سلسلة نقد المذهب الربوبي (24):
الطرح الأخير لماذا ختمت النبوّة؟
في مقام الإجابة :
اولا : بلوغ النبوّة لكمالها/انتهاء مرحلة بعثة الأنبياء :
سبب ختم النبوّة عائد إلى أنّ البشريّة وبُعيد عصر النبي عيسى عليه السلام وصولاً إلى المرحلة الزمنيّة التي أُرسل فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قد دخلت في منعطف جديد من تاريخها الحضاري، حيث وصلت إلى مستوى متقدم من المعرفة والنشاط العقلي، الأمر
الذي تقلُّ أو تنتفي معه الحاجة إلى الأنبياء والرسل،ومن الطبيعي فإنّ علينا أن لا ننظر إلى المشهد من خلال ما كان عليه العرب أو غيرهم من المنقطعين عن المدنيّة والحضارة، وإنّما علينا النظر إلى المشهد العالمي بشكل عام،
ويدخل في ذلك ممالك الروم والفرس وسواها، وذلك لأنّ القرآن الكريم لم يكن موجهاً للعرب وحدهم، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول العرب فحسب، بل هو للبشرية جمعاء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
إنّ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد حجزت للعقل مكانة كبيرة فيها، ولهذا زخرت نصوصها بتمجيد العقل والتفكر والتأمل. ودعت إلى إطلاق سراح العقل وتحريره من كل القيود التي تكبّله، وحثّت على تفعيل مبدأ التفكر ليس في اكتشاف الكون فحسب، بل وفي التعرّف على الله تعالى وفي التأمل والتدبر في آيات الكتاب.
إنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في إثبات رسالته ونبوته كانت معجزته هي القرآن الكريم في بلاغته ومضامينه العالية والعميقة والمتجددة مع الزمان.
إنّ ذلك وغيره يشهد على هذا التطور التدريجي الجوهري الذي شهدته البشرية حتى وصلت إلى مرحلة زمنية تستغني معها عن تدخل الوحي في حياة الإنسان اليومية، وهكذا دشنت الرسالة الإسلامية عهداً جديداً في تاريخ الرسالات السماوية، إنّه عهد انطلاق عجلة العقل.
فالعقل البشري مهما سما ونبغ
واكتمل فإنّه لن يكون معصوماً عن الخطأ والضلال، ولا محصناً ضدّ النقص والانحراف، بل هو على الدوام محفوفٌ بالأهواء وقد تغلبه الشهوات والمطامع، فينزلق إلى الإضرار بالآخرين وتدمير الحياة؛ ولهذا فهو يظلُّ محتاجاً إلى هداية الوحي وتسديده ولا يستغني عمّن ينبهه من الغفلة ويوقظه من السبات، ويرسم له المسار الصحيح، ويضع له الرؤية الصائبة. وليس ثمّة مَنْ هو أولى بهذا الأمر مِنْ خالقه عزّ وجلّ بذلك، فهو الأعلم بما يصلحه، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ ألا ترى أنّ صانع الآلة (جهاز الكمبيوتر مثلاً) هو الأعرف بخفاياها ونقاط ضعفها وقوتها، فيكون الأقدر على إصلاحها، كذلك هو الله تعالى، فبحكم أنّه الخالق والمدبر فهو العالم والخبير بما يصلح الناس وما يفسدهم. وعليه فالإنسان بحاجة مستمرةٍ إلى التسديد الإلهي وهداية الوحي بما يعضد عمل العقل وينبهه من الغفلة.
باختصار: إنّ الحياة الإنسانية لا يمكنها أن تتحرك بعجلة واحدة، وإنما تحتاج - كما هو الحال في بعض المركبات الآلية - إلى عجلتين تكمل إحداهما الأخرى وهما: عجلة العقل المبدع، وعجلة الوحي الملهمة والمسدد.
