تم الاستفادة في هذه الحلقة بمعلومات من كتاب "هل العهد الجديد كلمة الله" للدكتور منقذ السقار حفظه الله .. دار الإسلام الطبعة الرابعة 2019.
النوع الأول من تحريف كتبة الأناجيل: المغالاة والتضخيم:
مثلا عندما سأل يسوع تلاميذه «ومن أنا في رأيكم أنتم؟» فكان جواب «بطرس» مختلفا في الأناجيل الأربعة : متى 16 / 16 «أنت المسيح ابن الله الحي », مرقص ۸ / ۲۹ «أنت المسيح», لوقا ۹ / ۲۰ «مسيح الله», يوحنا 6 / 69 «إنك قدوس الله» - فماذا قال بطرس بالفعل؟ إن شهادة بطرس في إنجيل متى تدل على أنه كان قد فهم آنذاك سر يسوع (حسب معتقد المسيحيين)، وهذا ما يناقض صورة الاثني عشر في الأناجيل لأنهم لم يكونوا يعرفون هذا السر قبل القيامة. فيمكن القول ببساطة إن متى سجل اعتراف بطرس مفسرا في ضوء القيامة وليس كما قال بطرس تحديدا, لذلك خالف الأناجيل الأخرى. وقد قام كل من متى ولوقا بتعديل النصوص التي اقتبسوها من مرقص في نحو مائة موضع كما ذكر كيزمان، ويقول مفسر الإنجيل وليام باركلي في كتاب "تفسير العهد الجديد": يمكن القول إن بشارة متي وبشارة لوقا - يبدوان کتنقيح لاسلوب بشارة مرقص فإن مرقص يظهر أحيانا كأنه "يحد من قوة المسيح"، بينما متى "يبالغ ويغلو فيها" أو على الأقل قد يبدو الأمر كذلك في عين الناقد. ويمكن أن تظهر هذه الفكرة من الأمثلة التالية:
المثال الأول: (مرقص 1: 34) "فشفي كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة وأخرج شياطين كثيرة". (متى 8: 16) "فأخرج الأرواح بكلمة وجميع المرضى شفاهم". (لوقا 4: 40) "فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاهم".
المثال الثاني: (مرقص 3: 10) "لأنه كان قد شفي كثيرين". (متی 12: 15) "وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا" (لوقا 6 : 19) "لأن قوة كانت تخرج منه وتشفى الجميع". وهنا نرى متى ولوقا يحوّلان كلمة كثيرين، التي يوردها مرقص إلى جميع، لكي لا تكون هناك فكرة محدودية قدرة المسيح.
المثال الثالث: (مرقص 6: 5 – 6) "وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ". حيث لم يصنع ولا قوة واحدة، لكنه شفى قليلين، لكن شفاء القليلين لم يكن كافياً لإيمان أولئك القساة، فتعجب المسيح لعدم إيمانهم. أما (متی 13: 58) فيذكر "ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم". هاتان الروايتان وصف لزيارة يسوع لوطنه الناصرة، ونرى متي يحجم عن أن يذكر أن يسوع لم يقدر أن يصنع أية قوات، ويغير الأسلوب، لكي لا تكون هناك شبهة بمحدودية قوة يسوع. إذاً هو صنع معجزات، ولكن ليس كثيراً، وبرر قلة المعجزات بعدم إيمانهم فأصبح عدم إيمانهم سبباً لقلة المعجزات بعد أن كان عند مرقص نتيجة لها.
المثال الرابع: نلاحظ أن كلا من متى ولوقا لم يورد هذه الأحداث الواردة في مرقص. (مرقص 3: 5) "فنظر حوله إليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم". (مرقص 3: 21) "ولما سمع أقرباؤه خرجوا يمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل". (مرقص 10 : 14) "فلما رأى يسوع ذلك اغتاظ" ولعل مني ولوقا لم يذكرا هذه الأجزاء، خشية أن يكون فيها إقلال من شأن يسوع.
أصبح من المسلم به - كما أسلفنا - أن لوقا نقل ما نسبته 51% من فقرات إنجيل مرقص، بينما نقل متى ما نسبته 90% من محتويات إنجيل مرقص. فهل كان متى ولوقا أمينان في نقلهما عن مرقص، أم كانا يتصرفان بنص مرقص كما يحلو لهما؟ الحقيقة البينة أن كلا الاثنين تصرف برواية مرقص حسب ما تبدى له، وخاصة متى الذي كان يضخم دائماً فيما ينقله من أحداث ينقلها من رواية مرقص، لتناسب غلوه في شخص المسيح أو لتحقق نبوءة توراتية لم تحققها رواية مرقص، وذلك يظهر من أمثلة كثيرة ذكرها المحققون، منها:
- يقول مرقص عن المصلوب: "أعطوه خمراً ممزوجةً بمر" ( مرقص 15/23 ).
