سلسلة نقد المذهب الربوبي (16):
البراهين العقلية على حاجتنا للنبوّة:
ونأتي إلى استعراض الأدلة على ضرورة النبوّة بما يبطل أساس الفكر الربوبي ويهدم بنيانه. ويمكننا في هذا السياق طرح البراهين التالية التي تثبت حاجة البشرية الماسة إلى النبوّة وهديها:
البرهان الأول: الأنبياء هم الأدلاء على الله :
نسأل الربوبي: هل إنّ الإله الذي تؤمن به هو إله حكيم أم لا؟
إن كان إلهك حكيماً، وهذا ما يُتوقَّع أن تجيب به، فمقتضى الحكمة أن يعلن عن نفسه ويحدد للناس سرّ خلقه لهم، ويجيب على أسئلتهم، ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا خلقهم؟ ولماذا كان خلقُهم على هذه الحال، أي مزيجاً مركباً من المادة والروح، من العقل والعاطفة؟ ولماذا لم
يخلقهم بطريقة لا يستطيعون معها فعل الشرور وتجنبهم الآلام والمصائب؟
وإذا لم يجب الله تعالى على هذه الأسئلة، فهذا يعني أنه لم يفعل مقتضى الحكمة، بل قرر أن يظلّ غامضاً، وهذا شيء لا نقبله في الله تعالى؛ لأنّ عقولنا التي آمنت بالله ورأته في كل آية من آيات هذا الكون البديع والمحكم، لا يمكنها أن تتقبل فكرة أن يكون هذا الإله غير حكيم، أو أنّه يتعمد البقاء في دائرة الغموض والالتباس. وحيث إنّ فكرة الإله الغامض الذي قرر الاحتجاب عن خلقه، وعزم على أن لا يكشف لهم عمّا يريده منهم هي فكرة غير مقبولة لدى العقل البشري، فقد رأينا أنّ الغالبيّة العظمى من بني الإنسان لم تتفاعل مع دعوى الربوبيين، وهي دعوى قديمة . وإنما وجدناهم وعلى رأسهم أهل الحكمة والرأي وحتى الفلاسفة، تفاعلوا بشكل منقطع النظير مع دعوى الرسل، لقناعتهم أنّ الإله الأقرب إلى وجدانهم هو الإله الذي يتواصل مع خلقه ويرسل لهم رسولاً.
أيّها الربوبيون، إذا كنتم توافقوننا القول إنّ من واجبنا نحن البشر أن نتعرف على الله تعالى، وأن نتحرى عن مسؤولياتنا تجاهه، فإنّ من واجب الله تعالى باعتباره الحكيم اللطيف أن يظهر ذاته ويبيّن هويته ويفصح عن نفسه، ويحدد لهم العقائد التي يلزم العباد الاعتقاد بها حتى لا تذهب بهم المذاهب يمينا وشمالاً. إذا كنا مسؤولين عن الاعتقاد، فهو مسؤول عن بيان العقيدة وعن مستلزماتها.
باختصار: إنّ ثمّة سؤالاً بسيطاً لا يستطيع الربوبيون تقديم إجابة شافية عليه، والسؤال هو ما هي الغاية من الخلق؟ فلماذا خلقتنا يا رب؟ وما هو هدفك من وراء الخلق؟
إنّ المذهب (الذي يؤمن أتباعه بالرسل) لديه إجابة شافية على هذا السؤال، فهو يعتقد أنّ هدف الخلق هو إتاحة المجال أمام الإنسان للرقي الروحي والمعنوي والمادي، وأن يسعى في مضمار التكامل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ووصولاً إلى هذا الهدف، فقد أناط الله به مهمة جليلة، وهي مهمة إعمار الأرض وإقامة مجتمع العدل فيها، فعلى الخليفة أن يعمرها بالأمن والعدل. ومن واجبه أيضاً أن يعبد الله تعالى؛ لأنّ العبادة هي حاجة للإنسان، وهي في الوقت عينه تعبير عن شكره وامتنانه للخالق على ما أعطى الإنسان من نعمٍ لا تعد ولا تحصى، قال تعالى في القرآن: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم - 34]. إن الأنبياء قاموا بدور الأدلاء على الله تعالى، وأظهروا حكمته وهدفيته.
هذا هو تصوّر المذهب الديني حول هدف الخلق، فبماذا يجيب أتباع المذهب الربوبي عن السؤال حول الهدف المذكور؟ ليس لديهم جواب شافٍ ومقنع، وهذا في الواقع اتهام للرب بأنّه غير حكيم، فكيف لك أن تؤمن بإله ليس حكيماً، ألا يكون عدم الإيمان والحال هذه أفضل؟
إنّ الله سبحانه وتعالى حكيم ولا يفعل العبث واللهو، وهذا ما تحكم به عقولنا، وترشدنا إليه نصوص كتابنا وهو القرآن الكريم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون – 115]، وقال عزّ من قائل: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء – 17].
