التيس المستعار
حديثنا الليلة عن التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله؛ و شبهه بالتيس المستعار، و عظم بسببه العار و الشنار ،و عير المسلمين به الكفار، و حصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، و استُكريت له التيوس المستعارات و ضاقت بها ذرعا النفوس الأَبِيّات، و نفرت منه أشد من نفارها من السفاح.
لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته ، و فاعل السنة مقرب غير ملعون، و المحلِّل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار، و سماه السلف بمسمار النار.
فلو شاهدتَ الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات؛ تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجزّار و تقول : يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة و المقت نهض و استتبعها خلفه للوقت بلا زفاف و لا إعلان؛ بل بالتخفي و الكتمان، فلا جهاز يُنقل ولا فراش إلى بيت الزوج يُحول، و لا صواحب يهدينها إليه و لا مصلحات يجلينها عليه ، و لا مهر مقبوض و لا مؤخر، و لا نفقة و لا كسوة تُقدر، و لا وليمة و لا نثار؛ و لا دف و لا إعلان و لا شغار.
و الزوج يبذل المهر؛ و هذا التيس يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها و أرخى الحجاب، و المطلق و الولي واقفان على الباب، دنا ليطهرها بمائه النجس الحرام، و يطيبها بلعنة الله و رسوله عليه الصلاة والسلام.
حتى إذا قضيا عرس التحليل، و لم يحصل بينهما المودة و الرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل، فإنها لا تحصل باللعن الصريح، و لا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح ، فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا و تعجيلا، و إلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا.
فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق حتى يأخذ أجرته بعد الشرط و الإتفاق؟!
حتى إذا طهرها و طيبها و خلصها بزعمه من الحرام و جنبها؛ قال لها : اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الإلتئام و الإتفاق، فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها : هل كان ذاك، فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجرا؛ و قد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا.
و كثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم و ابنتها في عقدين، و يجمع ماءه في أكثر من أربع، و في رحم أختين ،و إذا كان هذا من شأنه وصِفته فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل و المحلَل له". رواه الحاكم و هو صحيح.
و قال الترمذي رحمه الله : " و العمل عليه عند أهل العلم؛ منهم عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، و هو قول الفقهاء من التابعين".
و رواه الإمام أحمد في مسنده و النسائي في سننه بإسناد صحيح، و لفظها :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة و المؤتشمة و الواصلة و الموصولة و المحلل و المحلل له و آكل الربا و موكله ".
و في مسند الإمام أحمد و سنن النسائي أيضا و هو صحيح :عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه إذا علموا به، و الواصلة و المستوصلة ،و لاوي الصدقة و المعتدي فيها، و المرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته، و المحلل و المحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة".
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه لعن المحلل و المحلل له ". رواه الإمام أحمد و هو صحيح.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لعن الله المحلل و المحلل له ". رواه الإمام أحمد و هو حسن.
و قال الترمذي في كتاب (العلل) سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن، و عبد الاه بن جعفر المخزومي صدوق ثقة، و عثمان بن محمد الأخنسي ثقة.
و روى بن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه و هو صحيح قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل و المحلل له".
و عن ابن عباس رضي الله عنه أيضا بسند حسن عند ابن ماجه :" سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال : لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة و لا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة".
رواة هذا الحديث كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه، و الشافعي حسن الرأي فيه و يحتج بحديثه.
و عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلل، لعن الله المحلل و المحلل له "رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثوقون لم يجرح واحد منهم.
و عن عمرو بن دينار - و هو من أعيان التابعين - أنه سُئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه و لا علمها، فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له، فقال : لا ،ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال :" لا ،حتى ينكح مرتغبا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة "، رواه ابن أبي شيبة و هو صحيح.
و هذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على ثبوته عنده، و قد عمل به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، و ه ه موافق لبقية الأحاديث الموصولة، و مثل هذا حجة باتفاق الأئمة، و هو و الذي قبله نص في التحليل المنوي.
و كذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له : امرأة تزوجتُها أُحلها لزوجها لم يأمرني و لم يعلم ،قال : لا،إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، و إن كرهتها فارقتها، و إن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحا.
رواه الحاكم ،و هو موقوف عن ابن عمر؛ و هو صحيح.
بعض آثار الصحابة رضي الله عنهم في التحليل
في كتاب المصنف لابن أبي شيبة؛ و سنن الأثرم، و الأوسط لابن المنذر ،عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :" لا أوتى بمُحلِّل و لا محلَّل له إلا رجمتهما".
