من أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة
- من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة خوضهم في صفات الله عز وجل بالتأويل الذي نهى عنه السلف خاصة الصفات الخبرية التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم مثل صفات اليد, والعين, والنفس, والوجه, والاستواء على العرش, والنزول, والمجيء, والرضا, والغضب, والحب, والبغض, ونحوها من الصفات الخبرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه, أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يؤمنوا بها كما جاءت, وكما فعل السلف, فقد أولوها وصرفوا ألفاظها إلى غير ظاهرها, هروبا من شبهة التجسيم والتمثيل, فجسموا في تخيلهم ثم بعد أن جسموا تأولوا وهربوا! وغفلوا عما يترتب على فعلهم هذا من تحريفهم لكلام الله وتعطيل لمعانيه والقول على الله بغير علم, وغير ذلك من المستلزمات التي يقتضيها التأويل وتنافي التسليم لله تعالى إذ كيف يليق أن يقول الله عن نفسه ويقول عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بصفات لا تليق, أو تقتضي التشبيه والتجسيم, ثم لا يكتشف هذه المسألة إلا المتكلمون بعد القرن الثالث الهجري!
ثم كيف فات هذا الفهم على الصحابة والتابعين وسلف الأمة ثم يدركه المتكلمون؟! هذا مما لا يليق تجاه كلام الله – تعالى – وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأوائل ممن هم أعلم منهم وأتقى لله فإن الله سبحانه حين وصف نفسه بتلك الصفات: كاليدين, والوجه, والنفس, والرضا, والغضب, والمجيء, والاستواء, والعلو......إلخ. من الصفات, فقد سد باب شبهة التمثيل بقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
فهل الذين أولوا تلك الصفات أعلم بالله من الله؟
وهل هم أشد تنزيها لله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهل هم أعلم بمراد الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى والسنة في القرون الفاضلة؟! الذين أمروا هذه الصفات وغيرها من أمور الغيب كما جاءت عن الله وعن رسوله لفظا ومعنى على مراد الله ورسوله من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل.
وقد ابتلي المتكلمون – ومنهم الأشاعرة – بسبب التأويل في صفات الله وبعض مسائل العقيدة بأن أدخلوا في عقائدهم من المصطلحات والألفاظ والظنيات العقلية ما لا يليق القول به في حق الباري سبحانه لا نفيا ولا إثباتا.
وأقل ما يقال فيه إنه كلام مبتدع لم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فالكف عنه أسلم, والخوض فيه قول على الله بلا علم, مثل: الحدود والغايات, والجهات, والماهية, والحركة, والحيز, والعرض, والجوهر, والحدوث, والقدم. ودعوى قطعية العقل وظنية النقل...ومثل كلامهم في: التركيب والتبعيض وقولهم عن الباري سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه...إلخ. ومما ابتدعوه من الكلام عن الله تعالى نفيا وإثباتا. وذلك انسياقا مع إلزامات المعتزلة والجهمية والفلاسفة العقلية الجدلية.
وكلامهم في هذه الأمور قد يشتمل على بعض الحق أحيانا لكن الله تعالى نهانا عنه, وأقل ما يقال فيه أنه قول على الله بغير علم والله تعالى يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ويقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180].
فأهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور على سبيل التأصيل والإقرار والتقرير إلا من باب الرد وإلزام الحجة, وبقدر الحاجة فمخالفة الأشاعرة لأهل السنة في هذا الباب (الصفات) ليست فرعية, إذ هي متعلقة بأصل من أعظم أصول الدين وهو توحيد الصفات المتعلقة بالباري سبحانه جل شأنه.
- ومن الأصول التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة تعويلهم على العقل والجدل وعلم الكلام (النظر) في صفات الله ومسائل القدر والغيب وتقديمهم العقل ما يسمونه القواطع العقلية – على النقل (الكتاب والسنة), في أمور الغيب ومسائل الاعتقاد, بل في مسائل صفات الله تعالى!
فالقاعدة عندهم كما قررها الرازي والجويني وغيرها (أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين) و (أن الدلائل النقلية ظنية, وأن العقلية قطعية, والظن لا يعارض القطع) (1) . سبحان الله!!
- ومن أصولهم المخالفة لأهل السنة: تفسيرهم التوحيد بما يحصره في توحيد الربوبية وغفلتهم عن توحيد الألوهية والعبادة لله تعالى وحده مع أنه التوحيد الذي أرسلت به الرسل قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وهو التوحيد الذي من أجله خلق الله الخلق قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
لذلك نجد التلبس بالبدع في العبادات والوقوع في بعض الشركيات كثيرة فيمن ينتسبون إلى الأشاعرة المتأخرين لتساهلهم في توحيد العبادة.
وهذا لا يعني أن أهل السنة يستهينون بأمر توحيد الربوبية...كلا والله! لكنهم يبدأون بما بدأ الله به وما بدأ به رسوله صلى الله عليه وسلم, لأن توحيد الربوبية فطري, لا يكاد ينكر بالكلية إلا نادرا وغالب الآيات التي جاءت في تقريره جاءت في سياق الإلزام بتوحيد العبادة والطاعة, لذلك لا يعرف أن أمة من الأمم أنكرت توحيد الربوبية بل لا توجد طائفة أجمعت على هذا الأمر على الحقيقة, ولو حصل هذا لذكره الله تعالى في قصص الأنبياء.
وبعكسه توحيد الألوهية فهو الذي ضلت فيه الأمم والفرق والطوائف حتى اليوم.
لذا نجد أن نظار الأشاعرة وأئمتهم يبدأون مؤلفاتهم في الاعتقاد بالعقليات والنظريات والتصديقات والتصورات, والمصطلحات الكلامية والفلسفية, وأن الدلائل النقلية (السمعية) لا تفيد اليقين! وأن العقليات قطعية! يقينية, ثم حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك من الفلسفة وعلم الكلام, وينتهون في ذلك إلى تقرير توحيد الربوبية وهذا خلاف ما درج عليه أهل السنة بل خلاف منهج القرآن الكريم فالآيات التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية قليلة بإزاء الآيات التي جاءت لتقرير توحيد العبادة والطاعة ثم إن كثيرا من الآيات في توحيد الربوبية جاءت لتقرير عبادة الله وحده كما أسلفت.
- كما أنهم خالفوا أهل السنة في أصول أخرى مثل: قولهم في القرآن وكلام الله, والإيمان, والقدر, والنبوات, حيث تأثروا بالأصول الكلامية والفلسفية في نظرتهم لهذه الأمور فجاءت عقيدتهم فيها خليطا من الحق والباطل بين أهل السنة والمعتزلة والفلاسفة, لذا تجدهم كثيرا ما يستخدمون مصطلحات فلسفية وكلامية محتملة للحق والصواب وضدها, وتختلف عن ألفاظ الكتاب والسنة.
وهكذا... فإن هذه الأمور التي خالف الأشاعرة فيها أهل السنة, وهي من أصول الاعتقاد وفروعه تقتضي من الباحث المنصف عند التدقيق والتحقيق أن يحكم كما هو رأي المحققين من أئمة أهل السنة بأن مذهب الأشاعرة في العقيدة مذهب مستقل في بعض الجوانب عن أهل السنة بأصوله ومناهجه, وتصوراته وأحكامه بخاصة في مسائل الصفات والإيمان والوحي والنبوات والقرآن وكلام الله والقدر فالأشاعرة في هذه المسائل وغيرها يوافقون أهل السنة في أمور ويخالفونهم في أخرى.
- كما أنه لا يجوز أن نحمل السلف أهل السنة والجماعة مقولات الأشاعرة فيما ابتدعوه من علم الكلام والفلسفة, وإنه لمن الإجحاف والتجني أن ننسب تلك المقولات للصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الفاضلة, وهذه المقولات هي الغالبة في معتقدات الأشاعرة.
أما أهل السنة فهم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا على مذهب السلف حتى اليوم, فالذي ينتمي وينتسب لأهل السنة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه في هذه الأصول, وأن يتبع ما قالوه أو قرروه, لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية الكلامية والفلسفية, ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف, كما فعل كثير من نظار الأشاعرة.
وإذا عرضنا الكثير من معتقدات الأشاعرة على ما أثر ونقل عن السلف في القرون الفاضلة وجدنا البون بينهما شاسعا ووجدنا أنهم – أي الأشاعرة – ابتدعوا وأحدثوا من المقولات ما كان ينهى عنه السلف من الكلام في الصفات والغيبات بالظنون والمبتدعات الكلامية. (2)
الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم وردود بعضهم على بعض
وأساس الرد التطور الذي حدث للمذهب الأشعري الذي سبق تفصيل القول فيه، وشيخ الإسلام كثيرا ما يشير إليه ويبين أنهم طبقات – حسب القرب والبعد عن أهل السنة ومذهبهم الصحيح – فابن كلاب أقرب إلى السلف من الأشعري، والأشعري أقرب من الباقلاني وطبقته، والباقلاني أقرب من الجويني وطبقته، والجويني أقرب من الرازي وطبقته (1) . بل إن شيخ الإسلام يقرر من خلال تتبع دقيق أن أئمة الأشعرية الذين كانوا في العراق كأبي الحسن الأشعري والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني، وغيرهم، أقرب إلى السلف من أشعرية خراسان كأبي بكر بن فورك ونحوه (2) .
