البرهان الكوني أو الكوسومولوجي (دليل الحدوث)(Cosmological Argument)
الدليل العقلى:
البرهان الكوني هو برهان من الأساس منطقي بالمعنى الاصطلاحي، أي أَنَّهُ يلزم كل من يسلم بمقدماته أن يسلم بنتيجته، وهي: أن للكون خالقًا؛ وإلا ناقض نفسه.
ليس هذا فحسب؛ بل إن المقدمات التي تقود إِلَى تلك النتيجة هي مقدمات لا يسع العاقلَ إلا التصديقُ بها؛ لِأَنَّهُا إما من الْحَقائق الحسية أو من البدائه العقلية.
وها هو شكل الحجة الكونية :
1- كل حادث (أي ما خرج من العدم) يحتاج الى سبب لحدوثه
٢- العالم حادث
ستظهر معنا النتيجة التالية لازمة من المقدمتان السابقتان بحسب استدلال منطقي صحيح وهو
3- اذن فالعالم لحدوثه سبب.
يقول الغزالي بالنسبة للمقدمة الأولى انها ضرورية اولية في العقل يجب التسليم بها ، وبالتالي فإن المقدمة الأولى ، هي ليست قانون فيزيائي يطبق على الأشياء التي داخل الكون ، بل هو مبدأ ميتافيزيقي ، أي أن الأشياء لا يمكنها أن تخرج من العدم ، شيء لا يمكنه أن يوجد من عدم بلا سبب .
فمن أهم الضرورات والبديهيات العقلية التي نقصدها قانون السببية :
وقانون السببية معناه: «أنه لا شيء يحدث بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد، أي بلا شيء ما يمكنه الإفادة بتعليل قبلي لسبب وجود هذا الشيء بدلا من عدمه، ولماذا هو على هذا النحو، وليس على نحو آخر مختلف تماما، وهذا القانون تأسيسي وضروري لقيام أية معرفة إنسانية أصلا، «فالعلم بأن كل محدث لا بد له من محدث = علم فطري ضروري».
إذا قلت : إن لكل معلول علة ولكل حادث سبب. قال: إن هذه ليست حقيقة عقلية! وعندئذ فلا فائدة من النقاش، ولا يمكن بناء أية معرفة إذا كانت هذه البدهيات غير مستقرة عند المخاطب، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل».
فالعقل الإنساني عندما يصل إلى مرحلة إنكاره فإنه لا سبيل لإمكان بناء أي معرفة إنسانية على الإطلاق؛ لأنه لو كانت أبسط قواعد التفكير والمنطق منعدمة، فأين هي القاعدة التي يمكن البناء عليها بعد ذلك؟
فالحجة المبنية على بداية الكون. فإن كان للكون بداية، إذن للكون
القالب المنطقي تظهر الحجة هكذا:
1- كل حادث (أي ما خرج من العدم) يحتاج الى سبب لحدوثه
٢- العالم حادث
ستظهر معنا النتيجة التالية لازمة من المقدمتان السابقتان بحسب استدلال منطقي صحيح وهو
3- اذن فالعالم لحدوثه سبب
فلكي تكون الحجة صحيحة، لا بد أن تكون مقبولة منطقيا،
ولا بد أن تكون فرضياتها صحيحة. وهذه الحجة مقبولة منطقيا، ولكن هل المقدمات صحيحة؟
فلنلق نظرة على فرضياتها :
(1) فرضية 1: ( كل حادث يحتاج سبب لحدوثه) . هذا هو قانون السببية الذي يمثل المبدأ الأساسي للعلم. ولولا قانون السببية، لكان العلم مستحيلا.
Francis Bacon ) (The father of modern science) :
“True knowledge is knowledge by causes.”
In other words, science is a search for causes. That’s what scientists do—they try to discover what caused what].
الترجمة وقد قال فرانسيس بيكون (أبو العلم الحديث):
"المعرفة الحقيقية هي معرفة بالمسببات".
أي أن العلم هو بحث عن المسببات. وهذا ما يفعله العلماء؛ يحاولون أن يكتشفوا مسببات الأشياء والحقيقة أن إنكار قانون السببية يعني إنكار العقلانية، لأن عملية التفكير العقلاني نفسها منا أن ما الأفكار (المسببات) التي تؤدي إلى نتائج (الآثار). فإن قال لك أحد إنه لا يؤمن بقانون السببية، اسأله: ما السبب الذي وصل بك إلى تلك النتيجة؟
وفي المقابل، (کيث وارد-Keith Ward) - بروفيسور سابق في جامعة أكسفورد- يقول ردا على (آتکینز): من المستحيل أن يؤثر شي وهو بعد لم يوجد، فكيف تخلق النقطة نفسها قبل أن توجد؟! وإني لأعجب هم يفترضون لكل شيء سببا لكن إذا جاؤوا إلى أول شيء وهو أول حادث – وهو انفجار الكون - يقولون لا سبب له! إذا كانوا يرون لكل شيء سببا، ولولا السببية ما بني علم ولا أبتكرت نظرية، فكيف إذا جاؤوا إلى أهم شيء - وهو بداية الكون - يقولون: هذه النقطة التي منها انبثق الكون لا سبب لها وأوجدت نفسها بنفسها؟! .
وها هو تأكيد آخر علي أهمية وبداهة قانون السببية :
[Leibniz’s question is based on the principle of sufficient reason: No fact can exist without a sufficient reason for its existence. This principle is necessary when one considers the intelligibility of the universe. This intelligibility was the fact that most amazed Albert Einstein.science could not proceed without this intelligibility. Stephen T. Davis, professor of philosophy at Claremont College, asks us to imagine a world without a principle of sufficient reason. He notes that we would all live with the concern that dangerous animals, such as a saber-toothed tiger, could at any time pop into existence and devour us.
Even if barricaded ourselves in a protected shelter, we would find no protection, because dangerous chasms, beasts, or bombs could at any time pop into existence inside the shelter without any reason and destroy us... the scientific understanding we now have concerning the universe? why hotels, air_planes, and chemicals cannot come into existence without a cause...No one lives as if the principle of sufficient reason is false. The principle presupposes the existence of reason. When one argues against the principle, he or she begins to question the existence of reason itself. The conundrum of using reason to argue against the existence of reason appears odd if not self-defeating. The intelligibility of physical reality appears to require the principle of sufficient reason].
الترجمة : سؤال ليبنز في حديثه عن السببية يقول : لا توجد حقيقة بدون سبب كاف لوجودها. هذا المبدأ ضروري عندما ينظر المرء في وضوح الكون. هذه الوضوح كان حقيقة أن ألبرت أينشتاين أدهش.العلم لا يمكن أن يستمر بدون هذه الوضوح. ستيفن تي ديفيس، أستاذ الفلسفة في كلية كليرمونت، يسألنا أن نتخيل عالما بدون مبدأ لسبب كاف. يسأل أستاذ الفلسفة في كلية كليرمونت علينا أن نتخيل عالمًا بدون مبدأ السبب الكافي. ويشير إلى أننا سنعيش جميعًا مع القلق من أن الحيوانات الخطرة ، مثل النمر ذو الأسنان السابرة ، يمكن أن تظهر في أي وقت وتلتهمنا.
حتى لو حاصرنا أنفسنا في مأوى محمي ، فلن نجد ذلك الحماية ، لأن الصدوع أو الوحوش أو القنابل الخطرة يمكن أن تكون في أي وقت قفز إلى الوجود داخل الملجأ دون أي سبب ودمرنا... ففي ظل الفهم العلمي لدينا الآن بخصوص الكون؟ لماذا الفنادق والطيران-الطائرات والمواد الكيميائية لا يمكن أن تظهر بدون سبب ... ولكن لا احد يعيش لو أن مبدأ السبب الكافي خاطئ. المبدأ يفترض مسبقا وجود العقل. عندما يجادل المرء ضد المبدأ، فإنه يبدأ بالتشكيك في وجود العقل نفسه. إن معضلة استخدام العقل للدفاع ضد وجود العقل تبدو غريبة إن لم تكن مدمرة للذات. يبدو أن وضوح الواقع المادي يتطلب مبدأ السبب الكافي.
(2) ولكن المقدمة الثانية هي :
التي تحتاج الى اثبات وسيتم إثباتها عقليا وفلسفيا وعلميا
ولكن قبل الولوج الي المقدمة الثانية وهي اثبات حدوث العالم عقليا نريد الإجابة علي سؤال ألا وهو :
هل الخلق من العدم أمر مستحيل عقلا ؟ وللإجابة علي ذلك علينا أن نوضح بمقدمة صغيرة نبين فيها :
ما هو الفرق بين التصور والتعقل ؟
أولا : (1) هل الخلق من العدم أمر مستحيل ؟
التَّصَوُّرِ والتَّعَقُّلِ:
فالإيجادُ مِنَ العَدَمِ غيرُ مستحيلٍ عقلًا، وإنْ كَانَ الملحدُ يَجِدُهُ مُسْتَحِيلًا، ويَسْتَبْعِدُهُ، وَيَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِهِ؛ ولَكِنْ عُقُولُنا فِي مَجَالِ الأعدادِ الكبيرةِ تَكِلُّ عَنْ تصورِ حقائقَ واضحةٍ، وهذه الْحَقائقُ الواضحةُ لا تَحْتَاجُ إلا لِتَأَمُّلٍ قليلٍ وحِسَابٍ يسيرٍ مِنْ نَوْعِ الْجَمْعِ مثلًا، ويكونُ كَلَالُ العقولِ حينئذٍ غريبًا جدًا؛ حتى إنَّهُا تُمَارِي فِي النتيجةِ؛ ولو أَخْبَرَهَا بتلك النتيجةِ أصدقُ الناسِ وَأَعْلَمُهُمْ، وَتَبْقَى العقولُ عاجزةً عَنْ تَصَوُّرِ النتيجةِ؛ ولو تَوَصَّلَتْ إِلَيْهِا بنفسِها.
ألَا تَعْرِفُ أُحْجِيَّةَ الورقةِ الْمُقَطَّعَةِ؟
لو أُعْطِيتَ ورقةً رقيقةً بَالِغَةَ الرِّقَّةِ، سُمْكُها جزءٌ مِنْ مائةِ جزءٍ مِنَ الْمِلِّي مِتْر، وطُلِبَ منك أنْ تَقْطَعَهَا نِصْفَيْنِ، ثم تَقْطَعَ النصفينِ ثانيةً لِيُصْبِحَا أربعةً، ثم تَقْطَعَ الأربعةَ لِتُصْبِحَ ثمانيةً، وهكذا إِلَى أَنْ تُكَرِّرَ القَطْعَ والتضعيفَ ثمانِيَ وأربعينَ مَرَّةً.
إذا سُئِلْتَ قبل أنْ تبدأ فِي القطع، وقبل أن تَحْسُبَ: كم تتوقعُ أنْ تُصْبِحَ سَمَاكَةُ هذه الأوراقِ الرقيقةِ بعد قَطْعِهَا ثَمِانِي وأربعينَ مرةً؟
فإنك مهما بالغتَ فِي التقدير؛ لم تَقُلْ: إنَّ سُمْكَهَا يَزِيدُ على مِتْرٍ واحدٍ، أو مِتْرَيْنِ، أو ثَلَاثَةٍ.
فإذا قيل لك: إنَّ سُمْكَهَا سوف يزيدُ على عَشْرَةِ كيلو متراتٍ؛ لم تُصَدِّقْ.
وأما إِذَا قيل لك: إنك إِذَا كَرَّرْتَ القطعَ إِلَى الْمَرَّةِ الثامنةِ والأربعين، ثم جَعَلْتَ الأوراقَ الْمُقَطَّعَةَ رُكَامًا مَرْصُوصًا صاعدًا إِلَى السماءِ؛ فإنه يَلْمَسُ أو يكادُ يَلْمَسُ القمرَ الَّذِي يَبْعُدُ عَنِ الْأَرْضِ أربعةً وثمانينَ وثلاثَمِائَةِ أَلْفِ كيلو مِتْر؛ إِذَا قيل لك ذَلِكَ نَفَرْتَ، وَحَسِبْتَ القائلَ يَسْخَرُ منك، وبعد أنْ تَتَحَقَّقَ أَنتَ بنفسِكَ مِنْ ذَلِكَ بالحسابِ اليسير، لو أَرَدْتَ تَصَوُّرَه؛ فإنك سَتَجِدُ عَقْلَكَ كَلِيلَا عاجزًا عَنْ تصورِه.
