سلسلة نقد المذهب الربوبي(4) :
الربوبي والعلم :
ويتردد على ألسنة الربوبيين الحديثُ عن احترام العلم وتقديره وأنّه وسيلة التعرف على الله تعالى، يقول بعضهم: "الإنسانية ستتعلم أكثر عن مفهوم الإله عن طريق العلم والكون. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكننا من المعرفة أكثر حول الإله، من خلال دراسة الخلق، وليس من خلال الكتب المقدسة للأديان التي هي من صنع مؤسسيها" .ويضيف: "يبدي العديد من الناس الغضب من الإله للمرض، والكوارث. ولكنْ للعلوم الإنسانية القدرة على إزالة وتحييد كل هذه. بدراسة مبادئ الطبيعة استأصلنا العديد من الأمراض وحمينا أنفسنا من معظم الكوارث الطبيعية".
وتعليقاً على هذا الموقف نقول: إنّ احترام العلم من قبل الفكر الربوبي هو أمر جيّد وموضع ترحيب وتقدير من قبلنا نحن المتدينين ولا سيّما المسلمين، فنحن نجلّ حركة البحث العلمي التي هي حصيلة معرفيّة تنتج عن حركة العقل في فهم الظواهر الكونية مستعيناً بالحواس والتجارب البشرية. فمرجعيّة العلم لا يمكن إبعادها عن مرجعيّة العقل؛ لأنّ النتائج الحسيّة والتجريبيّة تحتاج إلى عقلٍ يوازن ويقارن ويستخلص. ولكنْ لنا بعض الملاحظات التي نسجّلها هنا، وهي:
أولاً: إنّ إيحاء الربوبي أنّه إنسان علمي بينما المتدين هو إنسان غيبي وغير علمي، هو أمر مرفوض بتاتاً، فالعلم بالنسبة إلينا هو أمر مقدس، ونحن كمسلمين - على الأقل - نعتبر أنّ الكون بكل آياته وقوانينه ومظاهر جماله وجلاله هو الكتاب الأكثر دلالة على الله تعالى. وإنّ
أهمّ برهانٍ ركّز عليه القرآن الكريم في إثبات وجود الخالق هو برهان النظم، الذي ينطلق من الخلق إلى الخالق ومن النظم إلى الناظم، فإنّ التأمل والتفكر في الخلق يهدي الإنسان إلى الخالق، وملاحظة النظام البديع هي خير آية على وجود المنظّم المبدع، وهكذا فنحن نستعين بالعلم لا لإثبات وجود الله فحسب، بل ولإثبات العديد من المعتقدات الدينية ومنها وحدانية الله تعالى وسائر صفاته من الحكمة والقدرة والعلم. فبالتأمل في هذا الكون وملاحظة ما تكشفه حركة البحث العلمي عن دقائقه وأسراره ووحدة النظام الحاكم فيه، نتعرف أكثر فأكثر على خالقنا مصمم هذا الكون، فوحدة النظام تدل على وحدة المنظم، وعظيم الصنع فيه يدل على قدرة الصانع وسعة علمه، كما أننا نتعرّف من خلال التأمل في العديد من الظواهر الكونية على فكرة المعاد والبعث، إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من نتائج البحوث العلمية .
ولا يقتصر الأمر على الاعتقاد بمكانة العلم وتثمين دوره، بل تخطاه إلى الفعل، فقد كان للعلماء المسلمين إسهامات جليلة وعظيمة في شتى العلوم التجريبية والطبيعية، وإنّ أسماء علماء المسلمين المبدعين في شتى العلوم معروفة للقاصي والداني، وقد نوّه بها علماء الغرب ومفكروه
وعامة المستشرقين وفي كتابه «الإسلام» يشير روجيه غارودي إلى جهود بعضهم، من أمثال الخوارزمي رائد الجبر الذي «أحدث انقلاباً في الرياضيات» بابتكار نظام العدّ العربي، والبتّاني الذي يرى بأنّ الإنسان يتوصل بالإلمام بعلم الفلك إلى إقامة البرهان على وحدانية الله وحكمته، وابن سينا الفيلسوف والطبيب الذي ترجم جيرار دو كرومون كتابه «القانون في الطب» إلى اللاتينيّة ليظلّ الموسوعة الكبرى في الطب إلى عصر النهضة، إلى ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير الذي يكتب «مؤلفاً مدهشاً في التاريخ الكلي وسوسيولوجيا عظمة الحضارات وانحطاطها». إلى غير ذلك من المبدعين الكبار والذين ساهموا في إثراء الحضارة الإنسانية، بحسب غارودي الذي أضاف: "لكنّ الأساسي في مساهمة العالم الإسلامي لم يكن المنهج التجريبي ومقداراً مدهشاً من الكشوف فحسب، بل إتقانه ربط العلم والحكمة والإيمان بعضها ببعض. والحكمة، التي حاشا لها أن تقيّد عمل العلم الذي يصعد من سبب إلى سبب، ترتفع من غاية إلى غاية، من غايات دنيوية إلى غايات أسمى حتى لا يُستخدم العلم لتدمير الإنسان أو تشويهه بل لتفتّحه حين نحدّد له أهدافاً إنسانية. ذلك أن العلم التجريبي
والرياضي لا يقدّم لنا أهداف هذا العمل القويّ. فالحكمة، وهي النظر في الغايات، استخدام آخر للعقل، وهو استخدام تركه الغرب على وجه الضبط يمر: فلا الفلسفة ولا اللاهوت يؤديان هذا الدور التكاملي بين العلم الذي يقدّم الوسائل والحكمة التي تبحث في الغايات.
