مستويات الدلالة الفطرية علي وجود الله
المستوي الأول دلالة المبادئ العقلية الأولية:
من القضايا التي يدركها الإنسان من نفسه ضرورة : معقولات معينة ذات طبيعة خاصة اصطلح على تسميتها بالعلوم الضرورية، أو المبادئ الفطرية الأولية، أو البدهيات العقلية؛ وهي معقولات فطرية تهجم على النفس من غير توسط نظر و استدلال، بخلاف نمط آخر من المعقولات اصطلح على تسميتها بالعلوم النظرية؛ وهي ما يمكن تحصيله من خلال النظر والاستدلال .
أن يكون واضحا، بل وبديها يحسه الإنسان من نفسه ضرورة، ويجد لأجل ذلك من نفسه مدافعة شديدة لمحاولات التشكيك في مثل هذه البدهيات، بخلاف تلك العلوم النظرية والتي قد تعرض له فيها الشبهات والإشكالات فيدافعها بالنظر والاستدلال.
بل إن من طبيعة هذه العلوم الضرورية استغناءها عن البرهنة والتدليل، بل إليها المرجع في العملية الاستدلالية؛ فالعلوم النظرية إنما ثرد إلى العلوم الضرورية .
يقول الإمام ابن حزم، موضحا هذه الفكرة: (ما كان مدركا بأول العقل
وبالحواس = فليس عليه استدلال أصلا، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال، وبالرد إلى ذلك، فيصح استدلاله أو يبطل).
ويقول المعلمي: (وأما القضايا الضرورية والبديهية ؛ فقد اتفق علماء
المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يرجی منه حصول المقصود ببنائه عليها، وإسناده إليها).
فالنظام الاستدلالي لا يقوم إلا بوجود هذه المبادئ الضرورية، وإلا لزم
الدور والتسلسل، والذي يفضي إلى سقوط المنظومة الاستدلالية كلها .
يقول ابن تيمية، شارا هذه الفكرة: (البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم، أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية؛ فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري؛ إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائما = لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه .
فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون
النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية = لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث.
ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحدا
معاندا عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه أو
عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك = فإنه يعالج بما يوجب
حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه، فإن عجز عن ذلك الفساد في طبيعته
عولج بالأدوية الطبيعية، أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك، وإلا
ترك).
والحق أن مجرد محاولة التدليل على مثل هذه البدهيات = عملية شاقة
عسرة، بل هي في كثير من الأحيان غير مقدور عليها، وقد تفضي بالمرء إلى التشكيك في هذه البدهيات، أو السقوط في ألوان . من السفسطة ، وهي بكل حال مجرد تعذيب للنفس من غير طائل.
يقول ابن تيمية، مبينا هذه الإشكالية، ضاربا مثلا لطيفا معبرا عن طبيعة
الإشكال: (والأمور الفطرية متي جعل لها طرق غير الفطرية : كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها، كما لو قيل لرجل: أقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية. فإن هذا ممكن بلا كلفة، فلو قال له قائل: اصبر؛ فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها، وتميز بينها وبين الضرب؛ فإن القسمة عكس الضرب، فإن الضرب هو تضعیف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزیع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الآخر. ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم، وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر.
ثم يقال : ما ذكرته في حد الضرب لا يصح؛ فإنه إنما يتناول ضرب
العدد الصحيح، لا يتناول ضرب المكسور . بل الحد الجامع لهما أن يقال : الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبین کنسبة الواحد إلى المضروب الآخر. فإذا قيل : اضرب النصف في الربع؛ فالخارج هو الثمن، ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد.
فهذا وإن كان كلاما صحيحا، لكن من المعلوم أن من معه مال يريد
أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية، إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى بتصور هذا كله = كان هذا تعذيبا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، وقد يعرض له فيه إشكالات).
ويقول أيضا، موضحا ما قد تؤول إليه عملية الاستدلال للبدهيات:
(كثيرا من العلوم تكون ضرورية فطرية، فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت، ووقع فيها شك، إما لما في ذلك من تطويل المقدمات، وإما لما في ذلك من خفائها، وإما لما في ذلك كلا الأمرين) .
وما قد يقع من الاستدلال للمبادئ الفطرية عند الاحتياج، فإنما هو وفي حقيقته مجرد کشف عن حقيقة كونها فطرية ضرورية، لا أنه تدليل على ثبوتها وصحتها في نفس الأمر؛ إذ هي مع صحتها مستغنية عن هذا التدليل لما تقدم، وبين مقام الكشف والتدليل فرق؛ إذ هذا النمط من الاستدلال أشبه بتذكير الغافل وتنبيه الذاهل .
ولذا قال ابن تيمية، في معرض ذكره للدلائل المثبتة لوجود الله تعالی :
فإذا رأي آياته المستلزمة لوجوده = كان ذلك تبصرة من ذلك الطيف، كما
قال تعالى: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) و تكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكره بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة
فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة) .
وهذه الضرورات العقلية تفرض سؤالين مشروعين :
الأول: من أين تحصلت النفس عليها؟
الثاني: من أين تكتسب هذه الضرورات العقلية قيمتها الموضوعية
المطلقة؟
من خلال العرض السابق، يتضح أن هذه المعقولات الضرورية حاصلة
في النفس ابتداء ، وأنها لا تتحصل بالمرور بعملية التعلم أو التعليم، ولا أنها
معاني تتلقى من خارج .
ومن ئم فمن الطبيعي أن نتساءل: ما الذي، أو من الذي أودع هذه
المعاني الفطرية في النفس؟ ويبدو أن الإجابة المعقولة والمنطقية هي: أن الله
تعالى هو الذي علم الإنسان هذه المعاني، وأودعها في نفسه .
وحتى يتجاوز الخطاب الإلحادي مأزق هذا السؤال، فقد سعوا للتشكيك
في أصل فطرية هذه المعرفة، وجعلوا إدراك مثل هذه المعقولات ناشئا من
خلال التعلم الحسي عبر أداة الاستقراء؛ فملاحظة الإنسان أنه إن ضم
تفاحة إلى أخرى فإنه سيتحصل على تفاحتين، وبرتقالة إلى أخرى فبرتقالتين = هو ما يحصل له قانونا كليا أن واحدا زائد واحد يساوي اثنين، وأن إدراكه لقانون
السببية ناشئ من خلال ما يلاحظه عبر حواسه من ترتب المسببات على
أسبابها، دون أن يكون هناك مبدأ فطري کاشف عن هذا القانون، سابق على
ملاحظة الحس.
وهذه النظرة الفلسفية في تفسير هذه المعقولات بردها إلى اعتبارات
حسية ، وإلغاء أي وجه لكونها معارف قبلية = تجر إلى مشكلات معرفية متعددة
ومتنوعة، وتفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في ضرورية هذه المبادئ
العقلية، واطرادها؛ إذ الجزم بإيقاع الاستقراء التام غير مستطاع، ومن ثم
فيمكن للمرء أن يشكك بأن هذا القانون قد يكون منتقضا بمثال خارج إطار
المادة المستقرأة ، فما الذي يدريك أن ثمة أمرا حادا في بقعة من الكون مثلا
الثاني: من أين تكتسب هذه الضرورات العقلية قيمتها الموضوعية
المطلقة؟
خلال العرض السابق، يتضح أن هذه المعقولات الضرورية حاصلة
في النفس ابتداء، وأنها لا تتحصل بالمرور بعملية التعلم أو التعليم، ولا أنها
معان تتلقى من خارج
ومن تم فمن الطبيعي أن نتساءل: ما الذي، أو من الذي أودع هذه
المعاني الفطرية في النفس؟ ويبدو أن الإجابة المعقولة والمنطقية هي : أن الله
الذي علم الإنسان هذه المعاني، وأودعها في نفسه .
وحتى يتجاوز الخطاب الإلحادي مأزق هذا السؤال، فقد سعوا للتشكيك
في أصل فطرية هذه المعرفة، وجعلوا إدراك مثل هذه المعقولات ناشئا من خلال التعلم الحسي عبر أداة الاستقراء؛ فملاحظة الإنسان أنه إن ضم تفاحة
إلى أخرى فإنه سيتحصل على تفاحتين، وبرتقالة إلى أخرى فبرتقالتين = هو ما
يحصل له قانونا كليا أن واحدا زائد واحد يساوي اثنين، وأن إدراكه لقانون
السببية ناشئ من خلال ما يلاحظه عبر حواسه من ترتب المسببات على
أسبابها، دون أن يكون هناك مبدأ فطري کاشف عن هذا القانون، سابق على
ملاحظة الحس.
وهذه النظرة الفلسفية في تفسير هذه المعقولات بردها إلى اعتبارات
حسية، وإلغاء أي وجه لكونها معارف قبلية = تجر إلى مشكلات معرفية متعددة
ومتنوعة، وتفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في ضرورية هذه المبادئ
العقلية، واطرادها؛ إذ الجزم بإيقاع الاستقراء التام غير مستطاع، ومن ثم
فيمكن للمرء أن يشكك بأن هذا القانون قد يكون منتقضا بمثال خارج إطار
المادة المستقرأة، فما الذي يدريك أن ثمة أمرا حادا في بقعة من الكون مثلا
حادث من دون أن يكون له سبب؟
وهذا الحرج هو ما حمل بعض الملاحدة على طرح رؤية تعترف باطراد
هذه المبادئ العقلية عمليا دون أن نؤسس لوجودها فلسفيا ونظریا، فاعترف بضرورة التعاطي البراغماتي النفعي معها، بأن يتعامل الإنسان في حياته العملية
مسلما بهذه المعاني الفطرية، وإن كانت عند المحاققة مما يصعب البرهنة
عليها، أو التدليل لها، أو التوثق من صدقيتها .
تتفاقم المشكلة أكثر حين يصرح بعض الملاحدة بتبني نظرة تشكيكية
للمبادئ العقلية الضرورية فعلا، وأنه لا ينبغي الانسياق خلف هذه الفكرة ،
ولا بناء نتائج علمية نظرية عليها .