خُذْ قَلَمَكَ واحْسُبْ:
ورقةٌ رقيقةٌ بَالِغَةُ الرِّقَّةِ، سُمْكُها جزءٌ مِنْ مائةِ جزءٍ مِنَ الْمِلِّي مِتْر، تَقْطَعُهَا نِصْفَيْنِ، ثم تَقْطَعُ النصفينِ ثانيةً لِيُصْبِحَا أربعةً، ثم تَقْطَعُ الأربعةَ لِتُصْبِحَ ثمانيةً، وهكذا إِلَى أَنْ تُكَرِّرَ القَطْعَ والتضعيفَ ثمانِيَ وأربعينَ مَرَّةً.
إذا جَعَلْتَ ذلك رُكَامًا مَرْصُوصًا صاعدًا إِلَى السماءِ؛ فإنه يَلْمَسُ أو يكادُ يَلْمَسُ القمر، على حسب المسافة التي بينك وبين القمر، وهي: أربعةٌ وثمانونَ وثلاثُمِائَةِ أَلْفِ كيلو مِتْر، وجرب هذا الحساب فِيما بينك وبين نفسك، والله المستعان.
إذا؛ العقل يقر ذَلِكَ ويثبته، ولا يماري فِيه؛ ولَكِن التصور لا يثبته، ويماري فِيه.
إذن؛ هُنَالِكَ فرق بين التعقل والتصور، فالإنسان قد يتعقل الشيء ويعجز فِي الوقت عينه عَنْ تصوره.
سمك هذه الورقة المقطعة يقرب من أربعة وثمانين وثلاثمائة ألف كيلو متر، حتى إنَّهُا لتكاد تلامس القمر كما مر؛ ولَكِن هل تستطيع أنت أن تتصور هذه النتيجة بعد أن صنعتها بيدك؟!
فهذه النتيجة الرياضية التي يقر بها العقل ولا يكذبها أحد لا يمكن أن يقرها التصور؛ فإنك ما تزال تشعر بعد إقرارها عقلا بكلالٍ عقلي عَنْ تصورها؛ فهل تدرك الآن أن عقولنا تكِل أحيانا عَنْ تصور حقائق كثيرة يقوم البرهان العقلي على صحتها؟
وذَلِكَ؛ لأن عقولنا خلقت عاجزة عَنْ تصور كثير من الأشياء؛ ولَكِنها تستطيع أن تحكم بوجودها عَنْ طريق البرهان العقلي القاطع؛ فالتصور غير التعقل.
هذه الشَّمْس التي تراها، العقل يثبت على حسب الحساب الدقيق الَّذِي لا يمارَى فِيه أَنَّهُا تبلغ مليون مرة مثلَ الْأَرْض، ومع ذَلِكَ فأنت تراها فِي السماء على هذا النحو، وعقلك يكل عَنْ تصور أَنَّهُا عَنْد التضعيف تزيد على مليون مرة من هذه الْأَرْض.
فإذًا؛ التصور غير التعقل، قد تستطيع تعقل شيء ولا تستطيع أن تتصوره؛ لأن التعقل يعتمد على بدهيات أولية يأخذ العقل فِي ترتيبها وتركيبها، واستنباط بعضها من بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فيصل إِلَى حكم عقلي قاطع قد لا يستطيع العقل نفسه تصوره، وهو الَّذِي وصل إِلَيْهِ.
الْعِلْم الْحَدِيث اليوم يقر هذه الْحَقيقة التي مر ذكرها عن الفرق بين إمكان تصور الشيء وإمكان تعقله.
فلا يبالي الْعِلْم الْحَدِيث بعجز العقل عَنْ التصور، ويعتمد على التعقل وحده؛ لأن الْحَقائق الْعِلْمية أصبحت فِي مجالاتها وكميتها وأعدادها فوق التصور، ولأنهم يحسبونها ويعرفونها ويحكمون عليها عَنْ طريق التعقل، لا عَنْ طريق التصور.
خذ -مثلًا- أمواج النور:
أتحسب أن الْعلماء الَّذِينَ حسَبوا أن الأمواج التي تحدث، فتحدث اللون البنفسجي تكون بسرعة ستين ألف موجة فِي البوصة؛ هم الذين أتوا بذلك الحساب، فقرروا تلك الحقيقة التي لا مجال للامتراء فيها؛ ولكن هل هَؤُلَاءِ الْعلماء الَّذِينَ قرروا تلك الْحَقيقة يستطيعون تصور هذه السرعة لو أضمدوا عيونهم وأرهقوا خيالهم؟!
كلا؛ لأن هذا العدد الهائل فِي هذه المساحة الضئيلة يعجِز العقل عَنْ تصوره؛ ولَكِن لا يعجز عَنْ تعقله –أي: عَنْ الحكم بصحته عَنْ طريق العقل-.
وقد تصل الأعداد فِي الأبحاث الذرية الْحَدِيثة إِلَى مرتبة هائلة يكون عجز العقل عَنْ تصورها أظهرَ لك.
خذ مثلًا:
إن الْعلماء يحسُبون لك أن سرعة ذبذبات الصوت قد تصل إِلَى نصف مليون ذبذبة فِي الثانية الواحدة، وهذا ثابت عَنْدهم ثبوتًا عقليًا علميًا قاطعًا لا ريب فِيه؛ ولَكِن أَتُراهم يستطيعون تصور حصول هذا العدد الهائل من الذبذبات فِي ثانية واحدة؟!
جرب أنت؛ هل تستطيع أن تتصور مهما أجهدت خيالك حصول ألف ذبذبة فِي الثانية؟! فضلًا عَنْ مائة ألف؟! فضلًا عَنْ نصف مليونِ ذبذبة فِي الثانية؟!
ولَكِنَّ هذا الشيء الَّذِي تعجز أنت والْعلماء عَنْ تصوره هو أمر واقع لا ريب فِيه؛ فبأي شيء عرفوه؟
إنهم عرفوه عَنْ طريق التعقل بالحساب.
فالآن نفهم أن التصور غير التعقل، وأن العبرة لقدرة العقل على التعقل، ولا عبرة لعجز العقل عَن التصور، وهذا معنى قول الْعلماء: إن الخلق من العدم يمكن تعقله؛ ولو كَانَ الإنسان يستبعده أو يَكِلَّ أو يعجز عَنْ تصوره.
فهذا هو المراد من أحجية الورقة المقطعة وما تلاها من هذه الأمثلة؛ من أجل أن يصل الإنسان إِلَى هذه القناعة العقلية، من أَنَّهُ يفرق بين التصور والتعقل؛ لنصل فِي النهاية إِلَى أن الخلق من العدم يمكن تعقله، ولَكِنْ العقل الإنساني مع إثباته عقلًا؛ فإنه يكل أو يعجز عَنْ تصوره؛ فلا عبرة لكلال العقل عن التصور، والعبرة بماذا؟
العبرة بإثبات ذلك بالطريقة العقلية.
فالعبرة بالتعقل، لا بالتصور.
إذن؛ الَّذِينَ يَقُولون: إننا يمكن أن نثبت عقلًا -والعقل لا ينفي ذَلِكَ- أن هذا الكون وجد من العدم.
يقولون: هذا يمكن عقلًا؛ ولَكِننا لا نتصوره.
نقول: لا عبرة لنا بتصوركم هذا.
لا نعتبره، ولا نلتفت إِلَيْهِ؛ للحقيقة التي مر ذكرها من أن العقل يثبت كثيرًا من الأمور يتعقلها، ويكل ويعجز فِي الوقت نفسه عَنْ تصورها.
أولا : الدليل العقلي علي حدوث الكون :
فأقسام المعلوم ثلاثة: المستحيل، والواجب، والممكن.
فجميع الأمور التي نعلمها أو يمكن أن يتعلق بها علمنا تنقسم من حيث النظرُ إِلَى وُجُودها إِلَى ثلاثة أقسام:
الأول: مستحيل الوجود لذاته.
الثاني: ممكن الوجود لذاته.
الثالث: واجب الوجود لذاته.
(1) تعريف المستحيل لذاته ومثاله:
بدأ ذكر المستحيل لذاته في أولها.
إذا كنا قد اعتبرنا المستحيل من قبيل الأمور المعلومة؛ فليس ذَلِكَ على سبيل الْحَقيقة، وإنما على سبيل المجاز، فكل صورة ذهنية لا بد وأن تكون صورة مطابقة لأمر موجود فِي الخارج، ولما كَانَ المستحيل لا يوجد أبدًا؛ فإنه لا يمكن أن تكون له صورة ذهنية، ولا أن يعد من الأمر المعلومة حقيقة، وإنما المراد باعتباره من الأمور المعلومة، وأنه من أقسام المعلوم: أن العقل فرض له مثالًا؛ ليتوصل بذَلِكَ الفَرْض إِلَى الحكم عليه بالاستحالة؛ لأنك لا يمكن أن تتصور فِي الأمور المعلومة أن الشيء يكون موجودًا معدومًا فِي آن، أو أن يكون متحركًا ساكنًا فِي آن، هذا ليس له وُجُود، ولا يمكن أن تفرض له صورة معلومة فِي الذهن؛ أن يكون موجودًا معدومًا في آن واحد، وأن يكون متحركًا ساكنًا في آن واحد؛ فلماذا قلنا: إنَّهُ من أقسام المعلوم؟
لأن العقل فرض له مثالًا؛ ليتوصل بذَلِكَ الفرض إِلَى الحكم عليه بالاستحالة.
فالعقل لا يتصور آلة متحركة وساكنة معًا؛ لأن الواقع لا يوجد فيه ذلك، وإنما يفرض اجتماع الحركة والسكون في آلة معينة؛ ليحكم عليه بالاستحالة.
حكم المستحيل: أَنَّهُ لا يقبل الوجود أصلًا، فالمستحيل لا يقبل الوجود أبدًا؛ بل هو معدوم بالضرورة، فاجتماع الحركة والسكون فِي شيء واحد أو فِي وقت واحد لا يوجد أبدًا.
وكذَلِكَ تقدم الابن على أبيه فِي الوجود لا يتحقق أبدًا.
والدليل على ذَلِكَ: أن العدم لازم من لوازم ذاته وماهيته، لا يفارقها؛ لأننا عرفناه - كما مر - بأنه: ما كَانَ عدمه لذاته، أي: ما تقتضي ذاته العدم دائمًا.
إذًا؛ المستحيل لا يقبل الوجود أبدًا.
وإذا كَانَ العدم لازمًا من لوازم المستحيل؛ فإن المستحيل لو فرض وُجُوده؛ للزم من ذَلِكَ مفارقة العدم له، أي: لم يكن المستحيل معدومًا، وذَلِكَ يؤدي إِلَى كونه غير مستحيل بداهة؛ لأن العدم لازم من لوازم ذاته، فإذا وجد؛ فإنه لا يكون مستحيلًا؛ لأن العدم لازم من لوازم المستحيل؛ فإذا وجد؛ فإن ذلك يؤدي إلى كونه غير مستحيل بداهة. كما تقول: إن التفكير لازم من لوازم حقيقة الإنسان، فلو انتفى لازم تلك الْحَقيقة عَنْها بأن لم يكن مفكرًا؛ لما كَانَ ذَلِكَ الإنسان إنسانًا، فلو انتفى لازم المستحيل عَنْه – وهو العدم – فأصبح موجودًا لا معدومًا؛ للزم كونه غير مستحيل، وكون المستحيل غير مستحيل على ذَلِكَ الفرض – وهو معنى سلب الماهية عَنْ نفسها – أمر باطل، فبطل ما أدى إِلَيْهِ، وهو فرض وُجُوده، وثبت أَنَّهُ لا يقبل الوجود؛ سواء أكان فِي الذهن، أو كَانَ فِي الخارج.
ومنه: وُجُود شريك لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فإن هذا مستحيل لذاته، فهو لا يوجد أبدًا.
فحكم المستحيل: أنه لا يقبل الوجود أبدًا؛ بل هو معدوم بالضرورة.
(2)وأما الممكن؛ فله أحكام:
الممكن لذاته – كما مر في تعريفه -: ما لا تقتضي ذاته وجودًا ولا عدمًا؛ بل وجوده وعدمه من غيره؛ ككل ما تراه من هذه المخلوقات السماوية والأرضية، فكل ذلك ممكن، يستوي في حقه الوجود والعدم، ووجوده وعدمه لا من نفسه، وإنما من غيره، لا من ذاته، وإنما من غيره.
فما لا تقتضي ذاته وجودًا ولا عدمًا فهو الممكن.
بناءً على هذا التعريف للممكن؛ ثبتت له الأحكام الآتية:
(أ) حاجته إِلَى السبب فِي وُجُوده وعدمه:
الشيء الممكن؛ حيوانًا، أو نباتًا، أو جمادًا يحتاج بالضرورة إِلَى سبب فِي وُجُوده إِذَا وجد، وإِلَى سبب فِي عدمه إذا كان معدومًا أصلًا، أو طرأ عليه العدم بعد الوجود.
