمرهما أو يتظاهر بذلك، والواقع أن الكذب ذا المصلحة يعني ذلك الكذب الذي انسلخ عن فلسفته واكتسب فلسفة الصدق، فالإنسان بهذا الكذب ينقد حقيقة ما، بخلاف الكذب ذي المنفعة وهو الكذب الذي يتورط فيه الإنسان من أجل الظفر بربح).
ثم أعطى القانون العام للتفريق بينهما؛ فقال: (إذن لا ينبغي الخلط بين موضوع المصلحة وموضوع المنفعة. فالمصلحة تدور مدار الحقيقة، والمصلحة والحقيقة توأمان لا ينفصلان. والمصلحة تعني مراعاة الحقيقة وليس مراعاة الربح الشخصي فهذه هي المنفعة)
لذلك فإن تصوير تحقق المنفعة أو الرفاه مساوياً لتحقق المصلحة كما توحي بذلك بعض عبارات الملاحدة غير دقيق، بل غير صحيح، وبهذا يتضح بطلان الاعتماد عليها كمعيار للأخلاق.
6 ـ الدعوة إلى المفاصلة بين الأخلاق والدين
حيث يُطالب الملاحدة بإثبات وجود معايير أخلاقية غير معتمدة على نصوص دينية، مع أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فما الضير في أن تكون الأخلاق معتمدة على ضوابط مستلة من نصوص دينية، فالأخلاق لا تقاس بكونها معتمدة على نصوص أو لا، كما أن عدم الأخلاق أيضاً لا يُقاس بهذا الأمر، إذ لا ملازمة بين الأمرين.
وسبب ذلك هو عدم وجود تناقض في هذا الأمر، ذلك أن النصوص الدينية قد لا تتقاطع بالضرورة مع العقل والمنطق، ولذلك ما الحاجة لرفضها أو الاستغناء عنها؟
وتصوير الأمر على هذه الشاكلة مجازفة على حساب الواقع، فحتى القوانين الوضعية نجدها تعتمد على نصوص مدونة، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذه القوانين غير صحيحة لمجرد كونها معتمدة على نصوص مدونة، علماً بأن بعض القوانين في بعض الدول تتقاطع مع قوانين أخرى في دول أخرى.
ولذلك فإن مطالبة الأديان وأتباعها كالمسلمين بأن تكون لهم فلسفة أخلاقية لا تعتمد على النصوص الدينية شيء، وإنكار وجود هذه الفلسفة من الأساس شيء آخر، ولا يصح أبداً الخلط بين الأمرين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى المؤمنين بالدين الأصيل ضوابط عقلية ومنطقية مستقلة عن النصوص الدينية كما يُطالب الملاحدة بالضبط ، ومعنى ذلك بأن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبح بذاته، فهذه ركيزة أساسية في فلسفة الأخلاق الإسلامية، وهو مبدأ مستقل عن النصوص الدينية كما هو واضح، لذلك، فمن غير الصحيح تصوير اعتماد الأخلاق على نصوص دينية بأنه دليل على عدم وجود فلسفة أخلاقية حقيقية، وعلى من يدعي هذا الأمر أن يثبت ذلك.
7 ـ عجز العلم عن تحديد معايير للأخلاق:
فالملاحدة يزعمون أو يغالطون بأنهم ـ وبواسطة العلم وحده ـ يمكنهم اكتشاف المنظومة الأخلاقية والمعايير التي تحددها، بناء على كون العلم هو الذي يميز المنفعة من الضرر، لكن هذا غير ممكن في الواقع من نواح كثيرة، ذلك لأن الكون وما فيه، وفقاً للرؤية الإلحادية خاضع لقوانين حتمية كالتطور والانتخاب الطبيعي الذي يحتم مبدأ البقاء للأصلح.
وهذا المبدأ لا يمكن له أن يعرف الخير من الشر، كما عبر عن ذلك الدكتور [جون لينكس] بقوله: (كيف تستطيع في عالم مادي أن تفسر لي عدم السرقة والقتل إن كان فيهما مصلحة (أي منفعة)، وإذا أمنت العقاب (عدم الضرر) أو أن يكشف أمرك أحد؟.. كيف تفسر عدم غواية زوجة جارك أو أخيك أو صديقك واستغلال غيابه عنها إذا تأكدت من عدم الفضيحة؟.. كيف تفسر عدم خيانتك لزوجتك؟.. كيف تفسر أمانتك في العمل؟.. بل ما هو الدافع المادي لديك مثلاً للمخاطرة بنفسك لإنقاذ طفل يغرق؟.. هل يمكن (اختراع) أي فكرة مقنعة ساعتها للإجابة عن مثل هذه الأسئلة بالغاً ما بلغت من الخيال؟).
ويقول: (من الصعب جداً أن نرى كيف للعملية التطورية غير الواعية أن تشرح لنا حالة الإيمان بالأخلاق ذات المكانة المتأصلة والشاملة في البشر والتي توجب علينا دعم الناس الذين –في طبيعة الأمور- مسؤولين عن إيقاف أو حتى تهديد (التقدم) التطوري كالضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والكبار في السن).
ويقول د. عمرو شريف: (إذا كان الدراونة قد عجزوا عن تفسير نشأة التعاطف بين البشر، فلا شك أن تفسير نشأة خلق الإيثار سيكون أصعب، فهو يعمل ضد هدف التطور الرئيسي، وهو المحافظة على النوع، فعلى المستوى الفردي، ما الذي يدفعني للتضحية بذاتي من أجل المجتمع والجنس البشري؟.. ما الذي يدفع جيناتي الأنانية للتضحية بذاتها؟.. وما الذي يدفع جينات كرات الدم البيضاء للتضحية بذاتها في صراعها ضد الميكروبات لدفع المرض عن الجسد؟!.. وعلى المستوى الأكبر، ما الذي يدفع المجتمع للتضحية بموارده وجهد أفراده من أجل العناية بالضعفاء والمرضى والمعوقين والمسنين؟.. أليس ذلك ضد البقاء للأصلح؟ ألا يزيد ذلك من فرص بقاء الأقل صلاحية؟).
ويقول: (يفرض الدراونة إننا نفعل ذلك من أجل أن يفعله معنا الآخرون عندما نمرض أو نهرم، بالرغم من أن هذا التفسير مرفوض داروينياً؛ فالتطور ليس له بصيرة مستقبلية، ومن ثم لا يفرض علينا التزاماً أخلاقياً تجاه ضعفائنا حتى يساعدنا الآخرون فيما بعد. إن التطور لا يعرف مثلنا الشعبي (من قدم السبت يلقى الحد (يوم الأحد) قدامه).
لذلك، فإنه من المستحيل التوفيق بين الفلسفة المادية ونظرية التطور التي يؤمن بها الملاحدة وبين القيم الأخلاقية.
بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن العلم يخبرنا فقط عما يكون، ولا يخبرنا عما يجب أن يكون، فالكائنات البشرية من وجهة نظر المذهب الطبيعي مجرد حيوانات، وليس على الحيوانات أي واجب أخلاقي تجاه بعضها البعض، فعندما يقتل الأسد الحمار الوحشي فإنه يقتله فقط، ولا يرتكب جريمة قتل.
ولذا لو لم يكن الإله موجوداً، فلماذا نعتقد أن علينا أي واجبات أخلاقية لفعل أي شيء كان؟ من أو ما الذي يفرض علينا هذه الإلزامات؟ من أين تأتي؟.
ومن وجهة النظر الإلحادية قد لا تكون بعض الأفعال كالاغتصاب ونكاح المحارم مفيدة بيولوجياً أو اجتماعياً، ولكنها في سياق تطور الإنسان وتحضره أصبحت من المحرمات، أي أصبحت سلوكاً غير مقبول اجتماعياً، لكن ذلك لا يثبت أبداً أن تلك الأفعال خطأ حقيقي، فمن وجهة النظر الإلحادية؛ فإن المغتصب الذي اختار خرق أخلاقيات القطيع، لا يقوم بفعل أكثر خطراً من ممارسة شيء غير مألوف.
إذاً إحدى الأمور المهمة هي معرفة طبيعة العلاقة بين العلم أو عالم المعرفة (ما هو كائن) وبين الأخلاق أو عالم القيم (ما يجب أن يكون)، ومن المستحيل أن تخضع القيم الأخلاقية للعلم، وفي ذلك يقول الدكتور جون لينكس: (فالمعرفة هي وصف للواقع بـ (يكون) والقيم هي ما يجب أن يكون أي (الحتمية) من (يكون) وهذا مستحيل. فإن كان الأمر صواباً وأن ليس هناك من هدف في الكون، وأن البشر نتاج الصدفة المحضة، فلا يمكنك اشتقاق أي (يتحتم) من (يكون).
بالإضافة إلى ذلك، فإن (الوجوب) في الأخلاق والقيم يقتضي (الاستطاعة)، فالشخص غير مسؤول أخلاقياً عن فعل لا يستطيع اجتنابه، فعلى سبيل المثال إن دفعك أحدهم من الخلف نحو شخص آخر فلن تكون مسؤولاً عن اصطدامك به، إذ ليس لديك خيار.
وهكذا لا يوجد أي أساس للواجبات الأخلاقية الموضوعية لأنه لا يوجد مشرع للقانون الأخلاقي، وليس هناك إمكانية لوجود الواجبات الأخلاقية الموضوعية بسبب غياب الإرادة الحرة.
وينقل الدكتور جون لينكس عن أينشتاين قوله: (إن إحساسنا بالجمال وغرائزنا الدينية ما هي إلا: أشكال مساعدة تدفع القدرة الاستنتاجية باتجاه أعظم الإنجازات. أنت محق في الكلام عن الأسس الأخلاقية للعلم، ولكن لا يمكنك عكس الأمر والكلام عن الأسس العلمية للأخلاق)
ويبين بعدها بأنه وفقاً لأينشتاين، فإنه لا يمكن للعلم أن يشكل أسساً للأخلاق، ويعقب موضحاً بقوله: (يمكن أن تساعدنا معرفة مقدار الألم الذي تحس به الحيوانات في صياغة الأحكام التي تخص القيام بالاختبارات الحيوانية، ولكن يبقى الحكم مقدراً على أساس اقتناع أخلاقي سابق بأن الألم والمعاناة أمر سيء. يمكن للعلم أن يخبرنا أن وضع مادة الستركنين السامة في شاي جدتك سيقتلها، ولكن لا يقدر العلم على إخبارنا إن كان يلزمك أو لا يلزمك فعل ذلك لكي تحصل على أملاكها).
8 ـ عدم قدرة الإلحاد على وضع قوانين ثابتة:
بناء على كل ما سبق؛ فإن الإلحاد يعجز عن وضع أي منظومة قانونية متفق عليها، ولهذا قال بعض الخبراء في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا).
وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع، فهو عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن اقامة صريح التشريع عليه، ذلك أنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد، ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى.
ولذلك باءت كل الجهود التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي بالفشل الذريع، والذي عبر عنه الأستاذ (و. فريدمان) بقوله: (وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى)
وبناء على هذا راح [جون آستين] يذكر أن الدستور أي دستور لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه، ولذلك عرف (القانون)، بأنه (الحكم الذي أصدره رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية)، وعرفه آخر بأنه (مرسوم لصاحب السيادة)
وخالف المحدثون ذلك؛ فذكروا أن الشعب بدل الحاكم هو صاحب السيادة، وهو الذي يضع المعايير الأخلاقية والقانوينة، ولهذا أنكروا أي قانون أو دستور لايحرز رضا الجماهير؛ وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها.
وكمثال على ذلك، وهو أن الأمريكيين لم يتمكنوا من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه، كما اضطر البريطانيون الى إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا الى اباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون.
بالإضافة إلى هذا، فقد ظهر ما يطلق عليه (القانون الطبيعي) ومؤاده أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع، فالطبيعة ـ كما ينص أصحاب هذه النظرة من الملاحدة ـ (تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة، وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للانسان في صورة (العقل)، ولذلك لابد من اقامة حكومة بقوة العقل)
وقد فشل هؤلاء أيضا بسبب اختلاف العقول، وتناقضاتها الكثيرة، وقد البروفيسور [جورج وهيتكروس باتون] معبرا عن هذا: (ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ انه سؤال يتعلق (بالقيم)، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع، وما أكثر ما نرجو من الفلسفة أن تساعدنا؛ ولكن ما أقل ماهي مستعدة لبذله في هذه السبيل. فقد فشلنا في الكشف عن (ميزان للقيم) يمكن قبوله لدى جميع الأطراف، والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشيء من النظم الا للدين؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان، ولايمكن قبولها على أساس الاستدلال المنطقي)
وقال البروفيسور (باتون): (إن جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن (الأهداف) في فلسفة التشريع قد انتهت الى غير ما نتيجة)
ثم يتساءل قائلا: (أهناك حقا(قيم مثالية) تحدد الأسس عند تطوير التشريعات؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل الى هذه القيم حتى الآن، غير أنها لابد منها.. لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الالهامية في الدين. ولكن اذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني، فاين سنجد أساس القيم المتفق عليها؟).
وعبر عن هذه الحقيقة، وهي عجز البشر عن وضع معايير مثالية يمكنهم التحاكم إليها الدكتور [فرويدمان] بقوله: (يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لاعطاء العدل صورة عملية ينفرد هو به في حقيته وبساطته).
9 ـ عدم قدرة الإلحاد على توفير دوافع للالتزام بالأخلاق:
وهذه أكبر مشكلة عويصة تواجه الإلحاد، فهو مع افتقاره لتحديد معايير مضبوطة ودقيقة للأخلاق، يفتقر ـ في حال حصوله عليها ـ على الدافعية للالتزام بها، ذلك أنه لا يوجد أي شيء يمكنه أن يفرض على الملحد التزام الخلق الحسن الذي قد يستدعي منه تضحية وإيثارا وتفريطا في مصالحه.
ولهذا حاول الملاحدة أن يجدوا ذلك ببعض المغالطات اللفظية مثلما عبر بعضهم عن ذلك بقوله: (الملحد إنسان يخاف جداً على حياته من أن يخسرها لأن الموت هو النهاية، وإن الحياة هي الشيء الوحيد الذي لديه، فإنه سيحافظ عليها جيداً ويحرض على أن يعيشها على أفضل وجه؛ فإذا قتل أو سرق فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة.. الملحد لن يكذب لكي لا يخسر ثقة الناس به، لأن الحياة ستكون صعبة جداً عندما يعيش منعزلا عن الجميع.. الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً، فما علاقة الناس الآخرين بك عندما يكون برضى الطرفين؟.. الملحد ليس عنده أي مانع من شرب الكحول (الخمر) باعتدال لكي لا يفعل شيئا يخسره حياته.. الملحد شخص مخلص لمعتقداته بشكل كبير، فترى أغلب الملحدين يبحثون ويطالعون ويكتبون المقالات ويناقشون محاولين توعية الناس من خرافات وأوهام الأديان علماً بأن الملحد ليس له رب لكي يكافئه، بل يأمل بأن يرى الخير والسلام يغمر العالم كله في الأجيال التي بعده)
ثم لخص هذه الدوافع بقوله: (كخلاصة على ما سبق، فإن الإنسان الملحد لديه أخلاق عالية جداً أكثر من الشخص المؤمن والمتدين، فأهداف الملحدين عديدة، ولكن جميع هذه الأهداف إيجابية تصب في نفس الموضوع، وهو عيش الحياة بأفضل وجه لأنه لا يملك غيرها، مع المحاولة على مساعدة الآخرين للتحرر من وهم الأديان، ومحاولة أن يكون إنسانا جيدا بأخلاق عالية ليتذكره الناس بالحسن بعد أن يموت)
فهذا النص يبين الطريقة التي يفكر بها الملحد، والتي يحاول من خلالها أن يبني لنفسه منظومة أخلاقية.