لكن متى نقل عن مرقص وغيّر، فقال: "أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة" ( متى 27/34 )، ومن المعلوم أن الخل غير الخمر.
ولقد قصد متى من هذا التغيير أن يحقق النبوءة التوراتية المزعومة "يجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً" (المزمور 69/21 )، فأبدل كلمة الخمر التي كتبها مرقص بالخل.
- يقول مرقص: "لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي" ( مرقص 3/35 ).
وينقلها متى: " لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" ( متى 12/50 ). فكلمة أبي وضعت لأسباب لاهوتية.
- ومثله لما ظهر لهم المسيح مع موسى قال بطرس لسيده كما ينقل مرقص: "يا سيدي جيد أن نكون هنا" (مرقص 9/5).
ولكن متى يعدّل نص مرقص، ويقول: "يا رب جيد أن نكون ههنا" (متى 17/4).
- ومثله تلاعب لوقا بما نقله عن مرقص، فقد أورد مرقص - الذي تصفه المصادر المسيحية بأنه يقدم أصدق صورة عن المسيح - أورد آخر عبارات المصلوب على الصليب، وكانت صراخه اليائس "إلهي إلهي، لماذا تركتني" (مرقص 15/34).
لكن لوقا - وكما يرى وول ديورانت - لم تعجبه عبارة مرقص، ورآها لا تتفق مع تعليم بولس عن المسيح الفادي الذي جاء ليصلب، فأبدلها بقوله: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" ( لوقا 23/46 ).
- والغلو عند متى في شخص المسيح جعله يخالف مرقص في كثير من الأحداث التي نقلها عنه، فزاد فيها بما اعتقد أنه يرفع من قدر المسيح، من ذلك أن مرقص ذكر خبر المجنون الممسوس بالشياطين والذي شفاه المسيح وأخرج منه الشياطين وجعلها تدخل في الخنازير، فيقول: "لما خرج من السفينة للوقت استقبله من القبور إنسان به روح نجس ... فلما رأى يسوع من بعيد ركض وسجد له، وصرخ بصوت عظيم وقال: ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي. أستحلفك بالله أن لا تعذبني ...وكان هناك عند الجبال قطيع كبير من الخنازير يرعى. فطلب إليه كل الشياطين قائلين: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها. فأذن لهم يسوع للوقت، فخرجت الأرواح النجسة، ودخلت في الخنازير" (مرقص 5/2 - 13).
لكن متى جعل صاحب القصة مجنونان بدلاً من واحد فقال: "ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جداً ... وإذا هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله! أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟ وكان بعيداً منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى. فالشياطين طلبوا إليه قائلين: إن كنت تخرجنا فأذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير. فقال لهم: امضوا، فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير" ( متى 8/28 - 32 ).
ويحاول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لإنجيل متى التوفيق بين روايتي المجنون والمجنونين، فيقول: "يبدو أن أحد المجنونين كان شخصية معروفة هناك، وأن جنونه كان شديداً بطريقة واضحة، فاهتم به القديسان لوقا ومتى متجاهلين المجنون الآخر". إذاً فشهرة أحد المجنونين جعلت البشيرين يغفلان ذكر معجزة المسيح بشفاء المجنون الآخر، لأنه مجنون مغمور وليس بمشهور!
- وذكر مرقص ولوقا شفاء الأعمى، يقول مرقص: "وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير كان بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس جالساً على الطريق يستعطي. فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود، ارحمني ... فأجاب يسوع، وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب. إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق" (مرقص 10/46 - 52، وانظر لوقا 18/35 - 42 ).
لكن متى روى نفس القصة وجعل الأعمى أعميين اثنين، فقال: " فيما هم خارجون من أريحا تبعه جمع كثير. وإذا أعميان جالسان على الطريق، فلما سمعا أن يسوع مجتاز صرخا قائلين: ارحمنا يا سيد، يا ابن داود... فوقف يسوع وناداهما وقال: ماذا تريدان أن أفعل بكما؟ قالا له: يا سيد أن تنفتح أعيننا. فتحنن يسوع ولمس أعينهما، فللوقت أبصرت أعينهما، فتبعاه" (متى 20/29 - 34 )، فهذا غلو من متى وتحريف للقصة التي ينقلها عن مرقص.