الدليل على ذَلِكَ: أن كلًا من وُجُود الممكن وعدمه ليسا لذاته؛ بل لغيره، وأن ذاته لا تستلزم أحدهما بالضرورة دون الآخر؛ بل تارة تكون ذاته موجودة، وتارة تكون معدومة، كما سبق فِي تعريفه.
فالوجود والعدم متساويان بالنسبة لذاته فِي جوازهما عليه – أي: على الممكن -.
هذا مهم جدا؛ لأن الممكن إِذَا كَانَ وُجُوده ليس من ذاته، وكانت هذه الأشياء كلها ممكنة بمعنى أَنَّهُا حادثة، وجدت بعد أن لم تكن، وتصير إِلَى العدم بعد الوجود؛ فيأتي السؤال: فمن الَّذِي أعطاها الوجود؟! لأن وُجُودها ليس من ذاتها؛ فلا بد من أن هُنَالِكَ من أعطاها الوجود.
وهذه المقدمة مهمة جدًا فِي إثبات وُجُود الخَالِق الْعَظِيم سبحانه عَنْد مناظرة الْمُلْحِدِينَ وغيرهم من الشكاكين؛ وإلا فإننا لا نحتاج إِلَى مثل هذا؛ لأن الله جعل الفطرة الإنسانية مقرة بوجود خالقها وباريها ومنشيها؛ ولَكِن هذا كله إنما نأتي به؛ لأننا نرد على الْمُلْحِدِينَ، لأننا نرد على الماديين، على الدهريين، على الشكاكين الَّذِينَ يشككون فِي وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.
فنقول لهم: هذه أقسام المعلوم: مستحيل لذاته، واجب لذاته، ممكن لذاته.
والعقل لا يمكن أن يأتي برابع.
ثم يقال لهم: انظروا إِلَى هذا الخلق جميعِه وإِلَى أنفسكم، فأنتم وجدتم بعد أن لم تكونوا موجودين، ثم تصيرون إِلَى العدم بعد الوجود؛ فمن الَّذِي أعطاكم الوجود؟!
وكذلك هذا الخلق.
لو وجد شيء ممكن يستوي فِي حقه الوجود والعدم بلا سبب يرجح وُجُوده على عدمه؛ للزم رجحان أحد المتساويين، وهو الوجود على العدم، فيكون ترجيحًا بلا مرجح.
يعني: إِذَا وجد شيء ممكن كَانَ معدومًا فوجد، فإذا قيل: إنَّهُ وجد بلا سبب، هكذا وجد بلا سبب؛ فإننا حينئذ نقول: لقد رجحتم أحد المتساويين بلا مرجح، وهذا يرفضه العقل.
لو وجد شيء ممكن بلا سبب يرجح وجوده على عدمه؛ لأن الممكن يستوي في حقه الوجود والعدم، فلو وجد من غير سبب أوجده؛ فإننا حينئذ نكون قد رجحنا أحد المتساويين – وهو الوجود – على العدم – وهو مساوٍ له بالنسبة للممكن- رجحناه بلا مرجح، وذلك باطل؛ لِأَنَّهُ يقتضي كونهما غير متساويين، وأن الوجود أرجح من العدم؛ لِأَنَّهُ وجد بلا سبب!!
بينما فِي التعريف رأينا أن الممكن تساوى الوجودُ والعدمُ بالنسبة لذاته.
وكذَلِكَ تقول: إِذَا عدم شيء ممكن بلا سبب يرجح عدمه على وُجُوده؛ للزم رجحان أحد المتساويين – وهو العدم، فقد رجحناه على مساويه، وهو الوجود بالنسبة للممكن – بلا مرجح، وهذا باطل؛ لِأَنَّهُ يقتضي كونهما – يعني الوجود والعدم – غير متساويين؛ لأننا رجحنا أحدهما على الآخر وهما متساويان!!
فلا يمكن أن يرجح أحد المتساويين على الآخر إلا بمرجح، وهاهنا رجحنا بلا مرجح، وقلنا: هكذا! هو عدم بلا سبب!!
هكذا! وجد بلا سبب!!
فنكون قد رجحنا أحد المتساويين على الآخر، ومعنى ذلك أنهما ليسا بمتساويين؛ مع أنه مر أن الممكن يستوي في حقه الوجود والعدم، فيكون هذا ترجيحًا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهذا باطل عقلًا.
ويقتضي أن العدم أرجح من الوجود بالنسبة للممكن الَّذِي عدمه من غير سبب، بينما رأينا فِي تعريف الممكن تساوي الوجود والعدم بالنسبة لذاته.
فلو وجد شيء ممكن بلا سبب، أو عدم بلا سبب؛ للزم رجحان أحد المتساويين – وهما: الوجود والعدم – بلا مرجح، ولكانا بذلك غير متساويين كما مر، وفي ذَلِكَ جمع بين النقيضين - وهما: التساوي وعدم التساوي - فِي شيء واحد، واجتماع النقيضين باطل؛ فلا بد إِذًَا من السبب فِي وُجُود الممكن وعدمه.
وهذه المقدمة تكفي وحدها للرد على الْمُلْحِدِينَ، من أن هذا الذي ترونه في كون الله تبارك وتعالى، في هذا الكون الذي لا تعترفون بخالقه؛ هذا كله ليس أصيلًا في الكون؛ فإنه يوجد بعد عدم، ثم يصير إلى العدم من بعد الوجود.
أنتم ترونه.
في كل ما ترونه؛ في السحاب الذي ينشأ، ثم بعد ذلك يفنى بهطول الأمطار، فيصير ماء، إلى غير ذلك من الزروع والحيوانات والنباتات؛ بل هم أنفسهم وجدوا بعد أن لم يكونوا موجودين، ثم يصيرون حتمًا، ولا يمكن أن يدفعوا حتمية الصيرورة إلى الموت؛ فما من إنسان أبدًا إلا وهو يقر بحتمية صيرورته إلى الموت.
هذا لا يماري فيه أحد.
الكل يعلم أنه سيموت يقينًا.
فيقال لهم: من أين؟!
لقد وُجدتم بعد عدم، وتصيرون إلى العدم من بعد الوجود؛ فمن الذي أعطاكم الوجود؟!!
لا يمكن أن يقال حينئذ: هذا كان بلا سبب!!
فإنه يقال حينئذ: تناقضتم؛ لأن وجودكم من بعد العدم، وصيرورتكم إلى العدم من بعد الوجود تجعل الوجود والعدم على التساوي بالنسبة لذواتكم، فإذا رجحتم أحد المتساويين بلا مرجح؛ فمعنى ذلك أنهما ليسا بمتساويين!!
إذًا؛ لقد وقعتم في التناقض العقلي ما دمتم تُعْمِلُون عقولكم، وتنفون وجود الخالق العظيم بهذه العقول التي آتاكم الله تبارك وتعالى إياها، فجعلتموها أحذية في أقدامكم، ولم تجعلوها فيما خلقت له!!
بسط القول فِي إبطال رجحان أحد المتساويين بلا مرجح، وأن ذَلِكَ إنما كَانَ لاستلزامه اجتماع النقيضين كما مر، بسط القول فِي ذَلِكَ؛ لحاجتنا إِلَيْهِ فِي الأحكام الآتية، بحيث يكتفى فِي ذَلِكَ بما مر ذكره هنا عَنْ إعادة القول فِيه فِيما بعد.
إذًا؛ أول أحكام الممكن: حاجة الممكن إلى السبب في وجوده وعدمه.
(ب) الحكم الثاني: حدوثه «حدوث الممكن»:
كل شيء من الممكنات الموجودة حادث.
ومعنى كون الممكن حادثًا: أَنَّهُ وجد بعد أن كَانَ معدومًا، فحدوث الشيء: وُجُوده بعد عدمه؛ لأنك ستجد هذا الكلام كثير الدوران على لسان العلماء من سلفنا الصالحين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من علماءنا المتقدمين.
ستجد كلمة «الحدوث»، وأن هذه المخلوقات حادثة، وأن الحدوث وقع، إِلَى غير ذَلِكَ.
فمعنى كون الممكن حادثًا: أَنَّهُ وجد بعد أن كَانَ معدومًا، فحدوث الشيء هو وُجُوده بعد العدم.
فأنت والكتاب والقلم الَّذِي فِي يدك، والورقة التي تكتب عليها، وكل ما تراه من الأمور؛ كل هذه الأشياء حادثة؛ لِأَنَّهُا وجدت بعد أن لم تكن موجودة.
والدليل على حدوث الممكنات ينبني على مقدمة :
هذه المقدمة هي: أننا قد مر فِي الحكم السابق تقرير حاجة الممكنات إِلَى السبب فِي وُجُودها وعدمها، فلو وجد أمر ممكن ؛ فإما أن يوجد قبل وُجُود سببه.
الممكن لا بد له من سبب في وجوده، وفي عدمه.
لو وجد شيء ممكن قبل وجود سببه؛ فهذا احتمال.
أو أن يوجد مع سببه، فيوجد السبب والممكن معًا، أن يوجد الممكن بعد وُجُود السبب.
فهذه هي الاحتمالات العقلية.
الممكن يحتاج إلى سبب في وجوده – كما مر -.
هذا السبب إما أن يكون متأخرًا عن وجود الممكن الذي هو المسبَّب؛ فيكون السبب قد تأخر عن المسبَّب، وإما أن يوجد السبب والمسبَّب معًا في آنٍ واحد، وإما أن يتأخر المسبَّب – وهو الممكن – عن وجود السبب، فيوجد السبب أولًا، ثم يوجد المسبَّب بعد ذلك.
هذه الثلاثة فروض.
الفرض الأول: وهو وُجُود الشيء الممكن قبل وُجُود سببه.
هذا باطل؛ لأن الممكن محتاج إِلَى السبب فِي وُجُوده، وهذا الفرض يؤدي إِلَى تقدم الشيء المحتاج – وهو الممكن – على المحتاج إِلَيْهِ فِي الوجود – وهو السبب -، وفي ذَلِكَ إبطال لحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده ما دام قد وجد قبل سببه.
إِذًا؛ هو لا يحتاجه!! فقد وجد من دونه!!
وقد مر أن الممكن يحتاج إِلَى السبب فِي وُجُوده؛ لأن حاجة الممكن إِلَى السبب أمر ثابت بالضرورة كما مر.
فتقَدُّمُ الممكنِ على سببه بالوجود فرض باطل.
الفرض الثاني: وهو وُجُود الممكن مع وُجُود سببه مقارنًا له فِي آن واحد.
وهذا باطل أَيْضًا؛ لماذا؟
لأن وُجُود الممكن مع وُجُود سببه يستلزم تساويَهما فِي رتبة الوجود؛ فقد وجدا معًا، أي: لا يكون لأحدهما على الآخر ميزة فِي وُجُوده ما دام قد وجدا معًا فِي آن واحد، وبذَلِكَ يكون الحكم بأن أحدهما سبب فِي وُجُود الآخر، وعلة مؤثرة فِيه؛ يكون ترجيحًا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل كما مر؛ لِأَنَّهُ يستلزم كونهما غير متساويين، وذَلِكَ تناقض.
وإذا كَانَ قد بطل تقدم الممكن على سببه، وبطل مقارنته له فِي الوجود؛ صح الفرض الثالث، وهو: وُجُود الممكن بعد وُجُود سببه؛ فلا بد من تقدم الموجِد على الموجود.
لا بد من تقدم الخَالِق على المخلوق.
فهذا هو ما يراد الوصول إِلَيْهِ.
بناءً على هذه المقدمة – وهي ضرورة وُجُود الممكن بعد وُجُود سببه-؛ يقام الدليل على حدوث الممكن على النحو الآتي:
أن تقدم السبب على الممكن بالوجود يقتضي وُجُود السبب وحده أولًا؛ لأن الممكن يكون معدومًا، فِيوجد سببه أولًا من غيره؛ لِأَنَّهُ لا يمكن أن يقارنه فِي الوجود، فيوجد السبب أولًا، يكون السبب موجودًا، والممكن يكون معدومًا لا وُجُود له، ثم يوجد الممكن بعد ذَلِكَ؛ يوجِده السبب فِي وُجُوده، وعند وُجُود السبب وحده، وقبل أن يوجد الممكن؛ يكون معدومًا، أي: أن وُجُود الممكن يكون مسبوقًا بالعدم عَنْد وُجُود السبب وحده؛ فيكون حينئذ حادثًا، أي: وجد من بعد العدم؛ لأن معنى الشيء الْحَادث - كما مر - هو ما يوجد بعد عدم؛ فكل ممكن حادث؛ فالابن مثلًا يكون معدومًا عَنْد وُجُود أبيه وحده قبل أن ينجبه، ثم إِذَا أنجبه؛ كَانَ وُجُود ذَلِكَ الابن حادثًا؛ لِأَنَّهُ وجد بعد أن لم يكن، وهذا هو معنى الحدوث الثابت فِي كل أمر ممكن.