فالملحد الشهير لورنس کراوس يؤكد في مناسبات متعددة على بدائية
التفكير البشري الإنساني، وأن العقل البشري قد تم تخليقه وتطويره عبر
میکانیزمات الداروينية للتفاعل مع مخاطر السافانا، لكنها عقول لا يلزم أن
تكون قادرة على التعرف على طبيعة هذا الكون، وحقائق الوجود، ومن ثم
فالواجب التعرف على العالم من الملاحظة والتجربة ،
دون تعویل مطلقا على شيء اسمه مبادئ عقلية، فضلا عن محاكمة ما نراه
إليها، بل الحكم هو ما يمكننا التوصل إليه عن طريق الملاحظة والحس وفق
المنهج العلمي مهما بدا غريبا، بل ومتناقضا مع معارفنا العقلية الضرورية .
يقول هذا في سياق التسويغ لفكرة كتابه: «كون من لا شيء»، والتي
تقوم على أن الكون وإن كان ناشئا من العدم، فبإمكانه أن يحدث نفسه بنفسه
وفق قوانين الفيزياء.
ذاك التأصيل = في غاية الإشكال، وهو يجر إلى مشکلات معرفية في غاية الخطورة. وقد تجلى شيء من هذا التخبط المعرفي.
في مناظرة حمزة تزورتزس لكراوس الشهيرة بعنوان: (الإسلام أو الإلحاد،
أيهما أكثر منطقية؟) والتي جاء فيها ما يكشف عن الموقف المضطرب جدا
الكراوس في بناء نظرية معرفية سليمة .
و مبتدأ الإشكال هو في اطراح هذه المبادئ العقلية الأولية؛ إذ أطراحها
مفض في الحقيقة إلى اطراح الثقة في أدوات الرصد والملاحظة ، بل وإسقاط
في المنهج العلمي ذاته، والذي يراد أن يكون هو الطريق الأوحد للمعرفة
وفق النظرة العلموية المغالية؛ إذ المنهج العلمي مؤسس على مقولات لا يمكن
وهذا الكلام، مع الثقة البرهنة عليها من خلال المنهج العلمي ذاته، وإلا لزم الدور.
فالقول بأن المعرفة لا يمكن تأسيسها إلا على المعارف الطبيعية = قول
متناقض، لا ينبغي أن يكون مقبولا عند العقلاء، ولكن ماذا نصنع إن كان مثل
هذا الاعتراض موجها إلى من يتنكر للمبادئ العقلية الأولية، وهو كما ترى
اعتراض منطلق منها؟ وكيف يمكن أن يكون مقنا لمن لا يجد إشكالا كبيرا
في قبول أن العالم أحدث نفسه بنفسه؟ ومتى ما تقبل المرء مثل هذا فما
المانع؟
فعلا أن يقول: ثبت صحة المنهج العلمي بالمنهج العلمي نفسه؟
وما من شك أن طرد مثل هذا التصور مفض إلى لون من السفسطة،
والتي وقع ضحيتها فعلا بعض الملاحدة .
كنت مرة في نقاش مع مجموعة من الشباب المتأثرين بالمقولات
الإلحادية ، وأفضى بنا النقاش إلى بعض المناطق الجدلية الغريبة؛ فرأيت من
الضروري إعادة ترتيب النقاش ليكون الكلام منطلقا من أرضية مشتركة .
أخذت أتكلم عن مصادر المعرفة البشرية، وأنها تعود إجمالا إلى أصول
من ثلاثة:
١ – الحس .
۲ - العقل .
٣- الخبر .
وكانت مفاجأتي عظيمة حين عرف من خلال النقاش : أن المعول في
تحصيل المعرفة عندهم على القضايا الحسية، دون القضايا العقلية النظرية أو
الضرورية منها !!
أحببت التأكد من وجود هذه المشكلة، وأخذت أورد لهم جملة من
التساؤلات لأستوثق من قناعتهم بهذه المسألة، وطردهم لمثل هذا الأصل،
المبادئ العقلية الأولية أن الجزء أصغر من الكل، فإذا كان لدينا برتقالة مثلا، وقسمناها إلى أربعة أرباع ؛ فربع البرتقالة أصغر، أو
تساوي، أو أكبر من مجموع البرتقالة؟
فكان مما قلت:
أكبر من مجموع
دمت حين قالوا : لا نستطيع أن نعرف .
نشاهد هذه البرتقالة، ونقوم بتقطيعها .
قلت لهم: لدي في المنزل كتاب بعنوان: «مجموع فتاوى ابن تيمية»،
يتألف من ۳۷ مجلدا، المجلد الأول من مجموع الفتاوى أصغر، أو مساو أو
الكتاب كله وبالمجلد الأول؟
فقالوا: لا ندري حتى نزورك في البيت ونراه .
كانت أمامنا دلة قهوة، فقلت لأحدهم: ارفع الدلة. فرفعها، فقلت:
فهل تستطيع أن ترفع الفنجان . الأخف - بناء على علمك بأنك قادر على
رفع الأثقل؟ وأكدت له أنني لا أتحدث عن طروء أمر خارجي، بل لحظة
رفعك للأثقل هل تعلم من نفسك أنك في ذات الظرف قادر على رفع
الأخف؟
مد يده لرفع الفنجان، فقلت : لا أريد منك أن تجرب .
فقال : لا أستطيع أن أدرك الجواب حتى أجرب .
ختمت أسئلتي يومها بقولي لأحدهم: هل أنت موجود أم معدوم؟
فقال: بل موجود.
فقلت : فهل يمكن أن يثبت العلم في مستقبل الأيام أنك معدوم؟
فقال : ممكن.
وختم يومها النقاش. وللإنصاف كان في تلك المجموعة من لم يرتض
هذا التنكر للمبادئ العقلية الأولية، ورأى في هذا التأسيس والتنظير قطقا
الطريق الحوار، ولكن أصحابه كانوا على خلاف رأيه .
والحق أن بعضا مما طرحوه لم يكن ناشئا عن تعنت بالضرورة، أو
مجرد مكابرة، بل بنوا هذا على معطيات بعضها يعود إلى الاعتبار السابق بعدم
إمكان إثبات مثل هذه المعارف فطرة دون توسط نظر الحس، ولمقولات علمية
. خصوصا في مجال فيزياء الكم - أوهمتهم أنه لا سبيل إلى الجمع بين
المقولات العقلية والمقولات العملية، بما يؤكد الاعتبار الأول .
ومن قرأ في مجال فيزياء الكم = يعرف فعلا الغموض الذي يكتنف هذا العلم، والصعوبة الشديدة التي يعانيها العقل البشري في استيعاب
كثير من مقولاته .
يقول جون ويلر مثلا: (إذا لم تكن محتارا من ميكانيكا الكم؛ فإنك لم
تفهمها).
ويقول روجر بینروس: (ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا).
ويقول ريتشارد فينمان: (يمكن الادعاء بأمان: أن لا أحد يفهم فيزياء
الكم).
والذي أعتقده : أنه لا يصح أن يطرح المرء مثل هذه المعارف الضرورية، ويلغي قيمتها الموضوعية تحت سطوة هذه المعارف الطبيعية، بل الواجب محاكمة المعارف الطبيعية إليها، وما يبدو غامضا أو متناقضا فيجب الاستمساك بالمعارف الضرورية والتعويل على جهلنا بشيء من مقتضيات الواقع التي لو انكشفت لأفضى إلى موافقة المحسوس للمعقول، وبغير هذا السبيل لن يبقى معنا لا ولا معقول!
وقد اكتشفت بعد تلك التجربة الحوارية السابقة : أن هذه إشكالية حقيقية موجودة عند كثير من الملاحدة، وأن ثمة قدرا من العجز عن التوفيق بين
البابين أفضى إلى نتائج في غاية الخطورة .
يقول ستيفن هوكنج في كتابه: «التصميم العظيم»، والذي ألفة بالمشاركة
مع ليونارد ملودنو: (بالتأكيد، ككثير من المفاهيم العلمية الحديثة، والتي تبدو
مخالفة للمنطق السليم. ولكن المنطق السليم مبني على تجاربنا اليومية، وليس
على طبيعة الكون، والذي يكشف عن خلال عجائب التكنولوجيا كتلك التي تسمح لنا بالنظر عميقا في الذرة، أو للبدايات المبكرة لهذا الكون).
في هذا الكلام: هذا الإجمال في فكرة (المنطق السليم)، فهل المقصود التنكر للمبادئ العقلية الأولية، أم مجرد مخالفة (المستحيلات العادية)؟
فالإنسان قد يحكم خطأ على أمر بأنه مستحيل بمقتضى العادة ، ثم ينكشف له أنه ليس مستحيلا في نفس الأمر، ولكن ثمة حزمة من المبادئ
الضرورية الفطرية التي تبدو متعالية على وجود الإنسان ذاته، ومثل هذه الضروريات غير مستفادة من مجرد التجربة الإنسانية، ولذا فمن الخطأ التنكر
للمستحيلات العقلية، وهي في الحقيقة كل ما يؤول إلى الجمع بين النقيضين؛ كوجود دائرة مربعة، أو جسم متحرك ساكن، أو لا موجود ولا
معدوم... إلخ، فليست مثل هذه الصور من قبيل المستحيلات بحكم العادة ، وإن إدراكنا لكونها كذلك عائد لمجرد خبرتنا وتجربتنا البشرية، بل هي
مستحيلات عقلية لا يتصور وجودها مطلقا في الخارج .
ومما يوضح الإشكال الذي في عبارة هوكنج الماضية، تقول الفقرة : (قد تبدو الفيزياء الكمية وكأنها تقوض فكرة أن الطبيعة محكومة بقوانين، ولكن هذا ليس هو الحال).
فإذا كانت تبدو كذلك ؛ فلما لا يكون الأمر كذلك فعلا؟!
والس وهبب أن ما قد يبدو موهما للتناقض، يرجع فيه إلى مبادئ ومقولات أخرى؛ لمحاولة إزالة إشكال التناقض، ومن تلك المبادئ: المبادئ العقلية
الضرورية .
والحق أن ما يتعلق بفيزياء الكم وتداعياته العلمية والعقدية = مجال
دراسي مهم، وهو يستدعي تضافرا لجهود المختصين بهذا المجال؛ لتوضيح
حقيقة تلك المقولات الفيزيائية، لتقديم جوابات عما قد تفرزه تلك المقولات
من تصورات .