ولا يفوتنا هنا التنبيه على أن لوقا جعل القصة قبل دخول المسيح إلى أريحا فقال: "ولما اقترب من أريحا كان أعمى جالساً على الطريق يستعطي" (لوقا 18/35)، فهل شفى المسيح الأعمى قبل دخوله أريحا (لوقا) أم بعد خروجه منها (مرقص ومتى)؟!
- وأخبر مرقص عن قدوم المسيح لأورشليم راكباً على جحش فيقول: "أرسل اثنين من تلاميذه، وقال لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت وأنتما داخلان إليها تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد من الناس. فحلاه وأتيا به ... فأتيا بالجحش إلى يسوع وألقيا عليه ثيابهما (أي التلميذين) فجلس عليه" (مرقص 11/1 - 7).
لكن متى بالغ في روايته لنفس الخبر، فجعل المسيح راكباً على أتان وجحش في وقت واحد! يقول متى: "حينئذ أرسل يسوع تلميذين قائلاً لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتاناً مربوطة وجحشاً معها، فحلاهما وأتياني بهما .... وأتيا بالأتان والجحش، ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس عليهما" (متى 21/1 - 7).
ولم يبين لنا متى كيف كان هذا الركوب، وما هي هيئته، فذلك لا يهُم، المهم أنه أراد أن يحقق نبوءة توراتية في سفر زكريا "هو ذا ملكك، يأتي إليك وهو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان " (زكريا 9/9 ). في هذه العبارة الشعرية يود الكاتب ببساطة أن يصف الحمار الذي يمتطيه الملك بقوله: إنه كان حمارا فتيا مما يوصف أنه ابن الأنتان. وقد صرح متى بذلك في نفس الخبر فقال: "فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21/4-5)، ومن أجل تحقيق هذه النبوءة خالف مرقص، وأركب المسيح على أتان وجحش معاً! وليس مهما أن يكون الشخص الذي كتب العبارة المذكورة أعلاه قد آمن أم لم يؤمن حقيقة بأن عيسى لدى دخوله الظافر إلى القدس كان يمتطي أتانا وابنها معا في وقت واحد، كمعجزة يحترمها من المعجزات، إلا أن الغريب أن معظم الآباء المسيحيين آمنوا بذلك رغم أن وصفا كهذا هو أقرب إلى الهزل منه إلى جدية الموكب الملكي المهيب، غير أن لوقا كان حذرا ولم يقع في خطا متي، فهل يعقل أن يكون الكاتبان قد استمدا الإلهام من الروح القدس نفسه؟
- ولما تحدث المسيح u عن يوم القيامة أخبر أنه لا يعلم متى يكون، فقال: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن؛ إلا الآب" (مرقص 13/32)، وهو خبر لم يناسب متى الذي لا يتخيل المسيح غير عارف بموعد القيامة، فعدل النص وقال: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السموات؛ إلا أبي وحده" (متى 24/36).
- ومثله في التحريف زيادات متى الخيالية على الأحداث التي صاحبت موت المعلق على الصليب "فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم، وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين" (متى 27/50 - 53)، هذا ولم يذكر لنا متى شيئاً عما فعله هؤلاء العائدون من الموت، ولا عن ردة فعل الناس على ظهورهم وعلى تلك الأحداث العظيمة ....وهذه الأعجوبة على ضخامتها وأهميتها لم يشر إليها مرقص، ولو كانت حقاً لما صح أن يهملها لأهميتها، كذلك لم يذكرها لوقا - المتتبع لكل شيء بتدقيق - ولا يوحنا، فثبت أنها من وضع متى ونسج خياله.
- ومثله تلاعب الإنجيليين بكلام المسيح، وهم ينقلون قوله لتلاميذه، فقد قال لهم - حسب لوقا -: "أنتم أفضل من عصافير كثيرة، أقول لكم: كل من اعترف بي قُدَّام الناس؛ يعترف به ابن الانسان قُدَّام ملائكة الله، ومن أنكرني قدام الناس؛ ينكر قُدَّام ملائكة الله" (لوقا 12/7-9)، فقد جعل لوقا اعتراف المسيح وإنكاره قدام ملائكة الله.
وهو بذلك يخالف متى الذي جعل إنكار المسيح واعترافه قدام الله، لا الملائكة، فقد نسب إلى المسيح قوله: "أنتم أفضل من عصافير كثيرة، فكل من يعترف بي قُدَّام الناس؛ أعترف أنا أيضاً به قُدَّام أبي الذي في السموات، ولكن من ينكرني قُدَّام الناس؛ أنكره أنا أيضاً قُدَّام أبي الذي في السموات" (متى 10/ 31-33)، فأيهما هو قول المسيح؟! وماذا عن الآخر؟
– ومن صور التلاعب بالنصوص والتصرف فيها ما صنعه متى ولوقا في كلام المسيح في وليمة الفريسي، ففي إنجيل متى أن المسيح قال: "لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة" (متى 23/34)، فالمسيح نسب إلى نفسه إرسال أنبياء وحكماء وكتبة.