وسنناقش هذه الدوافع وما يرتبط بها في الوجوه التالية :
الوجه الأول: ذكره أن (الملحد يخاف على حياته لأنه لا يملك غيرها) مغالطة كبرى، فالمؤمن مع حرصه على جزاء الآخرة، يحرص على الدنيا أيضا، ذلك أنها في نظره مزرعة الآخرة، وأنها تكون جيدة بقدر ما كان عمله خيرا في هذه الحياة.
والفرق بين المؤمن والملحد في هذا هو أن المؤمن إن وجد هدفا أسمى وأبعد من مجرد مصلحته الشخصية؛ فهو مستعد للتضحية بحياته في سبيلها، بينما الملحد لا يملك مثل هذا الدافع.
والملاحدة هنا يستغلون بعض الأخطاء التي وقع فيها الدين المزيف، فهذه لا تمثل الدين، وإنما تمثله التضحيات النبيلة التي لا يشك أحد في عقلانيتها ومصلحتها.
الوجه الثاني: أن ما ذكره ذلك الملحد، وغيره من الملاحدة من قوله: (فإذا قتل أو سرق فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة)، يدل على أنه لا توجد قيم تمنع الملحد من القيام بأعمال خاطئة إن أمن العقاب.. فهو يترك القتل والسرقة خوفا من العقاب الدنيوي، وهذا يعني أنه إن أمن العقاب لا يتورع من القيام بالجريمة، ولكن المؤمن لديه رادع إضافي، وهو خوفه من الله وعقابه.
وبناء على هذا، وعلى تصورات الملحد بأن القيم المادية ومصالحه الشخصية وحدها من يحدد له صوابية العمل وخطأه يقع في جرائم كثيرة كتلك الجرائم التي قام بها هتلر، الذي كان يعتمد على نظرية دارون أثناء قيامه بمحاولة تحسين النسل، فقام بإعدام ما يقارب الـ 60 إلى 70 معاقا في كل يوم، كل ذلك حتى ينقي المجتمع الألماني من العاهات والعيوب الجسدية.
وهو لم يفعل ذلك إلا بعد اعتقاده بأن إنسانية الإنسان لا قيمة لها وراء هذا الجسد المادي، وكان لديه المبرر العلمي المتمثل بنظرية دارون الشنيعة
ما يتصور البعض أن هذا الفكر ذهب مع النازية، وهذا غير صحيح، فكل ملحد يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى نازي، لأن الفكر المادي الذي كان يفكر به هتلر هو نفسه الفكر الذي يفكر به أي ملحد.
وكمثال على ذلك حركة [اليوجينكس]، وهي حركة تهدف إلى تنقية النسل البشري من كل ما من شأنه إعاقة تحسن النسل، وقد قامت قبل هتلر بحوالي عشرين سنة، أي في عام 1920، بتعقيم ما يزيد عن 50،000 شخص، بداعي أنهم لا يملكون درجة عالية من الذكاء، لكي يمنعونهم من إنجاب أناس أيضا لا يملكون درجة عالية من الذكاء.. ولا تزال هذه الحركة نشطة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الآن.
الوجه الثالث: اعتباره عدم وجود قانون يحكم الغرائز إلا ما يقره القانون المدني، والذي عبر عنه بقوله: (الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً)
وهذا الأمر ينطبق على كل الفوضى الجنسية التي نشرها الإلحاد باسم الحرية الشخصية، كزواج المثليين، هو أمر شاذ عن الطبيعة البشرية، ولا يرقى لأن يكون فعلا حيوانيا، ولكن مع ذلك أصبح هناك قانون يبيحه في بعض الدول.
بالإضافة إلى ذلك لا نجد رادعا للملحد في الزواج من محارمه، ما دامت بعض الحيوانات تمارسه، والإنسان عندهم ليس سوى حيوان.. فهل يرضى الملحد أن يتزوج ابنه من ابنته مثلا؟.. وهل يرى أن هذا الأمر طبيعي؟
الوجه الرابع: اعتباره لإخلاص الملحد وأخلاقه، وكونه صاحب مثالية عالية، تلاعب بالألفاظ، ذلك أن هذا مثل ادعاء الأطفال: (بابا أقوى واحد في الدنيا!)، فمن يدعي مثل هذا الأمر ينفي عن نفسه صفة العلمية بشكل كبير، فهو قد يأخذ مثالا أو مثالين من أصدقائه الملاحدة، ثم يعممهما على جميع البشرية، وقد ذكرنا الفرق الكبير بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي.
الوجه الخامس : أن القانون لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات، بل لابد له أن يقترن بالأخلاق، ذلك أنه لو طرحت قضية أمام القانون، وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب، فلم يتبين الصدق أمام القاضي، فسوف يقضي خلاف ما يقتضيه العدل، ولن يتمكن القاضي من الحصول عليه مهما حاول.
ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون)، يحرك الناس، ويحملهم على الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول الى العدل. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ، حتى أنها تلزم كل شاهد (أن يقسم بالله أن يقول الحق) قبل الإدلاء بشهاداته، وهو دليل واضح يؤكد أهمية العقائد الدينية لصون حرمة القانون.
بالإضافة إلى هذا، فإن خوف الشرطة والمحكمة لايكفي لدرء الجرائم، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم، لأن الرشاوي، والمحسوبيات، وخدمات المحامين البارعين، وشهود الزور، كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أي شرطة أو محكمة انسانية، والمجرم لايرهب عقابا، أي عقاب، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.
بينما الشرع الالهي يستوفي كل هذه الأمور، فعقيدة (الآخرة)، التي يحملها الشرع الالهي، هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم، وهي تكفي لتبقى إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الانسان، لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي.
وقد أقيم في فناء محكمة (ويستون سركيت) نصب من حجر، يذكر الناس، بشاهد أدلى بشاهدة زور في فناء الدار، ثم قال: (وان كنت كاذبا، فليمتني الله، هنا، في الحال! ولم تكد هذه العبارة تخرج من فم الشاهد حتى سقط على ساحة الأرض، ومات في الحال)، وهناك وقائع أخرى من هذا النوع حدثت لشدة احساس أصحابها باللوم والذنب.
ثانيا ـ معايير الأخلاق عند المؤمن ودوافعها:
على خلاف ما رأينا من اضطراب عند الملاحدة في تحديد الأخلاق ومعايير ضبطها، نجد الأمر واضحا لدى المؤمن، ذلك أنه لا يستند في تحديد الأخلاق إلى الطبيعة العمياء الصماء البكماء، ولا إلى عقله القاصر المضطرب، ولا إلى بيئته المتلونة، وإنما يستند إلى مصدر ثابت لا يتلون ولا يتغير، وهو العالم بكل شيء، وهو الله تعالى..
وهنا يبادر الملحد إلى الضحك على مثل هذا التفكير، وطبعا نحن لن نجادله في ذلك، ولكنا ندعوه إلى النظر في النتيجة التي يخلص إليها المؤمن نتيجة هذا الإيمان، والنتيجة التي يخلص إليها الملحد، فالنتائج هي التي تحدد مدى صدق المقدمات.
وسنذكر هنا بعض النتائج التي يصل إليها المؤمن نتيجة هذا، لنرى مدى الفرق بينها وبين الرؤية الإلحادية:
1 ـ شمولية النظرة الدينية للأخلاق:
لا شك بأن هناك مجموعة من الفضائل الأخلاقية التي يستقل العقل بإدراكها من دون الحاجة للدين كحسن الصدق وقبح الكذب، وكحسن العدل وقبح الظلم ، لكن ليست كل القضايا الأخلاقية على هذه الشاكلة من الوضوح، فهناك بعض الأفعال التي يصعب، بل يستحيل على العقل أن يدرك قبحها، كالعلاقات الجنسية المثلية إذا تمت برضا الطرفين ومن دون مشكلة قانونية كما في بعض الدول التي تسمح قوانينها بذلك ، ففي مثل هذه الأمور نجد أن الدين سوف يحسم الأمر بسهولة من خلال تحريمه لمثل هذه الأفعال القبيحة، وإن سمحت بها بعض القوانين الوضعية وكان الطرفان راضيان.
وأما في الفكر الإلحادي فليس هناك أي مانع أخلاقي من هذه الممارسات إذا تمت برضا الطرفين ومن دون أي مشكلة قانونية كما في بعض الدول وفقاً لمعيار (المنفعة الرفاه /الألم الضرر). والغريب أن بعض الملاحدة يقول بأن هذه المسألة ينبغي أن يترك البت فيها للعلم، وإذا أكد لنا وجود الضرر فهي غير أخلاقية، وأما إذا لم يكن فيها أي ضرر فلا مشكلة فيها، كما ذهب بعضهم للقول بأن استقباح مثل هذه الممارسات ربما يكون نتيجة برمجة اعتاد عليها الإنسان، كأن يكون قد ربي على ذلك، وليس نتيجة لأمر حقيقي موجود في طبيعتها ويكشف عن قبحها بالفعل، ولذلك لا يمكن الاعتماد على النصوص الدينية في هذا الشأن.
وهذا الكلام يلاحظ عليه أنه أحال الأمر للعلم ـ رغم عدم صحة ذلك كما عرفنا في العنوان السابق ـ إلا أنه كذلك لم يحسم المسألة، لأنه في الكثير من الحالات تختلف النتائج العلمية من بحث لآخر، فعلى فرض صحة كلامهم ـ وهو غير صحيح طبعاً ـ فما هو رأي الملاحدة في حال اختلفت النتائج العلمية حول هذا الأمر؟ وكيف سيكون موقفهم إزاء هذه الاختلافات؟ وعلى أي أساس سيتم الترجيح بين الآراء العلمية المختلفة؟!
وبناء على هذا، كانت القوانين الوضعية التي تحاول ضبط أخلاق المجتمع ضعيفة هزيلة لا يمكنها الإحاطة بالكثير من الأخلاق السيئة، والتي تؤدي إلى دمار كبير في المجتمع، بخلاف فهي تنص مثلا على أن الجريمة هي (كل عمل يضر بالأمن العام، أو نظام الحكم القائم)، والتشريع الانساني لايجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة.
وقد دفع هذا الأساس القانون الجديد الى إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين، فالجريمة بهذا الاعتبار هي الجبر والاكراه الذي سبق (الزنا)، وليس الزنا في حد ذاته.
مع أن جريمة (الزنا) تفشي فسادا كبيرا في المجتمع، فهي تخلق مشكلات الأطفال (غيرالشرعيين)، وتضعف روابط الزواج، وهي تصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة، وتربي عقلا خائنا، وتخلق السرقة واللصوص، وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف؛ ومن ثم تفسد المجتمع كله، ولكن القانون ـ رغم ذلك ـ لايستطيع تحريمها، فهو لايجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل.
ومثل ذلك الخمر التي لم يستطع القانون أن يجرمها، لأنه يؤمن بأن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للانسان، وهو حر في اقتناء كل ما يريد أن يأكله ويشربه؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعية، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع، الا اذا اعتدى شارب الخمر على أحد المواطنين في هذه الحالة من السكر؛ أو خرج الى الشارع وهو سكران؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر، بل الاعتداء على الآخرين في تلك الحالة.
مع أن الخمر تضر بالصحة، وتبدد أموال الناس، وتؤدي بمدمنيها الى كوارث اقتصادية محققة، وتضعف الشعور الأخلاقي، حتى أن الانسان يتحول إلى حيوان رويدا رويدا، والخمر خير مساعد للمجرمين، فهي تشل الإحساسات اللطيفة، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل، وهدر العصمة، لكن القانون الانساني رغم هذه المعايب الشنيعة لن يتمكن من تحريم الخمر، لأنه لايجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الانسان الطبيعية.
ولذلك لن نجد حلا لهذه المشكلة إلا في قانون الله، لأن قانونه يبين رضا حاكم الكون؛ فإن كون أي قانون قانون الله يحمل معه أولوية تنفيذه، ولايحتاج بعد ذلك دليلا آخر.. وهكذا يسد القانون الإلهي فجوة عميقة، نتمكن بعدها من إحالة أي عمل الى دائرة القانون.
2 ـ الله هو مصدر الأخلاق ومشرعها:
ولهذا لا يجد المؤمنون مشكلة في مصدر الأخلاق، وهل هي الطبيعة أو العقل أو البيئة أو الحاكم، بل إن الأخلاق عندهم تعين وتحدد من طرف الخالق الذي آمنوا به؛ فهو أعلم بما يصلح لهم.
ولهذا يرى المؤمنون أن هناك ارتباطا وثيقا بين إثبات القيم المطلقة ووجود الخالق المطلق سبحانه، فمعرفة الخالق تقودنا إلى الأخلاق، وكذلك إثبات وجود الأخلاق والقيم المطلقة يقودنا حتماً إلى إثبات وجود الخالق المطلق سبحانه، بل حتى مسألة الشر التي كثيراً ما يستدل بها الملاحدة لإنكار وجود الخالق يمكن الاستدلال بها بشكل معاكس على إثبات وجوده سبحانه.
وهذا ما أشار إليه [ويليام لان كريغ] في مناظرته مع [سام هريس]، حيث قال: (لاحظوا أن الشر في الحقيقة يثبت وجود الرب، لأن الرب لو لم يكن موجوداً، فإن القيم والواجبات الأخلاقية الموضوعية لن تكون موجودة! وإذا وجد الشر، فذلك يقتضي أن القيم والواجبات الأخلاقية موجودة، وبالتحديد لأن بعض الأشياء شريرة. إذاً فالشر يثبت وجود الرب فعلياً، لأنه بغير الرب لن يوجد الشر والخير كما هما الآن).
وإذا ثبت لدينا وجود الخالق المطلق فيجب علينا عبادته بغض النظر عن الأمور الأخرى كمسألة المثوبة والعقوبة الأخروية، لأن الخالق سبحانه يُعبد لكونه مستحقاً للعبادة، وليس كما يظن بعض الملاحدة بأنه يُعبد فقط من أجل الدخول إلى الجنة واجتناب النار.
