الفصل الثاني
الخليفة المأمون
نسبه ونشأته
هو عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس، ولد المأمون عام 170 للهجرة هو ما يوافق عام 786 ميلادية، وهو ابن الخليفة العباسي هارون الرشيد، أمُّه جارية فارسية توفِّيت بعد ولادته بأيام بسبب مرضها بحمى النِّفاس، وقد ولد المأمون في ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، سُمِّيت هذه الليلة بليلة الخلفاء ففيها توفِّي عم المأمون موسى الهادي وكان خليفة، وفيها تولَّى والده الخلافة وفيها ولد المأمون الخليفة اللاحق، وقد عاش المأمون في بيت الخلافة آنذاك فأبوه هارون الرشيد خليفة المسلمين، فتعلَّم وتربَّى وتثقَّف كما ينبغي للأمراء والملوك وكان فطنًا ذكيًا، وبسبب ذكائه عقد له والده الرشيد بيعة الخلافة بعد أخيه الأمين.
إن الخليفة المأمون كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح العصر الذي يكتبون فيه؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الخليفة المأمون كثرت المفتريات والأباطيل..
فإن الخليفة المأمون قد شوهت صورته من قبل الروافض ونسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة فهو أفاضل خلفاء العصر العباسي الأول وعلمائهم وحكمائهم، وكان فطنًا، شديدًا، كريمًا. شهد عهده ازدهارا بالنهضة العلمية والفكرية، واتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، وهو الذي أظهر القول بخلق القرآن وامتحن الناس عليه، وبه كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
ومن الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما أخطأ فيه واضعاً قول الله تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ) المائدة:8، نصب عينيه.
ولولادته قصة طريفة: كان والده هارون الرشيد متزوجا من ابنة عم له تدعى زبيدة وكانت زبيدة قد أمضت عدة أعوام تحت كنف الرشيد، دون أن تحمل منه فكان ذلك مبعث أسى وحسرة في نفس الرشيد التواقة إلى البنين الشغوفة بالولد وكان في ذلك الحين وليا للعهد. ينازعه فيه أخوه موسى الهادي ويعمل على انتزاعه وغصبه، فتضاعفت همومه وأحزانه وفي ذات يوم كان يحدث بعض خاصته فيما يعانيه،
انتهز البرامكة ذلك الأثر النفسي فسعت أم الفضل مرضعة الرشيد بالاحتيال عليه فأشارت عليه بأن يتزوج من غير زبيدة لعل الغيرة تحرك فيها عوامل الحمل.. وضربت له مثلا بما كان من أمر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، بين سارة وهاجر ففكر هارون في الأمر ثم عزم على تنفيذ النصيحة، فتزوج من جارية خراسانية كانت قد أعدتها له تدعى مراجل من قرية باذجيس ودخل بها في القرية التي كانت تقيم فيها وهي تقع على ضفة نهر عيسى تسمى الياسرية قريبة من بغداد وسرعان ما حملت مراجل من هارون وكذلك زبيدة وكان الوقت بين ولادة المأمون والأمين أشهرا قليلة ومن جميل الصدف أن تكون ولادة المأمون في اليوم الذي وسد فيه أمر الخلافة إلى الرشيد وانتقل من ولاية العهد إلى إمارة المؤمنين.
ولاية المأمون للعهد: - رأت زبيدة أن تعجل الأمر وتوثقه إلى ولدها الأمين، وسعت بكل ما أوتيت من تدبير وذكاء وسلطان إلى الرشيد لكتابة ولاية العهد لولدها الأمين لكن ضمير الرشيد ظل يؤرقه ويضايقه بعد ذلك لما يعلم من كفاءة المأمون وصلاحيته للخلافة، ولم يسترح حتى كتب كتابا آخر يضمن فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين وأخذ من كلا الأخوين موثقا على ذلك. وأشهد عليهما.
ولما بلغ المأمون في شبابه المقدرة على مباشرة المعارك والحروب وقيادة الجيوش، الرشيد يوجهه على رأس قوات المسلمين لخوض المعارك تدريبا منه له على القيادة، وكسبا لفضل الجهاد في سبيل الله. فأثبت المأمون مقدرة فائقة في قيادة الجند وحسن إدارة المعارك وكسب النصر على الأعداء خصوصا مع الروم، ولقد ترك ذلك أثره العظيم في نفس الرشيد فازداد إقباله على المأمون.
وعلى الرغم مما عرف عن هارون الرشيد من ذكاء وبعد نظر، فإنه وقع فيما وقع فيه أسلافه، فقد لجأ تحت ضغط من زوجته زبيدة والقوة العربية في الدولة إلى تعيين الأمين وليًا للعهد سنة 175هـ/791م، وجعل له ولاية العراق والشام حتى أقصى المغرب، وما لبث سنة 182هـ/799م أن عين المأمون في ولاية العهد الثانية على أن تكون له ولاية خراسان وما يتصل بها من الولايات الشرقية، وأعقب ذلك سنة 186هـ/802م البيعة لابنه القاسم بعد المأمون ودعاه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور.
وقد اتُبع هذا الاتجاه نحو تقسيم الدولة إلى قسمين شرقي وغربي منذ قيام الدولة العباسية، فكان الخلفاء يقلدون كل قسم لأحد القادة المتنفذين أو المظفرين أو أولياء العهود، فإذا كانوا صغار السن عين الخليفة من ينوب عنهم، وهؤلاء بدورهم كانوا يستخلفون العمال على ولاياتهم.
والي خراسان: - رأى الرشيد ازدياد حدة المنافسة بين المأمون وأخيه الأمين، وخشي مغبة ذلك مستقبلا على وحدة الأمة وتماسك الدولة من خلال انشقاق الأخوين، فرأى أن يوزع جهودهما وممارسة سلطانهما على البلاد المترامية الأطراف ويحدد لكل منهما مقاطعة الحكم والسلطان، فجعل الأمين قيما على العراق والشام والحجاز ومصر، وجعل المأمون قيما على خراسان، وما وراءها من ديار الشرق الإسلامي. ولم يكن الاختيار على عبث أو دون رأي وتدبير، ذلك أن أخوال المأمون كانوا من خرسان فكان ذلك أوحد وأثبت لحكمه وسلطانه، أما الأمين فأمه عربية هاشمية فكانت إمارته على البلاد ا لعربية أليق به ، ومن ثم أقام المأمون في مرو حاكما مطلق اليد، يدين بالطاعة والولاء لأمير المؤمنين هارون الرشيد ومن بعده لأخيه الأمين ولي العهد. وقد أثبت المأمون في ميدان الحكم قدرة عظيمة على ضبط الأمور وحسن الإدارة والتوجيه وتنظيم البلاد. والعدل بين الناس.
وضع الرشيد بتصرفه هذا وباختياره ثلاثة من أبنائه لولاية العهد بذرة التفكك السياسي وأوقع الدولة في خضم حرب أهلية كبيرة كانت لها نتائجها الخطيرة على مستقبل الدولة، فقد تكتل العرب بزعامة الفضل بن الربيع إلى جانب الأمين، في حين انضم الفرس بزعامة الفضل بن سهل إلى جانب المأمون.
وهذه الفعلة من الرشيد رحمه الله أدت لنشوب الخلاف بين الأمين والمأمون ووقوع القتال أكثر من أربعة سنوات.
تعليق