لكن لوقا يخالفه، فيذكر أن المسيح نسب القول إلى حكمة الله، لا إلى نفسه، فيقول:"لذلك أيضاً قالت حكمة الله: إني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً، فيقتلون منهم ويطردون" (لوقا 11/49). النوع الثاني من تحريف كتبة الأناجيل
وهو تحريف الإنجيليين في نقلهم من العهد القديم
- منها ما يقول بولس: "لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا، لذلك عند دخوله إلى العالم، يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرد، ولكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح لم تسر... " ( عبرانيين 10/4 – 6 ). والنص محرف عن المزامير " بذبيحة وتقدمة لم تسر، أذني فتحت، محرقة وذبيحة خطية لم تطلب .. " ( المزمور 40/6 )، فقد أبدل " أذني فتحت" بقوله: "هيأت لي جسداً".
- ومنها تبديل متى عبدي في إشعياء بـ فتاي ليوحي بغرض لاهوتي في متى 12: 18-21 :"هو ذا فتاي الذي اخترته ......" بدلا من إشعياء 42: 1 "«هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي.......".
- ومنها نسبة أقوال إلى التوراة لم تذكرها، منه ما جاء في متى عن المسيح "وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء: إنه سيدعى ناصرياً" (متى 2/23)، ولا يوجد شيء من ذلك في كتب الأنبياء.
- ومثله ما نسبه يوحنا إلى العهد القديم في قوله: "إنه مكتوب في الأنبياء: ويكون الجميع متعلمين من الله، فكل من سمع من الآب وتعلّم؛ يقبل إلي" (يوحنا 6/45)، وهي عبارة غير موجودة في أسفار العهد القديم.
- ومثله أيضاً ما نسبه متى إلى المسيح في إصحاح إنجيله الخامس وهو ينسخ أحكام القدماء التي وردت في شرائع التوراة، ومنها أنه قال: "سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم" (متى 5/43-44)، والفقرة التي يشير إليها من كلام القدماء هي قول سفر اللاويين: "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك" (اللاويين 19/18)، وليس في هذه الفقرة ولا في غيرها أمر ببغض الأعداء.
- وحرف بولس وهو ينقل عن سفر إشعيا فيقول: "مكتوب: أنا حيّ يقول الرب، إنه لي ستجثو كل ركبة، وكل لسان سيحمد الله" (رومية 14/11)، فقد تصرف في نص العهد القديم مرتين: الأولى: حين نسب إليه قول الرب بأنه حي. والأخرى: حين أخبر أن الألسنة ستحمد الله، بينما نص إشعيا يتحدث عن الألسنة التي ستحلف بالله، يقول إشعيا: "بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق، كلمة لا ترجع، إنه لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان" (إشعيا 45/23).
- ومنها ما صنعه متى وهو يحرف نسب المسيح، فيحذف من النسب ما لا يروق له، لقد أدرك متى أن ذرية الملك يهوياقيم محرومة من الجلوس على كرسي داود (انظر إرميا 36/30 - 31 )، فحذف اسمه من نسب المسيح مخافة أن يدرك القارئ أنه لاحظّ للمسيح في الجلوس على كرسي داود، فقال: "ويوشيا ولد يكنيا وإخوانه عند سبي بابل" (متى 1/11)، ومن المعلوم أن يكنيا من أحفاد يوشيا، وليس ابنا مباشراً له، إذ هو ابن الملك المحروم يهوياقيم بن يوشيا (انظر الأيام (1) 3/14-15).
-ومنها قول لوقا: يقول لوقا: "عابر بن شالح بن قينان بن أرفكشاد" (لوقا 3/35-36)، في حين إن سفر التكوين يقول: "وأرفكشاد ولَد شالح" (التكوين 10/24)، فقد جعل لوقا أرفكشاد جدا لشالح وليس أبا له كما في العهد القديم, حيث لم يذكر في أي من المواضع التوراتية اسم "قينان" فلعله حرّف النص التوراتي أو أنه رأى أن التوراة محرفة فأصلحها, انظر (التكوين 11/ 12) (وانظر أخبار الأيام (1) 1/18، وأخبار الأيام (1) 1/24).
