النبي معلماً ومربياً من خطب الجمعة
للشيخ محمد نبيه
للشيخ محمد نبيه
النبي معلماً ومربياً من خطب الجمعة يوضح فيها الشيخ نبيه أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم من اختيار الوقت المناسب للتربية والرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن وغيرها من الأساليب النبوية.
معلم البشرية
المعلِّم الأول والمربِّي الأمثل، وأيُّ معلمٍ كان، بل أيُّ إنسانٍ، أيُّ إيمانٍ، وأيُّ عزمٍ، وأيُّ مضاء، أيُّ خلقٍ، وأيُّ أسلوبٍ، وأيُّ عطاء.
وهل يظن ظانٌ أنه يوجد أو سيوجد على وجه الأرض من هو أسمى وأعلى وأشرف من الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّما ومربِّياً؟
فهو الذي بعثه الله تعالى في أمة سيطر عليها الجهل واستولت عليها الخرافة، فصنع بإذن الله منها أمة حاملة لرسالة العلم والتعليم.
قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة: 151)
فمع المعلِّم الأول ومع هديه صلى الله عليه وسلم نقف هذه الوقفات العابرة.
الرسول المعلم والمربي
قال تعالى وتقدس: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (سورة الجمعة:2)، ولم يكن أحد أحسن تعليماً منه صلي الله عليه وسلم لم يكن يكهر ولا ينهر ولم يكن يكل ولا يمل.
كان صلى الله عليه وسلم يراعي في تربيته وتعليمه لأصحابه القصد والاعتدال، بل وكان يتعهد أحوالهم قبل تذكيرهم وتعليمهم، وهذه من حكمته صلى الله عليه وسلم حتى لا ينفروا.
أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم
التربية والتعليم للشرائع بالتدرج.
التربية والتعليم بالقصص، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ).
مراعاته صلى الله عليه وسلم لمقتضى حال أصحابه فكان يعلم كل إنسان ما يناسبه بالحوار تارة والمساءلة تارة، وبالمحادثة تارة والموازنة العقلية تارة.
فجمع صلى الله عليه وسلم بين القول والإشارة وضرب الأمثال في التعليم، إجابة السائل عن سؤاله، الوعظ والتذكير.
= التربية والتعليم بالقدوة
كان النبي معلماً ومربياً يربي أصحابه بالقدوة الحيّة الماثلة فيه صلى الله عليه وسلم، فكان يدعوهم إلى تقوى الله وهو أتقاهم، وينهاهم عن الشيء فيكون أشدّهم حذراً منه، ويعظهم ودموعه على خدّه الشريف.
ويوصيهم بأحسن الخلق، فإذا هو أحسنهم خلقاً، ويندبهم إلى ذكر الله وإذا به أكثرهم ذكراً، ويناديهم إلى البذل والعطاء ثم يكون أسخاهم يداً وأكرمهم نفساً، وينصحهم بحسن العشرة مع الأهل، ثم تجده أحسن الناس لأهله رحمة وعطفاً ورقةً ولطفاً.
= اختيار الوقت المناسب للتربية
فكان صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهية السآمة والملل عليهم، أي يتركهم فترات من الزمن بلا وعظ ليكون أنشط لنفوسهم وأروح لقلوبهم، فكان إذا وعظهم أوجز وأبلغï¸ڈ.
وكان ينهى عن التطويل على الناس وإدخال المشقة عليهم، سواء في الصلاة أو الخطب، ويقول: (إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فأطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ). (صحيح مسلم:869)
وكان يترك لأصحابه فرصة يسمع منهم ويصحح لهم:
كما أنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: (لِتعلمَ يهودُ أنَّ في دِيننا فُسحةً). (السلسلة الصحيحة:6/1023)
ودخل أبو بكر عليه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان تغنيان يوم العيد، فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبَا بَكْرٍ، إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وهذا عِيدُنَا). (صحيح البخاري:952)
وسأل صلى الله عليه وسلم عائشة عن زواج حضرته للأنصار فقال: (يا عائِشَةُ، ما كانَ معكُمْ لَهْوٌ؟ فإنَّ الأنْصارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ). (صحيح البخاري:5162)
كل هذا في حدود المباح الذي يريح النفس ويذهب عنها السأم والملل، أما الحرام فكان أبعد الناس عنه صلى الله عليه وسلم.