و لفظ عبد الرزاق و ابن المنذر كما أخرجه البيهقي في الكبرى :" لا أوتى بمحلل و لا محللة إلا رجمتهما".
و هو صحيح عن عمر.
َ في حديث صحيح عند ابن أبي شيبة موقوف عن ابن عمر أنه سُئل عن تحليل المرأة لزوجها؛ فقال : "ذاك السِّفاح".
و روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه سُئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها و ندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضي الله عنه :" كلاهما زانٍ و إن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يُحلها له".
و روى عبد الرزاق أيضا عن ابن عباس و سأله رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا؛ فقال : إن عمك عصى الله فأندمه و أطاع الشيطان؛ فلم يجعل له مخرجا، قال : كيف ترى في رجل يحللها، قال : من يخادع الله يخدعه.
و عن سليمان بن يسار قال : رُفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها؛ ففرق بينهما و قال : لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة.
رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب المترجم.
و في المهذب لأبي إسحاق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال : إن جاري طلق امرأته في غضبه و لقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي و مالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها. فقال له عثمان رضي الله عنه : لا تنكحها إلا نكاح رغبة.
و ذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، و لا استهزاء بكتاب الله.
و علي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل، فقد جعل هذا من التحليل.
و روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لعن الله المحلل و المحلل له.
و هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل و قد فسره بما قصد به التحليل و إن لم تعلم به المرأة ،فكيف بما اتفقا عليه و تراضيا و تعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة.
و ذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه قال : لعن الله المحلل و المحلل له.
و روى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها فقال : لعن الله الحالّ و المحل له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه : و هذه الآثار عن عمر و عثمان و علي و ابن عباس و ابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل و لم يظهره و لم يتواطآ عليه ،فهي مبينة أن هذا هو التحليل، و هو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمراده و مقصوده؛ لاسيما إذا رووا حديثا و فسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يُعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين تحليل و تحليل، و لا رخص في شيء من أنواعه، مع أن المطلقة ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة و إلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك، و لو كان التحليل جائزا لدلّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا.
و الأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل و إن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها.
ذكر الآثار عن التابعين في تحريم التحليل
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح.
أخبرنا ابن جريج قال : قلتُ لعطاء : المحلل عامدا هل عليه عقوبة؟ قال : ما علمت و إني لأرى أن يُعاقَب. قال : و كلهم إن تمالئوا على ذلك مسيئون و إن أعظموا الصداق.
أخبرنا معمر عن قتادة قال : إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقربها إذا كان نكاحه على وجه التحليل.
أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : فطلق المحلل فراجعها زوجها قال : يفرق بينهما.
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في رجل تزوج امرأة يحللها و لا يعلمها، فقال الحسن : اتق الله و لا تكن مسمار نار في حدود الله.
قال ابن المنذر : و قال إبراهيم النخعي : إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة أنه محلل فنكاح الآخر باطل و لا تحل للأول.
قال : و قال الحسن البصري : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد.
قال : و قال بكر بن عبد الله المزني في الحالّ و المحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار.
قال : و قال عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :"إن ظنا أن يقينا حدود الله". قال :إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. و رواه ابن أبي حاتم في التفسير عنه.
و قال هشيم : أخبرنا سيار عن الشعبي أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك؛ أيُطلقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال : لا حتى يحدث نفسه أنه يُعمر معها و تُعمر معه؛ أي : تقيم معه. رواه الجوزجاني.
و روى النفيلي بسنده عن عطاء أنه قال في الرجل يطلق المرأة فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه. فقال : إن كان تزوجها ليُحلها له لم تحل له و إن كان تزوجها يريد إمساكها قد حلت له.
و قال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها الأول و لم يشعر بذلك زوجها الأول و لا المرأة : قال : إن كان إنما نكحها ليُحلها فلا يصلح ذلك لهما و لا تحل له. رواه حرب في مسائله.
و عنه أيضا قال : إن الناس يقولون حتى يجامعها، و أنا أقول إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. رواه سعيد بن منصور عنه.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين و هم الحسن و سعيد بن المسيب و عطاء بن أبي رباح و إبراهيم النخعي.
و قال أبو الشعثاء : قال جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها الأول و هو لا يعلم ، قال : لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليُحلها.
أعلام التابعين و تابعيهم على حُرمة التحليل
قال ابن المنذر : و ممن قال : إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة : مالك بن أنس و الليث بن سعد.
و قال مالك رحمه الله : يُفرَّق بينهما على كل حال؛ و تكون الفُرقة فسخا بغير طلاق.