والعقل الغربي، المحبوس في البحث في الوسائل التي تُعتبر غايات في ذاتها، يقود العالم إلى التدمير بفعل استعماله دون حكمة، الذرة والصاروخ والمورّثة (الجين).
ثانياً: إنّ إيمان الربوبي وتقديره للعلم يفترض أن يدفعاه إلى عدم التسرع برمي الأفكار الدينية وحتى المعاجز المنقولة عن الأنبياء بالخرافات والأوهام، فإنّ العالِم الذي يحترم علمه يتوقف إزاء الظواهر التي لا يفهم كنهها ولا يسارع إلى إنكارها، فالمسارعة إلى الإنكار دأبُ الجهلة وأنصاف المتعلمين، أمّا العلماء فإنّ علمهم يدفعهم إلى التواضع والإقرار بأنّ ثمّة مجهولاتٍ وأسراراً في هذا العالم، وأنّ تطور العلم كفيل بكشف الكثير منها، وكما قال الشاعر:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
لقد كان الفيلسوف الأمريكي جورج سنتيانا (1863م - 1953م) «يزدري (كما ينقل عنه ول ديورانت) العلماء الذين يتوهمون أنّهم قد أثبتوا بطلان الدين بالعلم، من غير أن يبحثوا عن أصل الأفكار والعادات التي نبعت عنها تلك العقائد الدينية، ومن غير أن يعرفوا معنى العقائد الدينية الأصلي وعملها الحقيقي ، فعلى العالم أن لا يغتر بعلمه مهما بلغ، وأن لا ينظر إلى الطروحات الدينية نظرة استخفاف أو سخرية، فهذا ليس دأب العلماء ولا يليق بهم، إنّ العلماء حقاً والذين يقدرون العلم يتثبتون من كل الظواهر ولو كانت هامشية، فكيف بظاهرة بمستوى
وحجم وتأثير الظاهرة الدينيّة!
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تثميننا لدور العلم حتى في المجال الديني، ورفضنا لأية دعوة تسعى إلى تكبيل حركة العلم الهادف.
الربوبي والعلم :
ويتردد على ألسنة الربوبيين الحديثُ عن احترام العلم وتقديره وأنّه وسيلة التعرف على الله تعالى، يقول بعضهم: "الإنسانية ستتعلم أكثر عن مفهوم الإله عن طريق العلم والكون. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكننا من المعرفة أكثر حول الإله، من خلال دراسة الخلق، وليس من خلال الكتب المقدسة للأديان التي هي من صنع مؤسسيها" .ويضيف: "يبدي العديد من الناس الغضب من الإله للمرض، والكوارث. ولكنْ للعلوم الإنسانية القدرة على إزالة وتحييد كل هذه. بدراسة مبادئ الطبيعة استأصلنا العديد من الأمراض وحمينا أنفسنا من معظم الكوارث الطبيعية".
وتعليقاً على هذا الموقف نقول: إنّ احترام العلم من قبل الفكر الربوبي هو أمر جيّد وموضع ترحيب وتقدير من قبلنا نحن المتدينين ولا سيّما المسلمين، فنحن نجلّ حركة البحث العلمي التي هي حصيلة معرفيّة تنتج عن حركة العقل في فهم الظواهر الكونية مستعيناً بالحواس والتجارب البشرية. فمرجعيّة العلم لا يمكن إبعادها عن مرجعيّة العقل؛ لأنّ النتائج الحسيّة والتجريبيّة تحتاج إلى عقلٍ يوازن ويقارن ويستخلص. ولكنْ لنا بعض الملاحظات التي نسجّلها هنا، وهي:
أولاً: إنّ إيحاء الربوبي أنّه إنسان علمي بينما المتدين هو إنسان غيبي وغير علمي، هو أمر مرفوض بتاتاً، فالعلم بالنسبة إلينا هو أمر مقدس، ونحن كمسلمين - على الأقل - نعتبر أنّ الكون بكل آياته وقوانينه ومظاهر جماله وجلاله هو الكتاب الأكثر دلالة على الله تعالى. وإنّ
أهمّ برهانٍ ركّز عليه القرآن الكريم في إثبات وجود الخالق هو برهان النظم، الذي ينطلق من الخلق إلى الخالق ومن النظم إلى الناظم، فإنّ التأمل والتفكر في الخلق يهدي الإنسان إلى الخالق، وملاحظة النظام البديع هي خير آية على وجود المنظّم المبدع، وهكذا فنحن نستعين بالعلم لا لإثبات وجود الله فحسب، بل ولإثبات العديد من المعتقدات الدينية ومنها وحدانية الله تعالى وسائر صفاته من الحكمة والقدرة والعلم. فبالتأمل في هذا الكون وملاحظة ما تكشفه حركة البحث العلمي عن دقائقه وأسراره ووحدة النظام الحاكم فيه، نتعرف أكثر فأكثر على خالقنا مصمم هذا الكون، فوحدة النظام تدل على وحدة المنظم، وعظيم الصنع فيه يدل على قدرة الصانع وسعة علمه، كما أننا نتعرّف من خلال التأمل في العديد من الظواهر الكونية على فكرة المعاد والبعث، إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من نتائج البحوث العلمية .