من أحكام الممكن: عدم حاجة الممكن فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي.
لكل أمر ممكن حالان: حال وُجُوده، وحال عدمه؛ لِأَنَّهُ يستوي فِي حقه الوجود والعدم.
فلكل أمر ممكن حالان: حال وُجُوده، وحال عدمه.
(أ) فالممكن الموجود لا بد له فِي وُجُوده من سبب وُجُودي أوجده، أي: لا بد من سبب موجود أوجده، فكل ما تحسه بحواسك من الكائنات الموجودة لا بد وأن يكون سببها موجودًا حتى يعطيها وُجُوده؛ لأن السبب المعدوم لا يكون مصدرًا للوجود، ففاقد الشيء – كما يقال - لا يعطيه، فالذي أعطى هذه الموجودات وُجُودها لا بد أن يكون متصفًا بالوجود.
أيعطيها الوجود وهو معدوم؟!!
فإن الذي أعطى الوجود للموجودات لا بد أن يكون موصوفًا بصفة الوجود.
(ب) الممكن المعدوم؛ لا يشترط فِيه أن يكون لعدمه سبب وُجُودي؛ لأن العدم سلب ونفي، والنفي لا يحتاج إِلَى إيجاد؛ بل يكفي فِي عدم الأمر الممكن عدم السبب فِي وُجُوده، وفي حفظ بقائه، أو عدم التأثير فِيه.
مثال ذَلِكَ: أَنَّهُ يكفي فِي ظلام حجرتك – وهو عدم النور فِيها - ألا يوجد فِيها من ينيرها، يكفي في ظلام الحجرة ألا يوجد فيها من يضيء المصباح، أو أن يوجد ولا يقومَ بإضاءتها، فينعدم تأثيره فِي إضاءتها، ولا يبقى التيار الكهربائي الحافظ لبقاء نورها.
فيمكن ألا يوجد فِي الحجرة فتبقى مظلمة، ويمكن أن يوجد وينعدم تأثيره، فلا يؤثر فِي إزالة الظلام منها، فيبقى فِي الظلام، يريد أن ينام، فيكون موجودًا؛ ومع ذَلِكَ فإنه لا يُذْهِبُ هذا الظلام، ولا يوجد النور فِي الحجرة.
عدم نور الحجرة يكفي فِيه عدمُ وُجُود أحد فِيها، أو عدم تأثيره بإضاءتها، أو عدم التيار الكهربائي الحافظ لبقاء نورها.
فالعدم لا يحتاج إلا إِلَى عدم مثله؛ وبذَلِكَ يتحقق ما مَرَّ: أن الممكن لا يحتاج فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي؛ بل يكفي فِيه السبب العدمي.
أو بتعبير آخر: يكفي فِيه عدم وُجُود سببه، أو عدم تأثير ذَلِكَ السبب فِيه، فيكون معدومًا مع وُجُود السبب الَّذِي يمكن أن يوجده؛ ولَكِنه لا يؤثر فِيه بالوجود.
هو يكون معدومًا مع وجود السبب الذي يمكن أن يوجده؛ ولكنه لا يؤثر في هذا المعدوم بالوجود؛ كالظلام الذي يكون في الحجرة، فالنور معدوم فيها.
قد تكون أنت موجودًا في الحجرة؛ ولكنك لا تؤثر فيها بإضاءة المصباح مع قدرتك على ذلك، وقد لا يوجد فيها أحد.
إذًا؛ من أحكام الممكن: عدم حاجته فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي.
من أحكام الممكن: حاجته إِلَى السبب فِي بقائه؛ فكما أن الممكن يحتاج إِلَى السبب فِي ابتداء وُجُوده؛ فهو كذَلِكَ يحتاج إِلَى السبب فِي حفظ بقائه موجودًا.
والدليل على ذَلِكَ: أن الممكن لا تقتضي ذاته الوجود أو العدم، ومن ثم؛ لا يرجح لها – أي لذاته – الوجود على العدم من حيث هي؛ بل لا بد فِي وُجُود الممكن إِذَا وجد من سبب خارجي يرجح وُجُود ذَلِكَ الممكن على عدمه، فحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده لازم من لوازم حقيقة الإمكان، لا ينفك عَنْها فِي أي حال من الأحوال طالما كَانَ موجودًا؛ سواء كَانَ فِي ابتداء وُجُوده، أو فِي بقائه؛ لِأَنَّهُ يستمد وُجُوده من غيره؛ فلا بد من استمرار سبب وُجُوده، فهو يحتاج إِلَى موجِدٍ فِي ابتداء وُجُوده.
هذا الكون كله كَانَ معدومًا، الله رب العالمين أوجده، وهو الخالق سبحانه وتعالى، فأوجد هذه المخلوقات كلها من العدم.
فهذا أمر عقلي يثبته العقل.
فالعقل يثبت أن الموجود يمكن أن يكون موجودًا من عدم - كما مر -؛ ولَكِن العقل لا يتصوره، وكما مر أننا لا نعتبر التصور عَنْد وُجُود التعقل، فنحن نتعقل الشيء فِي كثير من الأحيان، ولا نستطيع تصوره.
كان معدومًا فأوجده الله، إِذَا السبب فِي وُجُوده الَّذِي أعطاه الوجود هو الله، وهو محتاج – أي هذا الوجود – إِلَى من يمده فِي حال كونه موجودًا بالوجود طالما ظل موجودًا؛ لأن وُجُوده ليس من نفسه.
فيقال: لا؛ لأن وُجُود هذا الموجود الَّذِي كَانَ معدومًا، يستمد هذا الموجود وُجُوده ممن أوجده، ممن ابتدأ إيجاده، ثم هو بحاجة إِلَيْهِ فِي استمرار وُجُوده.
فحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده لازم من لوازم حقيقة الإمكان، لا ينفك عَنْها فِي أي حال من أحوال وجوده؛ سواء كَانَ فِي ابتداء وُجُوده، أو فِي بقائه؛ فنحن نصف أي كائن أمامنا بأنه ممكن موجود؛ لِأَنَّهُ أمامنا، إِذَا له وُجُود، فهو ممكن؛ لأنه وجد من بعد أن لم يكن موجودًا، فهو ممكن وحادث أَيْضًا، ثم هو موجود؛ فنصفه ما دام أمامنا بأنه ممكن موجود، فنحكم بحاجته إِلَى السبب عِنْد ابتداء وُجُوده؛ لأن وُجُوده لا لذاته كما مر فِي تعريف الممكن، وجوده ليس من ذاته، وإنما وُجُوده من غيره، ثم نصفه فِي اللحظة الثانية والثالثة والرابعة إِلَى آخر أوقات بقائه بأنه موجود كذَلِكَ.
ومن هنا يجب علينا أن نثبت حاجته إِلَى السبب فِي كونه موجودًا لحظة بعد أخرى - أي فِي بقائه -؛ لما مر ذكره من أن وُجُوده ليس لذاته، بل لغيره باعتباره أمرًا ممكنًا يستوي فِي حقه الوجود والعدم، فوجوده ليس من ذاته، وإنما من غيره، فأعطاه الوجود ابتداء، وهو – أي هذا الموجود – بحاجة إِلَى السبب الَّذِي أوجده فِي استمرار وُجُوده، وهو ما يراد إثباته من حاجة الممكن فِي بقائه موجودًا إِلَى السبب، كحاجته إِلَيْهِ فِي ابتداء وُجُوده.
(٣) فمن أحكام الواجب: أَنَّهُ أول أزلي.
والأول الأزلي هو: الَّذِي لا أول لوجوده، ولم يسبق وُجُوده بالعدم؛ لِأَنَّهُ لو سبق وُجُوده بالعدم لكان ممكنًا، فيكون محتاجًا إِلَى من يعطيه الوجود، ويكون هُنَالِكَ من أوجده بعد العدم
الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته من حيث هي، بمعنى أن ذاته تقتضي الوجود دائمًا بحيث لا تقبل العدم أصلًا، فإذا قلنا: إنَّهُ كَانَ معدومًا ثم وجد؛ فكيف يكون واجبًا؟!
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان وُجُوده مسبوقًا بالعدم، وذَلِكَ مستحيل على الواجب؛ لأن كل ما سبق وُجُوده بالعدم يحتاج إِلَى علة تعطيه الوجود؛ وإلا لزم رجحان المرجوح - وهو الوجود – على العدم بلا سبب، وهو محال.
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان محتاجًا فِي وُجُوده إِلَى غيره، وقد سبق أن الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته، فلا يكون الواجب واجبًا على ذَلِكَ الفرض، وهذا تناقض محال.
ويمكن أن يختصر هذا الدليل هكذا:
إنَّهُ لو لم يكن أولًا؛ لكان حادثًا مسبوقًا فِي وُجُوده بالعدم، وذَلِكَ باطل؛ لأن العدم مستحيل فِي حق الواجب، فذاته تقتضي الوجوب دائمًا ولا تقبل العدم أصلًا، وبذَلِكَ يجب أن يكون أولًا.
فهذا من أحكام الواجب.
الذي أوجد الوجود وأعطاه وجوده؛ إذا كان وجوده من غيره؛ فإن هذا يكون حينئذ مما لا يقبله العقل؛ لأنه إذا كان وجوده من غيره؛ فهو لا يستطيع ووجودُه متوقف على من يعطيه الوجود أن يعطي الوجود، وأن ينشئ ويوجد شيئًا من العدم؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يعطيه وجوده، فأعطاه الوجود بدءًا، وهو في حاجة إلى هذا الذي أوجده في استمرار وجوده – كما مر في أحكام الممكن -، فلا يكون واجبًا؛ بل يكون ممكنًا محتاجًا إلى من يوجده.
فلا بد أن يكون لا أول له، ولا آخر له؛ لأن وُجُوده لذاته من حيث هي، ليس من غيره.
الذي وُجُوده من غيره هو الممكن.
المستحيل لا وُجُود له.
العدم من لوازم ذاته.
وأما الممكن؛ فهو الَّذِي يوجد بعد العدم، فوجوده من غيره، ثم يصير إِلَى العدم من بعد الوجود، فإذا شاء من أوجده أن يفنيه؛ فني؛ لِأَنَّهُ متوقف فِي وُجُوده على من يعطيه الوجود، وهو الواجب الَّذِي يكون وُجُوده لذاته، بحيث لا تقبل ذاته العدم أصلًا.
وقد لخص الامام ابن تيمية جميع ما سبق في نقطتين :
1 – إن قبول الوجود والعدم على موجودات العالم دليل على حدوثه، فغيث ينزل، وزهر يتفتح، وطفل يولد وآخر يموت، ونجوم تنشأ وأخرى تخبو، إلى غيرها من الحوادث، وفي ذلك يقول ابن تيمية :« من المعلوم أن بعض أجزاء العالم يشاهد عدمه بعد الوجود ووجوده بعد العدم كصور الحيوان والنبات والمعدن وأنواع من الأعراض وهذا معلوم بالحس».
إنه ليس واجب الوجود بل هو ممكن الوجود لقبوله العدم
2 – الموجودات إما أن تكون كلها حادثة أو كلها قديمة أو منها الحادث والقديم، فالأول ممتنع لأن الحوادث تفتقر لمن يُحدثها، ومحدِث الموجودات لا يكون معدوما وهذا معلوم بالضرورة والثاني ممتنع أيضا لأنه خلاف المشاهد والضرورة الحسية، فلو كانت الموجودات كلها قديمة لما طرأ عليها التغير أو الفناء، فثبت إذا أن الموجودات تنقسم لقديم ومحدث، ولابد للمحدَث من محدِث قديم.
فأجزاء العالم مفتقرة لغيرها ولا يوجد منها ما هو قائم بذاته، فالشمس مفتقرة لذراتها ومفتقرة لقانون الجاذبية، وكذلك سائر الكواكب والأفلاك، والإنسان أيضا مفتقر للماء والطعام، وشرط القديم الغنى، فإذا ثبت افتقار أجزاء العالم لغيره ثبت حدوثها، وحدوث الأجزاء حدوث للكل.
المصادر
[1] : بحث في الدليل الكونى موقع اللاهوت الدفاعي .
[2] : لماذا نحن هنا ؟ اسماعيل عرفة ص 28 , 29 .
[3] : I Don't Have Enough Faith to Be an Athiest Norman L.Geisler Frank
Turek p75.
[4] : God, Chance and Necessity Keith Ward .
