كان أساطين الفلاسفة و متقدموهم العارفون فيهم معظمين للرسل و الشرائع؛ موجبين لاتباعهم، خاضعين لأقوالهم ، معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل، و أن عقول الرسل و حكمتهم فوق عقول العالمين و حكمتهم، و كانوا لا يتكلمون في الإلهيات و يسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، و يقولون : علومنا إنما هي الرياضيات و الطبيعيات و توابعها ،و كانوا يقرون بحدوث العالم، و قد حكى أرباب المقالات أن أول من عُرف عنه القول بقِدم هذا العالم أرسطو ،و كان مشركا يعبد الأصنام ،و له في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، و قد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية و المعتزلة و القدرية و الرافضة و فلاسفة الإسلام أنكروه عليه ،و جاء فيه بما يسخر منه العقلاء.
و أنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجودات، و قرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته و لم يكن كاملا في نفسه، و بأنه كان يلحقه التعب و الكلال من تصور المعلومات.
فهذا غاية هذا المعلم و الأستاذ!!
و قد حكى ذلك أبو البركات و بالغ في إبطال هذه الحجج و ردها.
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه : الكفر بالله تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، و درج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل و هو منحل من كل ما جاءوا به؛ و أتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، و يرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قبلوه و ما خالفه لم يعبئوا به شيئا.
و يسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر.
و زعم أرسطو و أتباعه أن المنطق ميزان المعاني ؛كما أن العروض ميزان الشعر، و قد بين نُظّار الإسلام فساد هذا الميزان و عوجه و تعويجه للعقول و تخبيطه للأذهان، و صنفوا في رده و تهافته كثيرا ؛و آخِر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ألّف في رده و إبطاله كتابين كبيرا و صغيرا، بين فيه تناقضه و تهافت فساد كثير من أوضاعه، و هناك مصنف لأبي سعيد السيرافي كذلك.
و المقصود : أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني : أبي نصر الفارابي ،فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق و بسطها و شرح فلسفة أرسطو و هذبها و بالغ في ذلك، و كان على طريقة سلفه من الكفر بالله تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة، و إذا رأوه مؤمنا بالله و ملائكته و كتبه و رسله و لقائه متقيدا بشريعة الإسلام نسبوه إلى الجهل و الغباوة ،فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته و معرفته نسبوه إلى التلبيس و التنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام.
فالزندقة و الإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط.
و لعل الجاهل يقول : إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله إليهم، و ليس هذا من جهله بمقالات القوم و جهله بحقائق الإسلام ببعيد.
فاعلم أن الله سبحانه و تعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم و لسانهم و قدوتهم الذي يقدمونه على الرسل - أبو علي بن سينا - : هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، و ليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به و لا يفعل شيئا باختياره ألبتة ،و لا يعلم شيئا من الموجودات أصلا، و لا يعلم عدد الأفلاك و لا شيئا من المغيبات، و لا له كلام يقوم به و لا صفة.
و معلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له، و إنما غايته أن يفرضه الذهن و يقدره كما يفرض الأشياء المقدرة، و ليس هذا هو الرب الذي دعت إليه الرسل و عرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة و جردته عن الماهية ؛و عن كل صفة ثبوتية و كل فعل اختياري، و أنه لا داخل العالم و لا خارجه، و لا متصل به و لا مباين له ،و لا فوقه و لا تحته، و لا أمامه و لا خلفه ، و لا عن يمينه و لا عن شماله، و بين رب العالمين و إله المرسلين من الفرق ما بين الوجود و العدم و النفي و الإثبات، فأي موجود فرض كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة و نحتته أفكارهم، بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود؛ و هذا الرب ليس له وجود و يستحيل وجوده إلا في الذهن، هذا و قول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول أرسطو، فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجبا و وجودا ممكنا هو معلول له و صادر عنه صدور المعلول عن العلة، و أما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة و علة غائية لحركة الفلك فقط ؛و صرح بأنه لا يعقل شيئا و لا يفعل باختياره، و أما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه فإنما هو من وضع ابن سينا ،فإنه قرب مذهب سفَلة الملاحدة من دين الإسلام بجهده، و غاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم فهم في غلوهم في تعطيلهم و نفيهم أسَدُّ مذهبا و أصح قولا من هؤلاء.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز و جل.
و أما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة و لا يؤمنون بهم ،و إنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نورانية هي العقول عندهم، و هي مجردات ليست داخل العالم و لا خارجه، و لا فوق السماوات و لا تحتها، و لا هي أشخاص تتحرك و لا تصعد و لا تنزل و لا تدبر شيئا و لا تتكلم، و لا تكتب أعمال العبد و لا لها إحساس و لا حركة ألبتة ، فلا تقبض نفس العبد و لا تكتب رزقه و أجله و عمله ،و لا عن اليمين و لا عن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم ألبتة، و ربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال : الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد، و الشياطين هي القوى الشريرة الرديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام و إلى الرسل.
و أما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة المَلك ،فإنه ما قال شيئا و لا يقول؛ و لا يجوز عليه الكلام، و من تقرب منهم إلى المسلمين يقول : الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني و تشكلت في نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه، و ربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه ،و ربما قوي ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها و يسمعون خطابها؛ و لا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج.
و أما الرسل و الأنبياء؛ فللنبوة عندهم ثلاث خصائص من استكملها فهو نبي :
* أحدها : قوة الحدس بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
* الثانية : قوة التخيل و التخييل بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه و يسمع الخطاب منها و يخيلها إلى غيره.
* الثالثة : قوة التأثير بالتصرف في هيولي العالم، و هذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق و اتصالها بالمفارقات من العقول و النفوس المجردة.
و هذه الخصائص تحصل بالإكتساب، و لهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين و ابن هود و أضرابهما ،و النبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع بل من أشرف الصنائع كالسياسة؛ بل هي سياسة العامة ،و كثير منهم لا يرضى بها؛ و يقول : الفلسفة نبوة الخاصة ،و النبوة فلسفة العامة.
و أما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السماوات و انتثار الكواكب و قيامة الأبدان، و لا يقرون بأن الله خلق السماوات و الأرض في سنة أيام و أوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم و لا معاد و لا صانع و لا نبوة و لا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها، و لا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى، فدين اليهود و النصارى بعد النسخ و التبديل خير و أهون من دين هؤلاء.
و حسبك جهلا بالله تعالى و أسمائه و صفاته و أفعاله من يقول : إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال و التعب و استكمل بغيره، و حسبك خذلانا و ضلالا و عمى السير خلف هؤلاء و إحسان الظن بهم ،و أنهم أوّلوا العقول، و حسبك عجبا من جهلهم و ضلالهم ما قالوه في سلسلة الموجودات و صدور العالم عن العقول و النفوس إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه و لا قدرة له عليه، و لا إرادة ؛و أنه لم يصدر عنه إلا واحد فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطُل ما أصّلوه، و إن لم يكن فيه كثرة ألبتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله، و تكثر الموجودات و تعددها يكذب هذا الرأي الذي هو ضحكة للعقلاء و سخرية لأولي الألباب، مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا و إرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع.
و هيهات!! و إلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم ألبتة. فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات و المعاد ،لا مبدأ عنده و لا معاد، و لا رسول و لا كتاب.
و الرازي و فروخه لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة غير طريقه.
و مذاهبهم و آراؤهم كثيرة جدا قد حكاها أصحاب المقالات؛ كالأشعري في مقالاته الكبيرة، و أبي عيسى الوراق و الحسن بن موسى النوبختيين، و أبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابن سينا و يغلطه في كثير من المواضع، و كذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا.
طبع و ختم : عادل خراط.
تعليق