وانحراف متأخري الأشاعرة عن متقدميهم أمر مشتهر حتى إن أبا العباس أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ صاحب كتاب (اللوامع) في الجمع بين الصحاح والجوامع، والمتوفي سنة 521هـ. قال في مسألة الاستواء من تأليفه: "ورأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتعطيل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ (الإبانة) عن أصول الديانة أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعا: يا ساكن العرش، ثم قال: ومن سلفهم جميعا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات" (3) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – بعد نقله النص السابق: "وكذلك الشيخ نصر المقدسي له تأليف في الأصول نقل فيه فصولا من كتاب (الإبانة)" (4) .
وهذا يدل على أن هذا المنهج – وهو الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال متقدميهم وأئمتهم الذين ينتسبون إليهم – قد استخدمه العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد استخدم شيخ الإسلام هذا المنهج في كتبه المختلفة وركز عليه كثيرا لأنه رأى فيه فوائد عملية، ومن ذلك ما جرى في المناظرة حول الواسطية – وهي المناظرة الثانية التي حضرها صفي الدين الهندي – حيث إن شيخ الإسلام ذكر أنه قبل هذا المجلس اجتمع به بعض أكابر الشافعية من الأشعرية وعبروا له عن خوفهم من أن تظهر حجته على خصومه دون أن يكون من أئمة أصحابهم الأشعرية من يوافقها، يقول شيخ الإسلام: "وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة، والأشعري، وأكابر أصحابه، على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضا من تفوق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته و لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم، أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق.... وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان" (5) .
والأشاعرة المتأخرون في أوقات محنهم يلجأون إلى أقوال أئمتهم، ينقلونها ويستشهدون بها ليبينوا سلامة معتقدهم وصحة مذهبهم، وهذا ما فعله القشيري في الشكاية المشهورة ، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري. ولا شك أن المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الرد على أقوال المتأخرين بأقوال شيوخهم الذي يعتزون بالانتساب إليهم له قيمته الكبرى وأثره البالغ لأمرين:
أحدهما: أن هذه النقول أتى بها شيخ الإسلام موثقة، منقولة بحروفها من كتبهم المشهورة التي تناقلها المتأخرون واعتزوا بها، ونقلوا عنه ما يوافق أقوالهم من المسائل التي لم يختلف فيه قول متقدمي الأشاعرة عن قول متأخريهم، ولذلك لم يستطع أحد منهم الطعن فيما نقله شيخ الإسلام، ولم يقل: إن هذا منسوب إلى أئمتهم، أو إنه حكاية لمذهبهم – كما تحكى بعض كتب الفرق أقوال الطوائف، وقد يكون في الحكاية زيادة أو نقص، وتقديم أو تأخير يخل بالمعنى – ولا شك أن الأمانة والمنهج العلمي الذي وفق إليه شيخ الإسلام، جعل أعداءه ومعارضيه يرضخون له في ذلك مع حرصهم الشديد على النيل منه ومن أقواله وكتبه، ولتوضيح ذلك يمكن ذكر هذين المثالين:
المثال الأول: قال بعض متأخري الأشعرية: إن للأشعري في الصفات الخبرية قولين، قول بالتأويل، وقول بالإثبات، فلما جاء شيخ الإسلام – وهو المطلع على كتب الفرق – أوضح مرارا أنه ليس للأشعري فيها إلا قول واحد هو الإثبات، وأتى بالأدلة على ذلك من كتبه، أما الذين يزعمون أن له قولا آخر فحتى الآن لم ينقل أحد منهم نصا من كتب الأشعري يدل على ذلك.
والمثال الثاني: لما نقل شيخ الإسلام عن الباقلاني في كتابه (التمهيد) نصا يثبت فيه الاستواء والعلو ويمنع من تأويله، قال الكوثري وبعض الباحثين – المائلين إلى المذهب الأشعري – وهم بصدد تحقيق (التمهيد) عن نسخة خطية ناقصة – قالوا: إن ابن تيمية وابن القيم – الذي نقل النص أيضا في اجتماع الجيوش – قد كذبا و هما على الباقلاني. ولما حقق (التمهيد) مرة أخرى – على يد نصراني – تبين صدق شيخي الإسلام، وخطأ الكوثري وأصحابه.
والثاني: أن هذه النقول نص صريح في مخالفتها لأقوال متأخري الأشعرية، وليست مما يقبل التأويل أو اختلاف المفاهيم حولها، فمثلا حين يؤول المتأخرون الاستواء بالاستيلاء ويمنعون من إثباته وإثبات الاستواء، ودلالته على العلو، تورد عليهم أقوال الأشعري وغيره التي نصوا فيها على إثبات الاستواء، ودلالته على العلو، وقولهم: إن تأويله بالاستيلاء هو قول خصومهم المعتزلة، وليس للمتأخرين – المنتسبين إلى الأشعري – هنا إلا الاعتراف والفرار إلى التفويض وأن هذا هو حقيقة مذهب الأشعري. ولكن ماذا يصنعون بقوله: إن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة؟ وبنصوصه الأخرى في إثبات علو الله على خلقه؟.
ولأهمية هذا في إقناع الخصوم – وأتباعهم – ركز عليه شيخ الإسلام وأضاف إليه جانبا آخر وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض سواء كانوا متقدمين أو متأخرين، لأن هذا أيضا يفيد في بيان ضعف المذهب وضعف الأدلة التي أعتمدوا عليها، فهذان جانبان رئيسان ركز عليهما شيخ الإسلام:
أ- فمن الأمثلة على الجانب الأول:
1- في مسألة العلو والاستواء التي أنكرها متأخرو الأشعرية، رد شيخ الإسلام على زعمهم الرازي بأن نقل نصوصا من كلام شيوخه من الأشاعرة يثبتون فيها العلو لله تعالى (6) ، وفي موضع آخر من نفس الكتاب رد على الرازي في هذا الموضوع وفي موضوع الصفات الخبرية التي أولها الرازي وأصحابه، فنقل شيخ الإسلام كلام الأشعري في (الإبانة) و(المقالات)، وكلام الباقلاني (7) ، ثم قال: "فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة أن الله فوق العرش وأن له وجها ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين، ونحو ذلك، علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه" (8) , ثم أتبع ذلك بنقل مذهب جمهرة كبيرة من أئمة السلف (9) تؤيد ما ذهب إليه الأشعري وأئمة أصحابه في هذا الباب.
2- وفي معرض رده على دليل حدوث الأجسام الذي أوجبه كثير من متأخري الأشعرية كالجويني يقول شيخ الإسلام عنه: "وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعرية – أو أكثرهم – يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها، بل إما أن يحرموها، أو يكرهوها، أو يبيحوها وغيرها، ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها، ثم هم قسمان: قسم يسوقها، يسوق غيرها، ويعدها طريقا من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم، والقسم الثاني: يذمونها، ويعيبونها، ويعيبون سلكوها وينهون عنها، إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم" (10) ، ثم نقل عن الخطابي في شعار الدين والغنية ما يدعم قوله (11) ، وأشار إلى رسائل الأشعري إلى أهل الثغر (12) ، وأنها توافق ما قاله الخطابي، وقد نقل كلام الأشعرية فيها كلام في كتاب آخر (13) .
3- وعند ذكر الصفات الخبرية وغيرها مما يتأوله الجويني وأصحابه، قال شيخ الإسلام رادا عليه: "فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم، فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية، وأما الأخبار فأكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه قوله، وإن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب" (14) ، والذي أشار إليه شيخ الإسلام بأنه تقدم ما نقله عن أبي القاسم النيسابوري الأنصاري – شارح (الإرشاد) للجويني – فإنه قال في كتابه هذا حين نقل منع الجويني إثبات الصفات بظواهر الآيات: "هذا ما قاله الإمام، وقد رأيت في كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش، والمجييء يوم القيامة بقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، وقوله: ((أنا عند ظن عبدي بي ......... وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا)) (15) . الحديث. قال: وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع، هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب" (16) ، وهكذا فالإسفراييني وابن فورك يردان على الجويني في زعمه أن أخبار الآحاد – الثابتة – لا يحتج بها في العقائد لأنها لا تفيد العلم. وقد تقدم بيان هذه المسألة. هذه بعض النماذج وهناك نماذج أخرى كثيرة (17) .
ب- ومن الأمثلة على الجانب الثاني، وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض:
1- ذكر شيخ الإسلام أن كل طائفة تقول عن الأخرى إن مذهبها متناقض ومن هؤلاء الأشاعرة، فمثلا "نفاة الجهة منهم يقولون: إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون: إن الله تعالى فوق العرش وإنه ليس بجسم متناقضون، وكذلك نفاة الصفات الخبرية منهم يقولون: إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون، ومثبتة العلو والصفات الخبرية يقولون: إن نفاة ذلك منهم متناقضون، حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوقات كالعلم والقدرة والحياة، وليس هو بعرض في حق الخالق، ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه، ويقولون ليس بجسم في حق الخالق" (18) . وليس المقصود الإشارة إلى التناقض في مذهب الأشاعرة – لأن هذا سيأتي في الفقرة القادمة – وإنما المقصود أن كل طائفة ترد على الأخرى وتقول: إن قولها متناقض، وكلهم ينسبون أقوالهم إلى المذهب الأشعري.