والحقيقة أن مشكلة الملاحدة مع المبادئ العقلية الأولية ترجع - في جزء
رئيسي منها - إلى نظرتهم المادية الداروينية لوجودنا، فإذا تجاوزنا مأزق كون المادة قادرة على إنتاج العقل، وأن التطور الدارويني قادر على إحداث هذا
المنتج = فإن الأسئلة التي تفرضها الداروينية بخصوص ملكاتنا العقلية :
هل طورت لنا الطبيعة عقولا قادرة على الوصول إلى الحقائق، أم أنها طورت
العقل ليحقق لنا العيش والبقاء، بغض النظر عن إمكانياته في الكشف طبيعة
الأشياء في نفسها؟
وهل من الممكن أن توهمنا عقولنا بأمر ما، وتجعله كالضروري بالنسبة لنا، ليتحقق لنا العيش والبقاء، وإن كان الأمر مجرد وهم في الحقيقة؟
هذه إحدى الإشكاليات العميقة التي تمثلها الداروينية، والتي يتولد عنها
مشکلات عريضة في الخطاب الإلحادي حيال ملفات متعددة ؛ كفطرية الإيمان
بالله ، وتطلب التدين، والحس الأخلاقي، والشعور بالإرادة الحرة، وغيرها ؛ إذ يتم تفسير هذه جميعا بتفسيرات داروينية، تقوم على البحث عن الفائدة
المعيشية التي تتحقق بسبب وجود مثل هذه الأمور في النفس، أو التفتيش بما
يمكن أن يكون متسببا في وجودها، إن لم تكن هذه الأمور مقصودة أصالة، ولا هي المؤثرة فيه، بل وجودها إنما هو في الحقيقة منتج ثانوي عرضي لأمر الذي استبقاه الانتخاب الطبيعي لتحقيق العيش والبقاء للجنس البشري.
والعقل ليس بدعا من هذا، فالطبيعة - بحسب التصور الدارويني - طورت عقولا تحقق لنا البقاء، أما كون هذه العقول قادرة على التعرف على
الحقائق = فهو منتج ثانوي إن كان موجودا ، وإلا فبالإمكان تقدير أن تضللنا
عقولنا لأجل تحقيق البقاء .
هذه الإشكالية العميقة كانت حاضرة حتى عند داروين نفسه، والذي عبر
عن حيرته وانزعاجه من هذه القضية حيث قال : ينتابني دائما شك فظيع حول
ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان - والذي بدوره تطور من عقول کائنات أدنی - تتمتع بأي قيمة، أو تستحق أدني ثقة).
وقد ولدت حالة الرفض لمثل هذه الضروريات العقلية، أو التقليل شأنها، والتي تتجلى بشكل صريح أحيانا، وبشكل أكثر تحفظا في
أحايين أخرى، تهوينا شديدا من المجال الفلسفي بشكل عام، وعملية الاشتغال بالنظر العقلي، سواء كان محكوما بالإطار الديني، أو غير
محکوم .
ولذا فقد أعلنوا في مناسبات متعددة عن موت الفلسفة وانتهائها، وعن عدم جدواها وفائدتها ؛ فمن المقولات الشهيرة عبارة هوكنج في أول كتاب
التصميم العظيم»: (الفلسفة ماتت))، (وأن علماء الطبيعة باتوا هم شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة)) .
ويقول بي زي مایرز: (الكثير من الفلسفة سیدمرك) .
ويقول کراوس: (الفلسفة حقل يذكرني - للأسف - بالنكتة القديمة
الوودي آلن: «أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا، يدرسون، وأولئك الذين
لا يستطيعون أن يدرسوا، يدرسون الرياضة» .
هذا التنكر للفضاء العقلي بمقولاته الفطرية والنظرية، إذا التزمت لوازمه فعلا = فإنه كما سبق يفضي إلى لون من السفسطة، تتهاوى في ظله أية إمكانية
التحصيل المعرفة والعلم، وهو يقضي بطبيعة الحال على القاعدة التي يمكن أن تتأسس عليها العلوم الطبيعية التجريبية .
والغريب أنهم مع تمجيدهم للمقولات العلمية التجريبية، ومغالاتهم الشديدة فيها، فإنهم من حيث لا يشعرون ينطلقون المسلمات المسبقة، والتي لا يمكن إثباتها بالعلوم التجريبية ذاتها؛ كالانطلاق من رؤية تجعل للكون وجودا حقيقيا مستقلا عن إدراكنا، وأنه كون قابل للتعلم، وجعله محکوما بإطار سنني معين، وأن مثل هذه السنن ثابتة، فما يعد من القوانين الطبيعية اليوم سيظل غدا وبعده، وغير ذلك من مسلمات؛ فالانطلاق من مسلمات قبلية ليس أمرا مستغربا أو التصور.
بل الأكثر طرافة أنهم لا ينفكون عن الالتزام بالضرورات العقلية وإن أبدوا تنكرا لها، فمجرد السعي في الممارسة الاستدلالية يعبر عن تسلیم بمبدأ السببية، ووجود تلازم بين الدليل والمدول؛ إذ الدليل في حقيقته (سبب) للعلم
بالمدلول.
في حوار طريف جرى بين فرانك توريك، وأحد الملاحدة، على هامش إحدى محاضراته في جامعة ويسکانسن، صرح فيها الملحد بتشکیکه بوجود المبادئ العقلية الضرورية، فرد عليه فرانك : إذن أنت تقول بأنها موجودة
فعلا.
فقال له الملحد: لا .
فأكد فرانك ثانية : نعم، أنت تقول بأنها موجودة .
فأجابه الملحد: كيف فهمت أني أقول إنها موجودة؟
فقال فرانك : لأنك تستعمل الآن قانون عدم التناقض لتقول إنني
مخطئ .
والإلزام واضح، فلأنه مستم لا شعوريا باستحالة اجتماع النقيضين = لم
يقبل أن يفهم قوله بعدم وجود المبادئ العقلية بأنها موجودة ؛ إذ لا يصح أن
تكون موجودة وغير موجودة ضرورة .
سأله فرانك بعدها: هل تعتقد بأن المبادئ العقلية هي مجرد صناعة
بشرية يتم إدارتها في أدمغتنا، دون أن يكون لها تحقق استقلالي عن
وجودنا؟
فأجابه الملحد بنعم.
فسأله فرانك : إذن قبل وجود البشر على الأرض، هل العبارة التالية
صحيحة أم لا: لا وجود للبشر على الأرض؟
وبعد مدة أجاب بنعم صحيحة، مع نوع تشبث بالموقف المسبق بأن مثل هذه المعارف إنما هي نسبية إضافية غير مستقلة عن وجودنا).
هذا الحوار يكشف لنا أيضا عن المأزق الإلحادي في طبيعة هذه
المقولات الفطرية في حد ذاتها : هل تتميز بوصف الموضوعية والإطلاق، أم
إنها نسبية إضافية راجعة إلى الحس الإنساني؟
ففي ضوء المقولات السابقة، يصرح كثير من الملاحدة بضرورة عدم
الانسياق وراء هذه المقولات الفطرية، بل ويصرحون بمناقضتها في ظل
توهمات علمية طبيعية متعلقة بعلوم فيزياء الكم وغيرها ؛ ويقررون بأن الأمر قد
يكون مخالفا لتلك المقررات العقلية البدهية، بل هي مخالفة لها فعلا .
ولوازم مثل هذا التقرير بجعل مثل هذه المبادئ العقلية مجرد منتج عقلي
مضاف إلينا، دون أن يكون لها قيمتها الموضوعية المتجاوزة لوجودنا = كثيرة
وخطيرة؛ فالتواصل البشري من أجل إحداث حالة الإقناع إنما هي في حقيقتها
ولبها محاولة لإقناع كل طرف في ظل أرضية معرفية مشتركة، والقاعدة التي
تتأسس عليها هذه المعرفة يجب أن تكون ذات طبيعة مطلقة، وليست إضافية
بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك، وبهذه القاعدة يمكن تجسير الهوة المعرفية بين
طرفين لإحداث حالة القناعة، وبغيرها فسيظل كل طرف محبوا في إطاره
المعرفي، عاجزا عن التواصل مع غيره؛ لغياب تلك المعاني المتجاوزة لهما
والتي تمكنهما من التواصل.
ولو كانت تلك المبادئ الضرورية مجرد صناعة عقلية إنسانية = فإن كل
فكرة بشرية ستكون كذلك مجرد صناعة لعقولنا بما يجعلها معارف نسبية،
فنفقد القدرة والثقة في إمكانية تحصيل معرفة يقينية في أي شيء.
المشكلة الكارثية؛ إذ بغير تلك المعارف الضرورية، والتي يمكن أن تبتني عليها المعارف النظرية، فلا سبيل لتقديم رؤية فلسفية متماسكة يمكن من خلالها تسويغ علمية الاستدلال، ولا ممارسته، ومآلات مثل هذه الرؤية التزام طريقة سفسطية تطرح الثقة بالمعقولات البشرية كافة .
ألا ترى أن مثل هذا التقرير هو البيئة التي أفرزت تلك الدعوى الباطلة
بأن المعارف كافة نسبية، وأنه لا سبيل لتحصیل معرفية قطعية يقينية، وأن
الحقيقة لا يملكها أحد؟!
مثل هذا التقرير يحمل في طياته تناقضا داخليا ؛ فذات العبارة يجب أن
تحاكم إلى نفسها، وهو ما يكشف بطلانها وخطأها .
فإهدار المبادئ العقلية الضرورية، وإلغاء الطبيعة الموضوعية لها في حقيقته إهدار لكل عملية عقلية بشرية، وإهدار لإمكانية التواصل والإقناع
بين الناس، وإهدار للعلوم الطبيعية التجريبية، فهذه جميعا لا يمكن أن تقوم
إلا على قاعدة تعترف بوجود تلك المبادئ الضرورية، وتقول بقيمتها المتعالية
والمتجاوزة للوجود الإنساني.