وحول مهاجمة الملاحدة للأديان لكونها تؤسس لسلوكيات غير أخلاقية بحسب زعمهم، يقول ويليام لان كريغ رداً على سام هريس: (لاحظوا أن د.هاريس ليس لديه أساس أخلاقي ليقول بأن المعتقدات الدينية بغيضة أخلاقياً، لأنه يفتقد إلى الأساس الذي يبني عليه حكمه هذا. لو كان الإلحاد صحيحاً، فما هو الأساس الموضوعي للجزم بأن نظرة ما بغيضة وأخرى ليست كذلك؟ لأنه لا يوجد ببساط أي أساس لأحكام كهذه).
وقد تناول احدهم مسألة الارتباط بين الأخلاق ووجود الخالق في كتابه فلسفة الأخلاق تحت عنوان (معرفة الله هي أساس الأخلاق) بقوله: (يقول البعض أن للأخلاق أساساً ومرتكزاً، فكما أن (أول الدين معرفته) حيث تشكل معرفة الله سبحانه الحجر الأساسي للدين، فكذا معرفة الله تشكل الحجر الأساسي للإنسانية، ولا معنى للإنسانية ولا للأخلاق من دون معرفة الله تعالى. أي لا معنى لأي شيء معنوي إذا لم يرتبط برأس المعنويات ومنبعها).
ويقول تحت عنوان (ذات الله تعالى هي أساس الفضائل الخلقية): (على أساس أي منطق يمكننا أن نبني الأخلاق؟. أيمكننا أن نجد للأخلاق منطقاً استدلالياً بعيداً عن طريق معرفة الله؟.كلا، إن الخلفية والرصيد لجميع هذه المفاهيم هي معرفة الله. وإن فقد الإيمان أصبحت الأخلاق كقطعة نقود لا رصيد لها. قد يكون البعض غير ملتفت إلى هذا الأمر ولكنه لا يكون مبنياً على أساس محكم.
وعندما نقارن الرؤية الإيمانية لمصدر الأخلاق بنفس الرؤية عند الملاحدة، نجد الفرق الكبير بينهما، وبناء على هذا كله، فإن الدين وحده من يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها، لأنه يرى أن مصدر التشريع هو (الله) وحده، خالق الأرض والكون؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته، وليس هناك من أحد غيره سبحانه، يمكن تحويله هذا الحق.
3 ـ وجود فلسفة واضحة للأخلاق:
بخلاف الإلحاد كما ذكرنا ذلك سابقا، وذلك لأنها تعتمد على الدين، في حين نجد بعض الفلسفات الأخرى تبدأ في تنظيرها -بل وتعتمد- على ما هو الموجود في الواقع، وهذا اختلاف جوهري كبير جداً، فشتان بين فلسفة تدعي بأنها تعتمد على الواقع وفلسفة تستقي من الوحي، وإن كانت تراعي مصلحة الواقع أيضاً.
ومن الطبيعي أن تكون المسألة الأخلاقية لدى الأديان معتمدة على تعاليم السماء، بل من غير المنطقي أساساً أن تكون الفلسفة الأخلاقية عند المسلمين غير مستلهمة من الأصول والمبادئ الدينية، إذ أن هذا لا يتصور أصلاً، لأن الأخلاق لها مدخلية في ضبط سلوك الإنسان في علاقاته بنفسه وبغيره، وهذا موضوع أخلاقي وديني بامتياز، إذ لا بد أن يكون هذا الأمر مبني على ما يؤكد عليه الدين بناءً على الفلسفة الأخلاقية التي يمتلكها، علماً بأنه لا يوجد أصلاً ما يؤكد وجود تقاطع كلي بين الدين والفلسفة الأخلاقية كما ألمحنا لذلك سابقاً.
لذلك يمكننا القول بأن للدين فلسفة أخلاقية. نعم، هذه الفلسفة لها خصوصياتها، فهي تختلف عن الفلسفات الأخرى، ولكن هذا لا يجعلنا ننكر ذلك من أساسه، علماً بأن الفلسفة الأخلاقية تختلف ولكن فالفلسفة الأخلاقية عند الديانة الإسلامية مثلاً الخصوصيات التي تميزها عن غيرها.
والغريب أن بعض الملاحدة ينكر وجود فلسفة أخلاقية للدين، ويُطالب بذكر مصادر كتبت في هذا المجال، ويبدو بأنه غير مطلع على هذا الأمر ومع ذلك ينفيه بضرس قاطع، وهنا تكمن المشكلة، فهو بهذا ينطلق من الجهل لإنكار وجود المسألة الأخلاقية، وشأنه في هذه المسألة كشأنه في مسألة إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالى، حيث أنه ينكر وجوده سبحانه وتعالى فقط لعدم تمكنه من الوصول إلى ذلك من خلال معطيات العلم التجريبي !!
وثمة عدة أمور يمكن عدها كمبادئ موضوعية للأخلاق الإسلامية وهي كالتالي:
1. حرية الاختيار: أن الإنسان موجود مختار، لأنه إذا كان مجبراً في أعماله، وافتقد إرادته في تقرير مصيره فإن الأمر والنهي المتوجهين إليه سوف يفقدان محتواهما، والالتفات إلى ذلك ذو أهمية بالغةً تربوياً، فإن ظهور لون من الجبر في الإنسان واعتقاده بعدم الاختيار في أعماله، ورضوخه للمؤثرات الخارجية سوف يثبط عزيمته ويجرده من الشعور بالمسؤولية.
2. الغاية النهائية: إذا كان الإنسان مختاراً فهو ينتخب غايةً ثم يباشر أفعاله الاختيارية بغية الوصول إليها، فهناك عدة غايات نقصدها عند انجاز أعمالنا، وبما أن التسلسل في الغايات أمر غير ممكن، فإنا نلاحظ غايةً نهائية لتلك الأعمال، وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق يقعان في إطار الأعمال الاختيارية للإنسان، وتنجز بقصد الوصول إلى الغاية والمطلوب النهائي.
3. لابد من السعي للوصول إلى الغاية: على الإنسان أن يعلم بأن لمساعيه دوراً في الوصول إلى غاياته ومقصوده، وأن نتائجها تعود عليه، وذلك لكي يبادر بشوق الى النشاط والسعي. فالإنسان إذا كان له مقصود نهائي ثم ظن أن أعماله ومساعيه لا تأثير لها، أو أن نتائجها تعود الى الغير ولا تقربه من المقصود والغاية النهائية ضعف دافعه للعمل والسعي، فلا يتعب نفسه للوصول اليه. من هنا كان من الضروري الاعتقاد بتأثير أعمال وسلوك الإنسان على مصيره، وذلك لحثه على التحرك والسعي في طريق الأهداف الأخلاقية السامية، وليعلم أن كل حركة أو عمل يقوم به باختياره ستعود نتيجته وما يترتب عليه من نفع أو ضرر على نفسه حتماً.
4 ـ توفير الإيمان لجميع دوافع الالتزام بالأخلاق:
من خلال مقارنتنا بين الدوافع الأخلاقية التي يجدها المؤمن مع تلك التي يجدها الملحد نجد الفرق الكبير بينهما، وكأننا نتحدث عن عوالم مختلفة تماما.
فالمؤمن يمارس الأخلاق بكل تلقائية وفرح وسعادة، حتى لو كان فيها الكثير من التضحية والإيثار وتلك المعاني السامية التي لا يستطيع الملحد أبدا تفسيرها، ذلك لأن تصوراته لحقائق الوجود والنظام الذي يحكمه يختلف تماما عن تلك التصورات العبثية التي يحملها الملحد.
ومن خلال استقراء النصوص المقدسة للأديان، وخصوصا الإسلام منها، نجد دافعين كبيرين للتحق بالأخلاق الحسنة: أولهما يرتبط بذات الخلق ودوره في تحقيق الكمال الإنساني، وهوما يحاول الملحد أن يتشبه بالمؤمن فيه، والثاني هو الاستفادة من ذلك الكمال الإنساني الذي وفرته الأخلاق في تحصيل السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، وهو ما يفتقر إليه الملحد بسبب إنكاره للحياة الأخرى، وإنكاره لقيم كثيرة تحكم الحياة الدنيا.
وسنشرح كلا المعنيين فيما يلي:
أ ـ التحقق بالكمال الإنساني:
فالمؤمن يؤمن من خلال ما تذكره له المصادر المقدسة، أنه يمكنه من خلال المجاهدات والرياضات تقويم سلوكه، وتربية نفسه، والسمو بروحه، حتى يتحقق بما يطيقه من كمال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
وذكر تعالى بعض تلك الأخلاق، وصعوبتها، مع تأثيرها الشديد في السمو الإنساني، فقال: {لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]
ولكون الأخلاق هي المقياس الذي يقاس به الكمال الإنساني، فقد أخبر الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تحقق بالدرجة العليا من ذلك المقياس، كما قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)
ولهذا ـ أيضا ـ وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خياركم أحاسنكم أخلاقا). وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم).
بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حسن الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا:(يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال:(المتكبرون).
ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) ، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.
وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال:(تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:(الفم والفرج).
بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)
ب ـ الاستفادة من الجزاء الدنيوي والأخروي:
وإليه الإشارة بالآيات الكثيرة التي تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبشر المؤمنين بما أعد الله تعالى لهم من فضل جزاء على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25)
ففي هذه الآية الكريمة تبشير لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بهذا الجزاء العظيم الذي سيلقونه عند الله تعالى.
وقد يرد التبشير بجزاء الله وفضله على أعمال خاصة، تحتاج إلى محفز عظيم، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)
فالله تعالى جمع في الآية الكريمة بين الإخبار على ما يعد للمؤمنين من صنوف الاختبار وما أعد لهم بجنبه ـ إن نجحوا ـ من صنوف الجوائز ليكون الجزاء حافزا للعمل ومثبتا عليه وداعيا إليه.
ومثل ذلك قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة:223)، فالتبشير منصرف في الآية للمؤمنين الذين تحققوا بتقوى الله.
وبذلك فالحاجة إلى الدِّين في تأسيس الأخلاق والإلزام
إن القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن مطلقة وملزِمة، ولا تكون القيم الأخلاقية كذلك إلا إذا استمدَّتْ وجودها وإلزاميتها من مصدر مُتعالٍ، وهذا المصدر المتعالي هو الدِّين ، وأمام الدِّين يصبح الإنسان أمام مرجعية عليا للأخلاق، بحيث يستند إليها في تقرير صحةِ القواعد والمبادئ الأخلاقية من عدمها، والمبادئ التي جاء بها الدِّين في المجال الأخلاقي مبادئُ ثابتة ومطلقة، وغير قابلة للتغيُّر والتبدل، وعزل القيم الأخلاقية عن هذا المصدر المتعالي يؤدِّي إلى زوال حقيقتها، فتصبح خاضعةً إما للضمير المتقلب المتغير، أو للعقل القاصر المتفاوت، أو للمنفعة النسبية، أو للمجتمع المتغير غيرِ المثالي.
وبغير الدِّين لا يهتم الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا، ولم تُشهَدْ أمَّة أو جماعة التزمت القِيَم الأخلاقية وتقيَّدت بضوابطها دون الاعتماد على وازعٍ يقودها إلى ذلك، ولا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسانَ يشعر بمراقبة الله - سبحانه وتعالى - الدائمة والشاملة له؛ فالوازع الديني يعتبر أقوى إلزام للإنسان، وهو خيرُ ضمان لاستقامة الفرد في حياته.
وإن حضور الدِّين في مشاعر الحب والخوف، والرضا والغضب، والرغبة والكُرْه - ينمِّي في شخصية الإنسان مقاومة الانحراف والشر، بينما خلوُّ المشاعر من التدين يؤدي إلى سهولة انحراف الإنسان، والذي يستشعر أن اللهَ سبحانه هو الحسيب والرقيب يكون مِن أبعدِ الناس عن الغش والكذب والظلم، والذي لا يؤمن بإلهٍ خالق حسيب ورقيب يكون مِن أقربِ الناس إلى الغش والكذب والظلم، ويقول البعض: إذا لم يكن إلهٌ ولا دِين فليس غريبًا ولا مجافيًـا للواقع أن تعيث في الأرض فسادًا، ولو على حساب الآباء والأبناء، ويقول آخرون: إذا لم يكن لك دينٌ فلا مانع أن تخونَك زوجتك، ويسرقَك خادمك.
وفي المجتمعات غيرِ الملتزمة بالدِّين يمكن أن يُقدِم الناس على ارتكاب جميع أنواع الأعمال المنافية للأخلاق، لكن الشخص المتدين حقَّ التدين لا يمكن أن يفعل الأعمال المنافية للأخلاق، مثلاً لا يقبل أن يتعامل بالرشوة أو القِمار، أو أن يحسُدَ أحدًا، أو أن يكذب؛ لأنه يعلم أن عليه مراقبة أعماله، وتذكر الحساب بعد الموت، أما الشخص غير المتدين فلا يمنعه شيء عن ارتكاب هذه الأعمال.
وليس كافيًا أن يقول الشخص غير المتدين: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا آخذ رشوة، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أقامر، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أسرق، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أزني، والسبب أن الإنسان الملحد الذي لا يخشى الله، ولا يستشعر رقابته، ولا يخاف الحساب بعد الموت - قد يرتكب أي فعل من هذه الأفعال عند تغيُّر المواقف أو الأوضاع من حوله.
وإذا قال شخص ما: أنا ملحد، ولكنني لا أزني؛ فالشخص نفسه قد يرتكب الزنا في مكان يعتبر فيه الزنا أمرًا عاديًّا، وممكن للشخص الذي لا يأخذ رشوة أن يقول: إني أحتاج المال، فعلَيَّ أن أقبل الرشوة، هذا إذا لم يكن في قلبه خوف من الله تعالى.
وفي حالة غياب الدِّين، فإن السرقة نفسها يمكن أن تصبح أمرًا مشروعًا تحت ظروف معينة؛ فالإنسان الذين لا دين له يمكن ألا يعتبر - حسب رأيه - أن أخذ المناشف وأدوات الزينة من الفنادق سرقة.
ومن ناحية أخرى، فإن الشخص المتدين لا يُظهر مثل هذا العمل؛ لأنه يخشى الله، ويعلم أن الله يعلم سرَّه وعلانيته؛ فالمؤمن يعمل بإخلاص، ويتجنب المعاصي، ويمكن لملحد أن يقول: أنا ملحد، ولكنني أتسامح مع الناس؛ فأنا لا أشعر برغبة في الانتقام، ولا أكره أحدًا، ولكن في يوم ما يمكن أن يحدث شيء ما يجعله يُظهِر تصرفًا غير متوقع منه؛ كأن يحاول قتل شخص ما، أو إيذاءَه؛ لأن الأخلاق التي لديه تتغير بحسب البيئة والظروف التي يوجد فيها، وانعدام الوازع الديني عند الملحد يجعله كلما تحركت في نفسه شهوةٌ أو نزوةٌ سارَعَ إلى قضائها.
