سلسلة نقد الربوبية (7):
النقطة الثانية: الربوبي وعبادة الله
عن علاقتنا بالله وواجبنا تجاهه يؤكّد الربوبيون أنّه لا يجب علينا في هذا المجال شيء مرسوم، فالله كما لم يضعْ لنا قوانين وشرائع خارج ما يوحي به العقل الإنساني، فهو - أيضاً - لم يأمرنا بطقوس خاصة ولم يلزمنا بعبادته والتقرّب إليه. نعمْ، ألزمنا بشيء واحد وهو القيام بأعمال الخير. و قول بعض الربوبيين: «والدعوات والصلوات لا تستجاب».
وربما يذهب البعض إلى أكثر من ذلك فيدعي عدم جدوائيّة العبادة، وأنّ واقع المتدينين يثبت ذلك، فهم يؤدون طقوساً جوفاء، ولم تغيّر من حياتهم شيئاً، ولذا فلا حاجة لنا بها، ولا ضرورة لإرباك حياتنا وأنفسنا بهذه الأعمال الشاقة والمتعبة وغير المنتجة.
والواقع أنّ ثمّة تخبطاً ملحوظاً في كلمات الربوبيين في هذا المقام، فمنهم من ينكر فكرة العبادة ولا يؤمن بجدواها، ويصف الديانات السماوية بأنّها ديانات العبادة، ومنهم من يرى أنّ العبادة هي فعل الخيرات والصالحات. وبصرف النظر عما يبدو تخبّطاً في كلامهم، فسوف نسجلّ عدّة تعليقات تطال مجمل الأفكار التي ترددت في كلام الربوبيين أو غيرهم من اللادينيين على هذا الصعيد:
التعليق الأول: العبادة والاعتراف بالجميل :
إنّ من يؤمن بوجود الله تعالى لا يسعه أن يتنكر لفكرة عبادته، وذلك لأنّ العبادة - من جهة أولى - هي تعبير عن شكرنا له تعالى، وهو يستحق الشكر والامتنان، اعترافاً بجميله، فهو المنعم والمتفضل علينا بخلقنا وبكل ما أولانا من نِعَمٍ لا تعدُ ولا تحصى. صحيح أنّه تعالى لا
يطلب منا الشكر لحاجة له في ذلك، لأنّه غني عن العالمين، ولكنّه أهلٌ للشكر وهو يستحقه، ولا يسع أي عاقل أن ينكر ذلك، وأنّى له أن ينكر والعقل يحكم بلزوم شكر المنعم! والعبادة -من جهة أخرى - تمثّل حالة التجاء واستناد إليه تعالى، وعندما نلتجئ إليه عزّ وجلّ في كل أحوالنا ولا سيما في حالات الضعف البشري والخوف والقلق الذي يواجهنا في الحياة، فإن ذلك اللجوء يمنحنا إحساساً بالأمن وشعوراً بالاطمئنان، كما قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28]، فنحن نلتجئ إلى خالقنا وهو القوي والعزيز وهو العطوف والرحيم، بل هو الأرحم والأرأف بنا من أهلينا وأولادنا وإخواننا ومن كل الناس، ولا يطلب على إحسانه ونعمه أجراً ولا شكراً.
والحقيقة أننا نستغرب من الربوبي كيف يؤمن بالله تعالى، ثم في الوقت عينه يسدّ على نفسه أبواب رحمته، ولا يريد أن يستفيد منه أو يستمد منه أهمَ ما يمكن أن يعطيه ويمنحه هذا الإله لخلقه؟! وهو أن يُشكّل ملجأً وكهفاً حصيناً لهم يشعرهم بالأمن والسكينة والاطمئنان، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28].
ربما يقول الربوبي: إنّنا لا ننكر مبدأ العبادة من أصله ولا نرفض فكرة شكر الخالق وامتنانه على نعمه وإحسانه وعرفان جميله، إلا أننا ننكر العبادة المرسومة التي يؤديها المتدينون، ونرفض اعتماد طقوس خاصة في التعبد تعبيراً عن الشكر والامتنان. وبذلك يكون الربوبي قد
انسجم مع نفسه حيث يرفض العبادة التي يمارسها المتدينون لعدم إيمانه بكونها وحياً إلهياً، وفي الوقت عينه لم يرفض مبدأً عقلياً وهو لزوم شكر المنعم.