2- وفي مسألة دليل حدوث الأجسام، ذكر شيخ الإسلام براهين الرازي على حدوث الأجسام وحدوث العالم، ثم ذكر اعتراضات الآمدي على كل واحدة منها وقال: "وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث، ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق، بل بين ضعفها، واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف... والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي، وهو (أي الآمدي) متقدم على الأرموي، فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه، وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر، أو يكون الأرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره، وهذا الاحتمال أرجح... وبكل حال فهما – مع الرازي ونحوه – من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه، يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسألة، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم، وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره" (19) . وقد نقل شيخ الإسلام أقوال كل من الرازي والآمدي والأرموي، وقدح هذين في أدلة حدوث الأجسام التي ذكرها الرازي، نقل كل ذلك من كتبهم، وهو يدل على الاستقصاء الممتاز الذي يتميز به منهج شيخ الإسلام، وهذا الاستقصاء والمتابعة تفيد كثيرا في بيان كيف يرد بعض هؤلاء على بعض، مما يبين فساد الحجج التي يقوم عليها مذهبهم.
3- ومن المسائل المشهورة عند الأشاعرة قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين ليقولوا: إنها حادثة وإن الجسم لا يخلو منها فيكون الجسم حادثا، وبنوا على ذلك دليل حدوث العالم، كما أن من المسائل المشهورة قولهم: إن الأفعال يجب تناهيها بناء على امتناع حوادث لا أول لها. يقول شيخ الإسلام معلقا على هذه المقدمات العقلية مبينا كيف طعن فيها علماؤهم: "وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى زمانين، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك. وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين. وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره على شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كان الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها. وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف (بتحرير الدلائل في تقرير المسائل) هو وغيره قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها" (20) .
وإذا كان الأمر كذلك فإن الأدلة العقلية التي هي عماد المذهب الأشعري طعن فيها بعض أعلامهم. وبذلك لم يأت رد المذهب ونقضه من خارج رجاله حتى يقال: إن هذه حال جميع الطوائف يرد بعضها على بعض، بل جاء الرد والنقض من داخل المذهب ومن رجال يعتبرون من العمد التي يرتكز عليها أتباع المذهب كل في زمنه وعصره.
إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة
لقد تكررت دعوى بعض الأشاعرة بأنهم أكثر الأمة، وأصبح الكثير منهم يتناقلونها في كتبهم ومحاضراتهم، يغرون بها الجهال ممن لا علم لهم بحقيقة الأمر.
فقد قال المؤلفان (ص248) (1) : "ومذهب الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة الذي عليه سواد الأمة، وأكابر أهل الفضل فيها" ا هـ.
وقالا (ص 31) (2) : "هذا المذهب الذي يدين به تسعة أعشار أمة الإسلام، وسوادها الأعظم وعلماؤها ودهماؤها" ا هـ.
ولا ريب أنها دعوى مجردة من الدليل، ويكذبها الواقع التاريخي، ويكفي في إبطالها ما سبق تفصيله في بيان مذهب السلف وطريقهم وبيان مخالفة الأشعرية له، وخروجهم عنه.
وجميع من نقلنا نصوصهم في هذا الكتاب بدءاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة رضي الله عنهم، ومن لم ننقل عنهم من السلف، جميعهم مخالفون للأشاعرة في أصول الاعتقاد، ومبطلون لأقوالهم ومذهبهم، فضلاً عمن نقلنا عنهم الطعن في الأشاعرة، والتنصيص على خروجهم عن السنة والطريق.
وحسبك من ذكرهم ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)، والذهبي في (العلو) من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء، ممن نصوا في مسألة علو الله تعالى بنفسه على خلقه بما يخالف مذهب الأشاعرة، وهي واحدة من مسائل الاعتقاد، فكيف إذا أضيف إليهم من نصوا في بقية مسائل الاعتقاد بما يخالف مذهب الأشاعرة؟.
فهل يمكن بعد ذلك أن يدعي أن الأشاعرة هم أكثر الأمة، وهم مخالفون للقرون المفضلة الأولى؟!!
وقد ذكر ابن المبرد في كتابه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر) أكثر من أربعمائة عالم من بين محدث وفقيه وعابد وإمام، كلهم مجانبون للأشاعرة ذامون لهم، بدءاً من عصر الأشعري وحتى وقته، صدرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف بن محمد المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف)، ثم قال بعد ذلك: "والله ثم والله ثم والله ما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس" (3) ا هـ.
بل إن ابن عساكر وهو من خدم الأشعرية بكتابه (تبيين كذب المفتري) قد اعترف بأن أكثر الناس في زمانه وقبل ذلك على غير ما عليه الأشعرية...
فقد قال في التبيين: "فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم" (4) ا هـ.
وقد قال ابن المبرد معلقاً على كلامه هنا: "وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعد لم يظهر شأنهم" (5) ا هـ.
وإذا كان أبو الحسن الأشعري إنما ولد سنة 260هـ، وقيل: 270هـ، فما الذي كانت عليه الأمة قبله؟ أفتراها كانت على عقيدة الأشعري الذي لم يكن شيئاً مذكورا كما يزعم هؤلاء؟!! أم أن العقيدة كانت خافية عليهم، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأيقظ الأمة من سباتها؟
فإن قال قائل: إن الأشعري لم يأت بشيء جديد، ولكنه أبان أموراً وأوضحها في رده على المعتزلة حتى كشف عوارهم، وهذا سبب الانتساب إليه، لكونه صار علماً على السنة في مقابل المعتزلة.
فالجواب أن هذا بلا ريب بعيد عن التحقيق، فضلاً عن الواقع والتاريخ، إذ أن ظهور المعتزلة كان متقدماً على ظهور الأشعري بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فضلاً عن الجهمية التي كانت أسبق ظهوراً من المعتزلة. ومن المعلوم أن ظهور هاتين الفرقتين قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة، الذين أنكروا عليهم أعظم النكير، وحكموا بضلالهم، بل وكفر الجهمية منهم، فقام أئمة السنة ابتداءاً من الحسن البصري وإلى عصر الأشعري بالرد على شبهاتهم، وكشف عوارهم. وكتب السنة طافحة بآثار السلف في النكير على الجهمية والمعتزلة والرد على ما ابتدعوه، فانظر كتاب (السنة) لعبدالله بن الإمام أحمد، و(أصول اعتقاد السنة) لللالكائي، و(الإبانة) لابن بطة وغيرها كثير. وقد نقلنا في ثنايا هذا الكتاب كثيراً من كلامهم.
ولم يكتف السلف بمقولة أو مقولتين، بل إنهم قد كتبوا الكتب وصنفوا المصنفات في الرد عليهم، ككتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد، وابنه عبدالله وابن أبي حاتم، وابن قتيبة، والدارمي، والكناني، وابن منده، وأبي العباس السراج وغيرهم كثير، فضلاً عما تضمنته كتب السنة من أبواب الرد على الجهمية، كما فعله البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهما.
ناهيك عن كتب السنة الأخرى، والتي ألفت لبيان معتقد السلف والرد على أهل البدع والمخالفين من أصناف المعطلة والمشبهة (6) .
والمعلوم أن المعتزلة والجهمية قد قويت شوكتهم في أواخر القرن الثاني، لما تأثر بهم الخليفة المأمون، حتى حصلت تلك الفتنة العظيمة، التي امتحن فيها العلماء، وأوذي فيها الإمام أحمد اذى عظيماً، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وقد تتابع على هذه الفتنة ثلاثة خلفاء: المأمون، والواثق، والمعتصم، وهذا قد ساهم كثيراً في دفع عجلة السلف لكشف أباطيل هاتين الفرقتين، والجواب عن شبهاتهم، خشية التباسها على الناس.
ومع كل هذه الردود من السلف والأئمة على الجهمية والمعتزلة، وما حصل من الفتنة بهم، فإننا لم نجد أحداً من السلف قد يقرر ما قرره الأشعري في الاعتقاد، لا من حيث التأصيل والتقعيد، ولا من حيث الرد على المعتزلة والنكير، بل على العكس من ذلك: وجدنا نصوصهم صريحة في نقض أصوله الاعتقادية في أسماء الله وصفاته، كما سبق بيانه في الباب الأول، فضلاً عن سائر أبواب الاعتقاد كالإيمان، والقدر، والنبوات وغيرها من أبوب الاعتقاد التي لم نعرج عليها في كتابنا هذا.
ومن ظن أن السلف كانوا عاجزين عن البيان والتوضيح لأصول المعتقد، والرد على المخالفين كالجهمية والمعتزلة، وكشف عوارهم، والجواب على شبهاتهم، ونقض أصولهم، حتى أتى الأشعري فأبان عما لم يعلموه، ورد على المعتزلة بما لم يستطيعوه؟! فقد ظن بهم ظن السوء، ونسبهم إلى الجهل والعجز. وكفى به ضلالاً وخسراناً.