أما الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، فلا يَحيد أبدًا عن الأخلاق الفاضلة مهما كانت المؤثرات؛ فأخلاقه غير متقلبة، والوازع الديني عنده ومراقبة الله والخوف من ارتكاب الإثم، يجعَلُه يتجنب الوقوع في رذائل الأخلاق.
مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين.
إذا كانت الأخلاق لا معنى لها دون إلزام، فما مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين: هل هو الضمير أو العقل أو المجتمع أو المنفعة أو القانون؟
وإن قيل الضمير :
لا يكفي وازعُ الضمير الإنساني وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فمِن الناس مَن يتميز بضعف الضمير، وكثيرًا ما تتحكَّمُ العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامهم، وقد يخطئ الضمير بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية، فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والضمير ليس ملكة معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى مَن يرشده.
والضمير يختلف في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، فما يمليه ضمير شخص قد لا يمليه ضمير شخص آخر، وكما قيل: الناس في كل العصور، وفي جميع الأقطار، يستشيرون ضمائرهم، ولكنها لا تُسمِعهم جميعًا لحنًا واحدًا؛ إذ إن ما يظهر عدلًا وخيرًا لبعض النفوس المخلِصة في عصر خاص، لا يظهر عدلًا ولا خيرًا لنفوس أخرى، هي أيضًا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر أو مكان آخر.
وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي: العقل
لا يكفي وازع العقل وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فالعقول قاصرة لا تهدي أصحابها في جميع الأحوال، وأحكام العقول متناقضة، وما يحكم عليه شخص بأنه خيرٌ له يحكم عليه آخرُ بأنه شر له، والأخلاق عقليًّا من منظور مادي غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبر عبء على صاحبها.
وقد يخطئ العقل بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية؛ فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وقد يصاب عند بعض الناس بعلَّةٍ من العلل المرَضية، فيعشَى أو يعمَى، أو تختل عنده الرؤية، فيصدر أحكامًا فاسدة، والعقل ليس ملَكةً معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى من يرشده.
وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المجتمع:
لا يمكن أن يكون المجتمع مصدرًا للأخلاق، ولا مصدرًا للإلزام الأخلاقي إلا إذا اعتبرنا المجتمع مجتمعًا مثاليًّا، أضف إلى ذلك أن ليس كل فرد مندمجًا في المجتمع؛ فالقِيَم الأخلاقية تتباين داخل المجتمع الواحد، ولك أن ترجع إلى التاريخ لترى أن بعض الأفراد من أنبياءَ ورسلٍ ومصلحين كانوا مصدرًا لقيم أخلاقية ساعدتِ المجتمعات على النهوض والتقدم.
وأعراف الناس متغيرة وغير ثابتة؛ إذ تختلف الأعراف باختلاف الزمان والمكان، فما كان مألوفًا متعارَفًا عليه في زمان أو مكان قد يكون منكَرًا ومستهجنًا في زمان آخر أو مكان آخر، والأخلاق تتمتع بالمطلقية والثبات في كل زمان ومكان.
واعتبار المجتمع مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي يجعل الأخلاق خاضعة لِما تواضَع عليه الناس في المجتمع، وبدلاً مِن أن تُحدِث القِيَمُ الأخلاقية تحولاتٍ في الواقع والمجتمع تصبح الأخلاق مجرد انعكاس لهذا الواقع، وتبريرًا له، وبالتالي تفقِد الأخلاق مطلقيتها وإلزامها، وماذا لو تواضع الناس على جواز الزنا، وجواز اللواط، وجواز زنا المحارم، هل يلتزم الفرد بمثل هذه السلوكيات الفاسدة أو يخالف مجتمعه؟!
وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المنفعة،
الأخلاق التي تُبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية، والأخلاق النفعية لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها، واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة؛ فيصبح السلوك الواحد خيرًا وشرًّا في آنٍ واحد، خيرًا عند الذي حقق له منفعة، وشرًّا عند الذي لم يتحقق له منفعة، وبالتالي لا يوجد خُلق حميد، ولا خُلق رذيل، وهذا مخالف للواقع؛ بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدرٍ مِن التوافق العام والتصور المشترك؛ كالعدالة، والفضيلة، والكرم.
واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يُلغي الأخلاق؛ لأن المبدأ الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود؛ فالمنافع متعارضة، وما ينفعني قد لا ينفع غيري، مما يؤدي لحدوث التنازع، واصطدام مصالح الناس بعضها ببعض، وعموم الفوضى.
وربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز، والغرائز موجودة في الإنسان والحيوان معًا، فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان.
وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي هو القانون:
لا يكفي القانون وحده وازعًا لحمل الناس على التحلي بالأخلاق؛ إذ يمكن التحايل عليه، ويستطيع الإنسان الإفلات منه، وتجاوزه، والهروب من العقوبة، وسلطان القانون على الظاهر لا على الباطن، والقانون قد يعاقب المسيء، لكنه لا يكافئ المحسن، وإذا كانت القوانين عاجزةً عن أن تزجر الإنسان عن الشر والفساد - بدليل كثرة الشر والفساد - فهي أشد عجزًا عن أن تدفعَ الإنسان إلى الخير والإصلاح.
ومن هنا لا يكفي كلٌّ من الضمير والعقل والمجتمع والمنفعة والقانون لأن يكون أحدهم مصدرًا للإلزام الأخلاقي، والاكتفاء بوضعِ باعثٍ واحد للالتزام أدعى إلى عدم الالتزام.
ولو جعلنا طرق الإلزام كلَّ هذه الطرق دون الإلزام بوازع الدِّين، فهذا لا يصح أيضًا؛ لأن الضمير متفاوت متغير، والعقول قاصرة متفاوتة في إدراك ما ينفعها، والمنفعة نسبية، فما ينفعني قد لا ينفع غيري، والمجتمع متغير، وما هو سائدٌ في هذا المجتمع قد لا يكون سائدًا في مجتمعي، والقانون سلطانه على الظاهر دون الباطن، فلا بد مِن مصدر مُتعالٍ يُهَيمِن على كل هذه المصادر، ويرشدها ويوجِّهها ويقوِّمها إذا اعوَجَّتْ.
المصادر
(١)الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، أبو القاسم حاج حمد.
(٢) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص175.
(٣) ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، عبد الله الشهري، ص280.
(٤) أقوى براهين د.جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، جمعه وعلق عليه م.أحمد حسن
(٥) الإلحاد بين قصورين
(٦) خرافة الإلحاد للدكتور عمرو شريف
(٧) كتاب أفي الله شك؟ للشيخ الدكتور مرتضى فرج
(٨) فلسفة الأخلاق
(٩) كيف تناظر ملحدا د نور ابو لحية
من الأسلحة المهمة التي يحتاج الداعية إلى الله المقاوم للإلحاد إلى استعمالها، سلاح القيم الأخلاقية وخاصة تلك التي تعارفت عليها البشرية، ودانت بها فطرتها، ذلك أنه لا يمكن أن يكون للملحد أي جواب حولها؛ فالفلسفة المادية التي تختصر الإنسان في كيانه البيولوجي لا تستطيع أن تفسر أي قيمة من القيم الخلقية، ولا تستطيع كذلك أن توفر لأتباعها أي حافز يدفعهم للسلوك الأخلاقي، وخاصة إن كان يحمل معاني التضحية والإيثار والبذل. وكيف يمكن ذلك لمن يرى الحياة الدنيا فرصته الوحيدة؛ فلذلك يسرع لاستعمال كل وسيلة لنيل ملذاتها وشهواتها قبل أن يطبق عليه العدم ـ كما يتصور ـ ولا يمكن لمثل هذا أن يؤدي أي وظيفة أو خدمة للبشرية تكون على حساب مصالحه، وإن فعل ذلك قوض جميع فكره ومذهبه الذي يؤمن به.
وقد أشار إلى هذا السلاح الذي يمتلكه المؤمنون، ولا يمتلكه الملاحدة [بوخينسكي] أستاذ الفلسفة بجامعة [فريبورج] بسويسرا تعليقا على تلك الآراء الوجودية الممتلئة بالشذوذ بقوله: (ليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي تربت على هذه الفلسفة، والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعية، وفي ادعاء استحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية، بل إن الوجودية قد أرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يدي سارتر.. ومن نتائج الوجودية أيضًا، دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسمم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تمامًا)
وقد أشار إلى هذا بعضهم بما سماه [الدليل الخُلُقي على وجود الله] ، ويقصد به القيم الخلقية، باعتبارها قيما ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، بل لا يمكن أن يكون بدونها المجتمع، وهذه الأخلاق تعتمد على وجود إله، لانه إذا لم يكن هنالك خالق يرى ويسمع ما يفعل البشر، ولم تكن هناك دار أخرى يثيب الله فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وكان الكسب المادي في هذه الحياة الدنيوية هو وحده الكسب المعتبر؛ لكان كل ما نراه لغوا وعبثا.
وبناء على هذا؛ فإننا عندما نقارن بين معايير الأخلاق عند المؤمن ـ وخاصة في الدين الأصيل الذي لم يحرف، ولم تتلاعب به الأهواء ـ مع المعايير التي يعتمدها الملحد نجد فرقا كبيرا جدا، فالمؤمن يمتلك معايير دقيقة ومضبوطة للأخلاق، وهي تتناسب مع الكرامة الإنسانية والنبل الإنساني، بينما الملحد يعجز أن يصف أي معيار، لأنه سيصطدم لا محالة بتصوراته المادية للكون والحياة.
ومثل ذلك نجد المؤمن يمتلك دوافع حقيقية للالتزام بالأخلاق، بخلاف الملحد الذي لا يجد أي دوافع، لأنه ـ في تصوره ـ ليس سوى كائن بيولوجي، جاء صدفة، وسيعدم بعد فترة قصيرة، ولا شيء غير ذلك.
انطلاقا من هذا سنحاول هنا باختصار أن نقارن بين معايير الأخلاق بين المؤمنين والملاحدة والدوافع التي تحفز للالتزام بها ليكون ذلك وحده كافيا في تهافت الرؤية الإلحادية، وعدم قدرتها على تأسيس أي مجتمع أو أي حياة نبيلة وفق قيم واضحة مضبوطة.
أولا ـ معايير الأخلاق عند الملحد ودوافعها:
من التعبيرات التي قد تختصر لنا تصور المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تحديدهم للأخلاق ما ورد في المناظرة المشهورة، والتي سُئل فيها الفيزيائي الشهير الملحد [لورنس كراوس] عن موقفه من زنا المحارم، فردّ قائلا: (ليس من الواضح بالنسبة إليّ أنه خطأ).
ومثله [ريتشارد دوكنز] الذي صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: (لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ)
أما الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية [بيتر سنجر]، بصرح بأن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: (فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان)
هذه التعابير كلها تدل على المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تفسير الأخلاق وتحديدها، وهو كونها ذاتية لا موضوعية، فليس هناك شيء اسمه أخلاق عندهم، وما نراه من أخلاق في تصرفاتهم، لا ينطلق من كونهم ملاحدة، وإنما من تأثير البيئة التي يعيشون فيها أو غيرها، أما لو ترك الأمر للملحد وعقله المجرد؛ فإن كل شيء بالنسبة له مباح، أو كما عبر [فرانك توريك] بقوله: (لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لاأخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية.. وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم)
وعبر عن ذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: (يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي) .
ولا يصعب على أي عاقل أن يعرف سبب خلو الإلحاد من الرؤية الأخلاقية، ذلك أن الإلحاد لا يؤمن إلا بالحس والمادة وما ينشأ عنهما، وبما أن الأخلاق أمور معنوية، ويصعب عليه تفسيرها وفق رؤيته المادية، ولذلك ينكرها.
وقد عبر الفيلسوف الأميركي اللاأدري [توماس نيجل] في كتابه [العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟] عن هذا المعنى بذكره (أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية)
لكن إلحاحات المؤمنين على الملاحدة في هذا الجانب الذي لا تكاد تخلو مناظرة منه، جعلهم يفكرون في حل ينقذون به أنفسهم، والإلحاد الذي يؤمنون به، والذي لا يوفر لهم، ولا للبشرية أي غطاء أخلاقي يمكن أن يفيدهم.
ومن تلك الحلول وأكثرها رواجا محاولة الملحد الشهير سام هاريس في كتابه [المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم الإنسانية؟]، والذي حاول أن يبرّر فيه ما هو أخلاقي بما يحقق للبشرية الرفاه والسعادة والرخاء.
وما ذكره هو تكرار لما ذكره الكثير من الملاحدة في عصورهم المختلفة، فهم يعتبرون معيار الأخلاق تحقيق المنفعة أو الرفاه الاجتماعي، وكذلك دفع الألم والضرر، فهذا هو الذي يحدد مصير كون الفعل أخلاقيا من عدمه، فهو أخلاقي إذا حقق المنفعة والرفاه أو الرخاء الاجتماعي، وهو غير أخلاقي إذا أدى إلى ألم أو ضرر.
وأما كيف يتم تحديد المنفعة والضرر وعلى أي أساس؛ فيرى هؤلاء أن ذلك يتم من خلال ما يُبينه العلم، فالعلم هو المؤهل الوحيد لديهم لإثبات ذلك من عدمه، ولذلك يُعلنون رفضهم الاعتماد على النصوص الدينية في مسألة الأخلاق، بل ويشترط بعضهم أن لا تكون الفلسفة الأخلاقية معتمدةً على نصوص دينية.
ويمكننا تلخيص الرد عليهم في الوجوه التالية :
1 ـ الخداع اللفظي:
ذلك أن ما ذكروه لا يمثل معياراً حقيقياً للأخلاق، لأنه لم يبين كيفية تمييز الأخلاق من عدم الأخلاق أو الخير من الشر، فالتعبير بالرفاه أو الرخاء الاجتماعي أو الألم والضرر لن يحل المسألة، لأن تبديل الألفاظ لا يُغير من حقيقة الأمر، وسيبقى السؤال: ما الذي يجعل زيادة الرفاه أو الرخاء الاجتماعي أمراً أخلاقياً؟ وما الذي يجعل إلحاق الضرر أو الألم أمراً غير أخلاقي؟! فهذا السؤال تم الالتفاف عليه، لأن كل ما ذكره هؤلاء هو إعادة تعريف لمسألة الخير (الرفاه أو الرخاء الاجتماعي)، وكذلك لمسألة الشر (الألم والضرر) من جديد، وهذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر معياراً حقيقياً للتمييز بين الأخلاق وغير الأخلاق أو الخير والشر.
وهذا ما أشار إليه ويليام كريج في مناظرته مع سام هاريس حول المسألة الأخلاقية، إذ يقول قاصداً الأخير: (فهو يعيد تعريف كلمة (خير) لتصبح (رخاء الكائنات الواعية)، ولذلك فإن تسأل: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات أمراً خيراً؟) يعادل وفق تعريفه الجديد سؤال: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات زيادة في رخاء الكائنات؟) إنه مجرد حشو، إنه مجرد الحديث في دوائر مفرغة! وهكذا (حل) الدكتور هاريس مشكلة القيم بإعادة تعريف مصطلحاته فقط، وهذا مجرد تلاعب بالألفاظ).