-ومنها في أعمال 13: 35 (ولذلك قال ايضا في مزمور آخر لن تدع قدوسك يرى فسادا.) لننظر إلى ما قاله داوود في مزاميره , داوود لم يقل ((قدوسك )) أبداً فهذا من التحريف الواضح ولكن داوود قال ((تقيك)) في مزمور 16: 10 (لانك لن تترك نفسي في الهاوية.لن تدع تقيّك يرى فسادا). النوع الثالث من تحريف كتبة الأناجيل هو
- دمج الثقافة والفلسفة الهلينية في نصوص الإنجيل:
يقول فهيم عزيز في كتابه مدخل إلى العهد الجديد ص 103-105:
أما المصدر الثالث الذي اعتمد عليه المسيحيون الأوائل للتعبير عن شهادهم فهو الثقافة الهلينية التي كانت تحيط بهم في كل مكان. وكان لا بد للكنيسة "أن تخرج إلى العالم الخارجي وتتصل بالثقافة اليونانية، وكان عليها أن تعطي رسالتها بالطريقة التي يفهمها هذا العالم الجديد الكبير. فقاموا بترجمة العهد القديم وكتب الأبوكريفا إلى اللغة اليونانية، وهي الترجمة التي أطلق عليها السبعينية. هذه الترجمة ساعدتهم كثيرا حتى في نقل الاقتباسات الكثيرة التي أخذوها من العهد القديم، ومن يقرأ الرسائل والأناجيل بخلاف إنجيل متى يجد التأثير الكبير للثقافة الهلينية في العهد الجديد، حيث لم يقتصر استخدام الكنيسة الأولى من الثقافة الهلينية على اللغة، بل تعداها إلى الأفكار أيضا. وهناك الأمثلة العديدة على ذلك. فعندما كان الرسول في أثينا منتظرا أصدقاءه قدم الإنجيل إلى أهل المدينة مستخدما عقيدة الإله المجهول التي كانوا يتمسكون بها و يعرفونها، (أعمال ۱۷: ۲۲ - ۳۱)
ويقول بعض العلماء إن كاتب العبرانيين استخدم فكرة أفلاطون في المثل والظل. فالمثل عنده هو الأشياء الأبدية التي أعلنت في العهد الجديد أما الظل فهو الأمور التي مرت وانهت في العهد القديم، ومع أن تحفظا كبيرا يجب أن بوضع إزاء هذا التفكير، لكن شكل المناقشة في هذه الرسالة والكيفية التي وضعت فيها توحي بأن الكاتب كان يعرف فلسفة أفلاطون إلى جانب معرفته الكبيرة بالعهد القديم.
أما الرسول بولس فقد طالت المناقشات حول استخدامه للمفاهيم اليونانية لتوصيل الرسالة المسيحية، ولعل أهم مثل على ذلك هو استخدامه للاصطلاحين جسد وروح، والمقابلة الشديدة التي وضعها فيها مثل ما جاء في (رومية 7، غلاطية 5: 16-26 ) إلخ مما يذكر الدارس بالفكر اليوناني بخصوص الجسد الشرير الفاسد والروح الصالحة التي تقضي أيام سجنها في هذا الجسد، بالتالي اعتبار الجسد شرير واعتبار الروح سجينة هذا الجسد. وعليه فإن الإنسان الخاطئ الشرير تمتلكه الخطيئة كإنسان، والشر ليس هو فساد طبیعی ولكنه علاقة قد فسدت بين الإنسان وإلهه (ومن هنا نشأت فكرة الخطية الأصلية)، وهذه العلاقة تشمل الإنسان كله وتصبح أساسا للفساد الأدبي والشر الروحي، ولعل أهم توضیح على ذلك هو وصف الرسول بولس العالم في رومية ۱: ۱۸ إلى ۳: ۱۹ حيث يعلن أن هذا ينطبق على حياة اليهود والأمم معا .
ولكن المثال الواضح جدا في استخدام كتاب العهد الجديد للأفكار اليونانية لتوصيل الرسالة المسيحية هو ما جاء في مقدمة إنجيل يوحنا عندما استخدم كثيرا من المصطلحات الفلسفية اليونانية مثل ( الكلمة، وهو تعبير مشهور عند الفلاسفة وأشهرهم فيلو اليهودى الإسكندرى ثم الاصطلاحات الحق، النور، الحياة. ولعل الإنجيلي أراد أن يظهر لهذا العالم اليوناني أن الرسالة المسيحية ليست رسالة أعجمية غير مفهومة ولكنها رسالة لكل الأجيال والثقافات.
والسؤال: هل ما فعله مؤلفو الأناجيل أثناء اقتباسهم من بعضهم ومن العهد القديم من عند الله أم من عند البشر؟