التربية والتعليم للصغار
قال صلى الله عليه وسلم لأحدهم وهو عمر بن أبي سلمة: (يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بيَمِينِكَ، وَكُلْ ممَّا يَلِيكَ). (صحيح مسلم:2022)
وزرع في الآخر حب الله وخشية الله فقال: (والله يا أنس لولا خوف الله ولولا خشية الله لضربتك بهذا المسواك)، وعلم الشباب فقال لأحدهم: (كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). (صحيح البخاري:6416)
وقال للآخر: (أحكم السفينة فإن البحر عميق واستكثر من الزاد فإن السفر طويل وخفف الحمل فإن العقبة كؤود وأخلص العمل فإن الناقد بصير).
التربية والتعليم للكبار
روى أبو بكرة نفيع بن الحارث أن رجلاً قال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: (مَن طالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ). قال: فأي الناس شر؟ قال: (مَن طالَ عُمُرُهُ، وَساءَ عَمَلُهُ). (تخريج المسند:20504)
وقال لآخر: (لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْبًا من ذِكرِ اللهِ). (تخريج المسند:17680)
وقف رسول الله بين أصحابه معلماً ومربياً وناصحاً أميناً يعظهم ويعلمهم ويفقههم باللين تارة وبالحلم تارة والصبر تارة أخري، وقد كان من أصحابه السهل وكان منهم الصلب فما كان أحد أحسن تعليما للجميع منه عليه الصلاة والسلام.
فما أحوج كلُّ واحد منا في موقع إنتاجه وعطائه وفي بيته ومع زوجه وولده وجاره وصحبه وبحسب ما منَّ الله به عليه من قدرات فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها أن يتحرى وأن يتحسس هدي النبي عليه الصلاة والسلام ففي اتباع الهدي النبوي نجاة وأي نجاة.
الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن
روى مسلم في صحيحه عن معاويةَ بن الحكم السُلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُميّاه! ما شأنكم؟ تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمِّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: (إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ). (صحيح مسلم:537)
فتأمل يا أُخي هذا الأسلوب من نبينا المصطفى المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، فرغم أنَّ هذا الخطأ كان خطأ كبيراً لأنه من مبطلات الصلاة التي هي عماد الدين، إلا أنه لم يعنف صاحبه، ولم يوبخه، إنما علَّمه برفق ولين وأسلوب حسن.
ومن رفقه صلى الله عليه وسلم في تعليمه كان يقول: (إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ) (صحيح مسلم:2593)، ويقول: (إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ). (صحيح مسلم:2594)
وكان يصل الى قلوب الناس بألين السبل حتى قال فيه ربه عز وجل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران:159)، فهو أعظم من تمثل خلق القرآن، فتجده القريب من النفوس، الحبيب إلى القلوب.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (لقَدْ حَجَّرْتَ واسِعًا) يريد رحمة الله أي أنه ضيّق رحمة الله التي وسعت كل شيء. (صحيح البخاري:6010)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إنَّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ، ولا القَذَرِ إنَّما هي لِذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. (صحيح مسلم:285)
وفي الصحيحين أن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه يقول: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ)، فما زالت تلك طعمتي بعد. (صحيح البخاري:5376)
وفي الصحيحين أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، قال: وعليكم، فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ)، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟! قال: (أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قُلتُ؟ رَدَدْتُ عليهم، فيُسْتَجَابُ لي فيهم، ولَا يُسْتَجَابُ لهمْ فِيَّ). (صحيح البخاري:6401)
ليس في قاموس حياته صلى الله عليه وسلم ولا في معجم أدبه كلمة نابية ولا بذيئة ولا فاحشة، وإنما طهر كله ونقاء وصفاء ولين ووفاء، لأنه رحمة مهداة، ونعمة مسداة، وبركة عامة، وخير متصل.
العناية بالمتعلم والاهتمام به
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث، فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: (أيْنَ – أُرَاهُ – السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قال: كيف إضاعتها؟ قالَ: (إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). (صحيح البخاري:59)
فهو صلى الله عليه وسلم رغم أنه كان مشغولاً بحديثه لم ينس هذا السائل ولم يهمله، إنما كان مهتماً به فأجابه على سؤاله لما فرغَ من كلامه، وهذا الاهتمام يكشف عن تلك النفس الإنسانية العالية، والخلق السامي الرفيع من رسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.
إيجاد الدافعية للتعلم من خلال إشعار المتعلم بحاجته إلى العلم
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال: (ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق، فما أحسن غيره، فعلمني، قال: (قَالَ: إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا). (صحيح البخاري:793)
وهكذا أوجد عليه الصلاة والسلام لديه الدافعية للتعلم والرغبة الذاتية فيه، وفرق بين أن يعمله صلى الله عليه وسلم ابتداء، وبين أن يشعر هو بحاجته للعلم ورغبته الشديدة فيه، فهذا أدعى للقبول وأعمق في التأثير.