وبناء على هذا، فإن القول بأن الأخلاق وعدم الأخلاق يُحدد بالمنفعة أو الرفاه الاجتماعي أو باجتناب الألم والضرر، لا يُمكن أبداً أن يُعتبر معياراً حقيقياً لتمييز المسألة الأخلاقية من غيرها.
2 ـ عدم التفريق بين الأفعال الأخلاقية وغيرها
يحاول الملاحدة ـ تجنبا لأن يوصفوا بالاضطراب الفكري ـ الملائمة بين الإلحاد والفلسفة المادية التي يؤمنون بها، ولذا تجدهم يعتمدون معايير مادية تنسجم مع هذه الفلسفة مثل المنفعة أو الرفاه، أو الألم والضرر؛ فهم يحاولون أن يصوروا كل المسائل بصورة مادية بحتة حتى مسألة الأخلاق والقيم.
وكل هذا غير صحيح، لأن القيم الأخلاقية لا يمكن أن تعتمد على المعايير المادية، أو كما عبر احدهم بقوله: (والفرق بين الفعل الأخلاقي وسائر الأفعال هو أن الفعل الأخلاقي قابل للثناء والمدح، ويضفي الناس قيمة على مثل هذا الفعل، لكن هذه القيمة ليست من نوع القيمة التي يقيم بها عمل أحد العمال، وذلك لأن العامل يوجد قيمة مادية يستحق مبلغاً من المال أو شيئاً من السلع في مقابل عمله، بينما الفعل الأخلاقي يتميز بقيمة تفوق هذه القيم بحيث لا يمكن تقويمها بالمال ولا بالسلع المادية. فالجندي الذي يضحي بروحه من أجل الآخرين يقوم بفعل ذي قيمة، لكن هذه القيمة ليست من لون القيم المادية).
لذلك لا يمكننا قياس القيم الأخلاقية بالمعايير الإلحادية (المادية)، لأنه يصعب عليها تفسيرها وتبريرها، وكلامنا هذا ليس عن الملحدين وإنما عن الفلسفة المادية الإلحادية، فهناك فرق بين الأمرين كما وضحنا ذلك سابقا، وكما سنوضحه في الوجه التالي.
3 ـ عدم التفريق بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي
من المغالطات التي يمارسها الملاحدة في هذا المجال هروبهم من فلسفة الأخلاق إلى واقع الأخلاق، وهذه مغالطة كبيرة، ذلك أن الواقع الأخلاقي قد يكون له مصادر أخرى غير الإلحاد؛ فلذلك لا يمكن اعتباره.
ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الحوار مع الملاحدة حول الفلسفة الأخلاقية للدين، وليس عن الواقع الأخلاقي العملي للمتدينين، وهذا الخلط يقع فيه بعض الملاحدة فيركز مثلاً على سلوكيات الجماعات الدينية المتطرفة لإثبات بأن الأديان تخلو من فلسفة أخلاقية، ولإثبات بأنهم يعتمدون على النصوص الدينية لتبرير تصرفاتهم وممارساتهم، وهذا الأمر بالتأكيد مجانب للصواب، لأن الفلسفة الأخلاقية تختلف عن الواقع الأخلاقي سواءً عند المتدينين أو عند الملاحدة.
وهكذا؛ فإن الأخلاق في الواقع العملي عند المؤمنين لا تعني بالضرورة أنها تمثل الفلسفة الأخلاقية الدينية، وكذلك العكس، فالأخلاق في الواقع العملي عند الملحدين لا تعني بالضرورة بأنها نتاج الفلسفة الأخلاقية عندهم، ولذا فعندما نجد ملحدون وقفوا مع المظلومين ضد الظالمين بل وضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق العدالة، ونجد في المقابل أشخاصاً يدعون الإيمان بالله سبحانه ولكنهم يقفون مع الظالمين في سحق المظلومين، فلا نحيل ذلك مباشرة إلى الفلسفة الأخلاقية عند الطرفين، لأن هناك من الطرفين من يفعل عكس ذلك، وكشاهد على ذلك نجد أمثال جماعة داعش من المسلمين، وأمثال جوزيف ستالين من جانب الملحدين.
لذا فالسؤال المهم المتعلق بالمثال المتقدم هو: ما هي الفلسفة الأخلاقية للإلحاد التي تجعل الملحد يضحي بنفسه وهو لا يؤمن بالحياة الأخروية ولا بالجزاء الأخروي؟ فالفلسفة الأخلاقية عند المتدين في حال تضحيته بنفسه في مناصرته للمظلومين واضحة ومعروفة وأما الملحدين فلا، إذ لا يوجد مبرر من الناحية الفلسفية يتوافق مع الفلسفة المادية التي يتبعونها.
وهذا ما جعل الدكتور جون لينكس يبين بأن الملحد ليس بعاجز عن أن يكون خيراً ولكن الإلحاد لا يدعم أي أسس فكرية للأخلاق، لأن فرضية الإلحاد –كما يقول- ليس لديها تأسيس لمبادئ الخير والشر.
4 ـ اعتبارهم المنفعة والضرر معيارا أخلاقي
وهذا معيار لا يمكن قبوله، لأنه يتنافى مع الأخلاق، ذلك لأنه من الممكن تحقيق منفعة في أفعال غير أخلاقية، كما يمكن إلحاق الضرر في بعض الأفعال، ومع ذلك تكون أفعالاً أخلاقية، ومن الأمثلة على ذلك الكذب، إذ قد يترتب عليه منفعة رغم كونه غير أخلاقي، وكالتضحية بالنفس من أجل الآخرين، فهو بالتأكيد يؤدي إلى الضرر رغم كونه يُعد من الأفعال الأخلاقية، ولذلك نستطيع القول أن المعايير التي اتخذها الملاحدة للأخلاق غير صحيحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقق الرفاه الاجتماعي وانتفاء الضرر والألم ليست من المسائل الأخلاقية أصلاً، وإنما هي تعبير عن صور الحياة السعيدة (بالمفهوم المادي)، وهناك فرق كبير بين الحياة الأخلاقية والحياة السعيدة.
وهذا ما ذكره [ويليام كريج ] رداً على [سام هاريس]، حيث قال: (ومقارنة الدكتور هاريس بين الحياة الحسنة والحياة السيئة ليست مقارنة أخلاقية بين الحياة الخيرة أخلاقياً والحياة الآثمة أخلاقياً، بل هي مقارنة بين الحياة السعيدة والحياة البائسة، وليس هناك أي سبب للمساواة بين (السرور والبؤس) و(الخير والشر)، وخصوصاً ضمن النظرة الإلحادية. وهكذا فلا يوجد مطلقاً أي سبب في الرؤية الإلحادية يدفع للاعتقاد بأن ازدهار الكائنات الواعية هو خير موضوعي).
وعندما سئل احدهم؛ فقيل له: (على أي فعل من أفعالنا الاختيارية يطلق (الخير) وما هو معيار خيريته؟)، أجاب بقوله: (إن العمل الذي له دور ايجابي في تحقيق كمال الإنسان، أي العمل الذي يسعى الإنسان بأدائه للوصول إلى مقصودة وغايته النهائية سيكون خيراً بسبب تأثيره في ضوء ذلك المطلوب بالذات والغاية النهائية، أي لكونه سبباً وواسطة للوصول الى الغاية النهائية والخير بالذات فهو خير بالواسطة ومطلوب بالغير اصطلاحاً ومنه ينتزع معنى (القيمة الأخلاقية)
وأضاف قائلاً: (ومما ذكر نستنتج أن (الخير) ليس ـ في ذاته ومطلقاً ـ معياراً للقيمة الأخلاقية، بل يكون أخلاقياً مع ملاحظة القيود المذكورة، كما أن (الشر) يكون أخلاقياً فيما لو أطلق على الفعل الاختياري، والفعل الذي له دور سلبي في تحقق كمال الإنسان يكون (شراً). فالشر أيضاً يكون بملاحظة هذه القيود مفهوماً أخلاقياً وذا قيمة أخلاقية سلبية وبكمة أخرى: اللاقيمة).
5 ـ عدم التفريق بين المصلحة والمنفعة:
حيث يخلط الملاحدة بين المصلحة والمنفعة، وقد رد على هذا الخلط احدهم بقوله: (وفي هذا المجال لا ينبغي أن يختلط علينا الأمر فهناك فرق كبير بين الكذب ذي المصلحة والكذب ذي المنفعة، وكثير من الناس يشتبه عليه أمرهما أو يتظاهر بذلك، والواقع أن الكذب ذا المصلحة يعني ذلك الكذب الذي انسلخ عن فلسفته واكتسب فلسفة الصدق، فالإنسان بهذا الكذب ينقد حقيقة ما، بخلاف الكذب ذي المنفعة وهو الكذب الذي يتورط فيه الإنسان من أجل الظفر بربح).
ثم أعطى القانون العام للتفريق بينهما؛ فقال: (إذن لا ينبغي الخلط بين موضوع المصلحة وموضوع المنفعة. فالمصلحة تدور مدار الحقيقة، والمصلحة والحقيقة توأمان لا ينفصلان. والمصلحة تعني مراعاة الحقيقة وليس مراعاة الربح الشخصي فهذه هي المنفعة)
لذلك فإن تصوير تحقق المنفعة أو الرفاه مساوياً لتحقق المصلحة كما توحي بذلك بعض عبارات الملاحدة غير دقيق، بل غير صحيح، وبهذا يتضح بطلان الاعتماد عليها كمعيار للأخلاق.
6 ـ الدعوة إلى المفاصلة بين الأخلاق والدين
حيث يُطالب الملاحدة بإثبات وجود معايير أخلاقية غير معتمدة على نصوص دينية، مع أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فما الضير في أن تكون الأخلاق معتمدة على ضوابط مستلة من نصوص دينية، فالأخلاق لا تقاس بكونها معتمدة على نصوص أو لا، كما أن عدم الأخلاق أيضاً لا يُقاس بهذا الأمر، إذ لا ملازمة بين الأمرين.
وسبب ذلك هو عدم وجود تناقض في هذا الأمر، ذلك أن النصوص الدينية قد لا تتقاطع بالضرورة مع العقل والمنطق، ولذلك ما الحاجة لرفضها أو الاستغناء عنها؟
وتصوير الأمر على هذه الشاكلة مجازفة على حساب الواقع، فحتى القوانين الوضعية نجدها تعتمد على نصوص مدونة، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذه القوانين غير صحيحة لمجرد كونها معتمدة على نصوص مدونة، علماً بأن بعض القوانين في بعض الدول تتقاطع مع قوانين أخرى في دول أخرى.
ولذلك فإن مطالبة الأديان وأتباعها كالمسلمين بأن تكون لهم فلسفة أخلاقية لا تعتمد على النصوص الدينية شيء، وإنكار وجود هذه الفلسفة من الأساس شيء آخر، ولا يصح أبداً الخلط بين الأمرين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى المؤمنين بالدين الأصيل ضوابط عقلية ومنطقية مستقلة عن النصوص الدينية كما يُطالب الملاحدة بالضبط ، ومعنى ذلك بأن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبح بذاته، فهذه ركيزة أساسية في فلسفة الأخلاق الإسلامية، وهو مبدأ مستقل عن النصوص الدينية كما هو واضح، لذلك، فمن غير الصحيح تصوير اعتماد الأخلاق على نصوص دينية بأنه دليل على عدم وجود فلسفة أخلاقية حقيقية، وعلى من يدعي هذا الأمر أن يثبت ذلك.
7 ـ عجز العلم عن تحديد معايير للأخلاق:
فالملاحدة يزعمون أو يغالطون بأنهم ـ وبواسطة العلم وحده ـ يمكنهم اكتشاف المنظومة الأخلاقية والمعايير التي تحددها، بناء على كون العلم هو الذي يميز المنفعة من الضرر، لكن هذا غير ممكن في الواقع من نواح كثيرة، ذلك لأن الكون وما فيه، وفقاً للرؤية الإلحادية خاضع لقوانين حتمية كالتطور والانتخاب الطبيعي الذي يحتم مبدأ البقاء للأصلح.
وهذا المبدأ لا يمكن له أن يعرف الخير من الشر، كما عبر عن ذلك الدكتور [جون لينكس] بقوله: (كيف تستطيع في عالم مادي أن تفسر لي عدم السرقة والقتل إن كان فيهما مصلحة (أي منفعة)، وإذا أمنت العقاب (عدم الضرر) أو أن يكشف أمرك أحد؟.. كيف تفسر عدم غواية زوجة جارك أو أخيك أو صديقك واستغلال غيابه عنها إذا تأكدت من عدم الفضيحة؟.. كيف تفسر عدم خيانتك لزوجتك؟.. كيف تفسر أمانتك في العمل؟.. بل ما هو الدافع المادي لديك مثلاً للمخاطرة بنفسك لإنقاذ طفل يغرق؟.. هل يمكن (اختراع) أي فكرة مقنعة ساعتها للإجابة عن مثل هذه الأسئلة بالغاً ما بلغت من الخيال؟).
ويقول: (من الصعب جداً أن نرى كيف للعملية التطورية غير الواعية أن تشرح لنا حالة الإيمان بالأخلاق ذات المكانة المتأصلة والشاملة في البشر والتي توجب علينا دعم الناس الذين –في طبيعة الأمور- مسؤولين عن إيقاف أو حتى تهديد (التقدم) التطوري كالضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والكبار في السن).
ويقول د. عمرو شريف: (إذا كان الدراونة قد عجزوا عن تفسير نشأة التعاطف بين البشر، فلا شك أن تفسير نشأة خلق الإيثار سيكون أصعب، فهو يعمل ضد هدف التطور الرئيسي، وهو المحافظة على النوع، فعلى المستوى الفردي، ما الذي يدفعني للتضحية بذاتي من أجل المجتمع والجنس البشري؟.. ما الذي يدفع جيناتي الأنانية للتضحية بذاتها؟.. وما الذي يدفع جينات كرات الدم البيضاء للتضحية بذاتها في صراعها ضد الميكروبات لدفع المرض عن الجسد؟!.. وعلى المستوى الأكبر، ما الذي يدفع المجتمع للتضحية بموارده وجهد أفراده من أجل العناية بالضعفاء والمرضى والمعوقين والمسنين؟.. أليس ذلك ضد البقاء للأصلح؟ ألا يزيد ذلك من فرص بقاء الأقل صلاحية؟).
ويقول: (يفرض الدراونة إننا نفعل ذلك من أجل أن يفعله معنا الآخرون عندما نمرض أو نهرم، بالرغم من أن هذا التفسير مرفوض داروينياً؛ فالتطور ليس له بصيرة مستقبلية، ومن ثم لا يفرض علينا التزاماً أخلاقياً تجاه ضعفائنا حتى يساعدنا الآخرون فيما بعد. إن التطور لا يعرف مثلنا الشعبي (من قدم السبت يلقى الحد (يوم الأحد) قدامه).