وبكلمة أخرى: لا يعقل في حق الحكيم أن يخلق الخلق، ثم يتركهم بدون هداية، ودون أن يحدد لهم ما يفعلون، وإلى أين هم سائرون ولماذا خلقهم؟ ولهذا وجدنا أنّ القرآن الكريم قد أكّد على الهداية وعطفها على الخلق، قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه– 50]، فكل شيء، أي كل موجود، من الإنسان أو الحيوان أو النبات قد خلقه الله، ثم رسم له طريقه وأعطاه ما يلزمه من الهداية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} [الأعلى 2 – 3]. فالآية تذكر الخلق وتسوية البنية، ثم تذكر الهداية بشكل منفصل، ولا شك أنّ أحد معالم الهداية هي النبوة التي تقوم بدور أساسي في توجيه الإنسان والأخذ بيده.
وفي آية أخرى ينكر الله على الذين يشككون في إرسال الأنبياء بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام – 91] ، فالذين يشككون في إرسال الرسل لم يعرفوا الله حق المعرفة، بل هناك نقص في توحيدهم، ثم تكمل الآيات في بيان هداية النبوّة متجاوزة مسألة إمكان بعث الأنبياء إلى الحديث عن وقوع ذلك، فالنبوّة أمر واقع، وخير دليل على الإمكان هو الوقوع، وما على الإنسان إلا أن يدرس النبوات ليكتشف هدايتها، تقول الآيات: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام – 90].
ربّما يقول الربوبي: إنّ الهدف من الخلق موجود، وعدم البوح به لا يعني عدم وجوده، ولا تتوقف معرفتنا له على إرسال الأنبياء والرسل، فعقولنا كفيلة باكتشاف الهدف ومعرفته.
ونعلِّق على هذا الكلام بالقول: إنّ الأجدى والأجدر بالحكيم أن يبيّن لعباده الهدف وراء خلقه لهم، وأن لا يترك الأمر إلى اجتهادات الناس؛ لأنّ عدم بيانه سيوقعهم في الحيرة والاختلاف. على أنّ معرفة الهدف ليست هي الغاية الوحيدة لبعث الأنبياء، وإنّما هناك غاية أخرى لذلك، وهي بيان الطريق الموصل إلى هذا الهدف المذكور، وهذه الغاية لا تقل أهميّة عن بيان الهدف نفسه، وقد تكفلت النبوات ببيان الطريق الموصل إلى الله، ولم تترك الأمر إلى عقول الناس، وإلا لاختلفوا وتنازعوا، وربّما لم يهتدوا إلى ذلك سبيلاً.
البراهين العقلية على حاجتنا للنبوّة:
ونأتي إلى استعراض الأدلة على ضرورة النبوّة بما يبطل أساس الفكر الربوبي ويهدم بنيانه. ويمكننا في هذا السياق طرح البراهين التالية التي تثبت حاجة البشرية الماسة إلى النبوّة وهديها:
البرهان الأول: الأنبياء هم الأدلاء على الله :
نسأل الربوبي: هل إنّ الإله الذي تؤمن به هو إله حكيم أم لا؟
إن كان إلهك حكيماً، وهذا ما يُتوقَّع أن تجيب به، فمقتضى الحكمة أن يعلن عن نفسه ويحدد للناس سرّ خلقه لهم، ويجيب على أسئلتهم، ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا خلقهم؟ ولماذا كان خلقُهم على هذه الحال، أي مزيجاً مركباً من المادة والروح، من العقل والعاطفة؟ ولماذا لم
يخلقهم بطريقة لا يستطيعون معها فعل الشرور وتجنبهم الآلام والمصائب؟
وإذا لم يجب الله تعالى على هذه الأسئلة، فهذا يعني أنه لم يفعل مقتضى الحكمة، بل قرر أن يظلّ غامضاً، وهذا شيء لا نقبله في الله تعالى؛ لأنّ عقولنا التي آمنت بالله ورأته في كل آية من آيات هذا الكون البديع والمحكم، لا يمكنها أن تتقبل فكرة أن يكون هذا الإله غير حكيم، أو أنّه يتعمد البقاء في دائرة الغموض والالتباس. وحيث إنّ فكرة الإله الغامض الذي قرر الاحتجاب عن خلقه، وعزم على أن لا يكشف لهم عمّا يريده منهم هي فكرة غير مقبولة لدى العقل البشري، فقد رأينا أنّ الغالبيّة العظمى من بني الإنسان لم تتفاعل مع دعوى الربوبيين، وهي دعوى قديمة . وإنما وجدناهم وعلى رأسهم أهل الحكمة والرأي وحتى الفلاسفة، تفاعلوا بشكل منقطع النظير مع دعوى الرسل، لقناعتهم أنّ الإله الأقرب إلى وجدانهم هو الإله الذي يتواصل مع خلقه ويرسل لهم رسولاً.