وتعليقاً على ذلك نقول:
أ - إذا أقرّ الربوبي بالمبدأ العقلي القاضي بلزوم شكر المنعم، فإنّ من الجدير به أن يقرَّ أيضاً بمبدأ آخر، وهو أنّ الله تعالى هو الجهة الأمثل لتعليمنا كيفيّة الشكر، لا لأنه الأعلم فحسب، بل لأن شكره - خصوصاً إذا أريد تحويله إلى مراسم خاصة يواظب عليها العباد - بالطريقة
المستقاة منه هو المتعين، وذلك حذراً من وقوعنا في فخ المغالاة في ذلك أو الإفراط والتفريط فيما لو ترك الأمر إلينا وحرصاً على انتظامنا في طريقة شكر موحدة وذات إيقاع متناغم، كما هو الحال في العبادات التي نؤديها نحن المسلمون في انتظام وانسجام.
ب - أجل، إننا لا ننكر أنّ بإمكاننا أداء وظيفة الشكر لله تعالى من خلال قيامنا بتقدير النعم الإلهية، وتوقيرها تقديراً عملياً يتمثل بالسعي في بذل شيء من طاقاتنا وما أولانا الله من نعم في سبيل مساعدة عيال الله المحتاجين والتخفيف من معاناتهم، وهذا ما يَعدُّه الإسلام شكراً عملياً
للخالق عز وجل، ويعتبره من أفضل أنواع العبادة لله سبحانه . دون أن ينفي ذلك حقه علينا في تعليمنا وتوجيهنا إلى طريقة محددة للشكر، يطلبها منا تحقيقاً لبعض الأهداف والغايات الراجعة إلينا، ومنها ما أشرنا إليه من الظهور بمظهر الانتظام والابتعاد عن المغالاة.
باختصار: إنّ هناك طريقين لشكر المنعم:
الأولى: هي طريقة الشكر المحددة من خلال الوحي، وهذه الطريقة توقيفية ولا تجوز الزيادة عليها ولا النقيصة فيها، وهي من حقه تعالى على عباده، وإنما افترضها عليهم وأرشدهم إليها حرصاً منه عليهم ولأن ذلك يصب في مصلحتهم.
الثانية: هي الطريقة المفتوحة أمام الناس، ليشكروا ربهم بطريقتهم الخاصة، بألسنتهم المختلفة، أوبقلوبهم الحانية العامرة بالحب، أو بعقولهم المؤمنة بربها، أو بأعمالهم الإنسانية التي تخدم الآخرين وتساعدهم وتحنو عليهم.
ونحن من جهتنا نؤمن بشرعيّة الطريقين، بينما يصرّ الربوبي على اعتماد الطريقة الثانية فقط دون حجة مقنعة أو دليل واضح.
التعليق الثاني: كيف ينظر الربوبي إلى المعصية؟
لم نجد في كلام الربوبيين عن معصية الإنسان لربه، ويفترض أن لا يتنكروا لمبدأ العصيان؛ فإنّ المعصيّة لا تعني سوى تجاوز الحدود المسموحة، والإنسان الذي يعبث بهذا الكون ويسيء إلى جماله، أو يعتدي على أخيه الإنسان فيقلق أمنه وراحته، هو متجاوز لإرادة الله تعالى حتماً، وعاصٍ له؛ لأنّ الله تعالى لا يمكن أن يرضى بالظلم أو يقر العدوان، وهذا أمر واضح ومن بديهيات العقول. والسؤال: ما الذي على الإنسان المعتدي والمتجاوز لإرادة الله أن يفعله؟ أليس المطلوب منه أن يستغفر أو يتوب ويتعهد أمام الله تعالى أن لا يعود لممارسة الخطأ السابق؟! فهذا الاستغفار تعبيرٌ طبيعي عن الندم، ويمثّل التزاماً وتعهداً أمام الله بعدم العودة إلى تجاوز الحد وممارسة الطغيان والعدوان. ولكنّ الفكر الربوبي خالٍ من هذا المعنى بتاتاً، وهذا يشكل ثغرة كبيرة فيه؛ لأن عدم إحساس الإنسان بالخطأ تجاه ربه سيزيد
من جرأته على ارتكاب التجاوزات والتعديات، ويفقده الشعور برقابة الله تعالى، مع أنّ الشعور بهذه الرقابة الإلهيّة هي أكبر ضابطة تساعد على كبح جماح الإنسان والحدّ من انسياقه مع الغرائز والأهواء.