لذلك، فإنه من المستحيل التوفيق بين الفلسفة المادية ونظرية التطور التي يؤمن بها الملاحدة وبين القيم الأخلاقية.
بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن العلم يخبرنا فقط عما يكون، ولا يخبرنا عما يجب أن يكون، فالكائنات البشرية من وجهة نظر المذهب الطبيعي مجرد حيوانات، وليس على الحيوانات أي واجب أخلاقي تجاه بعضها البعض، فعندما يقتل الأسد الحمار الوحشي فإنه يقتله فقط، ولا يرتكب جريمة قتل.
ولذا لو لم يكن الإله موجوداً، فلماذا نعتقد أن علينا أي واجبات أخلاقية لفعل أي شيء كان؟ من أو ما الذي يفرض علينا هذه الإلزامات؟ من أين تأتي؟.
ومن وجهة النظر الإلحادية قد لا تكون بعض الأفعال كالاغتصاب ونكاح المحارم مفيدة بيولوجياً أو اجتماعياً، ولكنها في سياق تطور الإنسان وتحضره أصبحت من المحرمات، أي أصبحت سلوكاً غير مقبول اجتماعياً، لكن ذلك لا يثبت أبداً أن تلك الأفعال خطأ حقيقي، فمن وجهة النظر الإلحادية؛ فإن المغتصب الذي اختار خرق أخلاقيات القطيع، لا يقوم بفعل أكثر خطراً من ممارسة شيء غير مألوف.
إذاً إحدى الأمور المهمة هي معرفة طبيعة العلاقة بين العلم أو عالم المعرفة (ما هو كائن) وبين الأخلاق أو عالم القيم (ما يجب أن يكون)، ومن المستحيل أن تخضع القيم الأخلاقية للعلم، وفي ذلك يقول الدكتور جون لينكس: (فالمعرفة هي وصف للواقع بـ (يكون) والقيم هي ما يجب أن يكون أي (الحتمية) من (يكون) وهذا مستحيل. فإن كان الأمر صواباً وأن ليس هناك من هدف في الكون، وأن البشر نتاج الصدفة المحضة، فلا يمكنك اشتقاق أي (يتحتم) من (يكون).
بالإضافة إلى ذلك، فإن (الوجوب) في الأخلاق والقيم يقتضي (الاستطاعة)، فالشخص غير مسؤول أخلاقياً عن فعل لا يستطيع اجتنابه، فعلى سبيل المثال إن دفعك أحدهم من الخلف نحو شخص آخر فلن تكون مسؤولاً عن اصطدامك به، إذ ليس لديك خيار.
وهكذا لا يوجد أي أساس للواجبات الأخلاقية الموضوعية لأنه لا يوجد مشرع للقانون الأخلاقي، وليس هناك إمكانية لوجود الواجبات الأخلاقية الموضوعية بسبب غياب الإرادة الحرة.
وينقل الدكتور جون لينكس عن أينشتاين قوله: (إن إحساسنا بالجمال وغرائزنا الدينية ما هي إلا: أشكال مساعدة تدفع القدرة الاستنتاجية باتجاه أعظم الإنجازات. أنت محق في الكلام عن الأسس الأخلاقية للعلم، ولكن لا يمكنك عكس الأمر والكلام عن الأسس العلمية للأخلاق)
ويبين بعدها بأنه وفقاً لأينشتاين، فإنه لا يمكن للعلم أن يشكل أسساً للأخلاق، ويعقب موضحاً بقوله: (يمكن أن تساعدنا معرفة مقدار الألم الذي تحس به الحيوانات في صياغة الأحكام التي تخص القيام بالاختبارات الحيوانية، ولكن يبقى الحكم مقدراً على أساس اقتناع أخلاقي سابق بأن الألم والمعاناة أمر سيء. يمكن للعلم أن يخبرنا أن وضع مادة الستركنين السامة في شاي جدتك سيقتلها، ولكن لا يقدر العلم على إخبارنا إن كان يلزمك أو لا يلزمك فعل ذلك لكي تحصل على أملاكها).
8 ـ عدم قدرة الإلحاد على وضع قوانين ثابتة:
بناء على كل ما سبق؛ فإن الإلحاد يعجز عن وضع أي منظومة قانونية متفق عليها، ولهذا قال بعض الخبراء في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا).
وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع، فهو عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن اقامة صريح التشريع عليه، ذلك أنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد، ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى.
ولذلك باءت كل الجهود التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي بالفشل الذريع، والذي عبر عنه الأستاذ (و. فريدمان) بقوله: (وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى)
وبناء على هذا راح [جون آستين] يذكر أن الدستور أي دستور لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه، ولذلك عرف (القانون)، بأنه (الحكم الذي أصدره رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية)، وعرفه آخر بأنه (مرسوم لصاحب السيادة)
وخالف المحدثون ذلك؛ فذكروا أن الشعب بدل الحاكم هو صاحب السيادة، وهو الذي يضع المعايير الأخلاقية والقانوينة، ولهذا أنكروا أي قانون أو دستور لايحرز رضا الجماهير؛ وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها.
وكمثال على ذلك، وهو أن الأمريكيين لم يتمكنوا من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه، كما اضطر البريطانيون الى إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا الى اباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون.
بالإضافة إلى هذا، فقد ظهر ما يطلق عليه (القانون الطبيعي) ومؤاده أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع، فالطبيعة ـ كما ينص أصحاب هذه النظرة من الملاحدة ـ (تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة، وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للانسان في صورة (العقل)، ولذلك لابد من اقامة حكومة بقوة العقل)
وقد فشل هؤلاء أيضا بسبب اختلاف العقول، وتناقضاتها الكثيرة، وقد البروفيسور [جورج وهيتكروس باتون] معبرا عن هذا: (ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ انه سؤال يتعلق (بالقيم)، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع، وما أكثر ما نرجو من الفلسفة أن تساعدنا؛ ولكن ما أقل ماهي مستعدة لبذله في هذه السبيل. فقد فشلنا في الكشف عن (ميزان للقيم) يمكن قبوله لدى جميع الأطراف، والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشيء من النظم الا للدين؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان، ولايمكن قبولها على أساس الاستدلال المنطقي)
وقال البروفيسور (باتون): (إن جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن (الأهداف) في فلسفة التشريع قد انتهت الى غير ما نتيجة)
ثم يتساءل قائلا: (أهناك حقا(قيم مثالية) تحدد الأسس عند تطوير التشريعات؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل الى هذه القيم حتى الآن، غير أنها لابد منها.. لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الالهامية في الدين. ولكن اذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني، فاين سنجد أساس القيم المتفق عليها؟).
وعبر عن هذه الحقيقة، وهي عجز البشر عن وضع معايير مثالية يمكنهم التحاكم إليها الدكتور [فرويدمان] بقوله: (يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لاعطاء العدل صورة عملية ينفرد هو به في حقيته وبساطته).
9 ـ عدم قدرة الإلحاد على توفير دوافع للالتزام بالأخلاق:
وهذه أكبر مشكلة عويصة تواجه الإلحاد، فهو مع افتقاره لتحديد معايير مضبوطة ودقيقة للأخلاق، يفتقر ـ في حال حصوله عليها ـ على الدافعية للالتزام بها، ذلك أنه لا يوجد أي شيء يمكنه أن يفرض على الملحد التزام الخلق الحسن الذي قد يستدعي منه تضحية وإيثارا وتفريطا في مصالحه.
ولهذا حاول الملاحدة أن يجدوا ذلك ببعض المغالطات اللفظية مثلما عبر بعضهم عن ذلك بقوله: (الملحد إنسان يخاف جداً على حياته من أن يخسرها لأن الموت هو النهاية، وإن الحياة هي الشيء الوحيد الذي لديه، فإنه سيحافظ عليها جيداً ويحرض على أن يعيشها على أفضل وجه؛ فإذا قتل أو سرق فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة.. الملحد لن يكذب لكي لا يخسر ثقة الناس به، لأن الحياة ستكون صعبة جداً عندما يعيش منعزلا عن الجميع.. الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً، فما علاقة الناس الآخرين بك عندما يكون برضى الطرفين؟.. الملحد ليس عنده أي مانع من شرب الكحول (الخمر) باعتدال لكي لا يفعل شيئا يخسره حياته.. الملحد شخص مخلص لمعتقداته بشكل كبير، فترى أغلب الملحدين يبحثون ويطالعون ويكتبون المقالات ويناقشون محاولين توعية الناس من خرافات وأوهام الأديان علماً بأن الملحد ليس له رب لكي يكافئه، بل يأمل بأن يرى الخير والسلام يغمر العالم كله في الأجيال التي بعده)
ثم لخص هذه الدوافع بقوله: (كخلاصة على ما سبق، فإن الإنسان الملحد لديه أخلاق عالية جداً أكثر من الشخص المؤمن والمتدين، فأهداف الملحدين عديدة، ولكن جميع هذه الأهداف إيجابية تصب في نفس الموضوع، وهو عيش الحياة بأفضل وجه لأنه لا يملك غيرها، مع المحاولة على مساعدة الآخرين للتحرر من وهم الأديان، ومحاولة أن يكون إنسانا جيدا بأخلاق عالية ليتذكره الناس بالحسن بعد أن يموت)
فهذا النص يبين الطريقة التي يفكر بها الملحد، والتي يحاول من خلالها أن يبني لنفسه منظومة أخلاقية.
وسنناقش هذه الدوافع وما يرتبط بها في الوجوه التالية :
الوجه الأول: ذكره أن (الملحد يخاف على حياته لأنه لا يملك غيرها) مغالطة كبرى، فالمؤمن مع حرصه على جزاء الآخرة، يحرص على الدنيا أيضا، ذلك أنها في نظره مزرعة الآخرة، وأنها تكون جيدة بقدر ما كان عمله خيرا في هذه الحياة.
والفرق بين المؤمن والملحد في هذا هو أن المؤمن إن وجد هدفا أسمى وأبعد من مجرد مصلحته الشخصية؛ فهو مستعد للتضحية بحياته في سبيلها، بينما الملحد لا يملك مثل هذا الدافع.
والملاحدة هنا يستغلون بعض الأخطاء التي وقع فيها الدين المزيف، فهذه لا تمثل الدين، وإنما تمثله التضحيات النبيلة التي لا يشك أحد في عقلانيتها ومصلحتها.
الوجه الثاني: أن ما ذكره ذلك الملحد، وغيره من الملاحدة من قوله: (فإذا قتل أو سرق فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة)، يدل على أنه لا توجد قيم تمنع الملحد من القيام بأعمال خاطئة إن أمن العقاب.. فهو يترك القتل والسرقة خوفا من العقاب الدنيوي، وهذا يعني أنه إن أمن العقاب لا يتورع من القيام بالجريمة، ولكن المؤمن لديه رادع إضافي، وهو خوفه من الله وعقابه.
وبناء على هذا، وعلى تصورات الملحد بأن القيم المادية ومصالحه الشخصية وحدها من يحدد له صوابية العمل وخطأه يقع في جرائم كثيرة كتلك الجرائم التي قام بها هتلر، الذي كان يعتمد على نظرية دارون أثناء قيامه بمحاولة تحسين النسل، فقام بإعدام ما يقارب الـ 60 إلى 70 معاقا في كل يوم، كل ذلك حتى ينقي المجتمع الألماني من العاهات والعيوب الجسدية.
وهو لم يفعل ذلك إلا بعد اعتقاده بأن إنسانية الإنسان لا قيمة لها وراء هذا الجسد المادي، وكان لديه المبرر العلمي المتمثل بنظرية دارون الشنيعة
ما يتصور البعض أن هذا الفكر ذهب مع النازية، وهذا غير صحيح، فكل ملحد يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى نازي، لأن الفكر المادي الذي كان يفكر به هتلر هو نفسه الفكر الذي يفكر به أي ملحد.
وكمثال على ذلك حركة [اليوجينكس]، وهي حركة تهدف إلى تنقية النسل البشري من كل ما من شأنه إعاقة تحسن النسل، وقد قامت قبل هتلر بحوالي عشرين سنة، أي في عام 1920، بتعقيم ما يزيد عن 50،000 شخص، بداعي أنهم لا يملكون درجة عالية من الذكاء، لكي يمنعونهم من إنجاب أناس أيضا لا يملكون درجة عالية من الذكاء.. ولا تزال هذه الحركة نشطة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الآن.
الوجه الثالث: اعتباره عدم وجود قانون يحكم الغرائز إلا ما يقره القانون المدني، والذي عبر عنه بقوله: (الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً)
وهذا الأمر ينطبق على كل الفوضى الجنسية التي نشرها الإلحاد باسم الحرية الشخصية، كزواج المثليين، هو أمر شاذ عن الطبيعة البشرية، ولا يرقى لأن يكون فعلا حيوانيا، ولكن مع ذلك أصبح هناك قانون يبيحه في بعض الدول.
بالإضافة إلى ذلك لا نجد رادعا للملحد في الزواج من محارمه، ما دامت بعض الحيوانات تمارسه، والإنسان عندهم ليس سوى حيوان.. فهل يرضى الملحد أن يتزوج ابنه من ابنته مثلا؟.. وهل يرى أن هذا الأمر طبيعي؟
الوجه الرابع: اعتباره لإخلاص الملحد وأخلاقه، وكونه صاحب مثالية عالية، تلاعب بالألفاظ، ذلك أن هذا مثل ادعاء الأطفال: (بابا أقوى واحد في الدنيا!)، فمن يدعي مثل هذا الأمر ينفي عن نفسه صفة العلمية بشكل كبير، فهو قد يأخذ مثالا أو مثالين من أصدقائه الملاحدة، ثم يعممهما على جميع البشرية، وقد ذكرنا الفرق الكبير بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي.
الوجه الخامس : أن القانون لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات، بل لابد له أن يقترن بالأخلاق، ذلك أنه لو طرحت قضية أمام القانون، وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب، فلم يتبين الصدق أمام القاضي، فسوف يقضي خلاف ما يقتضيه العدل، ولن يتمكن القاضي من الحصول عليه مهما حاول.
ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون)، يحرك الناس، ويحملهم على الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول الى العدل. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ، حتى أنها تلزم كل شاهد (أن يقسم بالله أن يقول الحق) قبل الإدلاء بشهاداته، وهو دليل واضح يؤكد أهمية العقائد الدينية لصون حرمة القانون.
بالإضافة إلى هذا، فإن خوف الشرطة والمحكمة لايكفي لدرء الجرائم، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم، لأن الرشاوي، والمحسوبيات، وخدمات المحامين البارعين، وشهود الزور، كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أي شرطة أو محكمة انسانية، والمجرم لايرهب عقابا، أي عقاب، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.
بينما الشرع الالهي يستوفي كل هذه الأمور، فعقيدة (الآخرة)، التي يحملها الشرع الالهي، هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم، وهي تكفي لتبقى إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الانسان، لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي.