2- استمرار النبوّة من خلال الرسالة الخالدة
إنّ الأمر الذي لا يُنكر أنّ البشريّة قد قطعت أشواطاً كبيرة في رحلة التكامل والخروج من حياة البداوة الفكريّة والاجتماعية، وبلغت مرحلة متقدمة نسبياً من النضج العقلي والتقدّم المعرفي والنمو الثقافي والاجتماعي والعلمي؛ وذلك بفعل تراكم الخبرات والتجارب وتنامي
المعارف وتلاقح الحضارات. ولا شكّ أنّ للأنبياء دورًا أساسيًا وكبيرًا في ذلك كله، فقد أسهمت النبوّة في تعليم الإنسان وتربيته وتهذيبه ووضعه في هذا المسار التكاملي المتنامي. وقد شاءت الحكمة الإلهية أن تواكب النبوات هذا التطور التدريجي فكان لكل مرحلة تاريخية نبيّها الذي يقوم بدور الدليل والهادي والمربي، وكان لها رسالتها التي تشكّل مصباحاً للهداية ودستوراً للعمل. وهذا النمو والنضوج الذي بلغته الإنسانية في مرحلتها الأخيرة، احتاج إلى رسالة دينيّة نوعيّة ومتميّزة، في شكلها ومضمونها، وفي شخص حامل الرسالة، وما يتحلّى به من
مواصفات، فالوحي هو عبارة عن رسالة سماويّة من نوع خاص، رسالة ذات نصّ ديني مرجعي يتلاءم وهذا المستوى من النضج العقلي والمعرفي الذي وصلته الإنسانية، وما سيؤول إليه حالها في مستقبل الأيام وما قد تواجهه من متغيرات. وملاءمة هذا النص لذلك هو ما حتّم أن يكون نصّاً متميّزاً بخصوصيّة أو خصوصيات لا نظير لها في كل النصوص الدينيّة السابقة، بما يمنحُه قدرةً على مواكبة تغيرات الحياة ومستجداتها، بحيث تقل أو تنتفي معه الحاجة إلى رسالة جديدة، وهذا النص هو القرآن الكريم. وأما الخصوصيّات التي تُميِّزُ النص القرآني خصوصاً والرسالة الإسلامية عموماً، فيمكن بيانها من خلال ما يلي:
الخصوصية الأولى: أنّنا أمام نصٍّ يعطي العقل مكانة عالية، ويمنحه حيزاً كبيراً ليس في اكتشاف الكون ومجاهيله فحسب، بل في فهم النصّ نفسه وسبر أغواره - وهي القرآن الكريم - معجزة تعتمد على التفكير العقلي.
والحقيقة إنّ مقارنةً سريعةً بين تجربة المسلمين التاريخية وتجربة غيرهم من أتباع سائر الرسالات السماوية، تؤكد القيمة الكبيرة التي أولتها الرسالة الإسلامية الخاتمة للعقل، حيث لم يُعهد أنّ شريعةً من الشرائع السّماوية التي سبقت الإسلام، اعتمدت العقل في إيمانها وتدينها وبنائها العقدي، كما هو الحال في الإسلام، فنجد أنّ الإسلام قد انحاز للعقل وندد بالذين لا يستخدمون عقولهم وطاقاتهم أو حواسهم، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وبنى منظومته الإيمانيّة والعقدية على أساس المنطق والبرهان، ولسان حاله ومقاله دوماً: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. فالعقل هو الحجّة بين الله وعباده، وهو دليل معرفة الله ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته... كما أنّه دليل إثبات النبوّة ويوم المعاد... إلى غير ذلك من العقائد.
باختصار: لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليدرك ويكتشف انتصار القرآن للعقل والتعقّل، فالآيات التي تمتدح عمل العقل كثيرة، من قبيل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، أو قوله حكايةً عن أهل النّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وإننا لا نرى أي تنافٍ بين المرجعيتين (مرجعية العقل ومرجعية الوحي) بل إنّ إحداهما تكمّل الأخرى، فإنّ العقل بدوره يحتاج إلى الوحي في تحسين ظروف عمله وترشيده، وإزالة العوائق من أمامه. وقد
مثّل بعضهم لهذه الحاجة المتبادلة بين العقل والوحي بمثالٍ لطيف، وحاصله: إنّ العقل كالسِّراج، والشرع كالزيت يمدّه، فما لم يكن زيت لم يشعل السِّراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وأيضاً العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولا ينفع البصر ما لم يكن شعاعٌ من خارج،
ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر.