[5] : A CASE FOR THE EXISTENCE OF GOD DEAn L.Overmn p24, p25
الدليل العقلى:
البرهان الكوني هو برهان من الأساس منطقي بالمعنى الاصطلاحي، أي أَنَّهُ يلزم كل من يسلم بمقدماته أن يسلم بنتيجته، وهي: أن للكون خالقًا؛ وإلا ناقض نفسه.
ليس هذا فحسب؛ بل إن المقدمات التي تقود إِلَى تلك النتيجة هي مقدمات لا يسع العاقلَ إلا التصديقُ بها؛ لِأَنَّهُا إما من الْحَقائق الحسية أو من البدائه العقلية.
وها هو شكل الحجة الكونية :
1- كل حادث (أي ما خرج من العدم) يحتاج الى سبب لحدوثه
٢- العالم حادث
ستظهر معنا النتيجة التالية لازمة من المقدمتان السابقتان بحسب استدلال منطقي صحيح وهو
3- اذن فالعالم لحدوثه سبب.
يقول الغزالي بالنسبة للمقدمة الأولى انها ضرورية اولية في العقل يجب التسليم بها ، وبالتالي فإن المقدمة الأولى ، هي ليست قانون فيزيائي يطبق على الأشياء التي داخل الكون ، بل هو مبدأ ميتافيزيقي ، أي أن الأشياء لا يمكنها أن تخرج من العدم ، شيء لا يمكنه أن يوجد من عدم بلا سبب .
فمن أهم الضرورات والبديهيات العقلية التي نقصدها قانون السببية :
وقانون السببية معناه: «أنه لا شيء يحدث بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد، أي بلا شيء ما يمكنه الإفادة بتعليل قبلي لسبب وجود هذا الشيء بدلا من عدمه، ولماذا هو على هذا النحو، وليس على نحو آخر مختلف تماما، وهذا القانون تأسيسي وضروري لقيام أية معرفة إنسانية أصلا، «فالعلم بأن كل محدث لا بد له من محدث = علم فطري ضروري».
إذا قلت : إن لكل معلول علة ولكل حادث سبب. قال: إن هذه ليست حقيقة عقلية! وعندئذ فلا فائدة من النقاش، ولا يمكن بناء أية معرفة إذا كانت هذه البدهيات غير مستقرة عند المخاطب، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل».
فالعقل الإنساني عندما يصل إلى مرحلة إنكاره فإنه لا سبيل لإمكان بناء أي معرفة إنسانية على الإطلاق؛ لأنه لو كانت أبسط قواعد التفكير والمنطق منعدمة، فأين هي القاعدة التي يمكن البناء عليها بعد ذلك؟
فالحجة المبنية على بداية الكون. فإن كان للكون بداية، إذن للكون
القالب المنطقي تظهر الحجة هكذا:
1- كل حادث (أي ما خرج من العدم) يحتاج الى سبب لحدوثه
٢- العالم حادث
ستظهر معنا النتيجة التالية لازمة من المقدمتان السابقتان بحسب استدلال منطقي صحيح وهو
3- اذن فالعالم لحدوثه سبب
فلكي تكون الحجة صحيحة، لا بد أن تكون مقبولة منطقيا،
ولا بد أن تكون فرضياتها صحيحة. وهذه الحجة مقبولة منطقيا، ولكن هل المقدمات صحيحة؟
فلنلق نظرة على فرضياتها :
(1) فرضية 1: ( كل حادث يحتاج سبب لحدوثه) . هذا هو قانون السببية الذي يمثل المبدأ الأساسي للعلم. ولولا قانون السببية، لكان العلم مستحيلا.
Francis Bacon ) (The father of modern science) :
“True knowledge is knowledge by causes.”
In other words, science is a search for causes. That’s what scientists do—they try to discover what caused what].
الترجمة وقد قال فرانسيس بيكون (أبو العلم الحديث):
"المعرفة الحقيقية هي معرفة بالمسببات".
أي أن العلم هو بحث عن المسببات. وهذا ما يفعله العلماء؛ يحاولون أن يكتشفوا مسببات الأشياء والحقيقة أن إنكار قانون السببية يعني إنكار العقلانية، لأن عملية التفكير العقلاني نفسها منا أن ما الأفكار (المسببات) التي تؤدي إلى نتائج (الآثار). فإن قال لك أحد إنه لا يؤمن بقانون السببية، اسأله: ما السبب الذي وصل بك إلى تلك النتيجة؟
وفي المقابل، (کيث وارد-Keith Ward) - بروفيسور سابق في جامعة أكسفورد- يقول ردا على (آتکینز): من المستحيل أن يؤثر شي وهو بعد لم يوجد، فكيف تخلق النقطة نفسها قبل أن توجد؟! وإني لأعجب هم يفترضون لكل شيء سببا لكن إذا جاؤوا إلى أول شيء وهو أول حادث – وهو انفجار الكون - يقولون لا سبب له! إذا كانوا يرون لكل شيء سببا، ولولا السببية ما بني علم ولا أبتكرت نظرية، فكيف إذا جاؤوا إلى أهم شيء - وهو بداية الكون - يقولون: هذه النقطة التي منها انبثق الكون لا سبب لها وأوجدت نفسها بنفسها؟! .
وها هو تأكيد آخر علي أهمية وبداهة قانون السببية :
[Leibniz’s question is based on the principle of sufficient reason: No fact can exist without a sufficient reason for its existence. This principle is necessary when one considers the intelligibility of the universe. This intelligibility was the fact that most amazed Albert Einstein.science could not proceed without this intelligibility. Stephen T. Davis, professor of philosophy at Claremont College, asks us to imagine a world without a principle of sufficient reason. He notes that we would all live with the concern that dangerous animals, such as a saber-toothed tiger, could at any time pop into existence and devour us.
Even if barricaded ourselves in a protected shelter, we would find no protection, because dangerous chasms, beasts, or bombs could at any time pop into existence inside the shelter without any reason and destroy us... the scientific understanding we now have concerning the universe? why hotels, air_planes, and chemicals cannot come into existence without a cause...No one lives as if the principle of sufficient reason is false. The principle presupposes the existence of reason. When one argues against the principle, he or she begins to question the existence of reason itself. The conundrum of using reason to argue against the existence of reason appears odd if not self-defeating. The intelligibility of physical reality appears to require the principle of sufficient reason].
الترجمة : سؤال ليبنز في حديثه عن السببية يقول : لا توجد حقيقة بدون سبب كاف لوجودها. هذا المبدأ ضروري عندما ينظر المرء في وضوح الكون. هذه الوضوح كان حقيقة أن ألبرت أينشتاين أدهش.العلم لا يمكن أن يستمر بدون هذه الوضوح. ستيفن تي ديفيس، أستاذ الفلسفة في كلية كليرمونت، يسألنا أن نتخيل عالما بدون مبدأ لسبب كاف. يسأل أستاذ الفلسفة في كلية كليرمونت علينا أن نتخيل عالمًا بدون مبدأ السبب الكافي. ويشير إلى أننا سنعيش جميعًا مع القلق من أن الحيوانات الخطرة ، مثل النمر ذو الأسنان السابرة ، يمكن أن تظهر في أي وقت وتلتهمنا.
حتى لو حاصرنا أنفسنا في مأوى محمي ، فلن نجد ذلك الحماية ، لأن الصدوع أو الوحوش أو القنابل الخطرة يمكن أن تكون في أي وقت قفز إلى الوجود داخل الملجأ دون أي سبب ودمرنا... ففي ظل الفهم العلمي لدينا الآن بخصوص الكون؟ لماذا الفنادق والطيران-الطائرات والمواد الكيميائية لا يمكن أن تظهر بدون سبب ... ولكن لا احد يعيش لو أن مبدأ السبب الكافي خاطئ. المبدأ يفترض مسبقا وجود العقل. عندما يجادل المرء ضد المبدأ، فإنه يبدأ بالتشكيك في وجود العقل نفسه. إن معضلة استخدام العقل للدفاع ضد وجود العقل تبدو غريبة إن لم تكن مدمرة للذات. يبدو أن وضوح الواقع المادي يتطلب مبدأ السبب الكافي.
(2) ولكن المقدمة الثانية هي :
التي تحتاج الى اثبات وسيتم إثباتها عقليا وفلسفيا وعلميا
ولكن قبل الولوج الي المقدمة الثانية وهي اثبات حدوث العالم عقليا نريد الإجابة علي سؤال ألا وهو :
هل الخلق من العدم أمر مستحيل عقلا ؟ وللإجابة علي ذلك علينا أن نوضح بمقدمة صغيرة نبين فيها :
ما هو الفرق بين التصور والتعقل ؟
أولا : (1) هل الخلق من العدم أمر مستحيل ؟
التَّصَوُّرِ والتَّعَقُّلِ:
فالإيجادُ مِنَ العَدَمِ غيرُ مستحيلٍ عقلًا، وإنْ كَانَ الملحدُ يَجِدُهُ مُسْتَحِيلًا، ويَسْتَبْعِدُهُ، وَيَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِهِ؛ ولَكِنْ عُقُولُنا فِي مَجَالِ الأعدادِ الكبيرةِ تَكِلُّ عَنْ تصورِ حقائقَ واضحةٍ، وهذه الْحَقائقُ الواضحةُ لا تَحْتَاجُ إلا لِتَأَمُّلٍ قليلٍ وحِسَابٍ يسيرٍ مِنْ نَوْعِ الْجَمْعِ مثلًا، ويكونُ كَلَالُ العقولِ حينئذٍ غريبًا جدًا؛ حتى إنَّهُا تُمَارِي فِي النتيجةِ؛ ولو أَخْبَرَهَا بتلك النتيجةِ أصدقُ الناسِ وَأَعْلَمُهُمْ، وَتَبْقَى العقولُ عاجزةً عَنْ تَصَوُّرِ النتيجةِ؛ ولو تَوَصَّلَتْ إِلَيْهِا بنفسِها.
ألَا تَعْرِفُ أُحْجِيَّةَ الورقةِ الْمُقَطَّعَةِ؟
لو أُعْطِيتَ ورقةً رقيقةً بَالِغَةَ الرِّقَّةِ، سُمْكُها جزءٌ مِنْ مائةِ جزءٍ مِنَ الْمِلِّي مِتْر، وطُلِبَ منك أنْ تَقْطَعَهَا نِصْفَيْنِ، ثم تَقْطَعَ النصفينِ ثانيةً لِيُصْبِحَا أربعةً، ثم تَقْطَعَ الأربعةَ لِتُصْبِحَ ثمانيةً، وهكذا إِلَى أَنْ تُكَرِّرَ القَطْعَ والتضعيفَ ثمانِيَ وأربعينَ مَرَّةً.
إذا سُئِلْتَ قبل أنْ تبدأ فِي القطع، وقبل أن تَحْسُبَ: كم تتوقعُ أنْ تُصْبِحَ سَمَاكَةُ هذه الأوراقِ الرقيقةِ بعد قَطْعِهَا ثَمِانِي وأربعينَ مرةً؟
فإنك مهما بالغتَ فِي التقدير؛ لم تَقُلْ: إنَّ سُمْكَهَا يَزِيدُ على مِتْرٍ واحدٍ، أو مِتْرَيْنِ، أو ثَلَاثَةٍ.
فإذا قيل لك: إنَّ سُمْكَهَا سوف يزيدُ على عَشْرَةِ كيلو متراتٍ؛ لم تُصَدِّقْ.
وأما إِذَا قيل لك: إنك إِذَا كَرَّرْتَ القطعَ إِلَى الْمَرَّةِ الثامنةِ والأربعين، ثم جَعَلْتَ الأوراقَ الْمُقَطَّعَةَ رُكَامًا مَرْصُوصًا صاعدًا إِلَى السماءِ؛ فإنه يَلْمَسُ أو يكادُ يَلْمَسُ القمرَ الَّذِي يَبْعُدُ عَنِ الْأَرْضِ أربعةً وثمانينَ وثلاثَمِائَةِ أَلْفِ كيلو مِتْر؛ إِذَا قيل لك ذَلِكَ نَفَرْتَ، وَحَسِبْتَ القائلَ يَسْخَرُ منك، وبعد أنْ تَتَحَقَّقَ أَنتَ بنفسِكَ مِنْ ذَلِكَ بالحسابِ اليسير، لو أَرَدْتَ تَصَوُّرَه؛ فإنك سَتَجِدُ عَقْلَكَ كَلِيلَا عاجزًا عَنْ تصورِه.
خُذْ قَلَمَكَ واحْسُبْ:
ورقةٌ رقيقةٌ بَالِغَةُ الرِّقَّةِ، سُمْكُها جزءٌ مِنْ مائةِ جزءٍ مِنَ الْمِلِّي مِتْر، تَقْطَعُهَا نِصْفَيْنِ، ثم تَقْطَعُ النصفينِ ثانيةً لِيُصْبِحَا أربعةً، ثم تَقْطَعُ الأربعةَ لِتُصْبِحَ ثمانيةً، وهكذا إِلَى أَنْ تُكَرِّرَ القَطْعَ والتضعيفَ ثمانِيَ وأربعينَ مَرَّةً.