وقد أقيم في فناء محكمة (ويستون سركيت) نصب من حجر، يذكر الناس، بشاهد أدلى بشاهدة زور في فناء الدار، ثم قال: (وان كنت كاذبا، فليمتني الله، هنا، في الحال! ولم تكد هذه العبارة تخرج من فم الشاهد حتى سقط على ساحة الأرض، ومات في الحال)، وهناك وقائع أخرى من هذا النوع حدثت لشدة احساس أصحابها باللوم والذنب.
ثانيا ـ معايير الأخلاق عند المؤمن ودوافعها:
على خلاف ما رأينا من اضطراب عند الملاحدة في تحديد الأخلاق ومعايير ضبطها، نجد الأمر واضحا لدى المؤمن، ذلك أنه لا يستند في تحديد الأخلاق إلى الطبيعة العمياء الصماء البكماء، ولا إلى عقله القاصر المضطرب، ولا إلى بيئته المتلونة، وإنما يستند إلى مصدر ثابت لا يتلون ولا يتغير، وهو العالم بكل شيء، وهو الله تعالى..
وهنا يبادر الملحد إلى الضحك على مثل هذا التفكير، وطبعا نحن لن نجادله في ذلك، ولكنا ندعوه إلى النظر في النتيجة التي يخلص إليها المؤمن نتيجة هذا الإيمان، والنتيجة التي يخلص إليها الملحد، فالنتائج هي التي تحدد مدى صدق المقدمات.
وسنذكر هنا بعض النتائج التي يصل إليها المؤمن نتيجة هذا، لنرى مدى الفرق بينها وبين الرؤية الإلحادية:
1 ـ شمولية النظرة الدينية للأخلاق:
لا شك بأن هناك مجموعة من الفضائل الأخلاقية التي يستقل العقل بإدراكها من دون الحاجة للدين كحسن الصدق وقبح الكذب، وكحسن العدل وقبح الظلم ، لكن ليست كل القضايا الأخلاقية على هذه الشاكلة من الوضوح، فهناك بعض الأفعال التي يصعب، بل يستحيل على العقل أن يدرك قبحها، كالعلاقات الجنسية المثلية إذا تمت برضا الطرفين ومن دون مشكلة قانونية كما في بعض الدول التي تسمح قوانينها بذلك ، ففي مثل هذه الأمور نجد أن الدين سوف يحسم الأمر بسهولة من خلال تحريمه لمثل هذه الأفعال القبيحة، وإن سمحت بها بعض القوانين الوضعية وكان الطرفان راضيان.
وأما في الفكر الإلحادي فليس هناك أي مانع أخلاقي من هذه الممارسات إذا تمت برضا الطرفين ومن دون أي مشكلة قانونية كما في بعض الدول وفقاً لمعيار (المنفعة الرفاه /الألم الضرر). والغريب أن بعض الملاحدة يقول بأن هذه المسألة ينبغي أن يترك البت فيها للعلم، وإذا أكد لنا وجود الضرر فهي غير أخلاقية، وأما إذا لم يكن فيها أي ضرر فلا مشكلة فيها، كما ذهب بعضهم للقول بأن استقباح مثل هذه الممارسات ربما يكون نتيجة برمجة اعتاد عليها الإنسان، كأن يكون قد ربي على ذلك، وليس نتيجة لأمر حقيقي موجود في طبيعتها ويكشف عن قبحها بالفعل، ولذلك لا يمكن الاعتماد على النصوص الدينية في هذا الشأن.
وهذا الكلام يلاحظ عليه أنه أحال الأمر للعلم ـ رغم عدم صحة ذلك كما عرفنا في العنوان السابق ـ إلا أنه كذلك لم يحسم المسألة، لأنه في الكثير من الحالات تختلف النتائج العلمية من بحث لآخر، فعلى فرض صحة كلامهم ـ وهو غير صحيح طبعاً ـ فما هو رأي الملاحدة في حال اختلفت النتائج العلمية حول هذا الأمر؟ وكيف سيكون موقفهم إزاء هذه الاختلافات؟ وعلى أي أساس سيتم الترجيح بين الآراء العلمية المختلفة؟!
وبناء على هذا، كانت القوانين الوضعية التي تحاول ضبط أخلاق المجتمع ضعيفة هزيلة لا يمكنها الإحاطة بالكثير من الأخلاق السيئة، والتي تؤدي إلى دمار كبير في المجتمع، بخلاف فهي تنص مثلا على أن الجريمة هي (كل عمل يضر بالأمن العام، أو نظام الحكم القائم)، والتشريع الانساني لايجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة.
وقد دفع هذا الأساس القانون الجديد الى إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين، فالجريمة بهذا الاعتبار هي الجبر والاكراه الذي سبق (الزنا)، وليس الزنا في حد ذاته.
مع أن جريمة (الزنا) تفشي فسادا كبيرا في المجتمع، فهي تخلق مشكلات الأطفال (غيرالشرعيين)، وتضعف روابط الزواج، وهي تصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة، وتربي عقلا خائنا، وتخلق السرقة واللصوص، وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف؛ ومن ثم تفسد المجتمع كله، ولكن القانون ـ رغم ذلك ـ لايستطيع تحريمها، فهو لايجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل.
ومثل ذلك الخمر التي لم يستطع القانون أن يجرمها، لأنه يؤمن بأن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للانسان، وهو حر في اقتناء كل ما يريد أن يأكله ويشربه؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعية، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع، الا اذا اعتدى شارب الخمر على أحد المواطنين في هذه الحالة من السكر؛ أو خرج الى الشارع وهو سكران؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر، بل الاعتداء على الآخرين في تلك الحالة.
مع أن الخمر تضر بالصحة، وتبدد أموال الناس، وتؤدي بمدمنيها الى كوارث اقتصادية محققة، وتضعف الشعور الأخلاقي، حتى أن الانسان يتحول إلى حيوان رويدا رويدا، والخمر خير مساعد للمجرمين، فهي تشل الإحساسات اللطيفة، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل، وهدر العصمة، لكن القانون الانساني رغم هذه المعايب الشنيعة لن يتمكن من تحريم الخمر، لأنه لايجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الانسان الطبيعية.
ولذلك لن نجد حلا لهذه المشكلة إلا في قانون الله، لأن قانونه يبين رضا حاكم الكون؛ فإن كون أي قانون قانون الله يحمل معه أولوية تنفيذه، ولايحتاج بعد ذلك دليلا آخر.. وهكذا يسد القانون الإلهي فجوة عميقة، نتمكن بعدها من إحالة أي عمل الى دائرة القانون.
2 ـ الله هو مصدر الأخلاق ومشرعها:
ولهذا لا يجد المؤمنون مشكلة في مصدر الأخلاق، وهل هي الطبيعة أو العقل أو البيئة أو الحاكم، بل إن الأخلاق عندهم تعين وتحدد من طرف الخالق الذي آمنوا به؛ فهو أعلم بما يصلح لهم.
ولهذا يرى المؤمنون أن هناك ارتباطا وثيقا بين إثبات القيم المطلقة ووجود الخالق المطلق سبحانه، فمعرفة الخالق تقودنا إلى الأخلاق، وكذلك إثبات وجود الأخلاق والقيم المطلقة يقودنا حتماً إلى إثبات وجود الخالق المطلق سبحانه، بل حتى مسألة الشر التي كثيراً ما يستدل بها الملاحدة لإنكار وجود الخالق يمكن الاستدلال بها بشكل معاكس على إثبات وجوده سبحانه.
وهذا ما أشار إليه [ويليام لان كريغ] في مناظرته مع [سام هريس]، حيث قال: (لاحظوا أن الشر في الحقيقة يثبت وجود الرب، لأن الرب لو لم يكن موجوداً، فإن القيم والواجبات الأخلاقية الموضوعية لن تكون موجودة! وإذا وجد الشر، فذلك يقتضي أن القيم والواجبات الأخلاقية موجودة، وبالتحديد لأن بعض الأشياء شريرة. إذاً فالشر يثبت وجود الرب فعلياً، لأنه بغير الرب لن يوجد الشر والخير كما هما الآن).
وإذا ثبت لدينا وجود الخالق المطلق فيجب علينا عبادته بغض النظر عن الأمور الأخرى كمسألة المثوبة والعقوبة الأخروية، لأن الخالق سبحانه يُعبد لكونه مستحقاً للعبادة، وليس كما يظن بعض الملاحدة بأنه يُعبد فقط من أجل الدخول إلى الجنة واجتناب النار.
وحول مهاجمة الملاحدة للأديان لكونها تؤسس لسلوكيات غير أخلاقية بحسب زعمهم، يقول ويليام لان كريغ رداً على سام هريس: (لاحظوا أن د.هاريس ليس لديه أساس أخلاقي ليقول بأن المعتقدات الدينية بغيضة أخلاقياً، لأنه يفتقد إلى الأساس الذي يبني عليه حكمه هذا. لو كان الإلحاد صحيحاً، فما هو الأساس الموضوعي للجزم بأن نظرة ما بغيضة وأخرى ليست كذلك؟ لأنه لا يوجد ببساط أي أساس لأحكام كهذه).
وقد تناول احدهم مسألة الارتباط بين الأخلاق ووجود الخالق في كتابه فلسفة الأخلاق تحت عنوان (معرفة الله هي أساس الأخلاق) بقوله: (يقول البعض أن للأخلاق أساساً ومرتكزاً، فكما أن (أول الدين معرفته) حيث تشكل معرفة الله سبحانه الحجر الأساسي للدين، فكذا معرفة الله تشكل الحجر الأساسي للإنسانية، ولا معنى للإنسانية ولا للأخلاق من دون معرفة الله تعالى. أي لا معنى لأي شيء معنوي إذا لم يرتبط برأس المعنويات ومنبعها).
ويقول تحت عنوان (ذات الله تعالى هي أساس الفضائل الخلقية): (على أساس أي منطق يمكننا أن نبني الأخلاق؟. أيمكننا أن نجد للأخلاق منطقاً استدلالياً بعيداً عن طريق معرفة الله؟.كلا، إن الخلفية والرصيد لجميع هذه المفاهيم هي معرفة الله. وإن فقد الإيمان أصبحت الأخلاق كقطعة نقود لا رصيد لها. قد يكون البعض غير ملتفت إلى هذا الأمر ولكنه لا يكون مبنياً على أساس محكم.
وعندما نقارن الرؤية الإيمانية لمصدر الأخلاق بنفس الرؤية عند الملاحدة، نجد الفرق الكبير بينهما، وبناء على هذا كله، فإن الدين وحده من يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها، لأنه يرى أن مصدر التشريع هو (الله) وحده، خالق الأرض والكون؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته، وليس هناك من أحد غيره سبحانه، يمكن تحويله هذا الحق.
3 ـ وجود فلسفة واضحة للأخلاق:
بخلاف الإلحاد كما ذكرنا ذلك سابقا، وذلك لأنها تعتمد على الدين، في حين نجد بعض الفلسفات الأخرى تبدأ في تنظيرها -بل وتعتمد- على ما هو الموجود في الواقع، وهذا اختلاف جوهري كبير جداً، فشتان بين فلسفة تدعي بأنها تعتمد على الواقع وفلسفة تستقي من الوحي، وإن كانت تراعي مصلحة الواقع أيضاً.
ومن الطبيعي أن تكون المسألة الأخلاقية لدى الأديان معتمدة على تعاليم السماء، بل من غير المنطقي أساساً أن تكون الفلسفة الأخلاقية عند المسلمين غير مستلهمة من الأصول والمبادئ الدينية، إذ أن هذا لا يتصور أصلاً، لأن الأخلاق لها مدخلية في ضبط سلوك الإنسان في علاقاته بنفسه وبغيره، وهذا موضوع أخلاقي وديني بامتياز، إذ لا بد أن يكون هذا الأمر مبني على ما يؤكد عليه الدين بناءً على الفلسفة الأخلاقية التي يمتلكها، علماً بأنه لا يوجد أصلاً ما يؤكد وجود تقاطع كلي بين الدين والفلسفة الأخلاقية كما ألمحنا لذلك سابقاً.
لذلك يمكننا القول بأن للدين فلسفة أخلاقية. نعم، هذه الفلسفة لها خصوصياتها، فهي تختلف عن الفلسفات الأخرى، ولكن هذا لا يجعلنا ننكر ذلك من أساسه، علماً بأن الفلسفة الأخلاقية تختلف ولكن فالفلسفة الأخلاقية عند الديانة الإسلامية مثلاً الخصوصيات التي تميزها عن غيرها.
والغريب أن بعض الملاحدة ينكر وجود فلسفة أخلاقية للدين، ويُطالب بذكر مصادر كتبت في هذا المجال، ويبدو بأنه غير مطلع على هذا الأمر ومع ذلك ينفيه بضرس قاطع، وهنا تكمن المشكلة، فهو بهذا ينطلق من الجهل لإنكار وجود المسألة الأخلاقية، وشأنه في هذه المسألة كشأنه في مسألة إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالى، حيث أنه ينكر وجوده سبحانه وتعالى فقط لعدم تمكنه من الوصول إلى ذلك من خلال معطيات العلم التجريبي !!
وثمة عدة أمور يمكن عدها كمبادئ موضوعية للأخلاق الإسلامية وهي كالتالي:
1. حرية الاختيار: أن الإنسان موجود مختار، لأنه إذا كان مجبراً في أعماله، وافتقد إرادته في تقرير مصيره فإن الأمر والنهي المتوجهين إليه سوف يفقدان محتواهما، والالتفات إلى ذلك ذو أهمية بالغةً تربوياً، فإن ظهور لون من الجبر في الإنسان واعتقاده بعدم الاختيار في أعماله، ورضوخه للمؤثرات الخارجية سوف يثبط عزيمته ويجرده من الشعور بالمسؤولية.
2. الغاية النهائية: إذا كان الإنسان مختاراً فهو ينتخب غايةً ثم يباشر أفعاله الاختيارية بغية الوصول إليها، فهناك عدة غايات نقصدها عند انجاز أعمالنا، وبما أن التسلسل في الغايات أمر غير ممكن، فإنا نلاحظ غايةً نهائية لتلك الأعمال، وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق يقعان في إطار الأعمال الاختيارية للإنسان، وتنجز بقصد الوصول إلى الغاية والمطلوب النهائي.
3. لابد من السعي للوصول إلى الغاية: على الإنسان أن يعلم بأن لمساعيه دوراً في الوصول إلى غاياته ومقصوده، وأن نتائجها تعود عليه، وذلك لكي يبادر بشوق الى النشاط والسعي. فالإنسان إذا كان له مقصود نهائي ثم ظن أن أعماله ومساعيه لا تأثير لها، أو أن نتائجها تعود الى الغير ولا تقربه من المقصود والغاية النهائية ضعف دافعه للعمل والسعي، فلا يتعب نفسه للوصول اليه. من هنا كان من الضروري الاعتقاد بتأثير أعمال وسلوك الإنسان على مصيره، وذلك لحثه على التحرك والسعي في طريق الأهداف الأخلاقية السامية، وليعلم أن كل حركة أو عمل يقوم به باختياره ستعود نتيجته وما يترتب عليه من نفع أو ضرر على نفسه حتماً.