قلتُ : لأنه لم يقع العقد صحيحا حتى يكون طلاقا.
و قال سفيان الثوري : إذا تزوجها و هو يريد أن يُحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يُفارق َ يستقبل نكاحا جديدا.
قال أحمد بن حنبل - مُعلقا عما قاله سفيان : جيد.
و قال إسحاق : لا يحل له أن يمسكها لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح.
و كان أبو عبيد يقول بقول الحسن و النخعي.
و قال الجوزجاني حدثنا إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة و في نفسه أن يحللها لزوجها الأول و لم تعلم المرأة بذلك ، فقال : هو محلل، و إذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون.
و قال الجوزجاني : و به قال أيوب.
وقال ابن أبي شيبة : لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول.
قال الجوزجاني : و أقول : إن الإسلام دين الله الذي اختاره و اصطفاه و طهره ؛حقيق بالتوقير و الصيانة مما لعله يشينه، و ينزه مما أصبح أبناء المِلل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم و لعنه عليه.
قلتُ : ثم ساق الجوزجاني الأحاديث المرفوعة في ذلك و الآثار.
كارثة بحق!!
اتّصلتُ هاتفيا بالشيخ الدكتور محمد وسام عضو دار الإفتاء المصرية مُنتحلا صفة سائل عامّي ؛ فسألته بكل أدب عن هذه الفتوى الموجودة في الصورة - قراءة عليه نص الفتوى -، فأجاب : " دار الإفتاء تذهبُ إلى أن التحليل ثابت بقول الله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره).
لذلك سمَّته دار الإفتاء محللا، فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللا" .
شكرا لك سيدي و بارك الله فيك.. قطعتُ الخط...!!
(النفاق و الإعتناق يا شيخ 😊 من طرفي).
و الله إن هذا لمن العجائب!!
معارضة الأحاديث الصحيحة و الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم بقول الله تعالى :" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" ، و الذي أُنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلل و المحلل له و أصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى؛ فلم يجعلوه زوجا و أبطلوا نكاحه و لعنوه.
على أي.. هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل السنة التي جاء بها، و فعل ما هو جائز صحيح في شريعته، و إنما سموه محللا لأنه أحلّ ما حرم الله فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره، و النكاح اسم في كتاب الله و سنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا؛ و هو الذي شُرع إعلانه و الضرب عليه بالدفوف و الوليمة فيه، و جُعل للإيواء و السكن، و جعله الله مودة و رحمة، و جرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة و لا كسوة و لا سكنى و لا إعطاء مهر، و لا يحصل به نسب و لا صهر و لا قصد المُقام مع الزوجة، و إنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب، و لهذا شبهه به النبي صلى الله عليه وسلم ثم لعنه، فعُلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن، و لا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن.
و قد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ،و لا المحلل و لا المحلل بزوج، و أن هذا منكر قبيح و تعير به المرأة و الزوج و المحلل و الولي، فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله و رسوله و أحبه و أخبر أنه سنته ،و من رغب عنه فليس منه؟!
و تأمل قوله تعالى :" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا" ،أي : فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها و على الأول أن يتراجعا، أي : ترجع إليه بعقد جديد، فأتى بحرف (إن) الدالة على أنه يمكنه أن يطلق و أن يقيم، و التحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها و لا يقبل قولها في وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه، و الله سبحانه و تعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة، و للإستمتاع، و هذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه و لوقوع الطلاق فيه؛ فإنه متى وطئ كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح و هذا ضد شرع الله.
و أيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني و طلاقه و اسمه كنكاح الأول، و طلاقه و اسمه، فهذا زوج و هذا زوج، و هذا نكاح و هذا نكاح؛ و كذلك الطلاق، و معلوم أن نكاح المحلل و طلاقه و اسمه لا يشبه نكاح الأول و لا طلاقه و لا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة و السكنى و الكسوة و غير ذلك من خصائص النكاح، و المحلل بريء من ذلك كله غير ملتزم لشيء منه.
و إذا كان الله تعالى و رسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الإستمتاع بالمرأة، و أن يقيم معها زمانا و هو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك، ثم يفارقها أولى بالتحريم.
نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه ذكرها شيخ الإسلام ؛ و سنقوم باختصار تلك الأوجه.
١- نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام و نكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان.
٢- الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و لم يكن في الصحابة محلل قط.
٣- نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة؛ فأباحه ابن عباس ،و إن قيل : إنه رجع عنه - و قد رجع عنه فعلا -، و أباحه ابن مسعود، ففي الصحيحين عنه قال :" كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و ليس لنا نساء؛ فقلنا : ألا نختصي فنهانا عن ذلك ،ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله :" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ". و فتوى ابن عباس بها مشهورة.