قال ابن المبرد في إبطال هذه الدعوى: "فيا سبحان الله! قبل توبته – أي: من الاعتزال – ما كان للمسلمين أئمة يقتدى بهم، حتى يتخذ مبتدع تاب من بدعته إماماً؟ كأن الناس ماتوا إلى هذا الحد كله، ولم يبق من يصلح للإمامة، حتى يتوب مبتدع من بدعته فيصير إمامهم، وأهل الإسلام قاطبة تقدم متكلماً على أئمة الحديث جميعهم في حال كثرة العلماء، ما هذا الهذيان؟" (7) ا هـ.
ثم يقال: كيف يدعى ذلك في رجل قضى أربعين سنة من عمره على الاعتزال، ثم تاب في آخر حياته، وعاش في مرحلة التوبة ما يقرب من عشر سنين تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً على اختلاف الروايات في مولده، كيف يكون مثل من كان هذا حاله إماماً للمسلمين؟ متى تعلم العلم ورسخ فيه حتى يتخذ إماماً دون أئمة السنة وأهل الحديث؟ هذا ضرب من المحال، بل من الجنون.
قال ابن المبرد في رده على ابن عساكر: "فقد أثبت – أي: ابن عساكر – أنه كان أكثر عمره على غير السنة، وأنه كان معتزليا متكلماً، وأنه تاب من الاعتزال ولم يتب من الكلام. فيا سبحان الله! من كان بهذه المثابة وبهذه الحالة يجعل إمام المسلمين والمقتدى به، يترك مثل أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وابن المبارك، ولا يقتدي ولا يذكر إلا هذا الذي أقام على البدعة عمره" (8) ا هـ.
ويقال أيضاً: إن أبا الحسن الأشعري بعد رجوعه إلى طريق الكلابية ثم إلى طريق السنة المحضة، لم يكن مبرزاً في شيء من العلوم سوى علم الكلام، ومن كان هذا حاله فحسبه أن يكون متبعاً للسلف ومنتسباً لأئمة السنة وهو الأمر الذي قرره وذكره في أول كتابه الذي يمثل مرحلته الأخيرة: (الإبانة) حيث انتسب فيه إلى الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وأما أن يكون هو الإمام الذي يقتدى به وينسب إليه فهذا ضرب من المجازفة، بل الانحراف.
ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جهادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وبدأ يظهر بعض رؤوس الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية.
وكانت هذه العقيدة قد كتبها أبو أحمد الكرجي المعروف بالقصاب المتوفي سنة (360هـ)، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (9) ، مما يعني أنه قد كتبها للقادر بالله قبل توليه الخلافة، إذ أنه تولى الخلافة سنة (381هـ)، ثم أظهرها في خلافته وأرسل بها في الآفاق. قال الوزير ابن جهير: "هكذا فعلنا أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع" (10) .
وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين (11) ، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضا الأشعرية" (12) ا هـ.
وقال أيضاً: "ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين" (13) ا هـ. وقال الذهبي: "وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولعنوا على المنابر" (14) ا هـ.
ثم لما كان في خلافة القائم بالله ابن القادر، رفع بعض الأشاعرة رؤوسهم وظهر كتاب ابن فورك (تأويل مشكل الحديث) حيث ملأه بالتأويلات لأخبار الصفات، فقام القاضي أبو يعلى بالحق ونصر السنة وألف كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) رداً على تأويلات ابن فورك وحصلت فتنة، عندها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يقرا (الاعتقاد القادري)، ويأخذ توقيعات العلماء على الإقرار بما فيه وأنه المعتقد الصحيح، وكان ذلك في سنة "433هـ".
قال ابن كثير في أحداث سنة 433هـ: "وفيها قرئ "الاعتقاد القادري" الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف" (15) ا هـ.
وكان ممن وقع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.
ثم لما كان في سنة 460هـ أعيدت قراءة "الاعتقاد القادري" وأمر بأن يقرأ في الجوامع والمساجد.
قال ابن الجوزي: "وقرأت بخط أبي علي بن البنا قال: اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء، وأعيان أصحاب الحديث... وسألوا إخراج "الاعتقاد القادري" وقراءته، فأجيبوا وقرئ هناك بمحضر من الجمع... وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدث معه كتاب (التوحيد) لابن خزيمة فقرأه على الجماعة... ونهض ابن فورك قائماً فلعن المبتدعة وقال: لا اعتقاد لنا إلا ما اشتمل عليه هذا الاعتقاد، فشكرته الجماعة على ذلك... وقال الوزير ابن جهير:... ونحن نكتب لكم نسخة لتقرأ في المجالس، فقال: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع، وقال: هكذا تفعلون فليس أعتقد غير هذا، وانصرفوا شاكرين" (16) ا هـ.
فانظر إلى هذه الانتهاضة في الإنكار على أهل البدع ومنهم الأشاعرة، ثم انظر إلى ما قاله المؤلفان (ص252) عاكسين للحال: "بل نزيد ونقول إنه لا يبعد أن يكون – أي: ابن جرير – انتسب إليه – أي: الأشعري – فيما لم يصلنا من كتبه، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه انتهض لنصرة طريقة الإمام أبي الحسن والإمام أبي منصور جميع أهل السنة في العالم الإسلامي" ا هـ.
وقد قال ابن المبرد في تأكيد ما ذكرناه: "أنا أذكر لك كلاماً تعلم كيفيتهم: كان الأشعري وأتباعه في زمنه لا يظهر منهم أحد بين الناس، ولا يقدر أحدهم على إظهار كلمة واحدة مما هم عليه، ثم لما ذهب هو وأصحابه، ولا نسب أحداً منهم، فلعله قد تاب حقيقة، بل نسأل الله له ولأتباعه المسامحة، وجاء أصحاب أصحابه، وكان ذلك في زمن شيخ الإسلام الأنصاري كان الواحد والاثنان والثلاثة منهم إذا أرادوا أن يتكلموا بشيء من مذهبهم وما هم عليه اختفوا بذلك بحيث لا يراهم أحد بالكلية، فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام الأنصاري وغيره، وهو إمام مقبول عند سائر الطوائف، ومن لم يصدقني فلينظر في كتابه (ذم الكلام) يجد ذلك في عدة مواضع منه.
ثم لما كان بعد ذلك بمدة في زمن الخطيب البغدادي وغيره ظهروا بذلك بعض الظهور، فقويت الشوكة عليهم ولعنوا على المنابر، ونفي جماعة منهم (17) ، ثم بعد ذلك أبرزوه، وقويت شوكتهم، وكانوا يقومون به ويقعون، تارة لهم وتارة عليهم، ثم في زمن ابن عساكر وغيره ظهروا وبرزوا أكثر من ذلك، وصاروا تارة يظهرون ويترجحون، وتارة يظهر عليهم، ثم في زمن الشيخ تقي الدين ابن تيمية ترجح أمرهم وظهروا غاية الظهور، ولكن كان يقاومهم هو وأصحابه إلا أن الظفر في الظاهر مع أولئك، ثم بعد ذلك عم الخطب والبلوى بذلك فصار ما هم عليه هو الظاهر وصريح السنة، وما عليه السلف هو الخفي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (18) ا هـ.
وأما أسباب انتشار العقيدة الأشعرية في القرون المتأخرة، فهو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما نصه: "فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشئا عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك.
واتفق مع ذلك توجه أبي عبدالله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لفقها عنه عامتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبدالمؤمن بن علي الميسي، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ.
فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحكم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية" (19) ا هـ.
وكلام المقريزي هنا يبين وقت وسبب انتشار المذهب الأشعري، وأنه كان بسبب فرضه على الناس، إلى حد قد يصل في بعض الأحايين إلى القوة والقتل كما حصل من ابن تومرت لما حكم المغرب والأندلس. وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية نصيب من الابتلاء، فقد أوذى وسجن بسبب تبيينه لمنهج أهل السنة والرد على المخالفين.
وأما ما يتعلق بعوام المسلمين، فلا ريب أنهم إن تركوا من غير تلقين فإنهم على الفطرة السليمة، وعلى اعتقاد السلف وأهل الحديث، لا يعرفون أصول الكلام، ولا تأويل الصفات، ولا شيئاً من ذلك. ولا يمكن لأحد أن يدعي خلاف ذلك إلا مكابرة.
فلا يعرف العامي إلا أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، لا يعرف ما يقوله الأشاعرة من أنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت.
فلا يعرف العامي إلا أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى فسمع موسى كلام الله، لا يعرف الكلام النفسي الذي هو: أمر ونهي وخبر واستخبار.
فلا يعرف العامي إلا أن الله يحب التوابين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن الطائعين، ويسخط على العاصين، لا يعرف أن هذه الصفات كلها راجعة إلى الإرادة.
فلا يعرف العامي إلا أن الله أقدر العبد على الفعل، وجعل له إرادة لها تأثير فيه، لا يعرف الكسب الذي هو اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة، وأن الحادثة لا تأثير لها في الفعل البتة.
وسل إن شئت جماعات المسلمين يخبروك بحقيقة الحال إذ أنهم على الفطرة، فأما عقيدة الأشاعرة فلا يعرفها إلا من درسها في المعاهد والمدارس.
فدعوى أن الأشعرية هو المذهب الذي يدين به عامة الأمة ودهماؤها، دعوى باطلة جملة وتفصيلاً.