والحق أن مثل هذه التقريرات إفراز طبيعي لتبني الرؤية الإلحادية، فمن
غير إثبات خالق لهذا الكون متصف بالكمال المطلق = فإمكان إثبات المعاني
المطلقة غير مستطاع، وإذا عجزنا عن إثبات المطلقات فلا سبيل للبرهنة على
وجود الضروريات؛ إذ من طبيعتها أنها مطلقة لا تتعلق بظرف أو بيئة أو
شخص، بل هي أمور متجاوزة للوجود الإنساني أصلا، فعدم اجتماع النقيضين
ضروري ومعنی مطلق، وجد الإنسان أو لم يكن موجودا، ومبدأ السببية أصل
ضروري مطلق قبل وجود الإنسان، وكذا كون الجزء أصغر من الكل،
وغيرها، فلا سبيل لإثبات هذه المطلقات إلا بإثبات وجود مطلق هو
تعالی .
فمنكر وجوده عاجز عن البرهنة على وجود أي حقيقة مطلقة ؛ فهو وإن
قدم منتجا معرفا بادعاء النسبية المطلقة للمعارف والعلوم، ورفع عن بعضها
وصف الضرورة والإطلاق = فإن هذا المنتج المعرفي باطل ضرورة؛ لافتقاده
للقاعدة التي يمكن أن ينبني عليها، لكنه في الحقيقة منتج متسق إلى حد بعيد
مع التصورات الإلحادية، والتي لا يمكن في ظلها أن تقرر مثل هذه
الضرورات العقلية فلسفيا ؛ لأن مثل هذه المقررات لا يمكن تأسيس البنية
المعرفية لها، والبرهنة عليها إلا بالإيمان بوجود الله .
نستطيع أن نفهم عبارة أهل العلم المعمقة والمعبرة التي تقول :
(العلم بالله أصل للعلم بكل معلوم)، فقد كنت أتوقف كثيرا عند هذه العبارة ،
ساعيا إلى فهم حقيقتها وأبعادها، وما المعنى المكتنز من وراء تقديم هذه
الرؤية والصلة بين العلم بالله تعالى والعلم ببقية المعلومات، فظهر لي - بعد
إدراك المعاني السابقة - أن القصد أن كل المعارف والعلوم هي في الحقيقة
فرع عن العلم به - تعالى -، فمن لم يدرك وجوده فلن يتمكن فلسفيا وبرهانيا
أن يؤسس لنظرية معرفية متماسكة تفسر لنا مبررات وجود هذه المعارف
وإمكانية تحصيلها .
ومن هنا قال ابن تيمية: (والعلم به أعلى العلوم، وغاية العلوم، ومنتهی
العلوم، وتحقيق العلوم، وأصل العلوم. وإن كان العلم بغيره أسبق إلى بعض
الأذهان من العلم به، أو يكون دليلا على العلم به، فالعلم به مع كونه أعلى
وأكمل وأنفع، فإن الحاجة إليه ضرورية، وإنه لا صلاح للعبد إلا به، ولا
سعادة بدونه، فهو أصل لتحقيق تلك العلوم التي به تستحق أن تكون
علوما).
وقال تلميذه ابن القيم تله : (وتأمل حال العالم كله، علويه وسفليه
بجميع أجزائه، تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنکار صانعه
وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما؛ بل
دلالة الخالق على المخلوق، والفاعل على الفعل، والصانع على أحوال
المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة أظهر من
العکس.
والعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل
الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق،
والقرآن مشتمل عليهما .
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير ، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: وافي آل شو؛ أي: أنشك
في
حتى تطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر
المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفي؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم :
وقاطر الموت والأرض .
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية فانه يقول: كيف تطلب
الدليل على من هو دليل على كل شيء؟! وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :
وليس بصڅ في الأذهان شي إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن المعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود
النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها)).
ويكفي أن ندرك هنا أن الله - سبحانه - هو المعلم الأول، الذي ذكر
امتنانه على خلقه بالتعليم، إما بغیر واسطة بما جعله لهم من معارف فطرية
ضرورية، أو بما أعطاهم من ملكات وأدوات تمكنهم من النظر والاستدلال،
أو بما علمهم بواسطة أنبيائه ورسله ؛ قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) } فالتصور الإسلامي للمعرفة يجعل من العلم بكل تجلياته مبتدأ من الله تعالى وأنه لا سبيل للتأسيس عقليا وفلسفيا لنظرية متماسكة في المجال المعرفي دون
الإقرار بهذه الحقيقة .
والخلاصة أن وجود مثل هذه المعارف الضرورية دالة على وجوده -
تبارك وتعالى -؛ لضرورة الشعور بها، فإن سلم المقابل بوجودها كحقائق
موضوعية فيلزمه الإقرار بوجود الله ؛ لعدم إمكانية إثباتها دونه، وإن تنكر فإن
ضريبة هذا التنكر باهظة جدا، بغلق باب التحصيل المعرفي نهائيا ، بل وما هو
من صور السفسطة، وإليك هذا المثال المعبر :
في حوار نك بولارد مع ريتشارد دوكنز، طرح نك السؤال التالي:
قالت سوزان لاكمور مؤخرا في مجلة «الشكاك»: «أعتقد أن فكرة أننا
موجودون = مجرد وهم، فكرة أن هناك (أنا) في الداخل تقوم باتخاذ القرارات والعمل وهي مسؤولة = هو مجرد وهم كبير ضخم، الذات التي
نبنيها مجرد وهم؛ لأنه في الحقيقة لا وجود إلا للدماغ وكيميائها، وهذه
الذات لا وجود لها، وهي لم توجد، وليس هنالك شخص يموت». هل توافق
على مثل هذا التفسير الاختزالي الحقيقة من تكون، ومن تكون زوجتك؟
دوكنز : نعم. فسوزان قامت بإبراز عنقها لصالح رؤية معينة لحقيقة ما
الذات، وهي رؤية أجدني مائلا إلى اعتقاد أنها من الممكن أن تكون
صحيحة، لكنني لا أعتقد أننا وصلنا إلى مرحلة تسمح التأكد
صحتها، الذي يجعله معقولا بالنسبة إلي أمور متعددة، أحدها: أن الدماغ،
الذي ظهر للعالم وفق عملية تطور متدرجة، تصل بيننا وبين بقية الحيوانات ،
التي تتصل بحيوانات ذات أدمغة بسيطة جدا، إلى حيوانات بلا عقول إلى
النباتات.
بالتأكيد أن التكهن بأننا لا نعيش بعد الموت تبدو لي احتمالية مرتفعة
على نحو ساحق، هذا سيكون اختبارا عملا جيدا . وإن لم نكن قادرين على
تطبيقه بطبيعة الحال . لكن من جهة المبدأ: إن كانت الذات شيئا مغايرا
للدماغ؛ فينبغي أن تعيش بعد أن يتعفن الدماغ، وأنا مستعد لوضع مراهنة عالية
جدا - مدرگا أنه ليس بإمكاني أن أفوز - أنه متى ما تعفن دماغي؛ فإن ذاتي لن
تبقى بأي شكل من الأشكال.
بولارد: هل تعتقد بأن فكرة (أنا موجود) مجرد وهم؟
لأدمغتنا، ، وأنه ، ماتت فإننا نزول. القول بأن مفهوم (نحن) مجرد وهم = تبدو لي طريقة جيدة للتعبير عن الفكرة، لكنني لا أتمنى أن ألزم نفسي بالقول بأن شعورنا بأنفسنا مجرد وهم.
إنه يعتمد على ما تعنيه، بالتأكيد أشعر أن ثمة (أنا) .
وكما ترى، إن دوكنز يبدو مستعدا جدا للتسليم بأن وعي الفرد بذاته ،
وشعوره بهويته الذاتية المميزة له عمن سواه، وإحساسه بمعنی (الأنا) المجرد أوهام، ولئن حاول دوكنز أن يبدو دبلوماسيا في تقديم جوابه ليخفف من وقعه
على القارئ، لكنها كلمات كافية في التعبير عن الفكرة بشكل واضح.
نعم، حاول دوكنز أن يبدو أكثر عقلانية في اللحظة الأخيرة من هذا
الحوار، لكنه في الحقيقة حاد عن موضوع البحث، ولم يأتي بشيء ينقض
تأصيله المتقدم ؛ فمجرد الشعور بالأنا) والوعي بها : ليس محل البحث
أصلا، فهي قضية بديهية يجدها هو وغيره ضرورة من أنفسهم، ولكن السؤال
المهم: هل ثمة ما يبرر حقيقة لهذا الشعور؟ أو بمعنى آخر: هل ثمة شيء
حقيقي موجود يصح أن يطلق عليه (أنا) يبرر لشعورنا بوجودنا، أم أن الأمر
مجرد وهم ولا وجود حقيقي لشيء اسمه نفس أو أنا أو هوية ذاتية مميزة؟
اذن فالإيمان بالخالق مرتبط باصل كل العلوم والبدهيات فمن فضل الله على أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولما كان تحقيق الإيمان مكلفا به كل عاقل كان يجب أن يكون في وسع كل عاقل تحصيله مهما كان ضعیف العقل بسیط التعليم، فسبحان الكريم الحليم. ولذلك جعل الله الأدلة على الإيمان فطرية يعلمها الإنسان كأساس لأي علم (مثل دليل السببية كما فالبدهيات التي بني عليها الإنسان كل علومه ومعارفه تدل على الخالق قبل أن تدل على أي شيء آخر، فلا يمكن أن يعلم الإنسان شيئا إلا وقد بناه على تلك الأسس التي هي في ذاتها أدلة على الإيمان، فيبقى كل مشكك في أدلة الإيمان بين أمرين:
1- إما أن ينکر کل علم علمه قبل أن ينكر أدلة الإيمان، وفي هذه الحالة
لا يسعه أن يزعم أن رأيه في قضية الإيمان له قيمة.
۲- وإما أن يقبل بتلك الأسس عندما يتكلم في أي علم، في حين يرفضها نفسها.
عندما يتكلم عن قضية الإيمان، فيظهر بذلك تناقضه وكبره وجحوده وعناده.