قال عروة في صحيح مسلم : قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرض بعبد الله بن عباس - لأنه كف بصره على كبر - فناداه؛ فقال : إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
فهذا قول ابن مسعود و ابن عباس في المتعة و ذاك قولهما و روايتهما في نكاح التحليل.
٤- رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجئ عنه في لعن المستمتع و المستمتَع بها حرف واحد، و جاء عنه في لعن المحلل و المحلل له و عن الصحابة (فلتُراجع أربع منشورات في الصفحة حوله).
٥- أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة و لها غرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدة، و المحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس ،فنكاحه غير مقصود له و لا للمرأة و لا للولي، و إنما هو كما قال الحسن : مسمار نار في حدود الله؛ و هذه التسمية مطابقة للمعنى.
قال شيخ الإسلام : يريد الحسن أن المسمار هو الذي يثبت الشيء المسمور ،فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها ؛و قد حرمها الله عليه.
٦- المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله؛ فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهرا و باطنا، و المحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزؤا، و لذلك جاء في وعيده ما لم يجئ في وعيد المستمتع مثله و لا قريب منه.
٧- المستمتع يريد المرأة لنفسه، و هذا سر النكاح؛ و مقصوده، فيريد بنكاحه حلها له، و لا يطؤها حراما ،و المحلل لا يريد حلها لنفسه و إنما يريد حلها لغيره، و لهذا سمي محللا، فأين من يريد أن يحل له وطء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك، و إنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره، فهذا ضد شرع الله و دينه و ضد ما وضع له النكاح.
٨- الفطر السليمة و القلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل و التقليد تنفر من التحليل أشد نفار و تعير به أعظم تعيير، حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، و نكاح المتعة لا تنفر منه الفِطَر و العقول ،و لو نفرت منه لم يُبح في أول الإسلام.
٩- نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب ،و إجارة الدار مدة للإنتفاع و السكنى و إجارة العبد للخدمة مدة و نحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح، و لكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شُرع بوصف الدوام و الإستمرار، و هذا بخلاف نكاح المحلل؛ فإنه لا يشبه شيئا من ذلك، و لهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح، و شبهوه باستعارة التيس للضراب.
١٠- الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع للإجارة، و الهبة و النكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها و مقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرقبة، و الإجارة سببا لملك المنفعة أو الإنتفاع، و النكاح سببا لملك البضع و حل الوطء، و المحلل مناقض معاكس لشرع الله و دينه، فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع و إحلاله له، و لم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع و حله له، و لا له غرض في ذلك، و لا دخل عليه، و إنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب و لم يجعل طريقا له.
و أخيرا- و الحمد لله - بعد ضغوطات و ردود من منابر شتى؛ قامت دار الإفتاء بحذف الفتاوى السابقة عن حِلّ التحليل ؛ و رجعت إلى الهُدى في المسألة، و أفتَت- أخيرا-بحرمة التحليل !!
لكن !! ماذا إن لم يطلع المسلم المتابع لصفحتهم على هذه التغريدة؛ و في نفس الوقت قد اطّلع على تغريداتهم السابقة ؟!
ثم للذين كانوا يدافعون عن صواب فتوى دار الإفتاء في حِل التحليل، فماذا عساكم القول الآن؟!
نُضيف :
المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا و باطنا، و هو في الباطن غير ملتزم له، و كذلك المحلل يظهر أنه زوج و أنه يريد النكاح و يسمي المهر و يشهد على رضى المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك؛ و لا القيام بحقوق النكاح، و قد أظهر خلاف ما أبطن و أنه مريد لذلك؛ و الله يعلم و الحاضرون و المرأة و هو و المطلق أن الأمر كذلك؛ و أنه غير زوج على الحقيقة و لا هي امرأته على الحقيقة.
نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية؛ و لا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة و لم يكونوا يرضون نكاح التحليل و لا يفعلونه، ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير؛ أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ، و نكاح آخر ؛ كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها و لا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه؛ فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، و إنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد؛ فكان هذا النكاح نكاح الإستبضاع، و نكاح آخر ؛ يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت و وضعت و مر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها؛ فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم؛ و قد ولدت، فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه، و نكاح رابع؛ يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع مما جاءها؛ و هن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن و وضعت حملها جمعوا لها و دعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به و دُعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
و معلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس اليوم الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّه و لم يهدمه ؛و لا كان أهل الجاهلية يرضون به ؛فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفِطَر و الأمم تنكره و تعير به.