استغلال المواقف والأحداث وربطها بالتعليم
إنَّ المواقف والأحداث تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقفُ يقع التعليم موقعه المناسب ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة تستعصي على النسيان.
وهذا ما كان يستخدمه رسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم في تعليمه كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَتَرَوْنَ هذِه المَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟) قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا). (صحيح مسلم:2754)
من انتهازه صلى الله عليه وسلم المناسبات العارضة في التعليم أنه كان يربط بين المناسبة القائمة، والعلم الذي يريد بثه وإذاعته كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: (أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: (أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟) قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: (فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ). (صحيح مسلم:2957)
فعلم صلى الله عليه وسلم (بالترغيب والترهيب) وعدم اقتصاره على الترهيب خشية التنفير، ولا على الترغيب لئلا يؤدي إلى الكسل وترك العمل.
تعليمه بالعبرة (بالقصص وأخبار الماضين) ليكون في ذلك العبرة والموعظة والقدوة والائتساء كما في صحيح البخاري من حديث الرجل والكلب العطش، وفي صحيح البخاري من حديث المرأة والهرة التي حبستها.
ضبط المعلومات بالكتابة (اتخاذه صلى الله عليه وسلم الكتابة وسيلة في التعليم والتبليغ ونحوهما) فقد كان له أكثر من خمسة عشر كاتباً يكتبون عنه القرآن، وكتاب آخرون إلى الآفاق والملوك لتبليغ الإسلام، والدعوة إليه.
وبعد أن يورد المؤلف ثلاثين أسلوباً، من مثل اهتمامه بتعليم النساء ووعظهن، واكتفائه بالتعريض والإشارة في تعليم ما يستحيا منه، وتعليمه بالمقايسة والتمثيل، واستعادة السؤال لإيفاد بيان الحكم، وإجماله الأمر ثم تفصيله ليكون أوضح وأمكن في الحفظ والفهم، يختم بالتعليم بذاتيته الشريفة صلى الله عليه وسلم، فهو معلم بذاته الشريفة لكل متعلم ومسترشد، تتمثل فيه غاية التعليم بأساليبه المختلفة، فقد كان صلى الله عليه وسلم معلماً، بمظهره ومخبره، وحاله ومقاله، وجميع أحواله.
استخدام أسلوب المحاورة والإقناع العقلي
وهو أسلوب تربوي ناجح، ويثير المتعلم، ويشوقه لفهم المعلومة، فمرة يسأل أصحابه عن حق الجار، وآخري عن المفلس، أومن المسلم؟ وكل ذلك لإثارة المتعلمين في قبول المعلومة وفهمها.
روى أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إنَّ فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إئذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: (ادنُهْ)، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: (أتُحبُّهُ لأُمِّكَ؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأُمَّهاتِهِم)، قال: (أفتحبُّهُ لابنتِكَ؟) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: (ولا النَّاسُ يحبُّونَه لبَناتِهِم)، قال: (أفتُحبُّهُ لأُخْتِكَ؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأخواتِهِم)، قال: (أفتُحبُّهُ لعمَّتِكَ؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهِم)، قال: (أفتُحبُّه لخالتِكَ؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: (ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لخَالاتِهِم)، قال: فوضع يده عليه وقال: (اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قلْبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه)، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (الصحيح المسند:501)
ففي هذا الحديث نلمس عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم المعلم الأول والمربِّي الأمثل، وحسن تعليمه وتأمله مع هذا الشاب، فلم يزجره ولم يقل له إن الله حرم الزنا ورتب على ذلك وعيداً شديداً، لأن هذه الأمور معلومة لدى الشاب، فهو ليس بجاهل، فكانت الوسيلة المناسبة له الإقناع العقلي والحوار الهادئ من قلب مفعم بالرحمة والرأفة والشفقة.
عدم التصريح بالأسماء في معرض التوبيخ
غالباً ما يكون التوبيخ له أثر في نفس الموبَّخ، ويعظم هذا الأثر إن كان التوبيخ بحضور الآخرين.
ورسولنا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم كانت له طريقة فريدة من نوعها في معالجة الأخطاء الظاهرة، فكان عليه الصلاة والسلام يشهِّر بالخطأ ويذمه ولا يشهِّر بصاحب الخطأ، لأن الغرض من التشهير بالخطأ التحذير من الوقوع فيه وذمه وليس التشفي من المخطئ.