أيّها الربوبيون، إذا كنتم توافقوننا القول إنّ من واجبنا نحن البشر أن نتعرف على الله تعالى، وأن نتحرى عن مسؤولياتنا تجاهه، فإنّ من واجب الله تعالى باعتباره الحكيم اللطيف أن يظهر ذاته ويبيّن هويته ويفصح عن نفسه، ويحدد لهم العقائد التي يلزم العباد الاعتقاد بها حتى لا تذهب بهم المذاهب يمينا وشمالاً. إذا كنا مسؤولين عن الاعتقاد، فهو مسؤول عن بيان العقيدة وعن مستلزماتها.
باختصار: إنّ ثمّة سؤالاً بسيطاً لا يستطيع الربوبيون تقديم إجابة شافية عليه، والسؤال هو ما هي الغاية من الخلق؟ فلماذا خلقتنا يا رب؟ وما هو هدفك من وراء الخلق؟
إنّ المذهب (الذي يؤمن أتباعه بالرسل) لديه إجابة شافية على هذا السؤال، فهو يعتقد أنّ هدف الخلق هو إتاحة المجال أمام الإنسان للرقي الروحي والمعنوي والمادي، وأن يسعى في مضمار التكامل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ووصولاً إلى هذا الهدف، فقد أناط الله به مهمة جليلة، وهي مهمة إعمار الأرض وإقامة مجتمع العدل فيها، فعلى الخليفة أن يعمرها بالأمن والعدل. ومن واجبه أيضاً أن يعبد الله تعالى؛ لأنّ العبادة هي حاجة للإنسان، وهي في الوقت عينه تعبير عن شكره وامتنانه للخالق على ما أعطى الإنسان من نعمٍ لا تعد ولا تحصى، قال تعالى في القرآن: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم - 34]. إن الأنبياء قاموا بدور الأدلاء على الله تعالى، وأظهروا حكمته وهدفيته.
هذا هو تصوّر المذهب الديني حول هدف الخلق، فبماذا يجيب أتباع المذهب الربوبي عن السؤال حول الهدف المذكور؟ ليس لديهم جواب شافٍ ومقنع، وهذا في الواقع اتهام للرب بأنّه غير حكيم، فكيف لك أن تؤمن بإله ليس حكيماً، ألا يكون عدم الإيمان والحال هذه أفضل؟
إنّ الله سبحانه وتعالى حكيم ولا يفعل العبث واللهو، وهذا ما تحكم به عقولنا، وترشدنا إليه نصوص كتابنا وهو القرآن الكريم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون – 115]، وقال عزّ من قائل: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء – 17].
وبكلمة أخرى: لا يعقل في حق الحكيم أن يخلق الخلق، ثم يتركهم بدون هداية، ودون أن يحدد لهم ما يفعلون، وإلى أين هم سائرون ولماذا خلقهم؟ ولهذا وجدنا أنّ القرآن الكريم قد أكّد على الهداية وعطفها على الخلق، قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه– 50]، فكل شيء، أي كل موجود، من الإنسان أو الحيوان أو النبات قد خلقه الله، ثم رسم له طريقه وأعطاه ما يلزمه من الهداية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} [الأعلى 2 – 3]. فالآية تذكر الخلق وتسوية البنية، ثم تذكر الهداية بشكل منفصل، ولا شك أنّ أحد معالم الهداية هي النبوة التي تقوم بدور أساسي في توجيه الإنسان والأخذ بيده.
وفي آية أخرى ينكر الله على الذين يشككون في إرسال الأنبياء بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام – 91] ، فالذين يشككون في إرسال الرسل لم يعرفوا الله حق المعرفة، بل هناك نقص في توحيدهم، ثم تكمل الآيات في بيان هداية النبوّة متجاوزة مسألة إمكان بعث الأنبياء إلى الحديث عن وقوع ذلك، فالنبوّة أمر واقع، وخير دليل على الإمكان هو الوقوع، وما على الإنسان إلا أن يدرس النبوات ليكتشف هدايتها، تقول الآيات: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام – 90].
ربّما يقول الربوبي: إنّ الهدف من الخلق موجود، وعدم البوح به لا يعني عدم وجوده، ولا تتوقف معرفتنا له على إرسال الأنبياء والرسل، فعقولنا كفيلة باكتشاف الهدف ومعرفته.
ونعلِّق على هذا الكلام بالقول: إنّ الأجدى والأجدر بالحكيم أن يبيّن لعباده الهدف وراء خلقه لهم، وأن لا يترك الأمر إلى اجتهادات الناس؛ لأنّ عدم بيانه سيوقعهم في الحيرة والاختلاف. على أنّ معرفة الهدف ليست هي الغاية الوحيدة لبعث الأنبياء، وإنّما هناك غاية أخرى لذلك، وهي بيان الطريق الموصل إلى هذا الهدف المذكور، وهذه الغاية لا تقل أهميّة عن بيان الهدف نفسه، وقد تكفلت النبوات ببيان الطريق الموصل إلى الله، ولم تترك الأمر إلى عقول الناس، وإلا لاختلفوا وتنازعوا، وربّما لم يهتدوا إلى ذلك سبيلاً.