فكل معلومة يحصلها الإنسان ينبغي أن تذكره بتلك الأصول التي بني عليها معرفته، وينبغي أن تؤكد صحة تلك الأصول التي شيد عليها الإنسان هذا الصرح المعرفي، فليس هناك شيء في معرفة الإنسان إلا وهو مبني على بديهة السببية، فإذا كانت السببية أحد أدلة وجود الخالق وهي أصل العلوم واليقينيات
المصادر
شموع النهار الشيخ عبد الله العجيري من ص39 الي ص57 اختراق عقل د / أحمد ابراهيم
المستوي الأول دلالة المبادئ العقلية الأولية:
من القضايا التي يدركها الإنسان من نفسه ضرورة : معقولات معينة ذات طبيعة خاصة اصطلح على تسميتها بالعلوم الضرورية، أو المبادئ الفطرية الأولية، أو البدهيات العقلية؛ وهي معقولات فطرية تهجم على النفس من غير توسط نظر و استدلال، بخلاف نمط آخر من المعقولات اصطلح على تسميتها بالعلوم النظرية؛ وهي ما يمكن تحصيله من خلال النظر والاستدلال .
أن يكون واضحا، بل وبديها يحسه الإنسان من نفسه ضرورة، ويجد لأجل ذلك من نفسه مدافعة شديدة لمحاولات التشكيك في مثل هذه البدهيات، بخلاف تلك العلوم النظرية والتي قد تعرض له فيها الشبهات والإشكالات فيدافعها بالنظر والاستدلال.
بل إن من طبيعة هذه العلوم الضرورية استغناءها عن البرهنة والتدليل، بل إليها المرجع في العملية الاستدلالية؛ فالعلوم النظرية إنما ثرد إلى العلوم الضرورية .
يقول الإمام ابن حزم، موضحا هذه الفكرة: (ما كان مدركا بأول العقل
وبالحواس = فليس عليه استدلال أصلا، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال، وبالرد إلى ذلك، فيصح استدلاله أو يبطل).
ويقول المعلمي: (وأما القضايا الضرورية والبديهية ؛ فقد اتفق علماء
المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يرجی منه حصول المقصود ببنائه عليها، وإسناده إليها).
فالنظام الاستدلالي لا يقوم إلا بوجود هذه المبادئ الضرورية، وإلا لزم
الدور والتسلسل، والذي يفضي إلى سقوط المنظومة الاستدلالية كلها .
يقول ابن تيمية، شارا هذه الفكرة: (البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم، أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية؛ فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري؛ إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائما = لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه .
فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون
النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية = لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث.
ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحدا
معاندا عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه أو
عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك = فإنه يعالج بما يوجب
حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه، فإن عجز عن ذلك الفساد في طبيعته
عولج بالأدوية الطبيعية، أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك، وإلا
ترك).
والحق أن مجرد محاولة التدليل على مثل هذه البدهيات = عملية شاقة
عسرة، بل هي في كثير من الأحيان غير مقدور عليها، وقد تفضي بالمرء إلى التشكيك في هذه البدهيات، أو السقوط في ألوان . من السفسطة ، وهي بكل حال مجرد تعذيب للنفس من غير طائل.
يقول ابن تيمية، مبينا هذه الإشكالية، ضاربا مثلا لطيفا معبرا عن طبيعة
الإشكال: (والأمور الفطرية متي جعل لها طرق غير الفطرية : كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها، كما لو قيل لرجل: أقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية. فإن هذا ممكن بلا كلفة، فلو قال له قائل: اصبر؛ فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها، وتميز بينها وبين الضرب؛ فإن القسمة عكس الضرب، فإن الضرب هو تضعیف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزیع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الآخر. ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم، وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر.
ثم يقال : ما ذكرته في حد الضرب لا يصح؛ فإنه إنما يتناول ضرب
العدد الصحيح، لا يتناول ضرب المكسور . بل الحد الجامع لهما أن يقال : الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبین کنسبة الواحد إلى المضروب الآخر. فإذا قيل : اضرب النصف في الربع؛ فالخارج هو الثمن، ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد.
فهذا وإن كان كلاما صحيحا، لكن من المعلوم أن من معه مال يريد
أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية، إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى بتصور هذا كله = كان هذا تعذيبا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، وقد يعرض له فيه إشكالات).
ويقول أيضا، موضحا ما قد تؤول إليه عملية الاستدلال للبدهيات:
(كثيرا من العلوم تكون ضرورية فطرية، فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت، ووقع فيها شك، إما لما في ذلك من تطويل المقدمات، وإما لما في ذلك من خفائها، وإما لما في ذلك كلا الأمرين) .
وما قد يقع من الاستدلال للمبادئ الفطرية عند الاحتياج، فإنما هو وفي حقيقته مجرد کشف عن حقيقة كونها فطرية ضرورية، لا أنه تدليل على ثبوتها وصحتها في نفس الأمر؛ إذ هي مع صحتها مستغنية عن هذا التدليل لما تقدم، وبين مقام الكشف والتدليل فرق؛ إذ هذا النمط من الاستدلال أشبه بتذكير الغافل وتنبيه الذاهل .
ولذا قال ابن تيمية، في معرض ذكره للدلائل المثبتة لوجود الله تعالی :
فإذا رأي آياته المستلزمة لوجوده = كان ذلك تبصرة من ذلك الطيف، كما
قال تعالى: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) و تكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكره بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة
فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة) .
وهذه الضرورات العقلية تفرض سؤالين مشروعين :
الأول: من أين تحصلت النفس عليها؟
الثاني: من أين تكتسب هذه الضرورات العقلية قيمتها الموضوعية
المطلقة؟
من خلال العرض السابق، يتضح أن هذه المعقولات الضرورية حاصلة
في النفس ابتداء ، وأنها لا تتحصل بالمرور بعملية التعلم أو التعليم، ولا أنها
معاني تتلقى من خارج .
ومن ئم فمن الطبيعي أن نتساءل: ما الذي، أو من الذي أودع هذه
المعاني الفطرية في النفس؟ ويبدو أن الإجابة المعقولة والمنطقية هي: أن الله
تعالى هو الذي علم الإنسان هذه المعاني، وأودعها في نفسه .
وحتى يتجاوز الخطاب الإلحادي مأزق هذا السؤال، فقد سعوا للتشكيك
في أصل فطرية هذه المعرفة، وجعلوا إدراك مثل هذه المعقولات ناشئا من
خلال التعلم الحسي عبر أداة الاستقراء؛ فملاحظة الإنسان أنه إن ضم
تفاحة إلى أخرى فإنه سيتحصل على تفاحتين، وبرتقالة إلى أخرى فبرتقالتين = هو ما يحصل له قانونا كليا أن واحدا زائد واحد يساوي اثنين، وأن إدراكه لقانون
السببية ناشئ من خلال ما يلاحظه عبر حواسه من ترتب المسببات على
أسبابها، دون أن يكون هناك مبدأ فطري کاشف عن هذا القانون، سابق على
ملاحظة الحس.
وهذه النظرة الفلسفية في تفسير هذه المعقولات بردها إلى اعتبارات
حسية ، وإلغاء أي وجه لكونها معارف قبلية = تجر إلى مشكلات معرفية متعددة
ومتنوعة، وتفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في ضرورية هذه المبادئ
العقلية، واطرادها؛ إذ الجزم بإيقاع الاستقراء التام غير مستطاع، ومن ثم
فيمكن للمرء أن يشكك بأن هذا القانون قد يكون منتقضا بمثال خارج إطار
المادة المستقرأة ، فما الذي يدريك أن ثمة أمرا حادا في بقعة من الكون مثلا
الثاني: من أين تكتسب هذه الضرورات العقلية قيمتها الموضوعية
المطلقة؟
خلال العرض السابق، يتضح أن هذه المعقولات الضرورية حاصلة
في النفس ابتداء، وأنها لا تتحصل بالمرور بعملية التعلم أو التعليم، ولا أنها
معان تتلقى من خارج
ومن تم فمن الطبيعي أن نتساءل: ما الذي، أو من الذي أودع هذه
المعاني الفطرية في النفس؟ ويبدو أن الإجابة المعقولة والمنطقية هي : أن الله
الذي علم الإنسان هذه المعاني، وأودعها في نفسه .
وحتى يتجاوز الخطاب الإلحادي مأزق هذا السؤال، فقد سعوا للتشكيك
في أصل فطرية هذه المعرفة، وجعلوا إدراك مثل هذه المعقولات ناشئا من خلال التعلم الحسي عبر أداة الاستقراء؛ فملاحظة الإنسان أنه إن ضم تفاحة
إلى أخرى فإنه سيتحصل على تفاحتين، وبرتقالة إلى أخرى فبرتقالتين = هو ما
يحصل له قانونا كليا أن واحدا زائد واحد يساوي اثنين، وأن إدراكه لقانون
السببية ناشئ من خلال ما يلاحظه عبر حواسه من ترتب المسببات على
أسبابها، دون أن يكون هناك مبدأ فطري کاشف عن هذا القانون، سابق على
ملاحظة الحس.
وهذه النظرة الفلسفية في تفسير هذه المعقولات بردها إلى اعتبارات
حسية، وإلغاء أي وجه لكونها معارف قبلية = تجر إلى مشكلات معرفية متعددة
ومتنوعة، وتفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في ضرورية هذه المبادئ
العقلية، واطرادها؛ إذ الجزم بإيقاع الاستقراء التام غير مستطاع، ومن ثم
فيمكن للمرء أن يشكك بأن هذا القانون قد يكون منتقضا بمثال خارج إطار
المادة المستقرأة، فما الذي يدريك أن ثمة أمرا حادا في بقعة من الكون مثلا
حادث من دون أن يكون له سبب؟
وهذا الحرج هو ما حمل بعض الملاحدة على طرح رؤية تعترف باطراد
هذه المبادئ العقلية عمليا دون أن نؤسس لوجودها فلسفيا ونظریا، فاعترف بضرورة التعاطي البراغماتي النفعي معها، بأن يتعامل الإنسان في حياته العملية
مسلما بهذه المعاني الفطرية، وإن كانت عند المحاققة مما يصعب البرهنة
عليها، أو التدليل لها، أو التوثق من صدقيتها .
تتفاقم المشكلة أكثر حين يصرح بعض الملاحدة بتبني نظرة تشكيكية
للمبادئ العقلية الضرورية فعلا، وأنه لا ينبغي الانسياق خلف هذه الفكرة ،
ولا بناء نتائج علمية نظرية عليها .