في الصحيحين عن أبي حُميدٍ الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد يقال له ابن الأتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر – قال سفيان أيضا فصعد المنبر – فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتي يقولُ: هذا لكَ وهذا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أيُهْدَى له أمْ لا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يَأْتي بشيءٍ إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ألا هل بلغت ثلاثا. (صحيح البخاري:7174)
تشجيع المتميزين والثناء الحسن عليهم
لما كانت النفس البشرية تميل إلى حب سماع الكلام الطيب والثناء الحسن خاصة مع الجد والاجتهاد، لذلك كان نبينا الكريم المعلم الأول صلى الله عليه وسلم يحرص على استخدام عبارات التشجيع والثناء الحسن لمن كان أهلاً لذلك.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقَدْ ظَنَنْتُ، يا أبَا هُرَيْرَةَ، أنْ لا يَسْأَلَنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ، لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصِكَ علَى الحَديثِ، أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ مَن قَالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قِبَلِ نَفْسِهِ). (صحيح البخاري:6570)
فتخيَّل بارك الله فيك شعور أبي هريرة رضي الله عنه وهو يسمع هذا الثناء وهذه الشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بحرصه على العلم، بل وتفوقه على كثير من أقرانه، ولك أن تتصور يا أخي كيف سيكون هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والجد والاجتهاد.
فما أروعه من معلمٍ ومربِّ ليس له مثيل صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وصحبه.
استعمال وسائل الإيضاح بأشكالها المتعددة (بالرسم على الأرض والتراب): جاء في تخريج المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط بيده في الأرض خطاً هكذا أمامه، فقال: (هذا سَبيلُ اللهِ)، وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، وقال: (هذه سَبيلُ الشَّيطانِ)، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَظ°ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ غ– وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ غڑ ذَظ°لِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (سورة الأنعام:153)). (تخريج المسند:15277)
من الأسلوب النبوي في التعليم
التدريج في التعليم (تعليمه صلى الله عليه وسلم الشرائع بالتدريج) مقدماً الأهم فالأهم، ومعلماً شيئاً فشيئاً، ليكون أقرب تناولاً، وأثبت على الفؤاد حفظاً وفهماً، من ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن”. ومن تطبيقاته في أساليب المربين ما قاله ابن شهاب: “ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي”.
رعاية الفروق الفردية في المتعلمين، وقد أشار المؤلف إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد المراعاة للفروق الفردية بين المتعلمين من المخاطبين والسائلين، فكان يخاطب كل واحد بقدر فهمه، وبما يلائم منزلته، من ذلك قوله لرجل: (لا تغضب) وكررها ثلاثاً، وأمره لآخر وقد جاء يبايعه على الجهاد والهجرة أن يبقى مع والديه، ويحسن صحبتهما، وطلبه من أحدهم وقد سأله ما أكثر ما يخافه عليه، أن يمسك عليه لسانه!!
تعليمه بالحوار والمساءلة، وهي طريقة تذهب الملل عن السامع وتجعله يحفظ ما يسمع وقد رآه شاخصاً أمام عينيه كما في حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلون الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة، فتارة يكون سائلاً، وتارة يكون مجيباً، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيد ما سأل، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه، وتارة يصحب كلامه القسم بالله تعالى، وتارة يلفت السائل عن سؤاله لحكمة بالغة منه صلى الله عليه وسلم، وتارة يعلم بطريق الكتابة، وتارة بطريق الرسم، وتارة بطريق التشبيه أو التصريح، وتارة بطريق الإبهام أو التلويح.
وكان صلى الله عليه وسلم تارة يطلب من أصحابه الإفادة دون سؤال منهم! لا سيما في الأمور المهمة التي لا ينتبه لها كل واحد حتى يسأل عنها، فكان صلى الله عيه وسلم يعلم أصحابه جواب الشبهة قبل حدوثها، خشية أن تقع في النفوس فتستقر بها، وتفعل فعلها السيئ.
وتحذيره من الفتور في التعليم والتعلم، ثم كلمة وجيزة عن شخصيته التعليمية التي تبرز فيها الرأفة والرحمة، وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم، والحرص عليه، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة، ثم كلمات جامعة في بيان خصائص هذا الرسول المعلم وفضائله، وشرف أخلاقه وشمائله، تتبدى منها جوانب شخصيته العامة، لأن معرفتها من تمام معرفة شخصيته التعليمية، التي هي جزء منها ولا تستقل عنها، كما يتبدى منها أيضاً مبعث قبول أقواله وأحكامه الصادرة عنه، والتأسي بأفعاله الواردة منه، ومدى وقعها في النفوس، وهي تشمل كل جانب من جوانب الحياة والدين.