حديثنا الليلة عن التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله؛ و شبهه بالتيس المستعار، و عظم بسببه العار و الشنار ،و عير المسلمين به الكفار، و حصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، و استُكريت له التيوس المستعارات و ضاقت بها ذرعا النفوس الأَبِيّات، و نفرت منه أشد من نفارها من السفاح.
لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته ، و فاعل السنة مقرب غير ملعون، و المحلِّل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار، و سماه السلف بمسمار النار.
فلو شاهدتَ الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات؛ تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجزّار و تقول : يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة و المقت نهض و استتبعها خلفه للوقت بلا زفاف و لا إعلان؛ بل بالتخفي و الكتمان، فلا جهاز يُنقل ولا فراش إلى بيت الزوج يُحول، و لا صواحب يهدينها إليه و لا مصلحات يجلينها عليه ، و لا مهر مقبوض و لا مؤخر، و لا نفقة و لا كسوة تُقدر، و لا وليمة و لا نثار؛ و لا دف و لا إعلان و لا شغار.
و الزوج يبذل المهر؛ و هذا التيس يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها و أرخى الحجاب، و المطلق و الولي واقفان على الباب، دنا ليطهرها بمائه النجس الحرام، و يطيبها بلعنة الله و رسوله عليه الصلاة والسلام.
حتى إذا قضيا عرس التحليل، و لم يحصل بينهما المودة و الرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل، فإنها لا تحصل باللعن الصريح، و لا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح ، فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا و تعجيلا، و إلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا.
فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق حتى يأخذ أجرته بعد الشرط و الإتفاق؟!
حتى إذا طهرها و طيبها و خلصها بزعمه من الحرام و جنبها؛ قال لها : اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الإلتئام و الإتفاق، فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها : هل كان ذاك، فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجرا؛ و قد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا.
و كثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم و ابنتها في عقدين، و يجمع ماءه في أكثر من أربع، و في رحم أختين ،و إذا كان هذا من شأنه وصِفته فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل و المحلَل له". رواه الحاكم و هو صحيح.
و قال الترمذي رحمه الله : " و العمل عليه عند أهل العلم؛ منهم عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، و هو قول الفقهاء من التابعين".
و رواه الإمام أحمد في مسنده و النسائي في سننه بإسناد صحيح، و لفظها :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة و المؤتشمة و الواصلة و الموصولة و المحلل و المحلل له و آكل الربا و موكله ".
و في مسند الإمام أحمد و سنن النسائي أيضا و هو صحيح :عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه إذا علموا به، و الواصلة و المستوصلة ،و لاوي الصدقة و المعتدي فيها، و المرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته، و المحلل و المحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة".
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه لعن المحلل و المحلل له ". رواه الإمام أحمد و هو صحيح.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لعن الله المحلل و المحلل له ". رواه الإمام أحمد و هو حسن.
و قال الترمذي في كتاب (العلل) سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن، و عبد الاه بن جعفر المخزومي صدوق ثقة، و عثمان بن محمد الأخنسي ثقة.
و روى بن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه و هو صحيح قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل و المحلل له".
و عن ابن عباس رضي الله عنه أيضا بسند حسن عند ابن ماجه :" سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال : لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة و لا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة".
رواة هذا الحديث كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه، و الشافعي حسن الرأي فيه و يحتج بحديثه.
و عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلل، لعن الله المحلل و المحلل له "رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثوقون لم يجرح واحد منهم.
و عن عمرو بن دينار - و هو من أعيان التابعين - أنه سُئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه و لا علمها، فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له، فقال : لا ،ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال :" لا ،حتى ينكح مرتغبا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة "، رواه ابن أبي شيبة و هو صحيح.
و هذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على ثبوته عنده، و قد عمل به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، و ه ه موافق لبقية الأحاديث الموصولة، و مثل هذا حجة باتفاق الأئمة، و هو و الذي قبله نص في التحليل المنوي.
و كذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له : امرأة تزوجتُها أُحلها لزوجها لم يأمرني و لم يعلم ،قال : لا،إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، و إن كرهتها فارقتها، و إن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحا.
رواه الحاكم ،و هو موقوف عن ابن عمر؛ و هو صحيح.
بعض آثار الصحابة رضي الله عنهم في التحليل
في كتاب المصنف لابن أبي شيبة؛ و سنن الأثرم، و الأوسط لابن المنذر ،عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :" لا أوتى بمُحلِّل و لا محلَّل له إلا رجمتهما".
