في مفاجأة ثقيلة وعلمية، تُنهي الجدل الذي دار لقرون بدليل مادي، حول تعريب النصارى العرب لإسم المسيح، وهل عرفوه بهذا الاسم أم أنه لم يُعرف به الا في القرآن الكريم والأدبيات الاسلامية؟، يخرج هذا النقش الذي كُتب بحروف عربية قديمة إلى النور، وكاتبه بدوي عربي صفوي من أهل الشمال، ولكن وقبل الخوض في تفاصيل هذا النقش، يجب أولا ان نعطي مقدمة مختصرة عن القلم العربي القديم وتطوره في جزيرة العرب عامة، وانواع القلم والرسم والابجدية العربية التي استخدمها عرب الشمال خاصة.


مدخل الى الخط العربي الجنوبي القديم (المُسند):

يتفق العلماء أنه كان للعرب خطهم الخاص بهم منذ ما يقرب من 1000 عام قبل المسيح، وهو الخط العربي الجنوبي، ويُسمى خط المُسند أو الخط الحميري والذي ظهر وتطور في اليمن ومنها انتشر الى شتى بقاع الأرض، وقد ظل هذا الخط هو الخط العربي الرسمي المستعمل في شمال وجنوب جزيرة العرب لأكثر من 1300 عام. وفي حين لا نرى آثارا او نقوشا بهذا الخط العربي القديم الا في القرن السادس قبل الميلاد، إلا ان العرب قد تركوا بصمتهم قبل ذلك في الكتابات الأخرى للشرق الأدنى القديم. فأسماء القبيلة او الملوك العربية موجودة في المصادر التاريخية الآشورية، والتي تُظهر تعاملهم مع زعماء القبائل البدوية (وغالبًا من الإناث).

أما عن أقدم نقوش خط المسند، والتي تظهر منذ النصف الأخير من الألفية الأولى قبل الميلاد، فإننا نجده ينتشر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فصار هو الخط الرسمي المستخدم بين كل العرب في شمال الجزيرة العربية وجنوبها بل تعدى جزيرة العرب الى بلاد الشام ومصر واليونان وايطاليا.

عرب الشمال والأبجدية الجنوبية:

أصبح راسخا في الدوائر العلمية وبناءا على المكتشفات والمعطيات الاركيولوجية أن الخط العربي الشمالي (القلم النبطي) الذي بدأ يزدهر منذ القرن الاول قبل الميلاد، هو الأصل الذي نشأ عنه القلم العربي الحجازي (خط الجزم) وبعد قرونٍ من ظهوره، نزل الوحي، وكُتِبت المصاحفُ بهذا الخط. ولكن القلم النبطي لم يمنع عرب الشمال من الكتابة بالقلم الجنوبي المسند نهائيا، بل ظلوا يستخدمون الأبجدية العربية الجنوبية القديمة وحتى أوائل القرن الرابع الميلادي جنبا إلى جنب مع الابجدية العربية الشمالية، إلى ان انتهى استخدام الخط المسند في القرن الرابع، وحل محله الابجدية العربية بشكلها الذي كُتِبت به المصاحف وصارت هي الأبجدية الرسمية في بلاد الحجاز وشمال الجزيرة العربية.

وقد كتب عرب الشمال في شمال شبه الجزيرة العربية وفي الأردن وسوريا، في القرون الاربعة الميلادية الأولى بخمسة أشكال مختلفة من خط المسند الجنوبي، وهي:

1- الأبجدية الثمودية (القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي في الشام وغرب ووسط العربية الشمالية).
2- الأبجدية الددانية واللحيانية (منذ القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي في شمال غرب شبه الجزيرة العربية) ،
3- الابجدية الصفوية ( منذ القرن الأول قبل الميلاد إلى 400 م (في بادية سوريا والأردن واسمه نسبة إلى تلال صفا الواقعة شرقي اللجاة في حوران.)
4- والأبجدية الأحسائية ( القرن الخامس إلى الثاني قبل الميلاد في شمال شرق العربية الجنوبية على الخليج الفارسي ؛ مولر 1982).