النقطة الثانية: الربوبي وعبادة الله
عن علاقتنا بالله وواجبنا تجاهه يؤكّد الربوبيون أنّه لا يجب علينا في هذا المجال شيء مرسوم، فالله كما لم يضعْ لنا قوانين وشرائع خارج ما يوحي به العقل الإنساني، فهو - أيضاً - لم يأمرنا بطقوس خاصة ولم يلزمنا بعبادته والتقرّب إليه. نعمْ، ألزمنا بشيء واحد وهو القيام بأعمال الخير. و قول بعض الربوبيين: «والدعوات والصلوات لا تستجاب».
وربما يذهب البعض إلى أكثر من ذلك فيدعي عدم جدوائيّة العبادة، وأنّ واقع المتدينين يثبت ذلك، فهم يؤدون طقوساً جوفاء، ولم تغيّر من حياتهم شيئاً، ولذا فلا حاجة لنا بها، ولا ضرورة لإرباك حياتنا وأنفسنا بهذه الأعمال الشاقة والمتعبة وغير المنتجة.
والواقع أنّ ثمّة تخبطاً ملحوظاً في كلمات الربوبيين في هذا المقام، فمنهم من ينكر فكرة العبادة ولا يؤمن بجدواها، ويصف الديانات السماوية بأنّها ديانات العبادة، ومنهم من يرى أنّ العبادة هي فعل الخيرات والصالحات. وبصرف النظر عما يبدو تخبّطاً في كلامهم، فسوف نسجلّ عدّة تعليقات تطال مجمل الأفكار التي ترددت في كلام الربوبيين أو غيرهم من اللادينيين على هذا الصعيد:
التعليق الأول: العبادة والاعتراف بالجميل :
إنّ من يؤمن بوجود الله تعالى لا يسعه أن يتنكر لفكرة عبادته، وذلك لأنّ العبادة - من جهة أولى - هي تعبير عن شكرنا له تعالى، وهو يستحق الشكر والامتنان، اعترافاً بجميله، فهو المنعم والمتفضل علينا بخلقنا وبكل ما أولانا من نِعَمٍ لا تعدُ ولا تحصى. صحيح أنّه تعالى لا
يطلب منا الشكر لحاجة له في ذلك، لأنّه غني عن العالمين، ولكنّه أهلٌ للشكر وهو يستحقه، ولا يسع أي عاقل أن ينكر ذلك، وأنّى له أن ينكر والعقل يحكم بلزوم شكر المنعم! والعبادة -من جهة أخرى - تمثّل حالة التجاء واستناد إليه تعالى، وعندما نلتجئ إليه عزّ وجلّ في كل أحوالنا ولا سيما في حالات الضعف البشري والخوف والقلق الذي يواجهنا في الحياة، فإن ذلك اللجوء يمنحنا إحساساً بالأمن وشعوراً بالاطمئنان، كما قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28]، فنحن نلتجئ إلى خالقنا وهو القوي والعزيز وهو العطوف والرحيم، بل هو الأرحم والأرأف بنا من أهلينا وأولادنا وإخواننا ومن كل الناس، ولا يطلب على إحسانه ونعمه أجراً ولا شكراً.
والحقيقة أننا نستغرب من الربوبي كيف يؤمن بالله تعالى، ثم في الوقت عينه يسدّ على نفسه أبواب رحمته، ولا يريد أن يستفيد منه أو يستمد منه أهمَ ما يمكن أن يعطيه ويمنحه هذا الإله لخلقه؟! وهو أن يُشكّل ملجأً وكهفاً حصيناً لهم يشعرهم بالأمن والسكينة والاطمئنان، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28].
ربما يقول الربوبي: إنّنا لا ننكر مبدأ العبادة من أصله ولا نرفض فكرة شكر الخالق وامتنانه على نعمه وإحسانه وعرفان جميله، إلا أننا ننكر العبادة المرسومة التي يؤديها المتدينون، ونرفض اعتماد طقوس خاصة في التعبد تعبيراً عن الشكر والامتنان. وبذلك يكون الربوبي قد
انسجم مع نفسه حيث يرفض العبادة التي يمارسها المتدينون لعدم إيمانه بكونها وحياً إلهياً، وفي الوقت عينه لم يرفض مبدأً عقلياً وهو لزوم شكر المنعم.