و لفظ عبد الرزاق و ابن المنذر كما أخرجه البيهقي في الكبرى :" لا أوتى بمحلل و لا محللة إلا رجمتهما".
و هو صحيح عن عمر.
َ في حديث صحيح عند ابن أبي شيبة موقوف عن ابن عمر أنه سُئل عن تحليل المرأة لزوجها؛ فقال : "ذاك السِّفاح".
و روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه سُئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها و ندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضي الله عنه :" كلاهما زانٍ و إن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يُحلها له".
و روى عبد الرزاق أيضا عن ابن عباس و سأله رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا؛ فقال : إن عمك عصى الله فأندمه و أطاع الشيطان؛ فلم يجعل له مخرجا، قال : كيف ترى في رجل يحللها، قال : من يخادع الله يخدعه.
و عن سليمان بن يسار قال : رُفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها؛ ففرق بينهما و قال : لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة.
رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب المترجم.
و في المهذب لأبي إسحاق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال : إن جاري طلق امرأته في غضبه و لقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي و مالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها. فقال له عثمان رضي الله عنه : لا تنكحها إلا نكاح رغبة.
و ذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، و لا استهزاء بكتاب الله.
و علي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل، فقد جعل هذا من التحليل.
و روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لعن الله المحلل و المحلل له.
و هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل و قد فسره بما قصد به التحليل و إن لم تعلم به المرأة ،فكيف بما اتفقا عليه و تراضيا و تعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة.
و ذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه قال : لعن الله المحلل و المحلل له.
و روى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها فقال : لعن الله الحالّ و المحل له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه : و هذه الآثار عن عمر و عثمان و علي و ابن عباس و ابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل و لم يظهره و لم يتواطآ عليه ،فهي مبينة أن هذا هو التحليل، و هو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمراده و مقصوده؛ لاسيما إذا رووا حديثا و فسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يُعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين تحليل و تحليل، و لا رخص في شيء من أنواعه، مع أن المطلقة ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة و إلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك، و لو كان التحليل جائزا لدلّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا.
و الأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل و إن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها.
ذكر الآثار عن التابعين في تحريم التحليل
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح.
أخبرنا ابن جريج قال : قلتُ لعطاء : المحلل عامدا هل عليه عقوبة؟ قال : ما علمت و إني لأرى أن يُعاقَب. قال : و كلهم إن تمالئوا على ذلك مسيئون و إن أعظموا الصداق.
أخبرنا معمر عن قتادة قال : إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقربها إذا كان نكاحه على وجه التحليل.
أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : فطلق المحلل فراجعها زوجها قال : يفرق بينهما.
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في رجل تزوج امرأة يحللها و لا يعلمها، فقال الحسن : اتق الله و لا تكن مسمار نار في حدود الله.
قال ابن المنذر : و قال إبراهيم النخعي : إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة أنه محلل فنكاح الآخر باطل و لا تحل للأول.
قال : و قال الحسن البصري : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد.
قال : و قال بكر بن عبد الله المزني في الحالّ و المحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار.
قال : و قال عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :"إن ظنا أن يقينا حدود الله". قال :إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. و رواه ابن أبي حاتم في التفسير عنه.
و قال هشيم : أخبرنا سيار عن الشعبي أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك؛ أيُطلقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال : لا حتى يحدث نفسه أنه يُعمر معها و تُعمر معه؛ أي : تقيم معه. رواه الجوزجاني.
و روى النفيلي بسنده عن عطاء أنه قال في الرجل يطلق المرأة فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه. فقال : إن كان تزوجها ليُحلها له لم تحل له و إن كان تزوجها يريد إمساكها قد حلت له.
و قال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها الأول و لم يشعر بذلك زوجها الأول و لا المرأة : قال : إن كان إنما نكحها ليُحلها فلا يصلح ذلك لهما و لا تحل له. رواه حرب في مسائله.
و عنه أيضا قال : إن الناس يقولون حتى يجامعها، و أنا أقول إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. رواه سعيد بن منصور عنه.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين و هم الحسن و سعيد بن المسيب و عطاء بن أبي رباح و إبراهيم النخعي.
و قال أبو الشعثاء : قال جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليُحلها لزوجها الأول و هو لا يعلم ، قال : لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليُحلها.
أعلام التابعين و تابعيهم على حُرمة التحليل
قال ابن المنذر : و ممن قال : إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة : مالك بن أنس و الليث بن سعد.
و قال مالك رحمه الله : يُفرَّق بينهما على كل حال؛ و تكون الفُرقة فسخا بغير طلاق.