صور من نقش عربي بالجزم، قبل الاسلام بحوالي 90 عاما ثم عرض لبعض صفحات المصاحف في القرن الهجري الأول، تُوضح الخط الحجازي (الجزم) ثم الكوفي الذي تولد عنه، وتُظهر التشابه بين الخط الذي وصل اليه القلم العربي في الجزيرة وبين القلم الذي استُخدم في رسم المصاحف:










الأبجدية الصفوية:

الصفوية هو الاسم الذي يطلق على الأبجدية التي استخدمها عشرات الآلاف من البدو العرب القدامى في صحراء ما يعرف الآن بجنوب سوريا وشمال شرق الأردن وشمال المملكة العربية السعودية. من حين لآخر ، توجد نصوص صفوية في أماكن أبعد ، في غرب العراق ولبنان وحتى في بومباي. يُعتقد أن الابجدية الصفوية نُحتت بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي ، على الرغم من أن هذا الحد الزمني لا يمكن أن يكون أكثر من مجرد اقتراحات تستند إلى حقيقة مفادها أن أياً من النصوص البالغ عددها 35000 نص المعروفة حتى الآن يبدو أنها لم تذكر أي شيء قبل أو بعد ذلك التاريخ. تتكون الأبجدية الصفوية من 28 حرفًا ، تمثل مرجعًا صوتيًا مكافئًا تقريبًا لتلك في اللغة العربية الفصحى، إلا أنه لا يتم تمثيل أحرف العلة أو الإدغام (إن وجد).

يمكن نحت النصوص في أي اتجاه ولا يوجد فصل بين الكلمات. كلهم كتابات على الجدران أو علامات قبور. لا يوجد ما يشير إلى أن الأبجدية الصفوية قد استخدمت الحبر على الإطلاق للكتابة ، الأمر الذي كان من شأنه أن يشجع على استخدام اتجاه واحد وتقسيم الكلمات كمساعدات للقارئ. يبدو أن البدو الذين استخدموا الخط الصفوي عاشوا في مجتمعات شفهية حيث لم يكن لديهم سوى القليل من المواد للكتابة عليها باستثناء الصخور ، وبالتالي قل استخدامهم للكتابة إلا كوسيلة لتمضية الوقت أثناء حراسة القطعان أو البحث عن لعبة. أو التحذير من الأعداء ، وهذا بالضبط ما تقول رسوماتهم أنهم كانوا يفعلونه. وهكذا ، كانت الكتابة هواية بالنسبة لهم وعندما نحتوا نصوصهم كانوا يفعلون ذلك فقط من أجل تسليةهم الخاصة ، وبما أنهم لم يتوقعوا أن يقرأها أحد ، فإنهم لم يفعلوا شيئًا لمساعدة القارئ.





هذه المحاضرة نظمها المركز الأمريكي للأبحاث الشرقية (ACOR-أكور) في الاردن، وألقاها البروفيسور أحمد الجلاد، عالم اللغويات والنقوش العربية الشمالية، وأستاذ الدراسات العربية بجامعة أوهايو الامريكية، والمدير المؤسس لمركز ليدن لدراسة الجزيرة العربية القديمة ليُطلعنا على آخر اكتشافات التنقيبات الأثرية التي يُجريها هناك، يُفجر الجلاد مفاجأة عن نقش عربي، كُتِب بالخط العربي الصفوي الجنوبي القديم، وقد نقشه عربي نصراني في شمال الجزيرة بصحراء سوريا، ويذكر فيه المسيح عليه السلام بالإسم (عيسى)، وليس يسوع!!. يعود تاريخ النقش الى القرن الرابع الميلادي!. قبل الاسلام بقرنين او ثلاثة قرون، مؤكدًَا الاسم القرآني للمسيح عليه السلام.


يقول الدكتور الجلاد: " لا يوجد أي ذكر للمسيحية ما قبل القرن الرابع الميلادي في النقوش الصفوية، لكن ستقدم هذه المحاضرة نقشًا جديدًا تم اكتشافه خلال الحملة الصيفية لعام 2019 لاستطلاعات البادية. يسجل هذا النقش صلاة وتضرع إلى معبود جديد ، يشهد لأول مرة في الصفوية ، والذي من المحتمل أن يتم تحديده على أنه يسوع. وبعد مناقشة قراءتها وتفسيرها سأشرح تداعيات هذا الاكتشاف على تاريخ المسيحية في المنطقة وخلفية اللفظ "عيسى" القرآني".