وتعليقاً على ذلك نقول:
أ - إذا أقرّ الربوبي بالمبدأ العقلي القاضي بلزوم شكر المنعم، فإنّ من الجدير به أن يقرَّ أيضاً بمبدأ آخر، وهو أنّ الله تعالى هو الجهة الأمثل لتعليمنا كيفيّة الشكر، لا لأنه الأعلم فحسب، بل لأن شكره - خصوصاً إذا أريد تحويله إلى مراسم خاصة يواظب عليها العباد - بالطريقة
المستقاة منه هو المتعين، وذلك حذراً من وقوعنا في فخ المغالاة في ذلك أو الإفراط والتفريط فيما لو ترك الأمر إلينا وحرصاً على انتظامنا في طريقة شكر موحدة وذات إيقاع متناغم، كما هو الحال في العبادات التي نؤديها نحن المسلمون في انتظام وانسجام.
ب - أجل، إننا لا ننكر أنّ بإمكاننا أداء وظيفة الشكر لله تعالى من خلال قيامنا بتقدير النعم الإلهية، وتوقيرها تقديراً عملياً يتمثل بالسعي في بذل شيء من طاقاتنا وما أولانا الله من نعم في سبيل مساعدة عيال الله المحتاجين والتخفيف من معاناتهم، وهذا ما يَعدُّه الإسلام شكراً عملياً
للخالق عز وجل، ويعتبره من أفضل أنواع العبادة لله سبحانه . دون أن ينفي ذلك حقه علينا في تعليمنا وتوجيهنا إلى طريقة محددة للشكر، يطلبها منا تحقيقاً لبعض الأهداف والغايات الراجعة إلينا، ومنها ما أشرنا إليه من الظهور بمظهر الانتظام والابتعاد عن المغالاة.
باختصار: إنّ هناك طريقين لشكر المنعم:
الأولى: هي طريقة الشكر المحددة من خلال الوحي، وهذه الطريقة توقيفية ولا تجوز الزيادة عليها ولا النقيصة فيها، وهي من حقه تعالى على عباده، وإنما افترضها عليهم وأرشدهم إليها حرصاً منه عليهم ولأن ذلك يصب في مصلحتهم.
الثانية: هي الطريقة المفتوحة أمام الناس، ليشكروا ربهم بطريقتهم الخاصة، بألسنتهم المختلفة، أوبقلوبهم الحانية العامرة بالحب، أو بعقولهم المؤمنة بربها، أو بأعمالهم الإنسانية التي تخدم الآخرين وتساعدهم وتحنو عليهم.
ونحن من جهتنا نؤمن بشرعيّة الطريقين، بينما يصرّ الربوبي على اعتماد الطريقة الثانية فقط دون حجة مقنعة أو دليل واضح.
التعليق الثاني: كيف ينظر الربوبي إلى المعصية؟
لم نجد في كلام الربوبيين عن معصية الإنسان لربه، ويفترض أن لا يتنكروا لمبدأ العصيان؛ فإنّ المعصيّة لا تعني سوى تجاوز الحدود المسموحة، والإنسان الذي يعبث بهذا الكون ويسيء إلى جماله، أو يعتدي على أخيه الإنسان فيقلق أمنه وراحته، هو متجاوز لإرادة الله تعالى حتماً، وعاصٍ له؛ لأنّ الله تعالى لا يمكن أن يرضى بالظلم أو يقر العدوان، وهذا أمر واضح ومن بديهيات العقول. والسؤال: ما الذي على الإنسان المعتدي والمتجاوز لإرادة الله أن يفعله؟ أليس المطلوب منه أن يستغفر أو يتوب ويتعهد أمام الله تعالى أن لا يعود لممارسة الخطأ السابق؟! فهذا الاستغفار تعبيرٌ طبيعي عن الندم، ويمثّل التزاماً وتعهداً أمام الله بعدم العودة إلى تجاوز الحد وممارسة الطغيان والعدوان. ولكنّ الفكر الربوبي خالٍ من هذا المعنى بتاتاً، وهذا يشكل ثغرة كبيرة فيه؛ لأن عدم إحساس الإنسان بالخطأ تجاه ربه سيزيد
من جرأته على ارتكاب التجاوزات والتعديات، ويفقده الشعور برقابة الله تعالى، مع أنّ الشعور بهذه الرقابة الإلهيّة هي أكبر ضابطة تساعد على كبح جماح الإنسان والحدّ من انسياقه مع الغرائز والأهواء.