قلتُ : لأنه لم يقع العقد صحيحا حتى يكون طلاقا.
و قال سفيان الثوري : إذا تزوجها و هو يريد أن يُحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يُفارق َ يستقبل نكاحا جديدا.
قال أحمد بن حنبل - مُعلقا عما قاله سفيان : جيد.
و قال إسحاق : لا يحل له أن يمسكها لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح.
و كان أبو عبيد يقول بقول الحسن و النخعي.
و قال الجوزجاني حدثنا إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة و في نفسه أن يحللها لزوجها الأول و لم تعلم المرأة بذلك ، فقال : هو محلل، و إذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون.
و قال الجوزجاني : و به قال أيوب.
وقال ابن أبي شيبة : لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول.
قال الجوزجاني : و أقول : إن الإسلام دين الله الذي اختاره و اصطفاه و طهره ؛حقيق بالتوقير و الصيانة مما لعله يشينه، و ينزه مما أصبح أبناء المِلل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم و لعنه عليه.
قلتُ : ثم ساق الجوزجاني الأحاديث المرفوعة في ذلك و الآثار.
كارثة بحق!!
اتّصلتُ هاتفيا بالشيخ الدكتور محمد وسام عضو دار الإفتاء المصرية مُنتحلا صفة سائل عامّي ؛ فسألته بكل أدب عن هذه الفتوى الموجودة في الصورة - قراءة عليه نص الفتوى -، فأجاب : " دار الإفتاء تذهبُ إلى أن التحليل ثابت بقول الله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره).
لذلك سمَّته دار الإفتاء محللا، فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللا" .
شكرا لك سيدي و بارك الله فيك.. قطعتُ الخط...!!
(النفاق و الإعتناق يا شيخ 😊 من طرفي).
و الله إن هذا لمن العجائب!!
معارضة الأحاديث الصحيحة و الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم بقول الله تعالى :" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" ، و الذي أُنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلل و المحلل له و أصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى؛ فلم يجعلوه زوجا و أبطلوا نكاحه و لعنوه.
على أي.. هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل السنة التي جاء بها، و فعل ما هو جائز صحيح في شريعته، و إنما سموه محللا لأنه أحلّ ما حرم الله فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره، و النكاح اسم في كتاب الله و سنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا؛ و هو الذي شُرع إعلانه و الضرب عليه بالدفوف و الوليمة فيه، و جُعل للإيواء و السكن، و جعله الله مودة و رحمة، و جرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة و لا كسوة و لا سكنى و لا إعطاء مهر، و لا يحصل به نسب و لا صهر و لا قصد المُقام مع الزوجة، و إنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب، و لهذا شبهه به النبي صلى الله عليه وسلم ثم لعنه، فعُلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن، و لا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن.
و قد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ،و لا المحلل و لا المحلل بزوج، و أن هذا منكر قبيح و تعير به المرأة و الزوج و المحلل و الولي، فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله و رسوله و أحبه و أخبر أنه سنته ،و من رغب عنه فليس منه؟!
و تأمل قوله تعالى :" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا" ،أي : فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها و على الأول أن يتراجعا، أي : ترجع إليه بعقد جديد، فأتى بحرف (إن) الدالة على أنه يمكنه أن يطلق و أن يقيم، و التحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها و لا يقبل قولها في وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه، و الله سبحانه و تعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة، و للإستمتاع، و هذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه و لوقوع الطلاق فيه؛ فإنه متى وطئ كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح و هذا ضد شرع الله.
و أيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني و طلاقه و اسمه كنكاح الأول، و طلاقه و اسمه، فهذا زوج و هذا زوج، و هذا نكاح و هذا نكاح؛ و كذلك الطلاق، و معلوم أن نكاح المحلل و طلاقه و اسمه لا يشبه نكاح الأول و لا طلاقه و لا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة و السكنى و الكسوة و غير ذلك من خصائص النكاح، و المحلل بريء من ذلك كله غير ملتزم لشيء منه.
و إذا كان الله تعالى و رسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الإستمتاع بالمرأة، و أن يقيم معها زمانا و هو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك، ثم يفارقها أولى بالتحريم.
نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه ذكرها شيخ الإسلام ؛ و سنقوم باختصار تلك الأوجه.
١- نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام و نكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان.
٢- الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و لم يكن في الصحابة محلل قط.
٣- نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة؛ فأباحه ابن عباس ،و إن قيل : إنه رجع عنه - و قد رجع عنه فعلا -، و أباحه ابن مسعود، ففي الصحيحين عنه قال :" كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و ليس لنا نساء؛ فقلنا : ألا نختصي فنهانا عن ذلك ،ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله :" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ". و فتوى ابن عباس بها مشهورة.