فالملحد الشهير لورنس کراوس يؤكد في مناسبات متعددة على بدائية
التفكير البشري الإنساني، وأن العقل البشري قد تم تخليقه وتطويره عبر
میکانیزمات الداروينية للتفاعل مع مخاطر السافانا، لكنها عقول لا يلزم أن
تكون قادرة على التعرف على طبيعة هذا الكون، وحقائق الوجود، ومن ثم
فالواجب التعرف على العالم من الملاحظة والتجربة ،
دون تعویل مطلقا على شيء اسمه مبادئ عقلية، فضلا عن محاكمة ما نراه
إليها، بل الحكم هو ما يمكننا التوصل إليه عن طريق الملاحظة والحس وفق
المنهج العلمي مهما بدا غريبا، بل ومتناقضا مع معارفنا العقلية الضرورية .
يقول هذا في سياق التسويغ لفكرة كتابه: «كون من لا شيء»، والتي
تقوم على أن الكون وإن كان ناشئا من العدم، فبإمكانه أن يحدث نفسه بنفسه
وفق قوانين الفيزياء.
ذاك التأصيل = في غاية الإشكال، وهو يجر إلى مشکلات معرفية في غاية الخطورة. وقد تجلى شيء من هذا التخبط المعرفي.
في مناظرة حمزة تزورتزس لكراوس الشهيرة بعنوان: (الإسلام أو الإلحاد،
أيهما أكثر منطقية؟) والتي جاء فيها ما يكشف عن الموقف المضطرب جدا
الكراوس في بناء نظرية معرفية سليمة .
و مبتدأ الإشكال هو في اطراح هذه المبادئ العقلية الأولية؛ إذ أطراحها
مفض في الحقيقة إلى اطراح الثقة في أدوات الرصد والملاحظة ، بل وإسقاط
في المنهج العلمي ذاته، والذي يراد أن يكون هو الطريق الأوحد للمعرفة
وفق النظرة العلموية المغالية؛ إذ المنهج العلمي مؤسس على مقولات لا يمكن
وهذا الكلام، مع الثقة البرهنة عليها من خلال المنهج العلمي ذاته، وإلا لزم الدور.
فالقول بأن المعرفة لا يمكن تأسيسها إلا على المعارف الطبيعية = قول
متناقض، لا ينبغي أن يكون مقبولا عند العقلاء، ولكن ماذا نصنع إن كان مثل
هذا الاعتراض موجها إلى من يتنكر للمبادئ العقلية الأولية، وهو كما ترى
اعتراض منطلق منها؟ وكيف يمكن أن يكون مقنا لمن لا يجد إشكالا كبيرا
في قبول أن العالم أحدث نفسه بنفسه؟ ومتى ما تقبل المرء مثل هذا فما
المانع؟
فعلا أن يقول: ثبت صحة المنهج العلمي بالمنهج العلمي نفسه؟
وما من شك أن طرد مثل هذا التصور مفض إلى لون من السفسطة،
والتي وقع ضحيتها فعلا بعض الملاحدة .
كنت مرة في نقاش مع مجموعة من الشباب المتأثرين بالمقولات
الإلحادية ، وأفضى بنا النقاش إلى بعض المناطق الجدلية الغريبة؛ فرأيت من
الضروري إعادة ترتيب النقاش ليكون الكلام منطلقا من أرضية مشتركة .
أخذت أتكلم عن مصادر المعرفة البشرية، وأنها تعود إجمالا إلى أصول
من ثلاثة:
١ – الحس .
۲ - العقل .
٣- الخبر .
وكانت مفاجأتي عظيمة حين عرف من خلال النقاش : أن المعول في
تحصيل المعرفة عندهم على القضايا الحسية، دون القضايا العقلية النظرية أو
الضرورية منها !!
أحببت التأكد من وجود هذه المشكلة، وأخذت أورد لهم جملة من
التساؤلات لأستوثق من قناعتهم بهذه المسألة، وطردهم لمثل هذا الأصل،
المبادئ العقلية الأولية أن الجزء أصغر من الكل، فإذا كان لدينا برتقالة مثلا، وقسمناها إلى أربعة أرباع ؛ فربع البرتقالة أصغر، أو
تساوي، أو أكبر من مجموع البرتقالة؟
فكان مما قلت:
أكبر من مجموع
دمت حين قالوا : لا نستطيع أن نعرف .
نشاهد هذه البرتقالة، ونقوم بتقطيعها .
قلت لهم: لدي في المنزل كتاب بعنوان: «مجموع فتاوى ابن تيمية»،
يتألف من ۳۷ مجلدا، المجلد الأول من مجموع الفتاوى أصغر، أو مساو أو
الكتاب كله وبالمجلد الأول؟
فقالوا: لا ندري حتى نزورك في البيت ونراه .
كانت أمامنا دلة قهوة، فقلت لأحدهم: ارفع الدلة. فرفعها، فقلت:
فهل تستطيع أن ترفع الفنجان . الأخف - بناء على علمك بأنك قادر على
رفع الأثقل؟ وأكدت له أنني لا أتحدث عن طروء أمر خارجي، بل لحظة
رفعك للأثقل هل تعلم من نفسك أنك في ذات الظرف قادر على رفع
الأخف؟
مد يده لرفع الفنجان، فقلت : لا أريد منك أن تجرب .
فقال : لا أستطيع أن أدرك الجواب حتى أجرب .
ختمت أسئلتي يومها بقولي لأحدهم: هل أنت موجود أم معدوم؟
فقال: بل موجود.
فقلت : فهل يمكن أن يثبت العلم في مستقبل الأيام أنك معدوم؟
فقال : ممكن.
وختم يومها النقاش. وللإنصاف كان في تلك المجموعة من لم يرتض
هذا التنكر للمبادئ العقلية الأولية، ورأى في هذا التأسيس والتنظير قطقا
الطريق الحوار، ولكن أصحابه كانوا على خلاف رأيه .
والحق أن بعضا مما طرحوه لم يكن ناشئا عن تعنت بالضرورة، أو
مجرد مكابرة، بل بنوا هذا على معطيات بعضها يعود إلى الاعتبار السابق بعدم
إمكان إثبات مثل هذه المعارف فطرة دون توسط نظر الحس، ولمقولات علمية
. خصوصا في مجال فيزياء الكم - أوهمتهم أنه لا سبيل إلى الجمع بين
المقولات العقلية والمقولات العملية، بما يؤكد الاعتبار الأول .
ومن قرأ في مجال فيزياء الكم = يعرف فعلا الغموض الذي يكتنف هذا العلم، والصعوبة الشديدة التي يعانيها العقل البشري في استيعاب
كثير من مقولاته .
يقول جون ويلر مثلا: (إذا لم تكن محتارا من ميكانيكا الكم؛ فإنك لم
تفهمها).
ويقول روجر بینروس: (ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا).
ويقول ريتشارد فينمان: (يمكن الادعاء بأمان: أن لا أحد يفهم فيزياء
الكم).
والذي أعتقده : أنه لا يصح أن يطرح المرء مثل هذه المعارف الضرورية، ويلغي قيمتها الموضوعية تحت سطوة هذه المعارف الطبيعية، بل الواجب محاكمة المعارف الطبيعية إليها، وما يبدو غامضا أو متناقضا فيجب الاستمساك بالمعارف الضرورية والتعويل على جهلنا بشيء من مقتضيات الواقع التي لو انكشفت لأفضى إلى موافقة المحسوس للمعقول، وبغير هذا السبيل لن يبقى معنا لا ولا معقول!
وقد اكتشفت بعد تلك التجربة الحوارية السابقة : أن هذه إشكالية حقيقية موجودة عند كثير من الملاحدة، وأن ثمة قدرا من العجز عن التوفيق بين
البابين أفضى إلى نتائج في غاية الخطورة .
يقول ستيفن هوكنج في كتابه: «التصميم العظيم»، والذي ألفة بالمشاركة
مع ليونارد ملودنو: (بالتأكيد، ككثير من المفاهيم العلمية الحديثة، والتي تبدو
مخالفة للمنطق السليم. ولكن المنطق السليم مبني على تجاربنا اليومية، وليس
على طبيعة الكون، والذي يكشف عن خلال عجائب التكنولوجيا كتلك التي تسمح لنا بالنظر عميقا في الذرة، أو للبدايات المبكرة لهذا الكون).
في هذا الكلام: هذا الإجمال في فكرة (المنطق السليم)، فهل المقصود التنكر للمبادئ العقلية الأولية، أم مجرد مخالفة (المستحيلات العادية)؟
فالإنسان قد يحكم خطأ على أمر بأنه مستحيل بمقتضى العادة ، ثم ينكشف له أنه ليس مستحيلا في نفس الأمر، ولكن ثمة حزمة من المبادئ
الضرورية الفطرية التي تبدو متعالية على وجود الإنسان ذاته، ومثل هذه الضروريات غير مستفادة من مجرد التجربة الإنسانية، ولذا فمن الخطأ التنكر
للمستحيلات العقلية، وهي في الحقيقة كل ما يؤول إلى الجمع بين النقيضين؛ كوجود دائرة مربعة، أو جسم متحرك ساكن، أو لا موجود ولا
معدوم... إلخ، فليست مثل هذه الصور من قبيل المستحيلات بحكم العادة ، وإن إدراكنا لكونها كذلك عائد لمجرد خبرتنا وتجربتنا البشرية، بل هي
مستحيلات عقلية لا يتصور وجودها مطلقا في الخارج .
ومما يوضح الإشكال الذي في عبارة هوكنج الماضية، تقول الفقرة : (قد تبدو الفيزياء الكمية وكأنها تقوض فكرة أن الطبيعة محكومة بقوانين، ولكن هذا ليس هو الحال).
فإذا كانت تبدو كذلك ؛ فلما لا يكون الأمر كذلك فعلا؟!
والس وهبب أن ما قد يبدو موهما للتناقض، يرجع فيه إلى مبادئ ومقولات أخرى؛ لمحاولة إزالة إشكال التناقض، ومن تلك المبادئ: المبادئ العقلية
الضرورية .
والحق أن ما يتعلق بفيزياء الكم وتداعياته العلمية والعقدية = مجال
دراسي مهم، وهو يستدعي تضافرا لجهود المختصين بهذا المجال؛ لتوضيح
حقيقة تلك المقولات الفيزيائية، لتقديم جوابات عما قد تفرزه تلك المقولات
من تصورات .