- من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة خوضهم في صفات الله عز وجل بالتأويل الذي نهى عنه السلف خاصة الصفات الخبرية التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم مثل صفات اليد, والعين, والنفس, والوجه, والاستواء على العرش, والنزول, والمجيء, والرضا, والغضب, والحب, والبغض, ونحوها من الصفات الخبرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه, أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يؤمنوا بها كما جاءت, وكما فعل السلف, فقد أولوها وصرفوا ألفاظها إلى غير ظاهرها, هروبا من شبهة التجسيم والتمثيل, فجسموا في تخيلهم ثم بعد أن جسموا تأولوا وهربوا! وغفلوا عما يترتب على فعلهم هذا من تحريفهم لكلام الله وتعطيل لمعانيه والقول على الله بغير علم, وغير ذلك من المستلزمات التي يقتضيها التأويل وتنافي التسليم لله تعالى إذ كيف يليق أن يقول الله عن نفسه ويقول عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بصفات لا تليق, أو تقتضي التشبيه والتجسيم, ثم لا يكتشف هذه المسألة إلا المتكلمون بعد القرن الثالث الهجري!
ثم كيف فات هذا الفهم على الصحابة والتابعين وسلف الأمة ثم يدركه المتكلمون؟! هذا مما لا يليق تجاه كلام الله – تعالى – وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأوائل ممن هم أعلم منهم وأتقى لله فإن الله سبحانه حين وصف نفسه بتلك الصفات: كاليدين, والوجه, والنفس, والرضا, والغضب, والمجيء, والاستواء, والعلو......إلخ. من الصفات, فقد سد باب شبهة التمثيل بقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
فهل الذين أولوا تلك الصفات أعلم بالله من الله؟
وهل هم أشد تنزيها لله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهل هم أعلم بمراد الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى والسنة في القرون الفاضلة؟! الذين أمروا هذه الصفات وغيرها من أمور الغيب كما جاءت عن الله وعن رسوله لفظا ومعنى على مراد الله ورسوله من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل.
وقد ابتلي المتكلمون – ومنهم الأشاعرة – بسبب التأويل في صفات الله وبعض مسائل العقيدة بأن أدخلوا في عقائدهم من المصطلحات والألفاظ والظنيات العقلية ما لا يليق القول به في حق الباري سبحانه لا نفيا ولا إثباتا.
وأقل ما يقال فيه إنه كلام مبتدع لم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فالكف عنه أسلم, والخوض فيه قول على الله بلا علم, مثل: الحدود والغايات, والجهات, والماهية, والحركة, والحيز, والعرض, والجوهر, والحدوث, والقدم. ودعوى قطعية العقل وظنية النقل...ومثل كلامهم في: التركيب والتبعيض وقولهم عن الباري سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه...إلخ. ومما ابتدعوه من الكلام عن الله تعالى نفيا وإثباتا. وذلك انسياقا مع إلزامات المعتزلة والجهمية والفلاسفة العقلية الجدلية.
وكلامهم في هذه الأمور قد يشتمل على بعض الحق أحيانا لكن الله تعالى نهانا عنه, وأقل ما يقال فيه أنه قول على الله بغير علم والله تعالى يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ويقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180].
فأهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور على سبيل التأصيل والإقرار والتقرير إلا من باب الرد وإلزام الحجة, وبقدر الحاجة فمخالفة الأشاعرة لأهل السنة في هذا الباب (الصفات) ليست فرعية, إذ هي متعلقة بأصل من أعظم أصول الدين وهو توحيد الصفات المتعلقة بالباري سبحانه جل شأنه.
- ومن الأصول التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة تعويلهم على العقل والجدل وعلم الكلام (النظر) في صفات الله ومسائل القدر والغيب وتقديمهم العقل ما يسمونه القواطع العقلية – على النقل (الكتاب والسنة), في أمور الغيب ومسائل الاعتقاد, بل في مسائل صفات الله تعالى!
فالقاعدة عندهم كما قررها الرازي والجويني وغيرها (أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين) و (أن الدلائل النقلية ظنية, وأن العقلية قطعية, والظن لا يعارض القطع) (1) . سبحان الله!!
- ومن أصولهم المخالفة لأهل السنة: تفسيرهم التوحيد بما يحصره في توحيد الربوبية وغفلتهم عن توحيد الألوهية والعبادة لله تعالى وحده مع أنه التوحيد الذي أرسلت به الرسل قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وهو التوحيد الذي من أجله خلق الله الخلق قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
لذلك نجد التلبس بالبدع في العبادات والوقوع في بعض الشركيات كثيرة فيمن ينتسبون إلى الأشاعرة المتأخرين لتساهلهم في توحيد العبادة.
وهذا لا يعني أن أهل السنة يستهينون بأمر توحيد الربوبية...كلا والله! لكنهم يبدأون بما بدأ الله به وما بدأ به رسوله صلى الله عليه وسلم, لأن توحيد الربوبية فطري, لا يكاد ينكر بالكلية إلا نادرا وغالب الآيات التي جاءت في تقريره جاءت في سياق الإلزام بتوحيد العبادة والطاعة, لذلك لا يعرف أن أمة من الأمم أنكرت توحيد الربوبية بل لا توجد طائفة أجمعت على هذا الأمر على الحقيقة, ولو حصل هذا لذكره الله تعالى في قصص الأنبياء.
وبعكسه توحيد الألوهية فهو الذي ضلت فيه الأمم والفرق والطوائف حتى اليوم.
لذا نجد أن نظار الأشاعرة وأئمتهم يبدأون مؤلفاتهم في الاعتقاد بالعقليات والنظريات والتصديقات والتصورات, والمصطلحات الكلامية والفلسفية, وأن الدلائل النقلية (السمعية) لا تفيد اليقين! وأن العقليات قطعية! يقينية, ثم حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك من الفلسفة وعلم الكلام, وينتهون في ذلك إلى تقرير توحيد الربوبية وهذا خلاف ما درج عليه أهل السنة بل خلاف منهج القرآن الكريم فالآيات التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية قليلة بإزاء الآيات التي جاءت لتقرير توحيد العبادة والطاعة ثم إن كثيرا من الآيات في توحيد الربوبية جاءت لتقرير عبادة الله وحده كما أسلفت.
- كما أنهم خالفوا أهل السنة في أصول أخرى مثل: قولهم في القرآن وكلام الله, والإيمان, والقدر, والنبوات, حيث تأثروا بالأصول الكلامية والفلسفية في نظرتهم لهذه الأمور فجاءت عقيدتهم فيها خليطا من الحق والباطل بين أهل السنة والمعتزلة والفلاسفة, لذا تجدهم كثيرا ما يستخدمون مصطلحات فلسفية وكلامية محتملة للحق والصواب وضدها, وتختلف عن ألفاظ الكتاب والسنة.
وهكذا... فإن هذه الأمور التي خالف الأشاعرة فيها أهل السنة, وهي من أصول الاعتقاد وفروعه تقتضي من الباحث المنصف عند التدقيق والتحقيق أن يحكم كما هو رأي المحققين من أئمة أهل السنة بأن مذهب الأشاعرة في العقيدة مذهب مستقل في بعض الجوانب عن أهل السنة بأصوله ومناهجه, وتصوراته وأحكامه بخاصة في مسائل الصفات والإيمان والوحي والنبوات والقرآن وكلام الله والقدر فالأشاعرة في هذه المسائل وغيرها يوافقون أهل السنة في أمور ويخالفونهم في أخرى.
- كما أنه لا يجوز أن نحمل السلف أهل السنة والجماعة مقولات الأشاعرة فيما ابتدعوه من علم الكلام والفلسفة, وإنه لمن الإجحاف والتجني أن ننسب تلك المقولات للصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الفاضلة, وهذه المقولات هي الغالبة في معتقدات الأشاعرة.
أما أهل السنة فهم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا على مذهب السلف حتى اليوم, فالذي ينتمي وينتسب لأهل السنة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه في هذه الأصول, وأن يتبع ما قالوه أو قرروه, لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية الكلامية والفلسفية, ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف, كما فعل كثير من نظار الأشاعرة.
وإذا عرضنا الكثير من معتقدات الأشاعرة على ما أثر ونقل عن السلف في القرون الفاضلة وجدنا البون بينهما شاسعا ووجدنا أنهم – أي الأشاعرة – ابتدعوا وأحدثوا من المقولات ما كان ينهى عنه السلف من الكلام في الصفات والغيبات بالظنون والمبتدعات الكلامية. (2)
الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم وردود بعضهم على بعض
وأساس الرد التطور الذي حدث للمذهب الأشعري الذي سبق تفصيل القول فيه، وشيخ الإسلام كثيرا ما يشير إليه ويبين أنهم طبقات – حسب القرب والبعد عن أهل السنة ومذهبهم الصحيح – فابن كلاب أقرب إلى السلف من الأشعري، والأشعري أقرب من الباقلاني وطبقته، والباقلاني أقرب من الجويني وطبقته، والجويني أقرب من الرازي وطبقته (1) . بل إن شيخ الإسلام يقرر من خلال تتبع دقيق أن أئمة الأشعرية الذين كانوا في العراق كأبي الحسن الأشعري والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني، وغيرهم، أقرب إلى السلف من أشعرية خراسان كأبي بكر بن فورك ونحوه (2) .