إذا جَعَلْتَ ذلك رُكَامًا مَرْصُوصًا صاعدًا إِلَى السماءِ؛ فإنه يَلْمَسُ أو يكادُ يَلْمَسُ القمر، على حسب المسافة التي بينك وبين القمر، وهي: أربعةٌ وثمانونَ وثلاثُمِائَةِ أَلْفِ كيلو مِتْر، وجرب هذا الحساب فِيما بينك وبين نفسك، والله المستعان.
إذا؛ العقل يقر ذَلِكَ ويثبته، ولا يماري فِيه؛ ولَكِن التصور لا يثبته، ويماري فِيه.
إذن؛ هُنَالِكَ فرق بين التعقل والتصور، فالإنسان قد يتعقل الشيء ويعجز فِي الوقت عينه عَنْ تصوره.
سمك هذه الورقة المقطعة يقرب من أربعة وثمانين وثلاثمائة ألف كيلو متر، حتى إنَّهُا لتكاد تلامس القمر كما مر؛ ولَكِن هل تستطيع أنت أن تتصور هذه النتيجة بعد أن صنعتها بيدك؟!
فهذه النتيجة الرياضية التي يقر بها العقل ولا يكذبها أحد لا يمكن أن يقرها التصور؛ فإنك ما تزال تشعر بعد إقرارها عقلا بكلالٍ عقلي عَنْ تصورها؛ فهل تدرك الآن أن عقولنا تكِل أحيانا عَنْ تصور حقائق كثيرة يقوم البرهان العقلي على صحتها؟
وذَلِكَ؛ لأن عقولنا خلقت عاجزة عَنْ تصور كثير من الأشياء؛ ولَكِنها تستطيع أن تحكم بوجودها عَنْ طريق البرهان العقلي القاطع؛ فالتصور غير التعقل.
هذه الشَّمْس التي تراها، العقل يثبت على حسب الحساب الدقيق الَّذِي لا يمارَى فِيه أَنَّهُا تبلغ مليون مرة مثلَ الْأَرْض، ومع ذَلِكَ فأنت تراها فِي السماء على هذا النحو، وعقلك يكل عَنْ تصور أَنَّهُا عَنْد التضعيف تزيد على مليون مرة من هذه الْأَرْض.
فإذًا؛ التصور غير التعقل، قد تستطيع تعقل شيء ولا تستطيع أن تتصوره؛ لأن التعقل يعتمد على بدهيات أولية يأخذ العقل فِي ترتيبها وتركيبها، واستنباط بعضها من بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فيصل إِلَى حكم عقلي قاطع قد لا يستطيع العقل نفسه تصوره، وهو الَّذِي وصل إِلَيْهِ.
الْعِلْم الْحَدِيث اليوم يقر هذه الْحَقيقة التي مر ذكرها عن الفرق بين إمكان تصور الشيء وإمكان تعقله.
فلا يبالي الْعِلْم الْحَدِيث بعجز العقل عَنْ التصور، ويعتمد على التعقل وحده؛ لأن الْحَقائق الْعِلْمية أصبحت فِي مجالاتها وكميتها وأعدادها فوق التصور، ولأنهم يحسبونها ويعرفونها ويحكمون عليها عَنْ طريق التعقل، لا عَنْ طريق التصور.
خذ -مثلًا- أمواج النور:
أتحسب أن الْعلماء الَّذِينَ حسَبوا أن الأمواج التي تحدث، فتحدث اللون البنفسجي تكون بسرعة ستين ألف موجة فِي البوصة؛ هم الذين أتوا بذلك الحساب، فقرروا تلك الحقيقة التي لا مجال للامتراء فيها؛ ولكن هل هَؤُلَاءِ الْعلماء الَّذِينَ قرروا تلك الْحَقيقة يستطيعون تصور هذه السرعة لو أضمدوا عيونهم وأرهقوا خيالهم؟!
كلا؛ لأن هذا العدد الهائل فِي هذه المساحة الضئيلة يعجِز العقل عَنْ تصوره؛ ولَكِن لا يعجز عَنْ تعقله –أي: عَنْ الحكم بصحته عَنْ طريق العقل-.
وقد تصل الأعداد فِي الأبحاث الذرية الْحَدِيثة إِلَى مرتبة هائلة يكون عجز العقل عَنْ تصورها أظهرَ لك.
خذ مثلًا:
إن الْعلماء يحسُبون لك أن سرعة ذبذبات الصوت قد تصل إِلَى نصف مليون ذبذبة فِي الثانية الواحدة، وهذا ثابت عَنْدهم ثبوتًا عقليًا علميًا قاطعًا لا ريب فِيه؛ ولَكِن أَتُراهم يستطيعون تصور حصول هذا العدد الهائل من الذبذبات فِي ثانية واحدة؟!
جرب أنت؛ هل تستطيع أن تتصور مهما أجهدت خيالك حصول ألف ذبذبة فِي الثانية؟! فضلًا عَنْ مائة ألف؟! فضلًا عَنْ نصف مليونِ ذبذبة فِي الثانية؟!
ولَكِنَّ هذا الشيء الَّذِي تعجز أنت والْعلماء عَنْ تصوره هو أمر واقع لا ريب فِيه؛ فبأي شيء عرفوه؟
إنهم عرفوه عَنْ طريق التعقل بالحساب.
فالآن نفهم أن التصور غير التعقل، وأن العبرة لقدرة العقل على التعقل، ولا عبرة لعجز العقل عَن التصور، وهذا معنى قول الْعلماء: إن الخلق من العدم يمكن تعقله؛ ولو كَانَ الإنسان يستبعده أو يَكِلَّ أو يعجز عَنْ تصوره.
فهذا هو المراد من أحجية الورقة المقطعة وما تلاها من هذه الأمثلة؛ من أجل أن يصل الإنسان إِلَى هذه القناعة العقلية، من أَنَّهُ يفرق بين التصور والتعقل؛ لنصل فِي النهاية إِلَى أن الخلق من العدم يمكن تعقله، ولَكِنْ العقل الإنساني مع إثباته عقلًا؛ فإنه يكل أو يعجز عَنْ تصوره؛ فلا عبرة لكلال العقل عن التصور، والعبرة بماذا؟
العبرة بإثبات ذلك بالطريقة العقلية.
فالعبرة بالتعقل، لا بالتصور.
إذن؛ الَّذِينَ يَقُولون: إننا يمكن أن نثبت عقلًا -والعقل لا ينفي ذَلِكَ- أن هذا الكون وجد من العدم.
يقولون: هذا يمكن عقلًا؛ ولَكِننا لا نتصوره.
نقول: لا عبرة لنا بتصوركم هذا.
لا نعتبره، ولا نلتفت إِلَيْهِ؛ للحقيقة التي مر ذكرها من أن العقل يثبت كثيرًا من الأمور يتعقلها، ويكل ويعجز فِي الوقت نفسه عَنْ تصورها.
أولا : الدليل العقلي علي حدوث الكون :
فأقسام المعلوم ثلاثة: المستحيل، والواجب، والممكن.
فجميع الأمور التي نعلمها أو يمكن أن يتعلق بها علمنا تنقسم من حيث النظرُ إِلَى وُجُودها إِلَى ثلاثة أقسام:
الأول: مستحيل الوجود لذاته.
الثاني: ممكن الوجود لذاته.
الثالث: واجب الوجود لذاته.
(1) تعريف المستحيل لذاته ومثاله:
بدأ ذكر المستحيل لذاته في أولها.
إذا كنا قد اعتبرنا المستحيل من قبيل الأمور المعلومة؛ فليس ذَلِكَ على سبيل الْحَقيقة، وإنما على سبيل المجاز، فكل صورة ذهنية لا بد وأن تكون صورة مطابقة لأمر موجود فِي الخارج، ولما كَانَ المستحيل لا يوجد أبدًا؛ فإنه لا يمكن أن تكون له صورة ذهنية، ولا أن يعد من الأمر المعلومة حقيقة، وإنما المراد باعتباره من الأمور المعلومة، وأنه من أقسام المعلوم: أن العقل فرض له مثالًا؛ ليتوصل بذَلِكَ الفَرْض إِلَى الحكم عليه بالاستحالة؛ لأنك لا يمكن أن تتصور فِي الأمور المعلومة أن الشيء يكون موجودًا معدومًا فِي آن، أو أن يكون متحركًا ساكنًا فِي آن، هذا ليس له وُجُود، ولا يمكن أن تفرض له صورة معلومة فِي الذهن؛ أن يكون موجودًا معدومًا في آن واحد، وأن يكون متحركًا ساكنًا في آن واحد؛ فلماذا قلنا: إنَّهُ من أقسام المعلوم؟
لأن العقل فرض له مثالًا؛ ليتوصل بذَلِكَ الفرض إِلَى الحكم عليه بالاستحالة.
فالعقل لا يتصور آلة متحركة وساكنة معًا؛ لأن الواقع لا يوجد فيه ذلك، وإنما يفرض اجتماع الحركة والسكون في آلة معينة؛ ليحكم عليه بالاستحالة.
حكم المستحيل: أَنَّهُ لا يقبل الوجود أصلًا، فالمستحيل لا يقبل الوجود أبدًا؛ بل هو معدوم بالضرورة، فاجتماع الحركة والسكون فِي شيء واحد أو فِي وقت واحد لا يوجد أبدًا.
وكذَلِكَ تقدم الابن على أبيه فِي الوجود لا يتحقق أبدًا.
والدليل على ذَلِكَ: أن العدم لازم من لوازم ذاته وماهيته، لا يفارقها؛ لأننا عرفناه - كما مر - بأنه: ما كَانَ عدمه لذاته، أي: ما تقتضي ذاته العدم دائمًا.
إذًا؛ المستحيل لا يقبل الوجود أبدًا.
وإذا كَانَ العدم لازمًا من لوازم المستحيل؛ فإن المستحيل لو فرض وُجُوده؛ للزم من ذَلِكَ مفارقة العدم له، أي: لم يكن المستحيل معدومًا، وذَلِكَ يؤدي إِلَى كونه غير مستحيل بداهة؛ لأن العدم لازم من لوازم ذاته، فإذا وجد؛ فإنه لا يكون مستحيلًا؛ لأن العدم لازم من لوازم المستحيل؛ فإذا وجد؛ فإن ذلك يؤدي إلى كونه غير مستحيل بداهة. كما تقول: إن التفكير لازم من لوازم حقيقة الإنسان، فلو انتفى لازم تلك الْحَقيقة عَنْها بأن لم يكن مفكرًا؛ لما كَانَ ذَلِكَ الإنسان إنسانًا، فلو انتفى لازم المستحيل عَنْه – وهو العدم – فأصبح موجودًا لا معدومًا؛ للزم كونه غير مستحيل، وكون المستحيل غير مستحيل على ذَلِكَ الفرض – وهو معنى سلب الماهية عَنْ نفسها – أمر باطل، فبطل ما أدى إِلَيْهِ، وهو فرض وُجُوده، وثبت أَنَّهُ لا يقبل الوجود؛ سواء أكان فِي الذهن، أو كَانَ فِي الخارج.
ومنه: وُجُود شريك لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فإن هذا مستحيل لذاته، فهو لا يوجد أبدًا.
فحكم المستحيل: أنه لا يقبل الوجود أبدًا؛ بل هو معدوم بالضرورة.
(2)وأما الممكن؛ فله أحكام:
الممكن لذاته – كما مر في تعريفه -: ما لا تقتضي ذاته وجودًا ولا عدمًا؛ بل وجوده وعدمه من غيره؛ ككل ما تراه من هذه المخلوقات السماوية والأرضية، فكل ذلك ممكن، يستوي في حقه الوجود والعدم، ووجوده وعدمه لا من نفسه، وإنما من غيره، لا من ذاته، وإنما من غيره.
فما لا تقتضي ذاته وجودًا ولا عدمًا فهو الممكن.
بناءً على هذا التعريف للممكن؛ ثبتت له الأحكام الآتية:
(أ) حاجته إِلَى السبب فِي وُجُوده وعدمه:
الشيء الممكن؛ حيوانًا، أو نباتًا، أو جمادًا يحتاج بالضرورة إِلَى سبب فِي وُجُوده إِذَا وجد، وإِلَى سبب فِي عدمه إذا كان معدومًا أصلًا، أو طرأ عليه العدم بعد الوجود.