والحقيقة أن مشكلة الملاحدة مع المبادئ العقلية الأولية ترجع - في جزء
رئيسي منها - إلى نظرتهم المادية الداروينية لوجودنا، فإذا تجاوزنا مأزق كون المادة قادرة على إنتاج العقل، وأن التطور الدارويني قادر على إحداث هذا
المنتج = فإن الأسئلة التي تفرضها الداروينية بخصوص ملكاتنا العقلية :
هل طورت لنا الطبيعة عقولا قادرة على الوصول إلى الحقائق، أم أنها طورت
العقل ليحقق لنا العيش والبقاء، بغض النظر عن إمكانياته في الكشف طبيعة
الأشياء في نفسها؟
وهل من الممكن أن توهمنا عقولنا بأمر ما، وتجعله كالضروري بالنسبة لنا، ليتحقق لنا العيش والبقاء، وإن كان الأمر مجرد وهم في الحقيقة؟
هذه إحدى الإشكاليات العميقة التي تمثلها الداروينية، والتي يتولد عنها
مشکلات عريضة في الخطاب الإلحادي حيال ملفات متعددة ؛ كفطرية الإيمان
بالله ، وتطلب التدين، والحس الأخلاقي، والشعور بالإرادة الحرة، وغيرها ؛ إذ يتم تفسير هذه جميعا بتفسيرات داروينية، تقوم على البحث عن الفائدة
المعيشية التي تتحقق بسبب وجود مثل هذه الأمور في النفس، أو التفتيش بما
يمكن أن يكون متسببا في وجودها، إن لم تكن هذه الأمور مقصودة أصالة، ولا هي المؤثرة فيه، بل وجودها إنما هو في الحقيقة منتج ثانوي عرضي لأمر الذي استبقاه الانتخاب الطبيعي لتحقيق العيش والبقاء للجنس البشري.
والعقل ليس بدعا من هذا، فالطبيعة - بحسب التصور الدارويني - طورت عقولا تحقق لنا البقاء، أما كون هذه العقول قادرة على التعرف على
الحقائق = فهو منتج ثانوي إن كان موجودا ، وإلا فبالإمكان تقدير أن تضللنا
عقولنا لأجل تحقيق البقاء .
هذه الإشكالية العميقة كانت حاضرة حتى عند داروين نفسه، والذي عبر
عن حيرته وانزعاجه من هذه القضية حيث قال : ينتابني دائما شك فظيع حول
ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان - والذي بدوره تطور من عقول کائنات أدنی - تتمتع بأي قيمة، أو تستحق أدني ثقة).
وقد ولدت حالة الرفض لمثل هذه الضروريات العقلية، أو التقليل شأنها، والتي تتجلى بشكل صريح أحيانا، وبشكل أكثر تحفظا في
أحايين أخرى، تهوينا شديدا من المجال الفلسفي بشكل عام، وعملية الاشتغال بالنظر العقلي، سواء كان محكوما بالإطار الديني، أو غير
محکوم .
ولذا فقد أعلنوا في مناسبات متعددة عن موت الفلسفة وانتهائها، وعن عدم جدواها وفائدتها ؛ فمن المقولات الشهيرة عبارة هوكنج في أول كتاب
التصميم العظيم»: (الفلسفة ماتت))، (وأن علماء الطبيعة باتوا هم شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة)) .
ويقول بي زي مایرز: (الكثير من الفلسفة سیدمرك) .
ويقول کراوس: (الفلسفة حقل يذكرني - للأسف - بالنكتة القديمة
الوودي آلن: «أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا، يدرسون، وأولئك الذين
لا يستطيعون أن يدرسوا، يدرسون الرياضة» .
هذا التنكر للفضاء العقلي بمقولاته الفطرية والنظرية، إذا التزمت لوازمه فعلا = فإنه كما سبق يفضي إلى لون من السفسطة، تتهاوى في ظله أية إمكانية
التحصيل المعرفة والعلم، وهو يقضي بطبيعة الحال على القاعدة التي يمكن أن تتأسس عليها العلوم الطبيعية التجريبية .
والغريب أنهم مع تمجيدهم للمقولات العلمية التجريبية، ومغالاتهم الشديدة فيها، فإنهم من حيث لا يشعرون ينطلقون المسلمات المسبقة، والتي لا يمكن إثباتها بالعلوم التجريبية ذاتها؛ كالانطلاق من رؤية تجعل للكون وجودا حقيقيا مستقلا عن إدراكنا، وأنه كون قابل للتعلم، وجعله محکوما بإطار سنني معين، وأن مثل هذه السنن ثابتة، فما يعد من القوانين الطبيعية اليوم سيظل غدا وبعده، وغير ذلك من مسلمات؛ فالانطلاق من مسلمات قبلية ليس أمرا مستغربا أو التصور.
بل الأكثر طرافة أنهم لا ينفكون عن الالتزام بالضرورات العقلية وإن أبدوا تنكرا لها، فمجرد السعي في الممارسة الاستدلالية يعبر عن تسلیم بمبدأ السببية، ووجود تلازم بين الدليل والمدول؛ إذ الدليل في حقيقته (سبب) للعلم
بالمدلول.
في حوار طريف جرى بين فرانك توريك، وأحد الملاحدة، على هامش إحدى محاضراته في جامعة ويسکانسن، صرح فيها الملحد بتشکیکه بوجود المبادئ العقلية الضرورية، فرد عليه فرانك : إذن أنت تقول بأنها موجودة
فعلا.
فقال له الملحد: لا .
فأكد فرانك ثانية : نعم، أنت تقول بأنها موجودة .
فأجابه الملحد: كيف فهمت أني أقول إنها موجودة؟
فقال فرانك : لأنك تستعمل الآن قانون عدم التناقض لتقول إنني
مخطئ .
والإلزام واضح، فلأنه مستم لا شعوريا باستحالة اجتماع النقيضين = لم
يقبل أن يفهم قوله بعدم وجود المبادئ العقلية بأنها موجودة ؛ إذ لا يصح أن
تكون موجودة وغير موجودة ضرورة .
سأله فرانك بعدها: هل تعتقد بأن المبادئ العقلية هي مجرد صناعة
بشرية يتم إدارتها في أدمغتنا، دون أن يكون لها تحقق استقلالي عن
وجودنا؟
فأجابه الملحد بنعم.
فسأله فرانك : إذن قبل وجود البشر على الأرض، هل العبارة التالية
صحيحة أم لا: لا وجود للبشر على الأرض؟
وبعد مدة أجاب بنعم صحيحة، مع نوع تشبث بالموقف المسبق بأن مثل هذه المعارف إنما هي نسبية إضافية غير مستقلة عن وجودنا).
هذا الحوار يكشف لنا أيضا عن المأزق الإلحادي في طبيعة هذه
المقولات الفطرية في حد ذاتها : هل تتميز بوصف الموضوعية والإطلاق، أم
إنها نسبية إضافية راجعة إلى الحس الإنساني؟
ففي ضوء المقولات السابقة، يصرح كثير من الملاحدة بضرورة عدم
الانسياق وراء هذه المقولات الفطرية، بل ويصرحون بمناقضتها في ظل
توهمات علمية طبيعية متعلقة بعلوم فيزياء الكم وغيرها ؛ ويقررون بأن الأمر قد
يكون مخالفا لتلك المقررات العقلية البدهية، بل هي مخالفة لها فعلا .
ولوازم مثل هذا التقرير بجعل مثل هذه المبادئ العقلية مجرد منتج عقلي
مضاف إلينا، دون أن يكون لها قيمتها الموضوعية المتجاوزة لوجودنا = كثيرة
وخطيرة؛ فالتواصل البشري من أجل إحداث حالة الإقناع إنما هي في حقيقتها
ولبها محاولة لإقناع كل طرف في ظل أرضية معرفية مشتركة، والقاعدة التي
تتأسس عليها هذه المعرفة يجب أن تكون ذات طبيعة مطلقة، وليست إضافية
بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك، وبهذه القاعدة يمكن تجسير الهوة المعرفية بين
طرفين لإحداث حالة القناعة، وبغيرها فسيظل كل طرف محبوا في إطاره
المعرفي، عاجزا عن التواصل مع غيره؛ لغياب تلك المعاني المتجاوزة لهما
والتي تمكنهما من التواصل.
ولو كانت تلك المبادئ الضرورية مجرد صناعة عقلية إنسانية = فإن كل
فكرة بشرية ستكون كذلك مجرد صناعة لعقولنا بما يجعلها معارف نسبية،
فنفقد القدرة والثقة في إمكانية تحصيل معرفة يقينية في أي شيء.
المشكلة الكارثية؛ إذ بغير تلك المعارف الضرورية، والتي يمكن أن تبتني عليها المعارف النظرية، فلا سبيل لتقديم رؤية فلسفية متماسكة يمكن من خلالها تسويغ علمية الاستدلال، ولا ممارسته، ومآلات مثل هذه الرؤية التزام طريقة سفسطية تطرح الثقة بالمعقولات البشرية كافة .
ألا ترى أن مثل هذا التقرير هو البيئة التي أفرزت تلك الدعوى الباطلة
بأن المعارف كافة نسبية، وأنه لا سبيل لتحصیل معرفية قطعية يقينية، وأن
الحقيقة لا يملكها أحد؟!
مثل هذا التقرير يحمل في طياته تناقضا داخليا ؛ فذات العبارة يجب أن
تحاكم إلى نفسها، وهو ما يكشف بطلانها وخطأها .
فإهدار المبادئ العقلية الضرورية، وإلغاء الطبيعة الموضوعية لها في حقيقته إهدار لكل عملية عقلية بشرية، وإهدار لإمكانية التواصل والإقناع
بين الناس، وإهدار للعلوم الطبيعية التجريبية، فهذه جميعا لا يمكن أن تقوم
إلا على قاعدة تعترف بوجود تلك المبادئ الضرورية، وتقول بقيمتها المتعالية
والمتجاوزة للوجود الإنساني.