الخصوصية الثانية: إنّ القرآن الكريم يتصفُ بأنه يمكنه من مواكبة المتغيرات يعدّ دليلاً قوياً على مرونة الرسالة الخاتمة، والدليل هو أنّ هذه الرسالة قد تضمنت قواعد شرعيّة مستفادة من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تمنحها قدرة عالية على المواكبة والتطوير وتجديد نفسها بنفسها، ومن أشهر هذه القواعد ، وأهمّ هذه القواعد : قاعدتا نفي الحرج ونفي الضرر، المستفادتان من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وعن رسول الله «لا ضرر ولا ضرار» . على ضوء هاتين القاعدتين، فكل حكم من أحكام الشريعة يغدو لسبب أو لآخر موجباً للعسر والحرج أو الضرر فإنه يرتفع
ويسقط، وخذه الخصوصية وإلى غيرها من الخصائص التي تميّز الشريعة الإسلامية .
وبذلك يقوم الأمر على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: أنّ النصّ القرآني يتّسم بالإحكام والإتقان، والشمولية والعمق، والمرونة والحيوية، بما لا يتوفّر في أيّ نصّ آخر ، يمكّن المفسّرين من أن يتعمّقوا في معاني وعليه، فالكلام الإلهي، بما أنّه صادرٌ عن العليم الخبير الذي {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، فهو كنزٌ لا ينفد، ونبعٌ لا ينقطع، ونورٌ لا يخبو.
الركيزة الثانية: إنّ الاستلهام من هدي القرآن، والاغتراف من معينه، والتعرّف إلى مضامينه، يتفاوت تبعاً لتفاوت أفهام النّاس واختلاف مداركهم ، فكلّ يغترف حسب طاقته، ويستقي مقدار ما يسع إناؤه، قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، وكلّما تدبّر الإنسان في النصّ القرآني، استزاد واستفاد أكثر، وانفتحت أمامه آفاقٌ جديدة، وكلّما قرأه قراءةً واعيةً في ضوء المعطيات الواقعية، يجد إأنّه هناك علاقةً وطيدةً بين النصّ والواقع، وكما أنّ المعرفة بالنصّ تضيء الواقع وتوجّهه، ما يسمح بالاستزادة المستمرة من معينه وهديه.
الطرح الأخير لماذا ختمت النبوّة؟
في مقام الإجابة :
اولا : بلوغ النبوّة لكمالها/انتهاء مرحلة بعثة الأنبياء :
سبب ختم النبوّة عائد إلى أنّ البشريّة وبُعيد عصر النبي عيسى عليه السلام وصولاً إلى المرحلة الزمنيّة التي أُرسل فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قد دخلت في منعطف جديد من تاريخها الحضاري، حيث وصلت إلى مستوى متقدم من المعرفة والنشاط العقلي، الأمر
الذي تقلُّ أو تنتفي معه الحاجة إلى الأنبياء والرسل،ومن الطبيعي فإنّ علينا أن لا ننظر إلى المشهد من خلال ما كان عليه العرب أو غيرهم من المنقطعين عن المدنيّة والحضارة، وإنّما علينا النظر إلى المشهد العالمي بشكل عام،
ويدخل في ذلك ممالك الروم والفرس وسواها، وذلك لأنّ القرآن الكريم لم يكن موجهاً للعرب وحدهم، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول العرب فحسب، بل هو للبشرية جمعاء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
إنّ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد حجزت للعقل مكانة كبيرة فيها، ولهذا زخرت نصوصها بتمجيد العقل والتفكر والتأمل. ودعت إلى إطلاق سراح العقل وتحريره من كل القيود التي تكبّله، وحثّت على تفعيل مبدأ التفكر ليس في اكتشاف الكون فحسب، بل وفي التعرّف على الله تعالى وفي التأمل والتدبر في آيات الكتاب.
إنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في إثبات رسالته ونبوته كانت معجزته هي القرآن الكريم في بلاغته ومضامينه العالية والعميقة والمتجددة مع الزمان.
إنّ ذلك وغيره يشهد على هذا التطور التدريجي الجوهري الذي شهدته البشرية حتى وصلت إلى مرحلة زمنية تستغني معها عن تدخل الوحي في حياة الإنسان اليومية، وهكذا دشنت الرسالة الإسلامية عهداً جديداً في تاريخ الرسالات السماوية، إنّه عهد انطلاق عجلة العقل.