تم اكتشاف النقش في الحرة، والحرة هي لفظ عربي تعني الصحراء البازلتية والتي تكونت بسبب براكين منذ ملايين السنين، وتمتد من جنوب سوريا الى شمال المملكة العربية السعودية عابرة رقعة من الاردن وانتشرت اللافا البركانية جنوبا ومع الوقت تحولت الى صخور ملحية سوداء وهذه الصخور هي التي تسببت في هذا الاسم الذي يطلق على هذه الصحراء اليوم.




تم اكتشاف عشرات الألاف من النصوص العربية في الحرة، وتمثل العربية الصفوية لهجة قريبة جدا من العربية الفصحى اليوم، وقد أسهب في تفصيل لغوياتها عالم اللغويات مايكل مكدونالد والذي ذهب إلى ان اللهجة الصفوية والعربية اليوم متداخلين بطريقة مذهلة، ويستطيع ان يرى ذلك بلا عناء من يمعن في قراءة نصوصها. ومع ذلك فاللهجة الصفوية لها خواصها ايضا والتي ميزتها عن باقي اللهجات العربية.

نصوص الخط الصفوي هي الغالبة عن باقي انواع النصوص الاخرى في الحرة، فيوجد أكثر من 33 الف نص في هذه اللهجة وحدها تم اكتشفاها، ونشرها، وغيرها الالاف مما اكتُشف ولم يُنشر بعد، ولذا فيمكن استنباط أن النقش الخاص بيسوع كتبه احد البدو المحليين في هذه الصحراء ونعرف ذلك لان هذه هي اللهجة العربية التي استخدموها في هذه الصحراء ولهم في الكتابة تقليد خاص بهم، والذي يظهر عاداتهم وطقوسهم وطريقتهم في الحياة، ويميز علماء رسم الخط العديد من الخواص والتقاليد لكل خط والتي تميزه عن غيره وتدل على ما اذا كان كاتبه ليس من اهل المكان وبكن عبر به، او انه من اهلها، ومن اهم ما يميز النقش ويدل على عربيته وثقاقته الشمالية هو الوقوف والبكاء على الاطلال ونعرف هذا من مكتشفات النقوش العربية الشعرية والذي يبدأ فيها الشاعر ابياته بهذا البكاء وتذكر المحبوب او الاقارب او هؤلاء ممن سكنوا الديار ورحلوا عنها، وكان هذا فعلا شائعا جدا في النصوص الصفوية، فلم يكونوا يعبرون عن هذا بشعر شفهي فحسب، بل يتضح الان انهم عبروا عنه مكتوبا كذلك ومنقوشا على الصخور.


موقع وتاريخ اكتشافه:

الآن هذا اول نقش يُغير القصة والذي اكتشفه احمدالجلاد وعلي المناصير في عام 2019 خلال حملة بحثية استمرت اسبوعين، في الشمال الشرقي من الاردن، وفي يوم 20 يونيو، اكتشف الفريق موقعا يبدو مميزا، بجانب عين ماء جفت، فوجىء الفريق بعدد كبير من النقوش الصخرية العربية الصفويةن لكنهم كذلك وجدوا نقوشا يونانية، مما يدل على ان هذا الموقع وعين ماءه قد جذب اليه السكنى او مرور الرحل عبر الصحراء.

كما يمكن ملاحظته من الصورة التي ارفقها الجلاد عن طريق جوجل ايرث، مع وضع علامة حمراء على مكان النقش:




كيف نميز أنه نقش صفوي ديني وصلوات للمسيح؟

حسب النقوش فإن الدين الذي اعتقده البدو العرب الصفويون هو نفس دين العرب الوثني في ذلك الزمان، ونفس معبوداتهم، فتبين النقوش ان معبوداتهم هي ذو الشرى و اللات ومناة وبعل سمين. وهذه الآلهة كانت تُعبد في تدمر (شمال دمشق Palmyra) وحوران (جنوب دمشق وكان يحكمها العرب الانباط ثم حكمها القبائل العربية التابعة للرومان ثم الغساسنة) وجزيرة العرب. واضافة الى هذه المعبودات فكان للبدو الصفويين كذلك طقوسهم الدينية مثل التقدمات والذبائج واقامة الانصاب (مفرد: نصب) ، والحج وتقدمة المحرقات.