وانحراف متأخري الأشاعرة عن متقدميهم أمر مشتهر حتى إن أبا العباس أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ صاحب كتاب (اللوامع) في الجمع بين الصحاح والجوامع، والمتوفي سنة 521هـ. قال في مسألة الاستواء من تأليفه: "ورأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتعطيل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ (الإبانة) عن أصول الديانة أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعا: يا ساكن العرش، ثم قال: ومن سلفهم جميعا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات" (3) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – بعد نقله النص السابق: "وكذلك الشيخ نصر المقدسي له تأليف في الأصول نقل فيه فصولا من كتاب (الإبانة)" (4) .
وهذا يدل على أن هذا المنهج – وهو الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال متقدميهم وأئمتهم الذين ينتسبون إليهم – قد استخدمه العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد استخدم شيخ الإسلام هذا المنهج في كتبه المختلفة وركز عليه كثيرا لأنه رأى فيه فوائد عملية، ومن ذلك ما جرى في المناظرة حول الواسطية – وهي المناظرة الثانية التي حضرها صفي الدين الهندي – حيث إن شيخ الإسلام ذكر أنه قبل هذا المجلس اجتمع به بعض أكابر الشافعية من الأشعرية وعبروا له عن خوفهم من أن تظهر حجته على خصومه دون أن يكون من أئمة أصحابهم الأشعرية من يوافقها، يقول شيخ الإسلام: "وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة، والأشعري، وأكابر أصحابه، على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضا من تفوق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته و لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم، أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق.... وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان" (5) .
والأشاعرة المتأخرون في أوقات محنهم يلجأون إلى أقوال أئمتهم، ينقلونها ويستشهدون بها ليبينوا سلامة معتقدهم وصحة مذهبهم، وهذا ما فعله القشيري في الشكاية المشهورة ، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري. ولا شك أن المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الرد على أقوال المتأخرين بأقوال شيوخهم الذي يعتزون بالانتساب إليهم له قيمته الكبرى وأثره البالغ لأمرين:
أحدهما: أن هذه النقول أتى بها شيخ الإسلام موثقة، منقولة بحروفها من كتبهم المشهورة التي تناقلها المتأخرون واعتزوا بها، ونقلوا عنه ما يوافق أقوالهم من المسائل التي لم يختلف فيه قول متقدمي الأشاعرة عن قول متأخريهم، ولذلك لم يستطع أحد منهم الطعن فيما نقله شيخ الإسلام، ولم يقل: إن هذا منسوب إلى أئمتهم، أو إنه حكاية لمذهبهم – كما تحكى بعض كتب الفرق أقوال الطوائف، وقد يكون في الحكاية زيادة أو نقص، وتقديم أو تأخير يخل بالمعنى – ولا شك أن الأمانة والمنهج العلمي الذي وفق إليه شيخ الإسلام، جعل أعداءه ومعارضيه يرضخون له في ذلك مع حرصهم الشديد على النيل منه ومن أقواله وكتبه، ولتوضيح ذلك يمكن ذكر هذين المثالين:
المثال الأول: قال بعض متأخري الأشعرية: إن للأشعري في الصفات الخبرية قولين، قول بالتأويل، وقول بالإثبات، فلما جاء شيخ الإسلام – وهو المطلع على كتب الفرق – أوضح مرارا أنه ليس للأشعري فيها إلا قول واحد هو الإثبات، وأتى بالأدلة على ذلك من كتبه، أما الذين يزعمون أن له قولا آخر فحتى الآن لم ينقل أحد منهم نصا من كتب الأشعري يدل على ذلك.
والمثال الثاني: لما نقل شيخ الإسلام عن الباقلاني في كتابه (التمهيد) نصا يثبت فيه الاستواء والعلو ويمنع من تأويله، قال الكوثري وبعض الباحثين – المائلين إلى المذهب الأشعري – وهم بصدد تحقيق (التمهيد) عن نسخة خطية ناقصة – قالوا: إن ابن تيمية وابن القيم – الذي نقل النص أيضا في اجتماع الجيوش – قد كذبا و هما على الباقلاني. ولما حقق (التمهيد) مرة أخرى – على يد نصراني – تبين صدق شيخي الإسلام، وخطأ الكوثري وأصحابه.
والثاني: أن هذه النقول نص صريح في مخالفتها لأقوال متأخري الأشعرية، وليست مما يقبل التأويل أو اختلاف المفاهيم حولها، فمثلا حين يؤول المتأخرون الاستواء بالاستيلاء ويمنعون من إثباته وإثبات الاستواء، ودلالته على العلو، تورد عليهم أقوال الأشعري وغيره التي نصوا فيها على إثبات الاستواء، ودلالته على العلو، وقولهم: إن تأويله بالاستيلاء هو قول خصومهم المعتزلة، وليس للمتأخرين – المنتسبين إلى الأشعري – هنا إلا الاعتراف والفرار إلى التفويض وأن هذا هو حقيقة مذهب الأشعري. ولكن ماذا يصنعون بقوله: إن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة؟ وبنصوصه الأخرى في إثبات علو الله على خلقه؟.
ولأهمية هذا في إقناع الخصوم – وأتباعهم – ركز عليه شيخ الإسلام وأضاف إليه جانبا آخر وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض سواء كانوا متقدمين أو متأخرين، لأن هذا أيضا يفيد في بيان ضعف المذهب وضعف الأدلة التي أعتمدوا عليها، فهذان جانبان رئيسان ركز عليهما شيخ الإسلام:
أ- فمن الأمثلة على الجانب الأول:
1- في مسألة العلو والاستواء التي أنكرها متأخرو الأشعرية، رد شيخ الإسلام على زعمهم الرازي بأن نقل نصوصا من كلام شيوخه من الأشاعرة يثبتون فيها العلو لله تعالى (6) ، وفي موضع آخر من نفس الكتاب رد على الرازي في هذا الموضوع وفي موضوع الصفات الخبرية التي أولها الرازي وأصحابه، فنقل شيخ الإسلام كلام الأشعري في (الإبانة) و(المقالات)، وكلام الباقلاني (7) ، ثم قال: "فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة أن الله فوق العرش وأن له وجها ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين، ونحو ذلك، علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه" (8) , ثم أتبع ذلك بنقل مذهب جمهرة كبيرة من أئمة السلف (9) تؤيد ما ذهب إليه الأشعري وأئمة أصحابه في هذا الباب.
2- وفي معرض رده على دليل حدوث الأجسام الذي أوجبه كثير من متأخري الأشعرية كالجويني يقول شيخ الإسلام عنه: "وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعرية – أو أكثرهم – يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها، بل إما أن يحرموها، أو يكرهوها، أو يبيحوها وغيرها، ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها، ثم هم قسمان: قسم يسوقها، يسوق غيرها، ويعدها طريقا من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم، والقسم الثاني: يذمونها، ويعيبونها، ويعيبون سلكوها وينهون عنها، إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم" (10) ، ثم نقل عن الخطابي في شعار الدين والغنية ما يدعم قوله (11) ، وأشار إلى رسائل الأشعري إلى أهل الثغر (12) ، وأنها توافق ما قاله الخطابي، وقد نقل كلام الأشعرية فيها كلام في كتاب آخر (13) .
3- وعند ذكر الصفات الخبرية وغيرها مما يتأوله الجويني وأصحابه، قال شيخ الإسلام رادا عليه: "فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم، فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية، وأما الأخبار فأكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه قوله، وإن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب" (14) ، والذي أشار إليه شيخ الإسلام بأنه تقدم ما نقله عن أبي القاسم النيسابوري الأنصاري – شارح (الإرشاد) للجويني – فإنه قال في كتابه هذا حين نقل منع الجويني إثبات الصفات بظواهر الآيات: "هذا ما قاله الإمام، وقد رأيت في كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش، والمجييء يوم القيامة بقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، وقوله: ((أنا عند ظن عبدي بي ......... وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا)) (15) . الحديث. قال: وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع، هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب" (16) ، وهكذا فالإسفراييني وابن فورك يردان على الجويني في زعمه أن أخبار الآحاد – الثابتة – لا يحتج بها في العقائد لأنها لا تفيد العلم. وقد تقدم بيان هذه المسألة. هذه بعض النماذج وهناك نماذج أخرى كثيرة (17) .
ب- ومن الأمثلة على الجانب الثاني، وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض:
1- ذكر شيخ الإسلام أن كل طائفة تقول عن الأخرى إن مذهبها متناقض ومن هؤلاء الأشاعرة، فمثلا "نفاة الجهة منهم يقولون: إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون: إن الله تعالى فوق العرش وإنه ليس بجسم متناقضون، وكذلك نفاة الصفات الخبرية منهم يقولون: إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون، ومثبتة العلو والصفات الخبرية يقولون: إن نفاة ذلك منهم متناقضون، حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوقات كالعلم والقدرة والحياة، وليس هو بعرض في حق الخالق، ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه، ويقولون ليس بجسم في حق الخالق" (18) . وليس المقصود الإشارة إلى التناقض في مذهب الأشاعرة – لأن هذا سيأتي في الفقرة القادمة – وإنما المقصود أن كل طائفة ترد على الأخرى وتقول: إن قولها متناقض، وكلهم ينسبون أقوالهم إلى المذهب الأشعري.