الدليل على ذَلِكَ: أن كلًا من وُجُود الممكن وعدمه ليسا لذاته؛ بل لغيره، وأن ذاته لا تستلزم أحدهما بالضرورة دون الآخر؛ بل تارة تكون ذاته موجودة، وتارة تكون معدومة، كما سبق فِي تعريفه.
فالوجود والعدم متساويان بالنسبة لذاته فِي جوازهما عليه – أي: على الممكن -.
هذا مهم جدا؛ لأن الممكن إِذَا كَانَ وُجُوده ليس من ذاته، وكانت هذه الأشياء كلها ممكنة بمعنى أَنَّهُا حادثة، وجدت بعد أن لم تكن، وتصير إِلَى العدم بعد الوجود؛ فيأتي السؤال: فمن الَّذِي أعطاها الوجود؟! لأن وُجُودها ليس من ذاتها؛ فلا بد من أن هُنَالِكَ من أعطاها الوجود.
وهذه المقدمة مهمة جدًا فِي إثبات وُجُود الخَالِق الْعَظِيم سبحانه عَنْد مناظرة الْمُلْحِدِينَ وغيرهم من الشكاكين؛ وإلا فإننا لا نحتاج إِلَى مثل هذا؛ لأن الله جعل الفطرة الإنسانية مقرة بوجود خالقها وباريها ومنشيها؛ ولَكِن هذا كله إنما نأتي به؛ لأننا نرد على الْمُلْحِدِينَ، لأننا نرد على الماديين، على الدهريين، على الشكاكين الَّذِينَ يشككون فِي وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.
فنقول لهم: هذه أقسام المعلوم: مستحيل لذاته، واجب لذاته، ممكن لذاته.
والعقل لا يمكن أن يأتي برابع.
ثم يقال لهم: انظروا إِلَى هذا الخلق جميعِه وإِلَى أنفسكم، فأنتم وجدتم بعد أن لم تكونوا موجودين، ثم تصيرون إِلَى العدم بعد الوجود؛ فمن الَّذِي أعطاكم الوجود؟!
وكذلك هذا الخلق.
لو وجد شيء ممكن يستوي فِي حقه الوجود والعدم بلا سبب يرجح وُجُوده على عدمه؛ للزم رجحان أحد المتساويين، وهو الوجود على العدم، فيكون ترجيحًا بلا مرجح.
يعني: إِذَا وجد شيء ممكن كَانَ معدومًا فوجد، فإذا قيل: إنَّهُ وجد بلا سبب، هكذا وجد بلا سبب؛ فإننا حينئذ نقول: لقد رجحتم أحد المتساويين بلا مرجح، وهذا يرفضه العقل.
لو وجد شيء ممكن بلا سبب يرجح وجوده على عدمه؛ لأن الممكن يستوي في حقه الوجود والعدم، فلو وجد من غير سبب أوجده؛ فإننا حينئذ نكون قد رجحنا أحد المتساويين – وهو الوجود – على العدم – وهو مساوٍ له بالنسبة للممكن- رجحناه بلا مرجح، وذلك باطل؛ لِأَنَّهُ يقتضي كونهما غير متساويين، وأن الوجود أرجح من العدم؛ لِأَنَّهُ وجد بلا سبب!!
بينما فِي التعريف رأينا أن الممكن تساوى الوجودُ والعدمُ بالنسبة لذاته.
وكذَلِكَ تقول: إِذَا عدم شيء ممكن بلا سبب يرجح عدمه على وُجُوده؛ للزم رجحان أحد المتساويين – وهو العدم، فقد رجحناه على مساويه، وهو الوجود بالنسبة للممكن – بلا مرجح، وهذا باطل؛ لِأَنَّهُ يقتضي كونهما – يعني الوجود والعدم – غير متساويين؛ لأننا رجحنا أحدهما على الآخر وهما متساويان!!
فلا يمكن أن يرجح أحد المتساويين على الآخر إلا بمرجح، وهاهنا رجحنا بلا مرجح، وقلنا: هكذا! هو عدم بلا سبب!!
هكذا! وجد بلا سبب!!
فنكون قد رجحنا أحد المتساويين على الآخر، ومعنى ذلك أنهما ليسا بمتساويين؛ مع أنه مر أن الممكن يستوي في حقه الوجود والعدم، فيكون هذا ترجيحًا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهذا باطل عقلًا.
ويقتضي أن العدم أرجح من الوجود بالنسبة للممكن الَّذِي عدمه من غير سبب، بينما رأينا فِي تعريف الممكن تساوي الوجود والعدم بالنسبة لذاته.
فلو وجد شيء ممكن بلا سبب، أو عدم بلا سبب؛ للزم رجحان أحد المتساويين – وهما: الوجود والعدم – بلا مرجح، ولكانا بذلك غير متساويين كما مر، وفي ذَلِكَ جمع بين النقيضين - وهما: التساوي وعدم التساوي - فِي شيء واحد، واجتماع النقيضين باطل؛ فلا بد إِذًَا من السبب فِي وُجُود الممكن وعدمه.
وهذه المقدمة تكفي وحدها للرد على الْمُلْحِدِينَ، من أن هذا الذي ترونه في كون الله تبارك وتعالى، في هذا الكون الذي لا تعترفون بخالقه؛ هذا كله ليس أصيلًا في الكون؛ فإنه يوجد بعد عدم، ثم يصير إلى العدم من بعد الوجود.
أنتم ترونه.
في كل ما ترونه؛ في السحاب الذي ينشأ، ثم بعد ذلك يفنى بهطول الأمطار، فيصير ماء، إلى غير ذلك من الزروع والحيوانات والنباتات؛ بل هم أنفسهم وجدوا بعد أن لم يكونوا موجودين، ثم يصيرون حتمًا، ولا يمكن أن يدفعوا حتمية الصيرورة إلى الموت؛ فما من إنسان أبدًا إلا وهو يقر بحتمية صيرورته إلى الموت.
هذا لا يماري فيه أحد.
الكل يعلم أنه سيموت يقينًا.
فيقال لهم: من أين؟!
لقد وُجدتم بعد عدم، وتصيرون إلى العدم من بعد الوجود؛ فمن الذي أعطاكم الوجود؟!!
لا يمكن أن يقال حينئذ: هذا كان بلا سبب!!
فإنه يقال حينئذ: تناقضتم؛ لأن وجودكم من بعد العدم، وصيرورتكم إلى العدم من بعد الوجود تجعل الوجود والعدم على التساوي بالنسبة لذواتكم، فإذا رجحتم أحد المتساويين بلا مرجح؛ فمعنى ذلك أنهما ليسا بمتساويين!!
إذًا؛ لقد وقعتم في التناقض العقلي ما دمتم تُعْمِلُون عقولكم، وتنفون وجود الخالق العظيم بهذه العقول التي آتاكم الله تبارك وتعالى إياها، فجعلتموها أحذية في أقدامكم، ولم تجعلوها فيما خلقت له!!
بسط القول فِي إبطال رجحان أحد المتساويين بلا مرجح، وأن ذَلِكَ إنما كَانَ لاستلزامه اجتماع النقيضين كما مر، بسط القول فِي ذَلِكَ؛ لحاجتنا إِلَيْهِ فِي الأحكام الآتية، بحيث يكتفى فِي ذَلِكَ بما مر ذكره هنا عَنْ إعادة القول فِيه فِيما بعد.
إذًا؛ أول أحكام الممكن: حاجة الممكن إلى السبب في وجوده وعدمه.
(ب) الحكم الثاني: حدوثه «حدوث الممكن»:
كل شيء من الممكنات الموجودة حادث.
ومعنى كون الممكن حادثًا: أَنَّهُ وجد بعد أن كَانَ معدومًا، فحدوث الشيء: وُجُوده بعد عدمه؛ لأنك ستجد هذا الكلام كثير الدوران على لسان العلماء من سلفنا الصالحين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من علماءنا المتقدمين.
ستجد كلمة «الحدوث»، وأن هذه المخلوقات حادثة، وأن الحدوث وقع، إِلَى غير ذَلِكَ.
فمعنى كون الممكن حادثًا: أَنَّهُ وجد بعد أن كَانَ معدومًا، فحدوث الشيء هو وُجُوده بعد العدم.
فأنت والكتاب والقلم الَّذِي فِي يدك، والورقة التي تكتب عليها، وكل ما تراه من الأمور؛ كل هذه الأشياء حادثة؛ لِأَنَّهُا وجدت بعد أن لم تكن موجودة.
والدليل على حدوث الممكنات ينبني على مقدمة :
هذه المقدمة هي: أننا قد مر فِي الحكم السابق تقرير حاجة الممكنات إِلَى السبب فِي وُجُودها وعدمها، فلو وجد أمر ممكن ؛ فإما أن يوجد قبل وُجُود سببه.
الممكن لا بد له من سبب في وجوده، وفي عدمه.
لو وجد شيء ممكن قبل وجود سببه؛ فهذا احتمال.
أو أن يوجد مع سببه، فيوجد السبب والممكن معًا، أن يوجد الممكن بعد وُجُود السبب.
فهذه هي الاحتمالات العقلية.
الممكن يحتاج إلى سبب في وجوده – كما مر -.
هذا السبب إما أن يكون متأخرًا عن وجود الممكن الذي هو المسبَّب؛ فيكون السبب قد تأخر عن المسبَّب، وإما أن يوجد السبب والمسبَّب معًا في آنٍ واحد، وإما أن يتأخر المسبَّب – وهو الممكن – عن وجود السبب، فيوجد السبب أولًا، ثم يوجد المسبَّب بعد ذلك.
هذه الثلاثة فروض.
الفرض الأول: وهو وُجُود الشيء الممكن قبل وُجُود سببه.
هذا باطل؛ لأن الممكن محتاج إِلَى السبب فِي وُجُوده، وهذا الفرض يؤدي إِلَى تقدم الشيء المحتاج – وهو الممكن – على المحتاج إِلَيْهِ فِي الوجود – وهو السبب -، وفي ذَلِكَ إبطال لحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده ما دام قد وجد قبل سببه.
إِذًا؛ هو لا يحتاجه!! فقد وجد من دونه!!
وقد مر أن الممكن يحتاج إِلَى السبب فِي وُجُوده؛ لأن حاجة الممكن إِلَى السبب أمر ثابت بالضرورة كما مر.
فتقَدُّمُ الممكنِ على سببه بالوجود فرض باطل.
الفرض الثاني: وهو وُجُود الممكن مع وُجُود سببه مقارنًا له فِي آن واحد.
وهذا باطل أَيْضًا؛ لماذا؟
لأن وُجُود الممكن مع وُجُود سببه يستلزم تساويَهما فِي رتبة الوجود؛ فقد وجدا معًا، أي: لا يكون لأحدهما على الآخر ميزة فِي وُجُوده ما دام قد وجدا معًا فِي آن واحد، وبذَلِكَ يكون الحكم بأن أحدهما سبب فِي وُجُود الآخر، وعلة مؤثرة فِيه؛ يكون ترجيحًا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل كما مر؛ لِأَنَّهُ يستلزم كونهما غير متساويين، وذَلِكَ تناقض.
وإذا كَانَ قد بطل تقدم الممكن على سببه، وبطل مقارنته له فِي الوجود؛ صح الفرض الثالث، وهو: وُجُود الممكن بعد وُجُود سببه؛ فلا بد من تقدم الموجِد على الموجود.
لا بد من تقدم الخَالِق على المخلوق.
فهذا هو ما يراد الوصول إِلَيْهِ.
بناءً على هذه المقدمة – وهي ضرورة وُجُود الممكن بعد وُجُود سببه-؛ يقام الدليل على حدوث الممكن على النحو الآتي:
أن تقدم السبب على الممكن بالوجود يقتضي وُجُود السبب وحده أولًا؛ لأن الممكن يكون معدومًا، فِيوجد سببه أولًا من غيره؛ لِأَنَّهُ لا يمكن أن يقارنه فِي الوجود، فيوجد السبب أولًا، يكون السبب موجودًا، والممكن يكون معدومًا لا وُجُود له، ثم يوجد الممكن بعد ذَلِكَ؛ يوجِده السبب فِي وُجُوده، وعند وُجُود السبب وحده، وقبل أن يوجد الممكن؛ يكون معدومًا، أي: أن وُجُود الممكن يكون مسبوقًا بالعدم عَنْد وُجُود السبب وحده؛ فيكون حينئذ حادثًا، أي: وجد من بعد العدم؛ لأن معنى الشيء الْحَادث - كما مر - هو ما يوجد بعد عدم؛ فكل ممكن حادث؛ فالابن مثلًا يكون معدومًا عَنْد وُجُود أبيه وحده قبل أن ينجبه، ثم إِذَا أنجبه؛ كَانَ وُجُود ذَلِكَ الابن حادثًا؛ لِأَنَّهُ وجد بعد أن لم يكن، وهذا هو معنى الحدوث الثابت فِي كل أمر ممكن.