فالعقل البشري مهما سما ونبغ
واكتمل فإنّه لن يكون معصوماً عن الخطأ والضلال، ولا محصناً ضدّ النقص والانحراف، بل هو على الدوام محفوفٌ بالأهواء وقد تغلبه الشهوات والمطامع، فينزلق إلى الإضرار بالآخرين وتدمير الحياة؛ ولهذا فهو يظلُّ محتاجاً إلى هداية الوحي وتسديده ولا يستغني عمّن ينبهه من الغفلة ويوقظه من السبات، ويرسم له المسار الصحيح، ويضع له الرؤية الصائبة. وليس ثمّة مَنْ هو أولى بهذا الأمر مِنْ خالقه عزّ وجلّ بذلك، فهو الأعلم بما يصلحه، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ ألا ترى أنّ صانع الآلة (جهاز الكمبيوتر مثلاً) هو الأعرف بخفاياها ونقاط ضعفها وقوتها، فيكون الأقدر على إصلاحها، كذلك هو الله تعالى، فبحكم أنّه الخالق والمدبر فهو العالم والخبير بما يصلح الناس وما يفسدهم. وعليه فالإنسان بحاجة مستمرةٍ إلى التسديد الإلهي وهداية الوحي بما يعضد عمل العقل وينبهه من الغفلة.
باختصار: إنّ الحياة الإنسانية لا يمكنها أن تتحرك بعجلة واحدة، وإنما تحتاج - كما هو الحال في بعض المركبات الآلية - إلى عجلتين تكمل إحداهما الأخرى وهما: عجلة العقل المبدع، وعجلة الوحي الملهمة والمسدد.
2- استمرار النبوّة من خلال الرسالة الخالدة
إنّ الأمر الذي لا يُنكر أنّ البشريّة قد قطعت أشواطاً كبيرة في رحلة التكامل والخروج من حياة البداوة الفكريّة والاجتماعية، وبلغت مرحلة متقدمة نسبياً من النضج العقلي والتقدّم المعرفي والنمو الثقافي والاجتماعي والعلمي؛ وذلك بفعل تراكم الخبرات والتجارب وتنامي
المعارف وتلاقح الحضارات. ولا شكّ أنّ للأنبياء دورًا أساسيًا وكبيرًا في ذلك كله، فقد أسهمت النبوّة في تعليم الإنسان وتربيته وتهذيبه ووضعه في هذا المسار التكاملي المتنامي. وقد شاءت الحكمة الإلهية أن تواكب النبوات هذا التطور التدريجي فكان لكل مرحلة تاريخية نبيّها الذي يقوم بدور الدليل والهادي والمربي، وكان لها رسالتها التي تشكّل مصباحاً للهداية ودستوراً للعمل. وهذا النمو والنضوج الذي بلغته الإنسانية في مرحلتها الأخيرة، احتاج إلى رسالة دينيّة نوعيّة ومتميّزة، في شكلها ومضمونها، وفي شخص حامل الرسالة، وما يتحلّى به من
مواصفات، فالوحي هو عبارة عن رسالة سماويّة من نوع خاص، رسالة ذات نصّ ديني مرجعي يتلاءم وهذا المستوى من النضج العقلي والمعرفي الذي وصلته الإنسانية، وما سيؤول إليه حالها في مستقبل الأيام وما قد تواجهه من متغيرات. وملاءمة هذا النص لذلك هو ما حتّم أن يكون نصّاً متميّزاً بخصوصيّة أو خصوصيات لا نظير لها في كل النصوص الدينيّة السابقة، بما يمنحُه قدرةً على مواكبة تغيرات الحياة ومستجداتها، بحيث تقل أو تنتفي معه الحاجة إلى رسالة جديدة، وهذا النص هو القرآن الكريم. وأما الخصوصيّات التي تُميِّزُ النص القرآني خصوصاً والرسالة الإسلامية عموماً، فيمكن بيانها من خلال ما يلي:
الخصوصية الأولى: أنّنا أمام نصٍّ يعطي العقل مكانة عالية، ويمنحه حيزاً كبيراً ليس في اكتشاف الكون ومجاهيله فحسب، بل في فهم النصّ نفسه وسبر أغواره - وهي القرآن الكريم - معجزة تعتمد على التفكير العقلي.