لكن ومن بين جميع الثلاثة وثلاثين الف نقش الذين تم نشرهم، لايوجد نقش واحد يدل على انهم وحدوا الله، ولم يوجد اي دليل على تواجد قبائل يهودية او مسيحية، لا اثر للمسيحية في شمال الجزيرة او يسوع حتى القرن الرابع الميلادي.

تتنوع النقوش الصفوية بين نقوش أنصاب (نصب) ونقوش جنائزية ورثائية، نُقشت على الصخور وعلى الجدران البسيطة التي تحمل أسماء شخصية. والنقش الصفوي له قواعد صارمة:

1- يبدأ أي نقش صفوي باسم شخصي.
2- سرد القضية (شتائم، وصف الرعي، وصف الجفاف، وصف الحرب والغارات، وصف الارتحال والهجرة، رثاء وبكاء على الاطلال،
3- تنتهي بالتضرع ، والصلاة إلى الآلهة الخاصة بكل موضوع مكتوب (فان كان سيغير على قوم يطلب من الالهة الفساد، وان كان يرعى الغنم فيطلب الامان، وفي الجفاف يطلب هطول المطر،

إن النقش الذي سنناقشه في هذا المقال هو من جميع النواحي نص صفوي نموذجي، ويسير على نفس القواعد:
1- ذكر الاسماء الشخصية
2- البكاء والرثاء
3- طلب النصر من عيسى.

---

عرض النص:















قراءة النص:

1 لوهبيل بن جيز بن أعبس بن أحبب بن رفأت بن عبط بن خال بن قطط بن ذنبان
2 ووجم عل خله هـ اشللي
3 هـ عسىي نصره م كفرك


صورة من قراءة أحمد الجلاد:






قراءة الجلاد الفصحى للنص:

1 لـ وهب بن جايز بن أعبس بن أحبب بن رفأت بن عبط بن خال بن قطط بن ذنبان
2 ووجم على خاله هـ أشلالي
3 يا عسِيَ انصره على من كفروك

---

حاولت التوضيح -أمير- ما أمكنني لأحرف النص لفائدة المحاورين:

















ملاحظات:

1- الحروف في العربية الجنوبية القديمة تكتب بدون فواصل بين الكلمات كما كان الحال في اليونانية القديمة.
2- ها: ال التعريف في العربية الشمالية ولاتزال مستخدمة عند بعض بدو الجزيرة. وتوضع قبل كل أسماء معبودات العرب الشماليين، فإذا قلنا: هـ لات يعني يا اللات، هـ عسي يا عيسى.
3- حروف المد والكسر والفتح لا تكتب في الابجدية الصفوية، مثل الالف في قال تكتب : "قل" ومثل الياء في "عليم" تكتب "علم"، وكما في النص عل (على)، جيز (جايز)، خله (خاله)
4- الألف المكسورة يعبر عنها في الابجدية الصفوية بحرف الياء في آخر الكلمة
5- السطر الاول يمثل عادة العرب في حفظ انسابهم، فهنا الكاتب وهب-يل يسرد حوالي 8 اسماء لاسلافه. ثم يرثي خاله.
6- وجم: كلمة عربية فصيحة تعني يرثي ويبكي.
7- هـ شلالي : الأشلالي (نسبة خاله).
8- لوهبيل، اي لـ وهب ، يخص وهب، وجعل الاسم وهبيل، هو من تغيير الاسماء بعد التحول للنصرانية بالاضافة على الاسم القديم كما قال جيروم عن البدو العرب الذين تنصروا في زمانه وعرفوا المسيح.. وهذا مثال عملي يُوضح ما عناه القديس جيروم.

ماسبق من ملاحظات ثمانية مستفادة من كتابات ماكدونالد والجلاد حول قواعد الابجدية الصفوية، والمعاجم العربية، او مما جاء بالمحاضرة.

لم نتمكن من الاطلاع على باقي النقش، لانه لم يُنشر كاملا بعد، وقد وعد أحمد الجلاد أن سينشر هذا المبحث بتفاصيله هذا العام، ولكن سبق باخراج ما أخرجه في هذه المحاضرة لاطلاعنا على الجديد، ونتشوق لرؤية هذا البحث العلمي.

---