2- وفي مسألة دليل حدوث الأجسام، ذكر شيخ الإسلام براهين الرازي على حدوث الأجسام وحدوث العالم، ثم ذكر اعتراضات الآمدي على كل واحدة منها وقال: "وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث، ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق، بل بين ضعفها، واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف... والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي، وهو (أي الآمدي) متقدم على الأرموي، فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه، وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر، أو يكون الأرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره، وهذا الاحتمال أرجح... وبكل حال فهما – مع الرازي ونحوه – من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه، يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسألة، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم، وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره" (19) . وقد نقل شيخ الإسلام أقوال كل من الرازي والآمدي والأرموي، وقدح هذين في أدلة حدوث الأجسام التي ذكرها الرازي، نقل كل ذلك من كتبهم، وهو يدل على الاستقصاء الممتاز الذي يتميز به منهج شيخ الإسلام، وهذا الاستقصاء والمتابعة تفيد كثيرا في بيان كيف يرد بعض هؤلاء على بعض، مما يبين فساد الحجج التي يقوم عليها مذهبهم.
3- ومن المسائل المشهورة عند الأشاعرة قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين ليقولوا: إنها حادثة وإن الجسم لا يخلو منها فيكون الجسم حادثا، وبنوا على ذلك دليل حدوث العالم، كما أن من المسائل المشهورة قولهم: إن الأفعال يجب تناهيها بناء على امتناع حوادث لا أول لها. يقول شيخ الإسلام معلقا على هذه المقدمات العقلية مبينا كيف طعن فيها علماؤهم: "وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى زمانين، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك. وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين. وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره على شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كان الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها. وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف (بتحرير الدلائل في تقرير المسائل) هو وغيره قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها" (20) .
وإذا كان الأمر كذلك فإن الأدلة العقلية التي هي عماد المذهب الأشعري طعن فيها بعض أعلامهم. وبذلك لم يأت رد المذهب ونقضه من خارج رجاله حتى يقال: إن هذه حال جميع الطوائف يرد بعضها على بعض، بل جاء الرد والنقض من داخل المذهب ومن رجال يعتبرون من العمد التي يرتكز عليها أتباع المذهب كل في زمنه وعصره.
إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة
لقد تكررت دعوى بعض الأشاعرة بأنهم أكثر الأمة، وأصبح الكثير منهم يتناقلونها في كتبهم ومحاضراتهم، يغرون بها الجهال ممن لا علم لهم بحقيقة الأمر.
فقد قال المؤلفان (ص248) (1) : "ومذهب الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة الذي عليه سواد الأمة، وأكابر أهل الفضل فيها" ا هـ.
وقالا (ص 31) (2) : "هذا المذهب الذي يدين به تسعة أعشار أمة الإسلام، وسوادها الأعظم وعلماؤها ودهماؤها" ا هـ.
ولا ريب أنها دعوى مجردة من الدليل، ويكذبها الواقع التاريخي، ويكفي في إبطالها ما سبق تفصيله في بيان مذهب السلف وطريقهم وبيان مخالفة الأشعرية له، وخروجهم عنه.
وجميع من نقلنا نصوصهم في هذا الكتاب بدءاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة رضي الله عنهم، ومن لم ننقل عنهم من السلف، جميعهم مخالفون للأشاعرة في أصول الاعتقاد، ومبطلون لأقوالهم ومذهبهم، فضلاً عمن نقلنا عنهم الطعن في الأشاعرة، والتنصيص على خروجهم عن السنة والطريق.
وحسبك من ذكرهم ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)، والذهبي في (العلو) من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء، ممن نصوا في مسألة علو الله تعالى بنفسه على خلقه بما يخالف مذهب الأشاعرة، وهي واحدة من مسائل الاعتقاد، فكيف إذا أضيف إليهم من نصوا في بقية مسائل الاعتقاد بما يخالف مذهب الأشاعرة؟.
فهل يمكن بعد ذلك أن يدعي أن الأشاعرة هم أكثر الأمة، وهم مخالفون للقرون المفضلة الأولى؟!!
وقد ذكر ابن المبرد في كتابه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر) أكثر من أربعمائة عالم من بين محدث وفقيه وعابد وإمام، كلهم مجانبون للأشاعرة ذامون لهم، بدءاً من عصر الأشعري وحتى وقته، صدرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف بن محمد المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف)، ثم قال بعد ذلك: "والله ثم والله ثم والله ما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس" (3) ا هـ.
بل إن ابن عساكر وهو من خدم الأشعرية بكتابه (تبيين كذب المفتري) قد اعترف بأن أكثر الناس في زمانه وقبل ذلك على غير ما عليه الأشعرية...
فقد قال في التبيين: "فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم" (4) ا هـ.
وقد قال ابن المبرد معلقاً على كلامه هنا: "وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعد لم يظهر شأنهم" (5) ا هـ.
وإذا كان أبو الحسن الأشعري إنما ولد سنة 260هـ، وقيل: 270هـ، فما الذي كانت عليه الأمة قبله؟ أفتراها كانت على عقيدة الأشعري الذي لم يكن شيئاً مذكورا كما يزعم هؤلاء؟!! أم أن العقيدة كانت خافية عليهم، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأيقظ الأمة من سباتها؟
فإن قال قائل: إن الأشعري لم يأت بشيء جديد، ولكنه أبان أموراً وأوضحها في رده على المعتزلة حتى كشف عوارهم، وهذا سبب الانتساب إليه، لكونه صار علماً على السنة في مقابل المعتزلة.
فالجواب أن هذا بلا ريب بعيد عن التحقيق، فضلاً عن الواقع والتاريخ، إذ أن ظهور المعتزلة كان متقدماً على ظهور الأشعري بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فضلاً عن الجهمية التي كانت أسبق ظهوراً من المعتزلة. ومن المعلوم أن ظهور هاتين الفرقتين قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة، الذين أنكروا عليهم أعظم النكير، وحكموا بضلالهم، بل وكفر الجهمية منهم، فقام أئمة السنة ابتداءاً من الحسن البصري وإلى عصر الأشعري بالرد على شبهاتهم، وكشف عوارهم. وكتب السنة طافحة بآثار السلف في النكير على الجهمية والمعتزلة والرد على ما ابتدعوه، فانظر كتاب (السنة) لعبدالله بن الإمام أحمد، و(أصول اعتقاد السنة) لللالكائي، و(الإبانة) لابن بطة وغيرها كثير. وقد نقلنا في ثنايا هذا الكتاب كثيراً من كلامهم.
ولم يكتف السلف بمقولة أو مقولتين، بل إنهم قد كتبوا الكتب وصنفوا المصنفات في الرد عليهم، ككتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد، وابنه عبدالله وابن أبي حاتم، وابن قتيبة، والدارمي، والكناني، وابن منده، وأبي العباس السراج وغيرهم كثير، فضلاً عما تضمنته كتب السنة من أبواب الرد على الجهمية، كما فعله البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهما.
ناهيك عن كتب السنة الأخرى، والتي ألفت لبيان معتقد السلف والرد على أهل البدع والمخالفين من أصناف المعطلة والمشبهة (6) .
والمعلوم أن المعتزلة والجهمية قد قويت شوكتهم في أواخر القرن الثاني، لما تأثر بهم الخليفة المأمون، حتى حصلت تلك الفتنة العظيمة، التي امتحن فيها العلماء، وأوذي فيها الإمام أحمد اذى عظيماً، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وقد تتابع على هذه الفتنة ثلاثة خلفاء: المأمون، والواثق، والمعتصم، وهذا قد ساهم كثيراً في دفع عجلة السلف لكشف أباطيل هاتين الفرقتين، والجواب عن شبهاتهم، خشية التباسها على الناس.
ومع كل هذه الردود من السلف والأئمة على الجهمية والمعتزلة، وما حصل من الفتنة بهم، فإننا لم نجد أحداً من السلف قد يقرر ما قرره الأشعري في الاعتقاد، لا من حيث التأصيل والتقعيد، ولا من حيث الرد على المعتزلة والنكير، بل على العكس من ذلك: وجدنا نصوصهم صريحة في نقض أصوله الاعتقادية في أسماء الله وصفاته، كما سبق بيانه في الباب الأول، فضلاً عن سائر أبواب الاعتقاد كالإيمان، والقدر، والنبوات وغيرها من أبوب الاعتقاد التي لم نعرج عليها في كتابنا هذا.
ومن ظن أن السلف كانوا عاجزين عن البيان والتوضيح لأصول المعتقد، والرد على المخالفين كالجهمية والمعتزلة، وكشف عوارهم، والجواب على شبهاتهم، ونقض أصولهم، حتى أتى الأشعري فأبان عما لم يعلموه، ورد على المعتزلة بما لم يستطيعوه؟! فقد ظن بهم ظن السوء، ونسبهم إلى الجهل والعجز. وكفى به ضلالاً وخسراناً.