والحقيقة إنّ مقارنةً سريعةً بين تجربة المسلمين التاريخية وتجربة غيرهم من أتباع سائر الرسالات السماوية، تؤكد القيمة الكبيرة التي أولتها الرسالة الإسلامية الخاتمة للعقل، حيث لم يُعهد أنّ شريعةً من الشرائع السّماوية التي سبقت الإسلام، اعتمدت العقل في إيمانها وتدينها وبنائها العقدي، كما هو الحال في الإسلام، فنجد أنّ الإسلام قد انحاز للعقل وندد بالذين لا يستخدمون عقولهم وطاقاتهم أو حواسهم، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وبنى منظومته الإيمانيّة والعقدية على أساس المنطق والبرهان، ولسان حاله ومقاله دوماً: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. فالعقل هو الحجّة بين الله وعباده، وهو دليل معرفة الله ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته... كما أنّه دليل إثبات النبوّة ويوم المعاد... إلى غير ذلك من العقائد.
باختصار: لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليدرك ويكتشف انتصار القرآن للعقل والتعقّل، فالآيات التي تمتدح عمل العقل كثيرة، من قبيل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، أو قوله حكايةً عن أهل النّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وإننا لا نرى أي تنافٍ بين المرجعيتين (مرجعية العقل ومرجعية الوحي) بل إنّ إحداهما تكمّل الأخرى، فإنّ العقل بدوره يحتاج إلى الوحي في تحسين ظروف عمله وترشيده، وإزالة العوائق من أمامه. وقد
مثّل بعضهم لهذه الحاجة المتبادلة بين العقل والوحي بمثالٍ لطيف، وحاصله: إنّ العقل كالسِّراج، والشرع كالزيت يمدّه، فما لم يكن زيت لم يشعل السِّراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وأيضاً العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولا ينفع البصر ما لم يكن شعاعٌ من خارج،
ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر.
الخصوصية الثانية: إنّ القرآن الكريم يتصفُ بأنه يمكنه من مواكبة المتغيرات يعدّ دليلاً قوياً على مرونة الرسالة الخاتمة، والدليل هو أنّ هذه الرسالة قد تضمنت قواعد شرعيّة مستفادة من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تمنحها قدرة عالية على المواكبة والتطوير وتجديد نفسها بنفسها، ومن أشهر هذه القواعد ، وأهمّ هذه القواعد : قاعدتا نفي الحرج ونفي الضرر، المستفادتان من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وعن رسول الله «لا ضرر ولا ضرار» . على ضوء هاتين القاعدتين، فكل حكم من أحكام الشريعة يغدو لسبب أو لآخر موجباً للعسر والحرج أو الضرر فإنه يرتفع
ويسقط، وخذه الخصوصية وإلى غيرها من الخصائص التي تميّز الشريعة الإسلامية .
وبذلك يقوم الأمر على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: أنّ النصّ القرآني يتّسم بالإحكام والإتقان، والشمولية والعمق، والمرونة والحيوية، بما لا يتوفّر في أيّ نصّ آخر ، يمكّن المفسّرين من أن يتعمّقوا في معاني وعليه، فالكلام الإلهي، بما أنّه صادرٌ عن العليم الخبير الذي {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، فهو كنزٌ لا ينفد، ونبعٌ لا ينقطع، ونورٌ لا يخبو.
الركيزة الثانية: إنّ الاستلهام من هدي القرآن، والاغتراف من معينه، والتعرّف إلى مضامينه، يتفاوت تبعاً لتفاوت أفهام النّاس واختلاف مداركهم ، فكلّ يغترف حسب طاقته، ويستقي مقدار ما يسع إناؤه، قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، وكلّما تدبّر الإنسان في النصّ القرآني، استزاد واستفاد أكثر، وانفتحت أمامه آفاقٌ جديدة، وكلّما قرأه قراءةً واعيةً في ضوء المعطيات الواقعية، يجد إأنّه هناك علاقةً وطيدةً بين النصّ والواقع، وكما أنّ المعرفة بالنصّ تضيء الواقع وتوجّهه، ما يسمح بالاستزادة المستمرة من معينه وهديه.