والحق أن مثل هذه التقريرات إفراز طبيعي لتبني الرؤية الإلحادية، فمن
غير إثبات خالق لهذا الكون متصف بالكمال المطلق = فإمكان إثبات المعاني
المطلقة غير مستطاع، وإذا عجزنا عن إثبات المطلقات فلا سبيل للبرهنة على
وجود الضروريات؛ إذ من طبيعتها أنها مطلقة لا تتعلق بظرف أو بيئة أو
شخص، بل هي أمور متجاوزة للوجود الإنساني أصلا، فعدم اجتماع النقيضين
ضروري ومعنی مطلق، وجد الإنسان أو لم يكن موجودا، ومبدأ السببية أصل
ضروري مطلق قبل وجود الإنسان، وكذا كون الجزء أصغر من الكل،
وغيرها، فلا سبيل لإثبات هذه المطلقات إلا بإثبات وجود مطلق هو
تعالی .
فمنكر وجوده عاجز عن البرهنة على وجود أي حقيقة مطلقة ؛ فهو وإن
قدم منتجا معرفا بادعاء النسبية المطلقة للمعارف والعلوم، ورفع عن بعضها
وصف الضرورة والإطلاق = فإن هذا المنتج المعرفي باطل ضرورة؛ لافتقاده
للقاعدة التي يمكن أن ينبني عليها، لكنه في الحقيقة منتج متسق إلى حد بعيد
مع التصورات الإلحادية، والتي لا يمكن في ظلها أن تقرر مثل هذه
الضرورات العقلية فلسفيا ؛ لأن مثل هذه المقررات لا يمكن تأسيس البنية
المعرفية لها، والبرهنة عليها إلا بالإيمان بوجود الله .
نستطيع أن نفهم عبارة أهل العلم المعمقة والمعبرة التي تقول :
(العلم بالله أصل للعلم بكل معلوم)، فقد كنت أتوقف كثيرا عند هذه العبارة ،
ساعيا إلى فهم حقيقتها وأبعادها، وما المعنى المكتنز من وراء تقديم هذه
الرؤية والصلة بين العلم بالله تعالى والعلم ببقية المعلومات، فظهر لي - بعد
إدراك المعاني السابقة - أن القصد أن كل المعارف والعلوم هي في الحقيقة
فرع عن العلم به - تعالى -، فمن لم يدرك وجوده فلن يتمكن فلسفيا وبرهانيا
أن يؤسس لنظرية معرفية متماسكة تفسر لنا مبررات وجود هذه المعارف
وإمكانية تحصيلها .
ومن هنا قال ابن تيمية: (والعلم به أعلى العلوم، وغاية العلوم، ومنتهی
العلوم، وتحقيق العلوم، وأصل العلوم. وإن كان العلم بغيره أسبق إلى بعض
الأذهان من العلم به، أو يكون دليلا على العلم به، فالعلم به مع كونه أعلى
وأكمل وأنفع، فإن الحاجة إليه ضرورية، وإنه لا صلاح للعبد إلا به، ولا
سعادة بدونه، فهو أصل لتحقيق تلك العلوم التي به تستحق أن تكون
علوما).
وقال تلميذه ابن القيم تله : (وتأمل حال العالم كله، علويه وسفليه
بجميع أجزائه، تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنکار صانعه
وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما؛ بل
دلالة الخالق على المخلوق، والفاعل على الفعل، والصانع على أحوال
المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة أظهر من
العکس.
والعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل
الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق،
والقرآن مشتمل عليهما .
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير ، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: وافي آل شو؛ أي: أنشك
في
حتى تطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر
المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفي؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم :
وقاطر الموت والأرض .
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية فانه يقول: كيف تطلب
الدليل على من هو دليل على كل شيء؟! وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :
وليس بصڅ في الأذهان شي إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن المعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود
النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها)).
ويكفي أن ندرك هنا أن الله - سبحانه - هو المعلم الأول، الذي ذكر
امتنانه على خلقه بالتعليم، إما بغیر واسطة بما جعله لهم من معارف فطرية
ضرورية، أو بما أعطاهم من ملكات وأدوات تمكنهم من النظر والاستدلال،
أو بما علمهم بواسطة أنبيائه ورسله ؛ قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) } فالتصور الإسلامي للمعرفة يجعل من العلم بكل تجلياته مبتدأ من الله تعالى وأنه لا سبيل للتأسيس عقليا وفلسفيا لنظرية متماسكة في المجال المعرفي دون
الإقرار بهذه الحقيقة .
والخلاصة أن وجود مثل هذه المعارف الضرورية دالة على وجوده -
تبارك وتعالى -؛ لضرورة الشعور بها، فإن سلم المقابل بوجودها كحقائق
موضوعية فيلزمه الإقرار بوجود الله ؛ لعدم إمكانية إثباتها دونه، وإن تنكر فإن
ضريبة هذا التنكر باهظة جدا، بغلق باب التحصيل المعرفي نهائيا ، بل وما هو
من صور السفسطة، وإليك هذا المثال المعبر :
في حوار نك بولارد مع ريتشارد دوكنز، طرح نك السؤال التالي:
قالت سوزان لاكمور مؤخرا في مجلة «الشكاك»: «أعتقد أن فكرة أننا
موجودون = مجرد وهم، فكرة أن هناك (أنا) في الداخل تقوم باتخاذ القرارات والعمل وهي مسؤولة = هو مجرد وهم كبير ضخم، الذات التي
نبنيها مجرد وهم؛ لأنه في الحقيقة لا وجود إلا للدماغ وكيميائها، وهذه
الذات لا وجود لها، وهي لم توجد، وليس هنالك شخص يموت». هل توافق
على مثل هذا التفسير الاختزالي الحقيقة من تكون، ومن تكون زوجتك؟
دوكنز : نعم. فسوزان قامت بإبراز عنقها لصالح رؤية معينة لحقيقة ما
الذات، وهي رؤية أجدني مائلا إلى اعتقاد أنها من الممكن أن تكون
صحيحة، لكنني لا أعتقد أننا وصلنا إلى مرحلة تسمح التأكد
صحتها، الذي يجعله معقولا بالنسبة إلي أمور متعددة، أحدها: أن الدماغ،
الذي ظهر للعالم وفق عملية تطور متدرجة، تصل بيننا وبين بقية الحيوانات ،
التي تتصل بحيوانات ذات أدمغة بسيطة جدا، إلى حيوانات بلا عقول إلى
النباتات.
بالتأكيد أن التكهن بأننا لا نعيش بعد الموت تبدو لي احتمالية مرتفعة
على نحو ساحق، هذا سيكون اختبارا عملا جيدا . وإن لم نكن قادرين على
تطبيقه بطبيعة الحال . لكن من جهة المبدأ: إن كانت الذات شيئا مغايرا
للدماغ؛ فينبغي أن تعيش بعد أن يتعفن الدماغ، وأنا مستعد لوضع مراهنة عالية
جدا - مدرگا أنه ليس بإمكاني أن أفوز - أنه متى ما تعفن دماغي؛ فإن ذاتي لن
تبقى بأي شكل من الأشكال.
بولارد: هل تعتقد بأن فكرة (أنا موجود) مجرد وهم؟
لأدمغتنا، ، وأنه ، ماتت فإننا نزول. القول بأن مفهوم (نحن) مجرد وهم = تبدو لي طريقة جيدة للتعبير عن الفكرة، لكنني لا أتمنى أن ألزم نفسي بالقول بأن شعورنا بأنفسنا مجرد وهم.
إنه يعتمد على ما تعنيه، بالتأكيد أشعر أن ثمة (أنا) .
وكما ترى، إن دوكنز يبدو مستعدا جدا للتسليم بأن وعي الفرد بذاته ،
وشعوره بهويته الذاتية المميزة له عمن سواه، وإحساسه بمعنی (الأنا) المجرد أوهام، ولئن حاول دوكنز أن يبدو دبلوماسيا في تقديم جوابه ليخفف من وقعه
على القارئ، لكنها كلمات كافية في التعبير عن الفكرة بشكل واضح.
نعم، حاول دوكنز أن يبدو أكثر عقلانية في اللحظة الأخيرة من هذا
الحوار، لكنه في الحقيقة حاد عن موضوع البحث، ولم يأتي بشيء ينقض
تأصيله المتقدم ؛ فمجرد الشعور بالأنا) والوعي بها : ليس محل البحث
أصلا، فهي قضية بديهية يجدها هو وغيره ضرورة من أنفسهم، ولكن السؤال
المهم: هل ثمة ما يبرر حقيقة لهذا الشعور؟ أو بمعنى آخر: هل ثمة شيء
حقيقي موجود يصح أن يطلق عليه (أنا) يبرر لشعورنا بوجودنا، أم أن الأمر
مجرد وهم ولا وجود حقيقي لشيء اسمه نفس أو أنا أو هوية ذاتية مميزة؟
اذن فالإيمان بالخالق مرتبط باصل كل العلوم والبدهيات فمن فضل الله على أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولما كان تحقيق الإيمان مكلفا به كل عاقل كان يجب أن يكون في وسع كل عاقل تحصيله مهما كان ضعیف العقل بسیط التعليم، فسبحان الكريم الحليم. ولذلك جعل الله الأدلة على الإيمان فطرية يعلمها الإنسان كأساس لأي علم (مثل دليل السببية كما فالبدهيات التي بني عليها الإنسان كل علومه ومعارفه تدل على الخالق قبل أن تدل على أي شيء آخر، فلا يمكن أن يعلم الإنسان شيئا إلا وقد بناه على تلك الأسس التي هي في ذاتها أدلة على الإيمان، فيبقى كل مشكك في أدلة الإيمان بين أمرين:
1- إما أن ينکر کل علم علمه قبل أن ينكر أدلة الإيمان، وفي هذه الحالة
لا يسعه أن يزعم أن رأيه في قضية الإيمان له قيمة.
۲- وإما أن يقبل بتلك الأسس عندما يتكلم في أي علم، في حين يرفضها نفسها.
عندما يتكلم عن قضية الإيمان، فيظهر بذلك تناقضه وكبره وجحوده وعناده.
فكل معلومة يحصلها الإنسان ينبغي أن تذكره بتلك الأصول التي بني عليها معرفته، وينبغي أن تؤكد صحة تلك الأصول التي شيد عليها الإنسان هذا الصرح المعرفي، فليس هناك شيء في معرفة الإنسان إلا وهو مبني على بديهة السببية، فإذا كانت السببية أحد أدلة وجود الخالق وهي أصل العلوم واليقينيات
المصادر
شموع النهار الشيخ عبد الله العجيري من ص39 الي ص57 اختراق عقل د / أحمد ابراهيم