قال ابن المبرد في إبطال هذه الدعوى: "فيا سبحان الله! قبل توبته – أي: من الاعتزال – ما كان للمسلمين أئمة يقتدى بهم، حتى يتخذ مبتدع تاب من بدعته إماماً؟ كأن الناس ماتوا إلى هذا الحد كله، ولم يبق من يصلح للإمامة، حتى يتوب مبتدع من بدعته فيصير إمامهم، وأهل الإسلام قاطبة تقدم متكلماً على أئمة الحديث جميعهم في حال كثرة العلماء، ما هذا الهذيان؟" (7) ا هـ.
ثم يقال: كيف يدعى ذلك في رجل قضى أربعين سنة من عمره على الاعتزال، ثم تاب في آخر حياته، وعاش في مرحلة التوبة ما يقرب من عشر سنين تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً على اختلاف الروايات في مولده، كيف يكون مثل من كان هذا حاله إماماً للمسلمين؟ متى تعلم العلم ورسخ فيه حتى يتخذ إماماً دون أئمة السنة وأهل الحديث؟ هذا ضرب من المحال، بل من الجنون.
قال ابن المبرد في رده على ابن عساكر: "فقد أثبت – أي: ابن عساكر – أنه كان أكثر عمره على غير السنة، وأنه كان معتزليا متكلماً، وأنه تاب من الاعتزال ولم يتب من الكلام. فيا سبحان الله! من كان بهذه المثابة وبهذه الحالة يجعل إمام المسلمين والمقتدى به، يترك مثل أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وابن المبارك، ولا يقتدي ولا يذكر إلا هذا الذي أقام على البدعة عمره" (8) ا هـ.
ويقال أيضاً: إن أبا الحسن الأشعري بعد رجوعه إلى طريق الكلابية ثم إلى طريق السنة المحضة، لم يكن مبرزاً في شيء من العلوم سوى علم الكلام، ومن كان هذا حاله فحسبه أن يكون متبعاً للسلف ومنتسباً لأئمة السنة وهو الأمر الذي قرره وذكره في أول كتابه الذي يمثل مرحلته الأخيرة: (الإبانة) حيث انتسب فيه إلى الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وأما أن يكون هو الإمام الذي يقتدى به وينسب إليه فهذا ضرب من المجازفة، بل الانحراف.
ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جهادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وبدأ يظهر بعض رؤوس الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية.
وكانت هذه العقيدة قد كتبها أبو أحمد الكرجي المعروف بالقصاب المتوفي سنة (360هـ)، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (9) ، مما يعني أنه قد كتبها للقادر بالله قبل توليه الخلافة، إذ أنه تولى الخلافة سنة (381هـ)، ثم أظهرها في خلافته وأرسل بها في الآفاق. قال الوزير ابن جهير: "هكذا فعلنا أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع" (10) .
وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين (11) ، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضا الأشعرية" (12) ا هـ.
وقال أيضاً: "ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين" (13) ا هـ. وقال الذهبي: "وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولعنوا على المنابر" (14) ا هـ.
ثم لما كان في خلافة القائم بالله ابن القادر، رفع بعض الأشاعرة رؤوسهم وظهر كتاب ابن فورك (تأويل مشكل الحديث) حيث ملأه بالتأويلات لأخبار الصفات، فقام القاضي أبو يعلى بالحق ونصر السنة وألف كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) رداً على تأويلات ابن فورك وحصلت فتنة، عندها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يقرا (الاعتقاد القادري)، ويأخذ توقيعات العلماء على الإقرار بما فيه وأنه المعتقد الصحيح، وكان ذلك في سنة "433هـ".
قال ابن كثير في أحداث سنة 433هـ: "وفيها قرئ "الاعتقاد القادري" الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف" (15) ا هـ.
وكان ممن وقع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.
ثم لما كان في سنة 460هـ أعيدت قراءة "الاعتقاد القادري" وأمر بأن يقرأ في الجوامع والمساجد.
قال ابن الجوزي: "وقرأت بخط أبي علي بن البنا قال: اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء، وأعيان أصحاب الحديث... وسألوا إخراج "الاعتقاد القادري" وقراءته، فأجيبوا وقرئ هناك بمحضر من الجمع... وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدث معه كتاب (التوحيد) لابن خزيمة فقرأه على الجماعة... ونهض ابن فورك قائماً فلعن المبتدعة وقال: لا اعتقاد لنا إلا ما اشتمل عليه هذا الاعتقاد، فشكرته الجماعة على ذلك... وقال الوزير ابن جهير:... ونحن نكتب لكم نسخة لتقرأ في المجالس، فقال: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرئ في المساجد والجوامع، وقال: هكذا تفعلون فليس أعتقد غير هذا، وانصرفوا شاكرين" (16) ا هـ.
فانظر إلى هذه الانتهاضة في الإنكار على أهل البدع ومنهم الأشاعرة، ثم انظر إلى ما قاله المؤلفان (ص252) عاكسين للحال: "بل نزيد ونقول إنه لا يبعد أن يكون – أي: ابن جرير – انتسب إليه – أي: الأشعري – فيما لم يصلنا من كتبه، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه انتهض لنصرة طريقة الإمام أبي الحسن والإمام أبي منصور جميع أهل السنة في العالم الإسلامي" ا هـ.
وقد قال ابن المبرد في تأكيد ما ذكرناه: "أنا أذكر لك كلاماً تعلم كيفيتهم: كان الأشعري وأتباعه في زمنه لا يظهر منهم أحد بين الناس، ولا يقدر أحدهم على إظهار كلمة واحدة مما هم عليه، ثم لما ذهب هو وأصحابه، ولا نسب أحداً منهم، فلعله قد تاب حقيقة، بل نسأل الله له ولأتباعه المسامحة، وجاء أصحاب أصحابه، وكان ذلك في زمن شيخ الإسلام الأنصاري كان الواحد والاثنان والثلاثة منهم إذا أرادوا أن يتكلموا بشيء من مذهبهم وما هم عليه اختفوا بذلك بحيث لا يراهم أحد بالكلية، فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام الأنصاري وغيره، وهو إمام مقبول عند سائر الطوائف، ومن لم يصدقني فلينظر في كتابه (ذم الكلام) يجد ذلك في عدة مواضع منه.
ثم لما كان بعد ذلك بمدة في زمن الخطيب البغدادي وغيره ظهروا بذلك بعض الظهور، فقويت الشوكة عليهم ولعنوا على المنابر، ونفي جماعة منهم (17) ، ثم بعد ذلك أبرزوه، وقويت شوكتهم، وكانوا يقومون به ويقعون، تارة لهم وتارة عليهم، ثم في زمن ابن عساكر وغيره ظهروا وبرزوا أكثر من ذلك، وصاروا تارة يظهرون ويترجحون، وتارة يظهر عليهم، ثم في زمن الشيخ تقي الدين ابن تيمية ترجح أمرهم وظهروا غاية الظهور، ولكن كان يقاومهم هو وأصحابه إلا أن الظفر في الظاهر مع أولئك، ثم بعد ذلك عم الخطب والبلوى بذلك فصار ما هم عليه هو الظاهر وصريح السنة، وما عليه السلف هو الخفي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (18) ا هـ.
وأما أسباب انتشار العقيدة الأشعرية في القرون المتأخرة، فهو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما نصه: "فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبدالملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشئا عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك.
واتفق مع ذلك توجه أبي عبدالله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لفقها عنه عامتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبدالمؤمن بن علي الميسي، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ.
فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحكم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية" (19) ا هـ.
وكلام المقريزي هنا يبين وقت وسبب انتشار المذهب الأشعري، وأنه كان بسبب فرضه على الناس، إلى حد قد يصل في بعض الأحايين إلى القوة والقتل كما حصل من ابن تومرت لما حكم المغرب والأندلس. وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية نصيب من الابتلاء، فقد أوذى وسجن بسبب تبيينه لمنهج أهل السنة والرد على المخالفين.
وأما ما يتعلق بعوام المسلمين، فلا ريب أنهم إن تركوا من غير تلقين فإنهم على الفطرة السليمة، وعلى اعتقاد السلف وأهل الحديث، لا يعرفون أصول الكلام، ولا تأويل الصفات، ولا شيئاً من ذلك. ولا يمكن لأحد أن يدعي خلاف ذلك إلا مكابرة.
فلا يعرف العامي إلا أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، لا يعرف ما يقوله الأشاعرة من أنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت.
فلا يعرف العامي إلا أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى فسمع موسى كلام الله، لا يعرف الكلام النفسي الذي هو: أمر ونهي وخبر واستخبار.
فلا يعرف العامي إلا أن الله يحب التوابين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن الطائعين، ويسخط على العاصين، لا يعرف أن هذه الصفات كلها راجعة إلى الإرادة.
فلا يعرف العامي إلا أن الله أقدر العبد على الفعل، وجعل له إرادة لها تأثير فيه، لا يعرف الكسب الذي هو اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة، وأن الحادثة لا تأثير لها في الفعل البتة.
وسل إن شئت جماعات المسلمين يخبروك بحقيقة الحال إذ أنهم على الفطرة، فأما عقيدة الأشاعرة فلا يعرفها إلا من درسها في المعاهد والمدارس.
فدعوى أن الأشعرية هو المذهب الذي يدين به عامة الأمة ودهماؤها، دعوى باطلة جملة وتفصيلاً.