4 ـ توفير الإيمان لجميع دوافع الالتزام بالأخلاق:
من خلال مقارنتنا بين الدوافع الأخلاقية التي يجدها المؤمن مع تلك التي يجدها الملحد نجد الفرق الكبير بينهما، وكأننا نتحدث عن عوالم مختلفة تماما.
فالمؤمن يمارس الأخلاق بكل تلقائية وفرح وسعادة، حتى لو كان فيها الكثير من التضحية والإيثار وتلك المعاني السامية التي لا يستطيع الملحد أبدا تفسيرها، ذلك لأن تصوراته لحقائق الوجود والنظام الذي يحكمه يختلف تماما عن تلك التصورات العبثية التي يحملها الملحد.
ومن خلال استقراء النصوص المقدسة للأديان، وخصوصا الإسلام منها، نجد دافعين كبيرين للتحق بالأخلاق الحسنة: أولهما يرتبط بذات الخلق ودوره في تحقيق الكمال الإنساني، وهوما يحاول الملحد أن يتشبه بالمؤمن فيه، والثاني هو الاستفادة من ذلك الكمال الإنساني الذي وفرته الأخلاق في تحصيل السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، وهو ما يفتقر إليه الملحد بسبب إنكاره للحياة الأخرى، وإنكاره لقيم كثيرة تحكم الحياة الدنيا.
وسنشرح كلا المعنيين فيما يلي:
أ ـ التحقق بالكمال الإنساني:
فالمؤمن يؤمن من خلال ما تذكره له المصادر المقدسة، أنه يمكنه من خلال المجاهدات والرياضات تقويم سلوكه، وتربية نفسه، والسمو بروحه، حتى يتحقق بما يطيقه من كمال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
وذكر تعالى بعض تلك الأخلاق، وصعوبتها، مع تأثيرها الشديد في السمو الإنساني، فقال: {لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]
ولكون الأخلاق هي المقياس الذي يقاس به الكمال الإنساني، فقد أخبر الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تحقق بالدرجة العليا من ذلك المقياس، كما قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)
ولهذا ـ أيضا ـ وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خياركم أحاسنكم أخلاقا). وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم).
بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حسن الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا:(يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال:(المتكبرون).
ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) ، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.
وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال:(تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:(الفم والفرج).
بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)
ب ـ الاستفادة من الجزاء الدنيوي والأخروي:
وإليه الإشارة بالآيات الكثيرة التي تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبشر المؤمنين بما أعد الله تعالى لهم من فضل جزاء على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25)
ففي هذه الآية الكريمة تبشير لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بهذا الجزاء العظيم الذي سيلقونه عند الله تعالى.
وقد يرد التبشير بجزاء الله وفضله على أعمال خاصة، تحتاج إلى محفز عظيم، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)
فالله تعالى جمع في الآية الكريمة بين الإخبار على ما يعد للمؤمنين من صنوف الاختبار وما أعد لهم بجنبه ـ إن نجحوا ـ من صنوف الجوائز ليكون الجزاء حافزا للعمل ومثبتا عليه وداعيا إليه.
ومثل ذلك قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة:223)، فالتبشير منصرف في الآية للمؤمنين الذين تحققوا بتقوى الله.
وبذلك فالحاجة إلى الدِّين في تأسيس الأخلاق والإلزام
إن القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن مطلقة وملزِمة، ولا تكون القيم الأخلاقية كذلك إلا إذا استمدَّتْ وجودها وإلزاميتها من مصدر مُتعالٍ، وهذا المصدر المتعالي هو الدِّين ، وأمام الدِّين يصبح الإنسان أمام مرجعية عليا للأخلاق، بحيث يستند إليها في تقرير صحةِ القواعد والمبادئ الأخلاقية من عدمها، والمبادئ التي جاء بها الدِّين في المجال الأخلاقي مبادئُ ثابتة ومطلقة، وغير قابلة للتغيُّر والتبدل، وعزل القيم الأخلاقية عن هذا المصدر المتعالي يؤدِّي إلى زوال حقيقتها، فتصبح خاضعةً إما للضمير المتقلب المتغير، أو للعقل القاصر المتفاوت، أو للمنفعة النسبية، أو للمجتمع المتغير غيرِ المثالي.
وبغير الدِّين لا يهتم الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا، ولم تُشهَدْ أمَّة أو جماعة التزمت القِيَم الأخلاقية وتقيَّدت بضوابطها دون الاعتماد على وازعٍ يقودها إلى ذلك، ولا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسانَ يشعر بمراقبة الله - سبحانه وتعالى - الدائمة والشاملة له؛ فالوازع الديني يعتبر أقوى إلزام للإنسان، وهو خيرُ ضمان لاستقامة الفرد في حياته.
وإن حضور الدِّين في مشاعر الحب والخوف، والرضا والغضب، والرغبة والكُرْه - ينمِّي في شخصية الإنسان مقاومة الانحراف والشر، بينما خلوُّ المشاعر من التدين يؤدي إلى سهولة انحراف الإنسان، والذي يستشعر أن اللهَ سبحانه هو الحسيب والرقيب يكون مِن أبعدِ الناس عن الغش والكذب والظلم، والذي لا يؤمن بإلهٍ خالق حسيب ورقيب يكون مِن أقربِ الناس إلى الغش والكذب والظلم، ويقول البعض: إذا لم يكن إلهٌ ولا دِين فليس غريبًا ولا مجافيًـا للواقع أن تعيث في الأرض فسادًا، ولو على حساب الآباء والأبناء، ويقول آخرون: إذا لم يكن لك دينٌ فلا مانع أن تخونَك زوجتك، ويسرقَك خادمك.
وفي المجتمعات غيرِ الملتزمة بالدِّين يمكن أن يُقدِم الناس على ارتكاب جميع أنواع الأعمال المنافية للأخلاق، لكن الشخص المتدين حقَّ التدين لا يمكن أن يفعل الأعمال المنافية للأخلاق، مثلاً لا يقبل أن يتعامل بالرشوة أو القِمار، أو أن يحسُدَ أحدًا، أو أن يكذب؛ لأنه يعلم أن عليه مراقبة أعماله، وتذكر الحساب بعد الموت، أما الشخص غير المتدين فلا يمنعه شيء عن ارتكاب هذه الأعمال.
وليس كافيًا أن يقول الشخص غير المتدين: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا آخذ رشوة، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أقامر، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أسرق، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أزني، والسبب أن الإنسان الملحد الذي لا يخشى الله، ولا يستشعر رقابته، ولا يخاف الحساب بعد الموت - قد يرتكب أي فعل من هذه الأفعال عند تغيُّر المواقف أو الأوضاع من حوله.
وإذا قال شخص ما: أنا ملحد، ولكنني لا أزني؛ فالشخص نفسه قد يرتكب الزنا في مكان يعتبر فيه الزنا أمرًا عاديًّا، وممكن للشخص الذي لا يأخذ رشوة أن يقول: إني أحتاج المال، فعلَيَّ أن أقبل الرشوة، هذا إذا لم يكن في قلبه خوف من الله تعالى.
وفي حالة غياب الدِّين، فإن السرقة نفسها يمكن أن تصبح أمرًا مشروعًا تحت ظروف معينة؛ فالإنسان الذين لا دين له يمكن ألا يعتبر - حسب رأيه - أن أخذ المناشف وأدوات الزينة من الفنادق سرقة.
ومن ناحية أخرى، فإن الشخص المتدين لا يُظهر مثل هذا العمل؛ لأنه يخشى الله، ويعلم أن الله يعلم سرَّه وعلانيته؛ فالمؤمن يعمل بإخلاص، ويتجنب المعاصي، ويمكن لملحد أن يقول: أنا ملحد، ولكنني أتسامح مع الناس؛ فأنا لا أشعر برغبة في الانتقام، ولا أكره أحدًا، ولكن في يوم ما يمكن أن يحدث شيء ما يجعله يُظهِر تصرفًا غير متوقع منه؛ كأن يحاول قتل شخص ما، أو إيذاءَه؛ لأن الأخلاق التي لديه تتغير بحسب البيئة والظروف التي يوجد فيها، وانعدام الوازع الديني عند الملحد يجعله كلما تحركت في نفسه شهوةٌ أو نزوةٌ سارَعَ إلى قضائها.
أما الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، فلا يَحيد أبدًا عن الأخلاق الفاضلة مهما كانت المؤثرات؛ فأخلاقه غير متقلبة، والوازع الديني عنده ومراقبة الله والخوف من ارتكاب الإثم، يجعَلُه يتجنب الوقوع في رذائل الأخلاق.
مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين.
إذا كانت الأخلاق لا معنى لها دون إلزام، فما مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين: هل هو الضمير أو العقل أو المجتمع أو المنفعة أو القانون؟
وإن قيل الضمير :
لا يكفي وازعُ الضمير الإنساني وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فمِن الناس مَن يتميز بضعف الضمير، وكثيرًا ما تتحكَّمُ العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامهم، وقد يخطئ الضمير بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية، فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والضمير ليس ملكة معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى مَن يرشده.
والضمير يختلف في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، فما يمليه ضمير شخص قد لا يمليه ضمير شخص آخر، وكما قيل: الناس في كل العصور، وفي جميع الأقطار، يستشيرون ضمائرهم، ولكنها لا تُسمِعهم جميعًا لحنًا واحدًا؛ إذ إن ما يظهر عدلًا وخيرًا لبعض النفوس المخلِصة في عصر خاص، لا يظهر عدلًا ولا خيرًا لنفوس أخرى، هي أيضًا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر أو مكان آخر.
وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي: العقل
لا يكفي وازع العقل وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فالعقول قاصرة لا تهدي أصحابها في جميع الأحوال، وأحكام العقول متناقضة، وما يحكم عليه شخص بأنه خيرٌ له يحكم عليه آخرُ بأنه شر له، والأخلاق عقليًّا من منظور مادي غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبر عبء على صاحبها.
وقد يخطئ العقل بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية؛ فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وقد يصاب عند بعض الناس بعلَّةٍ من العلل المرَضية، فيعشَى أو يعمَى، أو تختل عنده الرؤية، فيصدر أحكامًا فاسدة، والعقل ليس ملَكةً معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى من يرشده.
وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المجتمع:
لا يمكن أن يكون المجتمع مصدرًا للأخلاق، ولا مصدرًا للإلزام الأخلاقي إلا إذا اعتبرنا المجتمع مجتمعًا مثاليًّا، أضف إلى ذلك أن ليس كل فرد مندمجًا في المجتمع؛ فالقِيَم الأخلاقية تتباين داخل المجتمع الواحد، ولك أن ترجع إلى التاريخ لترى أن بعض الأفراد من أنبياءَ ورسلٍ ومصلحين كانوا مصدرًا لقيم أخلاقية ساعدتِ المجتمعات على النهوض والتقدم.
وأعراف الناس متغيرة وغير ثابتة؛ إذ تختلف الأعراف باختلاف الزمان والمكان، فما كان مألوفًا متعارَفًا عليه في زمان أو مكان قد يكون منكَرًا ومستهجنًا في زمان آخر أو مكان آخر، والأخلاق تتمتع بالمطلقية والثبات في كل زمان ومكان.
واعتبار المجتمع مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي يجعل الأخلاق خاضعة لِما تواضَع عليه الناس في المجتمع، وبدلاً مِن أن تُحدِث القِيَمُ الأخلاقية تحولاتٍ في الواقع والمجتمع تصبح الأخلاق مجرد انعكاس لهذا الواقع، وتبريرًا له، وبالتالي تفقِد الأخلاق مطلقيتها وإلزامها، وماذا لو تواضع الناس على جواز الزنا، وجواز اللواط، وجواز زنا المحارم، هل يلتزم الفرد بمثل هذه السلوكيات الفاسدة أو يخالف مجتمعه؟!
وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المنفعة،
الأخلاق التي تُبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية، والأخلاق النفعية لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها، واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة؛ فيصبح السلوك الواحد خيرًا وشرًّا في آنٍ واحد، خيرًا عند الذي حقق له منفعة، وشرًّا عند الذي لم يتحقق له منفعة، وبالتالي لا يوجد خُلق حميد، ولا خُلق رذيل، وهذا مخالف للواقع؛ بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدرٍ مِن التوافق العام والتصور المشترك؛ كالعدالة، والفضيلة، والكرم.
واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يُلغي الأخلاق؛ لأن المبدأ الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود؛ فالمنافع متعارضة، وما ينفعني قد لا ينفع غيري، مما يؤدي لحدوث التنازع، واصطدام مصالح الناس بعضها ببعض، وعموم الفوضى.
وربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز، والغرائز موجودة في الإنسان والحيوان معًا، فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان.
وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي هو القانون:
لا يكفي القانون وحده وازعًا لحمل الناس على التحلي بالأخلاق؛ إذ يمكن التحايل عليه، ويستطيع الإنسان الإفلات منه، وتجاوزه، والهروب من العقوبة، وسلطان القانون على الظاهر لا على الباطن، والقانون قد يعاقب المسيء، لكنه لا يكافئ المحسن، وإذا كانت القوانين عاجزةً عن أن تزجر الإنسان عن الشر والفساد - بدليل كثرة الشر والفساد - فهي أشد عجزًا عن أن تدفعَ الإنسان إلى الخير والإصلاح.
ومن هنا لا يكفي كلٌّ من الضمير والعقل والمجتمع والمنفعة والقانون لأن يكون أحدهم مصدرًا للإلزام الأخلاقي، والاكتفاء بوضعِ باعثٍ واحد للالتزام أدعى إلى عدم الالتزام.
ولو جعلنا طرق الإلزام كلَّ هذه الطرق دون الإلزام بوازع الدِّين، فهذا لا يصح أيضًا؛ لأن الضمير متفاوت متغير، والعقول قاصرة متفاوتة في إدراك ما ينفعها، والمنفعة نسبية، فما ينفعني قد لا ينفع غيري، والمجتمع متغير، وما هو سائدٌ في هذا المجتمع قد لا يكون سائدًا في مجتمعي، والقانون سلطانه على الظاهر دون الباطن، فلا بد مِن مصدر مُتعالٍ يُهَيمِن على كل هذه المصادر، ويرشدها ويوجِّهها ويقوِّمها إذا اعوَجَّتْ.
المصادر
(١)الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، أبو القاسم حاج حمد.
(٢) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص175.
(٣) ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، عبد الله الشهري، ص280.
(٤) أقوى براهين د.جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، جمعه وعلق عليه م.أحمد حسن
(٥) الإلحاد بين قصورين
(٦) خرافة الإلحاد للدكتور عمرو شريف
(٧) كتاب أفي الله شك؟ للشيخ الدكتور مرتضى فرج
(٨) فلسفة الأخلاق
(٩) كيف تناظر ملحدا د نور ابو لحية