ولا يقتصر الأمر على الاعتقاد بمكانة العلم وتثمين دوره، بل تخطاه إلى الفعل، فقد كان للعلماء المسلمين إسهامات جليلة وعظيمة في شتى العلوم التجريبية والطبيعية، وإنّ أسماء علماء المسلمين المبدعين في شتى العلوم معروفة للقاصي والداني، وقد نوّه بها علماء الغرب ومفكروه
وعامة المستشرقين وفي كتابه «الإسلام» يشير روجيه غارودي إلى جهود بعضهم، من أمثال الخوارزمي رائد الجبر الذي «أحدث انقلاباً في الرياضيات» بابتكار نظام العدّ العربي، والبتّاني الذي يرى بأنّ الإنسان يتوصل بالإلمام بعلم الفلك إلى إقامة البرهان على وحدانية الله وحكمته، وابن سينا الفيلسوف والطبيب الذي ترجم جيرار دو كرومون كتابه «القانون في الطب» إلى اللاتينيّة ليظلّ الموسوعة الكبرى في الطب إلى عصر النهضة، إلى ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير الذي يكتب «مؤلفاً مدهشاً في التاريخ الكلي وسوسيولوجيا عظمة الحضارات وانحطاطها». إلى غير ذلك من المبدعين الكبار والذين ساهموا في إثراء الحضارة الإنسانية، بحسب غارودي الذي أضاف: "لكنّ الأساسي في مساهمة العالم الإسلامي لم يكن المنهج التجريبي ومقداراً مدهشاً من الكشوف فحسب، بل إتقانه ربط العلم والحكمة والإيمان بعضها ببعض. والحكمة، التي حاشا لها أن تقيّد عمل العلم الذي يصعد من سبب إلى سبب، ترتفع من غاية إلى غاية، من غايات دنيوية إلى غايات أسمى حتى لا يُستخدم العلم لتدمير الإنسان أو تشويهه بل لتفتّحه حين نحدّد له أهدافاً إنسانية. ذلك أن العلم التجريبي
والرياضي لا يقدّم لنا أهداف هذا العمل القويّ. فالحكمة، وهي النظر في الغايات، استخدام آخر للعقل، وهو استخدام تركه الغرب على وجه الضبط يمر: فلا الفلسفة ولا اللاهوت يؤديان هذا الدور التكاملي بين العلم الذي يقدّم الوسائل والحكمة التي تبحث في الغايات.
والعقل الغربي، المحبوس في البحث في الوسائل التي تُعتبر غايات في ذاتها، يقود العالم إلى التدمير بفعل استعماله دون حكمة، الذرة والصاروخ والمورّثة (الجين).
ثانياً: إنّ إيمان الربوبي وتقديره للعلم يفترض أن يدفعاه إلى عدم التسرع برمي الأفكار الدينية وحتى المعاجز المنقولة عن الأنبياء بالخرافات والأوهام، فإنّ العالِم الذي يحترم علمه يتوقف إزاء الظواهر التي لا يفهم كنهها ولا يسارع إلى إنكارها، فالمسارعة إلى الإنكار دأبُ الجهلة وأنصاف المتعلمين، أمّا العلماء فإنّ علمهم يدفعهم إلى التواضع والإقرار بأنّ ثمّة مجهولاتٍ وأسراراً في هذا العالم، وأنّ تطور العلم كفيل بكشف الكثير منها، وكما قال الشاعر:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
لقد كان الفيلسوف الأمريكي جورج سنتيانا (1863م - 1953م) «يزدري (كما ينقل عنه ول ديورانت) العلماء الذين يتوهمون أنّهم قد أثبتوا بطلان الدين بالعلم، من غير أن يبحثوا عن أصل الأفكار والعادات التي نبعت عنها تلك العقائد الدينية، ومن غير أن يعرفوا معنى العقائد الدينية الأصلي وعملها الحقيقي ، فعلى العالم أن لا يغتر بعلمه مهما بلغ، وأن لا ينظر إلى الطروحات الدينية نظرة استخفاف أو سخرية، فهذا ليس دأب العلماء ولا يليق بهم، إنّ العلماء حقاً والذين يقدرون العلم يتثبتون من كل الظواهر ولو كانت هامشية، فكيف بظاهرة بمستوى
وحجم وتأثير الظاهرة الدينيّة!
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تثميننا لدور العلم حتى في المجال الديني، ورفضنا لأية دعوة تسعى إلى تكبيل حركة العلم الهادف.