قال عروة في صحيح مسلم : قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرض بعبد الله بن عباس - لأنه كف بصره على كبر - فناداه؛ فقال : إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
فهذا قول ابن مسعود و ابن عباس في المتعة و ذاك قولهما و روايتهما في نكاح التحليل.
٤- رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجئ عنه في لعن المستمتع و المستمتَع بها حرف واحد، و جاء عنه في لعن المحلل و المحلل له و عن الصحابة (فلتُراجع أربع منشورات في الصفحة حوله).
٥- أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة و لها غرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدة، و المحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس ،فنكاحه غير مقصود له و لا للمرأة و لا للولي، و إنما هو كما قال الحسن : مسمار نار في حدود الله؛ و هذه التسمية مطابقة للمعنى.
قال شيخ الإسلام : يريد الحسن أن المسمار هو الذي يثبت الشيء المسمور ،فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها ؛و قد حرمها الله عليه.
٦- المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله؛ فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهرا و باطنا، و المحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزؤا، و لذلك جاء في وعيده ما لم يجئ في وعيد المستمتع مثله و لا قريب منه.
٧- المستمتع يريد المرأة لنفسه، و هذا سر النكاح؛ و مقصوده، فيريد بنكاحه حلها له، و لا يطؤها حراما ،و المحلل لا يريد حلها لنفسه و إنما يريد حلها لغيره، و لهذا سمي محللا، فأين من يريد أن يحل له وطء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك، و إنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره، فهذا ضد شرع الله و دينه و ضد ما وضع له النكاح.
٨- الفطر السليمة و القلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل و التقليد تنفر من التحليل أشد نفار و تعير به أعظم تعيير، حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، و نكاح المتعة لا تنفر منه الفِطَر و العقول ،و لو نفرت منه لم يُبح في أول الإسلام.
٩- نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب ،و إجارة الدار مدة للإنتفاع و السكنى و إجارة العبد للخدمة مدة و نحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح، و لكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شُرع بوصف الدوام و الإستمرار، و هذا بخلاف نكاح المحلل؛ فإنه لا يشبه شيئا من ذلك، و لهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح، و شبهوه باستعارة التيس للضراب.
١٠- الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع للإجارة، و الهبة و النكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها و مقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرقبة، و الإجارة سببا لملك المنفعة أو الإنتفاع، و النكاح سببا لملك البضع و حل الوطء، و المحلل مناقض معاكس لشرع الله و دينه، فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع و إحلاله له، و لم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع و حله له، و لا له غرض في ذلك، و لا دخل عليه، و إنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب و لم يجعل طريقا له.
و أخيرا- و الحمد لله - بعد ضغوطات و ردود من منابر شتى؛ قامت دار الإفتاء بحذف الفتاوى السابقة عن حِلّ التحليل ؛ و رجعت إلى الهُدى في المسألة، و أفتَت- أخيرا-بحرمة التحليل !!
لكن !! ماذا إن لم يطلع المسلم المتابع لصفحتهم على هذه التغريدة؛ و في نفس الوقت قد اطّلع على تغريداتهم السابقة ؟!
ثم للذين كانوا يدافعون عن صواب فتوى دار الإفتاء في حِل التحليل، فماذا عساكم القول الآن؟!
نُضيف :
المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا و باطنا، و هو في الباطن غير ملتزم له، و كذلك المحلل يظهر أنه زوج و أنه يريد النكاح و يسمي المهر و يشهد على رضى المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك؛ و لا القيام بحقوق النكاح، و قد أظهر خلاف ما أبطن و أنه مريد لذلك؛ و الله يعلم و الحاضرون و المرأة و هو و المطلق أن الأمر كذلك؛ و أنه غير زوج على الحقيقة و لا هي امرأته على الحقيقة.
نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية؛ و لا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة و لم يكونوا يرضون نكاح التحليل و لا يفعلونه، ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير؛ أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ، و نكاح آخر ؛ كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها و لا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه؛ فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، و إنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد؛ فكان هذا النكاح نكاح الإستبضاع، و نكاح آخر ؛ يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت و وضعت و مر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها؛ فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم؛ و قد ولدت، فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه، و نكاح رابع؛ يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع مما جاءها؛ و هن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن و وضعت حملها جمعوا لها و دعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به و دُعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
و معلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس اليوم الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّه و لم يهدمه ؛و لا كان أهل الجاهلية يرضون به ؛فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفِطَر و الأمم تنكره و تعير به.