من أحكام الممكن: عدم حاجة الممكن فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي.
لكل أمر ممكن حالان: حال وُجُوده، وحال عدمه؛ لِأَنَّهُ يستوي فِي حقه الوجود والعدم.
فلكل أمر ممكن حالان: حال وُجُوده، وحال عدمه.
(أ) فالممكن الموجود لا بد له فِي وُجُوده من سبب وُجُودي أوجده، أي: لا بد من سبب موجود أوجده، فكل ما تحسه بحواسك من الكائنات الموجودة لا بد وأن يكون سببها موجودًا حتى يعطيها وُجُوده؛ لأن السبب المعدوم لا يكون مصدرًا للوجود، ففاقد الشيء – كما يقال - لا يعطيه، فالذي أعطى هذه الموجودات وُجُودها لا بد أن يكون متصفًا بالوجود.
أيعطيها الوجود وهو معدوم؟!!
فإن الذي أعطى الوجود للموجودات لا بد أن يكون موصوفًا بصفة الوجود.
(ب) الممكن المعدوم؛ لا يشترط فِيه أن يكون لعدمه سبب وُجُودي؛ لأن العدم سلب ونفي، والنفي لا يحتاج إِلَى إيجاد؛ بل يكفي فِي عدم الأمر الممكن عدم السبب فِي وُجُوده، وفي حفظ بقائه، أو عدم التأثير فِيه.
مثال ذَلِكَ: أَنَّهُ يكفي فِي ظلام حجرتك – وهو عدم النور فِيها - ألا يوجد فِيها من ينيرها، يكفي في ظلام الحجرة ألا يوجد فيها من يضيء المصباح، أو أن يوجد ولا يقومَ بإضاءتها، فينعدم تأثيره فِي إضاءتها، ولا يبقى التيار الكهربائي الحافظ لبقاء نورها.
فيمكن ألا يوجد فِي الحجرة فتبقى مظلمة، ويمكن أن يوجد وينعدم تأثيره، فلا يؤثر فِي إزالة الظلام منها، فيبقى فِي الظلام، يريد أن ينام، فيكون موجودًا؛ ومع ذَلِكَ فإنه لا يُذْهِبُ هذا الظلام، ولا يوجد النور فِي الحجرة.
عدم نور الحجرة يكفي فِيه عدمُ وُجُود أحد فِيها، أو عدم تأثيره بإضاءتها، أو عدم التيار الكهربائي الحافظ لبقاء نورها.
فالعدم لا يحتاج إلا إِلَى عدم مثله؛ وبذَلِكَ يتحقق ما مَرَّ: أن الممكن لا يحتاج فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي؛ بل يكفي فِيه السبب العدمي.
أو بتعبير آخر: يكفي فِيه عدم وُجُود سببه، أو عدم تأثير ذَلِكَ السبب فِيه، فيكون معدومًا مع وُجُود السبب الَّذِي يمكن أن يوجده؛ ولَكِنه لا يؤثر فِيه بالوجود.
هو يكون معدومًا مع وجود السبب الذي يمكن أن يوجده؛ ولكنه لا يؤثر في هذا المعدوم بالوجود؛ كالظلام الذي يكون في الحجرة، فالنور معدوم فيها.
قد تكون أنت موجودًا في الحجرة؛ ولكنك لا تؤثر فيها بإضاءة المصباح مع قدرتك على ذلك، وقد لا يوجد فيها أحد.
إذًا؛ من أحكام الممكن: عدم حاجته فِي عدمه إِلَى سبب وُجُودي.
من أحكام الممكن: حاجته إِلَى السبب فِي بقائه؛ فكما أن الممكن يحتاج إِلَى السبب فِي ابتداء وُجُوده؛ فهو كذَلِكَ يحتاج إِلَى السبب فِي حفظ بقائه موجودًا.
والدليل على ذَلِكَ: أن الممكن لا تقتضي ذاته الوجود أو العدم، ومن ثم؛ لا يرجح لها – أي لذاته – الوجود على العدم من حيث هي؛ بل لا بد فِي وُجُود الممكن إِذَا وجد من سبب خارجي يرجح وُجُود ذَلِكَ الممكن على عدمه، فحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده لازم من لوازم حقيقة الإمكان، لا ينفك عَنْها فِي أي حال من الأحوال طالما كَانَ موجودًا؛ سواء كَانَ فِي ابتداء وُجُوده، أو فِي بقائه؛ لِأَنَّهُ يستمد وُجُوده من غيره؛ فلا بد من استمرار سبب وُجُوده، فهو يحتاج إِلَى موجِدٍ فِي ابتداء وُجُوده.
هذا الكون كله كَانَ معدومًا، الله رب العالمين أوجده، وهو الخالق سبحانه وتعالى، فأوجد هذه المخلوقات كلها من العدم.
فهذا أمر عقلي يثبته العقل.
فالعقل يثبت أن الموجود يمكن أن يكون موجودًا من عدم - كما مر -؛ ولَكِن العقل لا يتصوره، وكما مر أننا لا نعتبر التصور عَنْد وُجُود التعقل، فنحن نتعقل الشيء فِي كثير من الأحيان، ولا نستطيع تصوره.
كان معدومًا فأوجده الله، إِذَا السبب فِي وُجُوده الَّذِي أعطاه الوجود هو الله، وهو محتاج – أي هذا الوجود – إِلَى من يمده فِي حال كونه موجودًا بالوجود طالما ظل موجودًا؛ لأن وُجُوده ليس من نفسه.
فيقال: لا؛ لأن وُجُود هذا الموجود الَّذِي كَانَ معدومًا، يستمد هذا الموجود وُجُوده ممن أوجده، ممن ابتدأ إيجاده، ثم هو بحاجة إِلَيْهِ فِي استمرار وُجُوده.
فحاجة الممكن إِلَى السبب فِي وُجُوده لازم من لوازم حقيقة الإمكان، لا ينفك عَنْها فِي أي حال من أحوال وجوده؛ سواء كَانَ فِي ابتداء وُجُوده، أو فِي بقائه؛ فنحن نصف أي كائن أمامنا بأنه ممكن موجود؛ لِأَنَّهُ أمامنا، إِذَا له وُجُود، فهو ممكن؛ لأنه وجد من بعد أن لم يكن موجودًا، فهو ممكن وحادث أَيْضًا، ثم هو موجود؛ فنصفه ما دام أمامنا بأنه ممكن موجود، فنحكم بحاجته إِلَى السبب عِنْد ابتداء وُجُوده؛ لأن وُجُوده لا لذاته كما مر فِي تعريف الممكن، وجوده ليس من ذاته، وإنما وُجُوده من غيره، ثم نصفه فِي اللحظة الثانية والثالثة والرابعة إِلَى آخر أوقات بقائه بأنه موجود كذَلِكَ.
ومن هنا يجب علينا أن نثبت حاجته إِلَى السبب فِي كونه موجودًا لحظة بعد أخرى - أي فِي بقائه -؛ لما مر ذكره من أن وُجُوده ليس لذاته، بل لغيره باعتباره أمرًا ممكنًا يستوي فِي حقه الوجود والعدم، فوجوده ليس من ذاته، وإنما من غيره، فأعطاه الوجود ابتداء، وهو – أي هذا الموجود – بحاجة إِلَى السبب الَّذِي أوجده فِي استمرار وُجُوده، وهو ما يراد إثباته من حاجة الممكن فِي بقائه موجودًا إِلَى السبب، كحاجته إِلَيْهِ فِي ابتداء وُجُوده.
(٣) فمن أحكام الواجب: أَنَّهُ أول أزلي.
والأول الأزلي هو: الَّذِي لا أول لوجوده، ولم يسبق وُجُوده بالعدم؛ لِأَنَّهُ لو سبق وُجُوده بالعدم لكان ممكنًا، فيكون محتاجًا إِلَى من يعطيه الوجود، ويكون هُنَالِكَ من أوجده بعد العدم
الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته من حيث هي، بمعنى أن ذاته تقتضي الوجود دائمًا بحيث لا تقبل العدم أصلًا، فإذا قلنا: إنَّهُ كَانَ معدومًا ثم وجد؛ فكيف يكون واجبًا؟!
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان وُجُوده مسبوقًا بالعدم، وذَلِكَ مستحيل على الواجب؛ لأن كل ما سبق وُجُوده بالعدم يحتاج إِلَى علة تعطيه الوجود؛ وإلا لزم رجحان المرجوح - وهو الوجود – على العدم بلا سبب، وهو محال.
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان محتاجًا فِي وُجُوده إِلَى غيره، وقد سبق أن الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته، فلا يكون الواجب واجبًا على ذَلِكَ الفرض، وهذا تناقض محال.
ويمكن أن يختصر هذا الدليل هكذا:
إنَّهُ لو لم يكن أولًا؛ لكان حادثًا مسبوقًا فِي وُجُوده بالعدم، وذَلِكَ باطل؛ لأن العدم مستحيل فِي حق الواجب، فذاته تقتضي الوجوب دائمًا ولا تقبل العدم أصلًا، وبذَلِكَ يجب أن يكون أولًا.
فهذا من أحكام الواجب.
الذي أوجد الوجود وأعطاه وجوده؛ إذا كان وجوده من غيره؛ فإن هذا يكون حينئذ مما لا يقبله العقل؛ لأنه إذا كان وجوده من غيره؛ فهو لا يستطيع ووجودُه متوقف على من يعطيه الوجود أن يعطي الوجود، وأن ينشئ ويوجد شيئًا من العدم؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يعطيه وجوده، فأعطاه الوجود بدءًا، وهو في حاجة إلى هذا الذي أوجده في استمرار وجوده – كما مر في أحكام الممكن -، فلا يكون واجبًا؛ بل يكون ممكنًا محتاجًا إلى من يوجده.
فلا بد أن يكون لا أول له، ولا آخر له؛ لأن وُجُوده لذاته من حيث هي، ليس من غيره.
الذي وُجُوده من غيره هو الممكن.
المستحيل لا وُجُود له.
العدم من لوازم ذاته.
وأما الممكن؛ فهو الَّذِي يوجد بعد العدم، فوجوده من غيره، ثم يصير إِلَى العدم من بعد الوجود، فإذا شاء من أوجده أن يفنيه؛ فني؛ لِأَنَّهُ متوقف فِي وُجُوده على من يعطيه الوجود، وهو الواجب الَّذِي يكون وُجُوده لذاته، بحيث لا تقبل ذاته العدم أصلًا.
وقد لخص الامام ابن تيمية جميع ما سبق في نقطتين :
1 – إن قبول الوجود والعدم على موجودات العالم دليل على حدوثه، فغيث ينزل، وزهر يتفتح، وطفل يولد وآخر يموت، ونجوم تنشأ وأخرى تخبو، إلى غيرها من الحوادث، وفي ذلك يقول ابن تيمية :« من المعلوم أن بعض أجزاء العالم يشاهد عدمه بعد الوجود ووجوده بعد العدم كصور الحيوان والنبات والمعدن وأنواع من الأعراض وهذا معلوم بالحس».
إنه ليس واجب الوجود بل هو ممكن الوجود لقبوله العدم
2 – الموجودات إما أن تكون كلها حادثة أو كلها قديمة أو منها الحادث والقديم، فالأول ممتنع لأن الحوادث تفتقر لمن يُحدثها، ومحدِث الموجودات لا يكون معدوما وهذا معلوم بالضرورة والثاني ممتنع أيضا لأنه خلاف المشاهد والضرورة الحسية، فلو كانت الموجودات كلها قديمة لما طرأ عليها التغير أو الفناء، فثبت إذا أن الموجودات تنقسم لقديم ومحدث، ولابد للمحدَث من محدِث قديم.
فأجزاء العالم مفتقرة لغيرها ولا يوجد منها ما هو قائم بذاته، فالشمس مفتقرة لذراتها ومفتقرة لقانون الجاذبية، وكذلك سائر الكواكب والأفلاك، والإنسان أيضا مفتقر للماء والطعام، وشرط القديم الغنى، فإذا ثبت افتقار أجزاء العالم لغيره ثبت حدوثها، وحدوث الأجزاء حدوث للكل.
المصادر
[1] : بحث في الدليل الكونى موقع اللاهوت الدفاعي .
[2] : لماذا نحن هنا ؟ اسماعيل عرفة ص 28 , 29 .
[3] : I Don't Have Enough Faith to Be an Athiest Norman L.Geisler Frank
Turek p75.
[4] : God, Chance and Necessity Keith Ward .
[5] : A CASE FOR THE EXISTENCE OF GOD DEAn L.Overmn p24, p25